الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: الاعتقاد بالقلب
الاعتقاد عند السلف يتضمن ركنين قلبيين لا يغني أحدهما عن الآخر، ويلزم تحقيقهما مجتمعين في القلب ليدخل صاحبه في مسمى الإيمان:
الركن الأول: المعرفة والعلم والتصديق. ويطلق عليه (قول القلب).
الركن الثاني: الالتزام والانقياد والتسليم. ويطلق عليه (عمل القلب).
أما عن الركن الأول وهو قول القلب، أو معرفة القلب للحق وتصديقه به، فلا نحسب أن أحداً من العقلاء يدفعه أو يجادل فيه فيقول مثلاً: إن الإيمان لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق.
يقول الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله: (من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام) اهـ (1).
وقد أورد صاحب (معارج القبول) سبعة شروط لمن ينطق بكلمة التوحيد قيد بها انتفاعه بالشهادتين في الدنيا والآخرة من الدخول في الإسلام والفوز بالجنة والنجاة من النار، فوضع بداهة على رأس هذه الشروط شرط المعرفة لحقيقة معناها فقال:
(العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً، المنافي للجهل بذلك، قال الله – عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19]. وقال تعالى: إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف: 86] أي: بلا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم) اهـ (2).
ويقول البيضاوي في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [البقرة: 21] في سورة البقرة: (فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها – أي العبادة – بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به) اهـ (3).
وأما عن الركن الآخر، وهو الالتزام والانقياد والتسليم والخضوع ولوازم ذلك كله من عمل القلب كالمحبة والتعظيم والتوكل والخشية والرجاء، فإن سلف الأمة وأئمتها متفقون على أنه للركن الأول وملازم له ولا يكون العبد مؤمناً إلا بهما.
وإلا فإن مجرد التصديق بالله ورسوله دون المحبة والتعظيم والانقياد لهما ليس إيماناً باتفاق هؤلاء الأئمة، بل هذا ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام (4). والتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيماناً ألبتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس (5).
يقول الإمام ابن تيمية: (فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولا بد فيه من شيئين:
- تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب. قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب، فلا بد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله.
ولا بد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان) اهـ (6).
ويشرح الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه (الصلاة) حديث جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان فيقول: (أما قوله: الإيمان أن تؤمن بالله:
فأن توحده وتصدق به بالقلب واللسان.
وتخضع له ولأمره بإعطاء العزم للأداء لما أمر، مجانباً للاستنكاف والاستكبار والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محآبه صلى الله عليه وسلم، واجتنبت مساخطه) اهـ (7).
(1)((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 376، 377).
(2)
((معارج القبول)) (1/ 307 - 308).
(3)
((تفسير البيضاوي)) (ص: 16).
(4)
((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 381).
(5)
((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 291، 292).
(6)
((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 176).
(7)
((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 392 - 393)
ويعلق الإمام ابن القيم على قصة وفد نجران فيقول في الفقه المستفاد من هذه القصة: (ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل: المعرفة، والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً) اهـ (1).
إن معرفة القلب وتصديقه بالحق إذا صادفت قلباً سليماً خالياً من الحسد والكبر والانشغال بالشهوات والأهواء وما إلى ذلك، فإن هذا القلب سيخضع للحق حتماً وينقاد له، لأن القلوب مفطورة على حب الحق وإرادته، ولا شيء أحب إلى هذه القلوب السليمة من الله عز وجل (2).
ولكن قد يعرض للقلوب ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن أتباعه. فالنصارى مثلاً رغم عبادتهم لا علم لهم، واليهود رغم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، لا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)) (3)؛ لأن هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء لهم قصد في الخير بلا معرفة له، فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ولا قصد نافع (4).
إن أهم عناصر الإيمان التي يجب بحثها وعرضها وتركيز انتباه الناس إليها هو عنصر عمل القلب، فهو صلب قضية الإيمان في كل وقت وحين، وحجر زاوية الدين الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين.
