الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف
أن إيمان القلب يشتمل على أصلين:
الأول: قول القلب.
الثاني: عمل القلب.
وقد ورد عن بعض السلف تفسير إيمان القلب: بالتصديق، أو الإقرار، أو الاعتقاد. ويوصف قول القلب بالعلم أو المعرفة إضافة إلى عمل القلب. فهذه سبعة معان مضافة للقلب وردت في عبارات السلف. وبمعرفة حقيقة هذه المعاني يتضح الفرق بين أقوال القلوب وأعمالها، والعلاقة بينها. حيث إن بعض الناس قد يخلط بين أقوال القلوب وأعمالها، فتخفى عليهم بعض أحكام أعمال القلوب. ولذا سوف أوضح – إن شاء الله – هذه المعاني، وبيان مراد السلف بها، من خلال المسائل الثلاث التالية:
المسألة الأولى: المراد بتصديق القلب
يطلق تصديق القلب على شيئين:
الأول: التصديق الخبري العلمي الذهني، بمعنى أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر ذاته مجردا عما سوى ذلك من أعمال القلوب. وهذا هو قول القلب.
الثاني: التصديق العملي، أي تصديق الخبر بالامتثال والانقياد. وهذا هو الذي قصده السلف عند إطلاق التصديق. فمن قال من السلف بأن الإيمان هو: التصديق، فإنه يقصد بذلك المعنيين؛ قول القلب وعمله. أو عمل القلب المتضمن لتصديقه.
قال الإمام الآجري رحمه الله: (اعلموا – رحمنا الله وإياكم – أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح)(1).
وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة ولغة العرب وأقوال السلف على أن التصديق ليس محصورا في التصديق الخبري. بل ورد كذلك في التصديق العملي، فمن شواهد ذلك:
1) قوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 104 - 105]، أي قد امتثلت الأمر وحققته فكأنه قد ذبح ابنه. لأن المقصود هو عمل القلب.
2) قوله تعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33]. فقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما – أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله. فمن جاء مصدقا بها من المؤمنين ومصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو المتقي (2).
3) قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].
قال ابن كثير رحمه الله: قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال) (3).
وبهذا يتضح معنى تصديق القلب عند السلف إذا أفرد، وأنهم يريدون بذلك التصديق الخبري المستلزم لعمل القلب، أو عمل القلب المتضمن لقوله، أو هما جميعا.
ومن الخطأ أن يظن أن مرادهم بالتصديق عند الإطلاق هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر، أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة، أو العلم المجرد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولا بد فيه من شيئين:
(1)((الشريعة)) (2/ 611)((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 849).
(2)
((تفسير ابن كثير)) (4/ 70).
(3)
((تفسير ابن كثير)) (1/ 284).
تصديق القلب، وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب.
ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وغير ذلك من أعمال القلوب، التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلها من الإيمان) (1).
وقال أيضاً: (الإيمان وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستلام، وهو عمل في القلب جماعة الخضوع والانقياد للأمر فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد)(2).
وقال ابن القيم رحمه الله: (ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا، لكن إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين .. فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق.
والثاني: محبة القلب، وانقياده) (3).
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: (ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو: التصديق على ظاهر اللغة؛ أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق)(4).
فالحاصل أن لفظ تصديق القلب عند السلف له أربعة معان:
1) أن يراد به قول القلب فقط، وهذا فيما إذا قرن بعمل القلب.
2) أن يراد به عمل القلب المتضمن لقوله.
3) أن يراد به قول القلب المستلزم لعمل القلب.
4) أن يراد به قول القلب وعمله جميعا.
وأما أن يفرد ويراد به قول القلب فقط فهذا لم يرد عن السلف، بل هو من اصطلاحات أهل البدع.
ثم ليعلم أن التصديق بمعناه الخبري، الذي هو مجرد أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر من غير إذعان وقبول؛ يساوي تماما عند السلف والأئمة معنى العلم أو المعرفة، إذ لا يوجد فرق بين العلم والمعرفة والتصديق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد والذي يجعل قول القلب، أمر دقيق. وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما. وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق – إلى أن قال رحمه الله والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن الانقياد وغيره من أعمال القلوب بأنه صادق)(5).
والمتتبع لبعض تعاريف السلف للإيمان يجد أنهم يعبرون عن التصديق بالمعرفة، وعن المعرفة بالتصديق، بل ويعرفون المعرفة بأنها التصديق، والتصديق بأنه المعرفة.
قال الإمام المروزي رحمه الله: (وإنما المعرفة التي هي إيمان: هي معرفة تعظيم الله وجلاله وهيبته، فإذا كان كذلك فهو المصدق الذي لا يجد محيصا عن الإجلال لله بالربوبية)(6).
