الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: مذهب المكذبين بالقدر
ذهب بعض الضالين في هذا الباب إلى نفي القدر، وزعموا أن الله – تعالى عما يقولون – لا يعلم بالأشياء قبل حصولها، ولم يتقدم علمه بها، وقالوا: إنما يعلم الله بالموجودات بعد خلقها وإيجادها. وزعم هؤلاء كذباً وزوراً أن الله إذا أمر العباد ونهاهم لا يعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه، ولا يعلم من يدخل الجنة ممن يدخل النار، حتى إذا استجاب العباد لشرعه أو رفضوا – علم السعداء منهم والأشقياء، ويرفض هؤلاء الضلال الإيمان بعلم الله المتقدم، كما يكذبون بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض، كما ثبت في الكتاب والسنة. وقد نشأ القول بهذا في آخر عهد الصحابة، فأول من قال به معبد الجهني، ثم تقلد عنه هذا المذهب الفاسد رؤوس المعتزلة وأئمتهم كواصل بن عطاء الغزال، وعمرو بين عبيد، ورويت عنهم في هذا أقوال شنيعة فيها تكذيب لله ولرسوله في أن الله علم الأشياء وكتبها قبل خلقها. وقد خشي الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته هذا الضلال الذي وقعت فيه هذه الفرقة، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عساكر عن أبي محجن وابن عبد البر في (الجامع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر)) (1).
وروى أبو يعلى في (مسنده) والخطيب في (التاريخ) وابن عَدِيّ في (الكامل) بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم)) (2)
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الضلال، ففي الحديث الذي يرويه الطبراني في (معجمه الأوسط)، والحاكم في (مستدركه) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال:((أُخِّر الكلام في القدر لشرار أمتي)) (3)
(1) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (940)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/ 401). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1127): الحديث له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة.
(2)
رواه أبو يعلى (7/ 162)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 34). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 203): رواه أبو يعلى مقتصراً على اثنتين من الخمس، وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف ووثقه ابن عدى. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (215): صحيح.
(3)
رواه الطبراني (6/ 96)، والحاكم (2/ 514). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1124): حسن.
وروى الطبراني في (معجمه الكبير) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أمر هذه الأمة لا يزال مقارباً حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر)) (1). وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفريق بمجوس هذه الأمة، لأن المجوس يقولون بوجود خالقين اثنين: النور والظلمة، وهذا الفريق يقولون بوجود خَالِقين، بل يزعمون أن كلَّ واحد خالق من دون الله، وقد أمر الرسول صلى الله وسلم بهجران هذا الفريق، فلا يزارون ولا يعادون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) (2). وقد صاح الصحابة بأصحاب هذه الضلالة من كل ناحية، وأنكروا عليهم ما جاؤوا به من الضلال والباطل، ونهوا الناس عن مخالطة هؤلاء ومجالستهم، وأوردوا عليهم النصوص الفاضحة لباطلهم، المقررة للحق في باب القدر. ففي (سنن الترمذي) عن نافع أنَّ ابن عمر جاءَه رجل فقال: إنَّ فلاناً يَقرأ عليك السلام، فقال له: بلغني أنّه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) (3). وفي الترمذي عن ابن عمر أيضاً يرفعه: ((يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين في القدر)) (4).
وفي (سنن الترمذي) أيضاً عن عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد، إن أهل البصرة يقولون: لا قدر. قال يا بني، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ الزخرف. قال: فقرأت: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 1 - 4]. قال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه كتاب كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، فيه أن فرعون من أهل النار، وفيه تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
(1) رواه الطبراني (12/ 162)، والحاكم. من حديث ابن عباس وليس من حديث أبي أمامة رضي الله عنهم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علة ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1675): وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم رجال البخاري.
(2)
رواه أبو داود (4691) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6077). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 445): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.
(3)
رواه الترمذي (2152). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.
(4)
رواه الترمذي (2153). وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 102) – كما أشار لذلك في المقدمة -.
قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كانت وصية أبيك عند الموت؟ قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني، اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، فإن مت على غير هذا أدخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إن أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان، وما هو كائن إلى الأبد)) (1). وقد نص الأئمة على كفر هذه الطائفة التي لم تقر بعلم الله، وممن نص على كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد. وقد تلاشت هذه الطائفة التي تكذب بعلم الله السابق أو كادت، يقول السفاريني: قال العلماء: المنكرون لهذا انقرضوا، وهم الذين كفرهم الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة. وقال القرطبي: قد انقرض هذا المذهب، فلا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على وجه الاستقلال، وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول. قال: والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالمحدث. وقال النووي: قال أصحاب المقالات من المتكلمين: انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من الله، والشر من غيره تعالى الله عن قولهم (2). والقدرية يعترفون بأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا ويريد هذا، وأمّا كونه مريداً لهذا المُعَيَّنِ، وهذا المُعَيَّنِ، فهذا عندهم ليس مخلوقاً. فهؤلاء في الحقيقة مجوس ثَنَوِيَّة، بل أعظم منهم، فإن الثَنويّةَ أثبتوا خالِقَين للكون كله، وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد، ولكل فعل من الأفعال، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين، ولولا تناقضهم لكانوا أكفر من المجوس. وطرد قولهم ولازمه وحاصلة هو إخراج أفعال العباد عن خلق الله عز وجل وملكه، وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، ويريد مالا يكون، وأنهم أغنياء عن الله عز وجل، فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته، ولا يعوذون بالله من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم ولا يستهدونه الصراط المستقيم. والقدرية بزعمهم أرادوا تنزيه الله وتقديسه عندما زعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنَّ الكافر هو الذي شاء الكفر، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى الظلم، إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه. ولكنهم -كما يقول شارح الطحاوية - صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شرٌّ منه فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل. ومشيئة الله الكفر من الكافر ليس ظلماً له كما يدعي أهل الظلم من القدرية؛ فلله الحجة البالغة، وله في عباده من الحِكَمِ مالا يعلمه إلا هو تبارك وتعالى.
(1) رواه الترمذي (2155). وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 95) - كما أشار لذلك في المقدمة - وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(2)
((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 154).
ففي (صحيح مسلم) عن أبي الأسود الدِّيلي، قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجّة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً. وقلت: كل شيء خَلْق الله ومِلْك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك. إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقال: ((لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [الشمس: 7 - 8])) (1). وفي (سنن أبي داود) عن ابن الديلمي قال: أتيت أُبي بن كعب، فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، قال: لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبدالله بن مسعود، فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فقال مثل ذلك (2). والقدرية بمسلكهم هذا جعلوا لأهل الضلال سبيلاً عليهم، فقد ذكر عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. فقال المجوسي: حتى يريد الله. فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد. قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي. وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص53
(1) رواه مسلم (2650).
(2)
رواه أبو داود (4699)، والبيهقي (10/ 204). والحديث سكت عنه. قال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4212): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.