إن قضية الرسل مع أقوامهم كانت دائماً قضية الخضوع والانقياد والتسليم لله ورسله، ولم تكن أبداً قضية المعرفة والتصديق، مهما حاولوا طمس هذه الحقيقة والتشويش عليها تحت زعم تكذيب الأنبياء والرسل، وصدق الله حيث يقول: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33].
ويقول سبحانه وتعالى: بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70].
ويقول عز وجل: لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78].
القضية إذن هي: محبة الحق وابتغاؤه والخضوع له، أو كراهيته والصد عنه والإباء والاستكبار والاستنكاف عن التسليم له والانقياد لحكمه.
إن الكبر والحسد والتطلع إلى الزعامة والرياسة وحب الشهوات والاستغراق فيها وأمثال ذلك من المكاسب الدنيوية العاجلة، هي التي تصد القلوب ابتداء عن التسليم للحق وإرادته والخضوع له وتعظيمه، بل وربما ران الهوى على القلب تماماً فطمس بصيرته وأعماه، حتى إن القلب ليتعلق تماماً بما دون الله من الأغيار فيستغرقه حبها وإرادتها والاعتقاد بها تماماً، بل وقد يدخله الشك والريبة، بل والتكذيب للحق نفسه.
إن الحق دائماً واضح أبلج لكل ذي عينين – إلا من شذ ممن أعمى الله بصيرته قبل بصره – ولم تكن قضية المعرفة إلا مقدمة يبدأ بها الرسول لتذكير قومه بالحق، ثم لا يلبث أن يعرض عليهم صلب رسالته وجوهر دعوته: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] أي أطيعوه، وابتغوا محبته، وعظموه، وانقادوا لشرعه، واستسلموا لرسله، إلى آخر لوازم ذلك كله.
(1)((زاد المعاد)) (3/ 42).
(2)
((الإيمان الأوسط)) (ص: 79).
(3)
رواه الترمذي (2953)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 381) بلفظ:((ضلاّل)) بدلاً من ((ضالون)). من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(4)
((الإيمان الأوسط)) (ص: 70، 71).
إن اختلاط هذه القضية في أذهان كثير من المنتسبين لدين الله، وعدم وضوحها يؤدي إلى عدة أمور كلها خطير:
الأمر الأول: هو إسقاط قيمة عمل القلب - بدرجات متفاوتة - باعتباره ركناً أصلياً لا يتم إلا به، وذلك على المستوى الذهني أو النظري للشخص، مما يبعد به عن إدراك حقيقة دين الله، ويسقط به في دركات متفاوتة من البدع، بعيداً عن منهج السلف، وذلك بقدر ما تبهت في ذهنه قيمة هذا الركن الأصلي للإيمان.
الأمر الثاني: هو اختلال الموازين التي يزن بها المرء واقعه هو تجاه ربه ودينه ورسوله، مما يؤدي به إلى الإخلال الفعلي بهذا الركن الإيماني من قلبه، فتحت زعم أنه يصدق بالله ورسوله، وطالما أن الإيمان عنده هو مجرد التصديق فقط، يفقد المرء تدريجياً دون أن يدري – وتحت ضغط الشهوات – المحبة الواجبة لله ورسوله، والتعظيم الواجب لهما، والانقياد الواجب لحكمهما، ويمتلئ قلبه بحب الأغيار وتعظيمها والانقياد لها، وينمو النفاق في قلبه ويترعرع حتى يكون في الحال التي قال الله تعالى فيها: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [عمران: 167]، وقد يفقد إيمانه تماماً – والعياذ بالله – دون أن يشعر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2].