(1)((الإيمان)) (176).
(2)
((الصارم المسلول)) (3/ 966) وانظر ((الإيمان)) (ص: 120).
(3)
((الصلاة)) (ص:28).
(4)
((معارج القبول)) (2/ 17).
(5)
((الإيمان)) (381).
(6)
((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 775).
وقال أيضاً: (ومعنى التصديق: هو المعرفة بالله، والاعتراف له بالربوبية، وبوعده، ووعيده، وواجب حقه، وتحقيق ما صدق به من القول والعمل)(1).
وقال ابن القيم رحمه الله: (ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا)(2).
فتبين من خلال هذه النقول أنه لا فرق بين المعرفة والتصديق المجرد.
المسألة الثانية: المراد باعتقاد القلب
الاعتقاد في اللغة مصدر عقد يعقد عقدا، مأخوذ من العقد، والربط، والشد بقوة (3).
وأما اعتقاد القلب عند السلف الصالح فهو يتضمن ركنين قلبيين:
الأول: المعرفة والعلم والتصديق. ويطلق عليه قول القلب، وهذا المعنى عندما يقترن الاعتقاد بعمل القلب (4).
الثاني: الالتزام والانقياد والتسليم. ويطلق عليه عمل القلب، وهذا المعنى للاعتقاد عند السلف إذا جاء مفردا.
وبهذا يتبين أن من قال من السلف بأن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح. فمراده بالاعتقاد هنا قول القلب وعمله.
ولهذا بوّب الإمام ابن منده رحمه الله في كتابه الإيمان بابا بعنوان: (ذكر خبر يدل على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالأركان، يزيد وينقص)(5).
وكذا بوّب الإمام اللالكائي رحمه الله بقوله: (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان تلفظ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح)(6). ثم ذكر الأدلة الدالة على أنه اعتقاد بالقلب.
وتقدم أن من أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، أنهم تارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح (7).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. جعل القول والعمل اسما لما ظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب. ولابد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب؛ أعمال القلب المقارنة لتصديقه مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل عليه، ونحو ذلك)(8).
وأما إذا ذكر الاعتقاد مع عمل القلب، فإنه يراد به عند السلف قول القلب.
المسألة الثالثة: المراد بإقرار القلب:
إقرار القلب يطلق على شيئين:
الأول: على قول القلب. وهذا عند ذكره مع عمل القلب.
(1)((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 695).
(2)
((زاد المعاد)) (3/ 638).
(3)
((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 86)((الصحاح)) (2/ 510)((لسان العرب)) (3/ 296)((القاموس المحيط)) (383).
(4)
ذكر ابن القيم رحمه الله في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 13) أن أقوال القلب هي العقائد. وأعمال القلب هي الإرادة والمحبة والكراهية وتوابعها.
(5)
((الإيمان)) (ب1/ 341).
(6)
((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 830)، وانظر ((التمهيد)) (9/ 243). وعرف الشيخ محمد بن صالح العثيمين في كتابه ((شرح ثلاثة الأصول)) (ص: 76) – الإيمان بأنه: (اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح).
(7)
((الإيمان لابن تيمية)) (ص: 162).
(8)
((الإيمان الأوسط المطبوع ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 506).
الثاني: على عمل القلب. ويكون المراد به الالتزام، وهذا عند الإطلاق، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. فالإقرار هنا ليس معناه الخبر المجرد، بل معناه الالتزام للإيمان والنصرة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الإيمان بما فيه عمل القلب.
ويقابل الإقرار بالمعنى الأول الإنكار والجحود. وبالمعنى الثاني يقابله الإباء والامتناع. كما أن الكفر منه كفر إنكار وجحود. ومنه كفر إباء وامتناع ككفر إبليس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولفظ الإقرار: يتناول الالتزام والتصديق، ولابد منهما، وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة)(1).
وقد تقدم كلام شيخ الإسلام أن قول القلب: هو تصديقه وإقراره ومعرفته (2). وعليه فيقال في الإقرار كما قيل في التصديق والاعتقاد.
وخلاصة هذا المبحث: أن التصديق والاعتقاد والإقرار يتناول عند السلف:
1) قول القلب فقط، وذلك عند اقترانها بعمل القلب.
2) قول القلب المستلزم لعمل القلب.
3) عمل القلب، المتضمن لقول القلب.
4) قول القلب وعمله جميعا.
وكل ذلك بحسب التقييد والإطلاق. فيتبين بذلك مراد السلف في عباراتهم، وأنه لا اختلاف بينها.
وأما معرفة القلب وعلمه فلا إشكال في أن المراد بها قول القلب فقط. أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم للعتيبي-141
(1)((الإيمان)) (ص: 380).
(2)
((الإيمان)) (ص: 176).