الأمر الثالث: هو اختلال الموازين التي يزن بها المرء واقع الآخرين من حوله، والتي يجب أن تتفق مع منهاج الله وأحكامه، فيخطئ المرء نتيجة لذلك في التعامل مع هذا الواقع وفق منهاج الله ولا يطبق أحكام الله على مناطها الصحيح. فطالما أن هذا الواقع المحيط لم يعلن تكذيبه لله والرسول (بصريح اللفظ)، وطالما أن الإيمان عنده هو التصديق فقط، فإن هذا الواقع عنده واقع مؤمن بالله ورسوله، حتى وإن سب الله ورسوله!. وهذا الواقع عنده مؤمن بالله ورسوله، حتى وإن فسق عن حكم الله ورسوله!. وهذا الواقع عنده مؤمن بالله ورسوله، حتى وإن هزأ بدين الله وسخر من سنة رسوله! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقبل أن ننتقل من الكلام في عنصر الاعتقاد القلبي نورد ثلاث ملاحظات هامة:
(1)
الملاحظة الأولى: أن التصديق المقصود هنا هو التصديق الخبري أو العلمي، بمعنى أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر ذاته، مجرداً عما سوى هذا من جنس عمل القلب من الانقياد والطاعة والمحبة وأمثالها، وإلا فمن أطلق لفظ (التصديق) على التصديق الخبري العلمي وعلى لوازمه وتوابعه من عمل القلب، وقال إن الاعتقاد المطلوب هو التصديق، فإن الخلاف معه خلاف لفظي فقط.
وقد استخدم كثير من السلف والأئمة لفظ التصديق بهذا المعنى الأخير، ولذلك يقول صاحب (معارج القبول):(ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو: التصديق على ظاهر اللغة، أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق) اهـ (1).
والإمام القسطلاني عندما يعرّف الإيمان بأنه التصديق سرعان ما يعقب على ذلك بقوله: (فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم)(2).
(1)((معارج القبول)) (2/ 19، 20).
(2)
((إرشاد الساري)) (1/ 82).
ويقول الإمام ابن القيم في مجال شرح عمل القلب: (ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له،
…
فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق، والثاني: محبة القلب وانقياده) (1).
ويقول ابن القيم: (فإن الإيمان ليس مجرد التصديق – كما تقدم بيانه – وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد) اهـ (2).
(2)
الملاحظة الثانية: أن (التصديق) بمعناه الخبري - وهو مجرد أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر من غير إذعان وقبول - يساوي تماماً عند السلف والأئمة معنى (العلم) أو (المعرفة): إذ لم يتصور هؤلاء الأئمة بل وجمهور العقلاء فرقاً واحداً معقولاً بين العلم والمعرفة، وبين التصديق.
يقول ابن تيمية: (فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب، أمراً دقيقاً، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق
…
والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق) اهـ (3).
(3)
والملاحظة الثالثة: أن (المعرفة) أو قول القلب التي اشترطها السلف كركن أصلى للإيمان غير (المعرفة) التي اشترطها المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، فالمعرفة التي اشترطها السلف هي تحقق العلم المنافي للجهل، أي: أن يعرف المرء حقيقة ما يؤمن به، سواء تحققت هذه المعرفة عن طريق التقليد أو عن طريق النظر والاستدلال.
وأما المعرفة التي اشترطها المعتزلة وأمثالهم فهي أن يعرف المرء أصول دينه عن طريق النظر والدليل العقلي وحده، لا عن طريق التقليد أو السماع.
يقول البدر العيني: (قال أهل السنة: من اعتقد أركان الدين من التوحيد والنبوة والصلاة والزكاة والصوم والحج، تقليداً، فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال: لا آمن ورود شبهة تفسدها، فهو كافر. وإن لم يعتقد جواز ذلك بل جزم على ذلك الاعتقاد، فقد اختلفوا فيه
…
وقال عامة المعتزلة: إنه ليس بمؤمن ولا كافر. وقال أبو هاشم: إنه كافر. فعندهم إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب الإيمان به من أصول الدين، بالدليل العقلي على وجه يمكنه مجادلة الخصوم وحل جميع ما يورد عليه من الشبه، حتى إذا عجز عن شيء من ذلك لم يحكم بإسلامه) (4). حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبد الهادي المصري – ص 25
(1)((كتاب الصلاة)) لابن القيم (ص: 19، 20).
(2)
((كتاب الصلاة)) لابن القيم (ص: 25).
(3)
((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 381 - 383).
(4)
((عمدة القاري)) (1/ 106، 107).