الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العنصر الثاني الإقرار باللسان
الإقرار باللسان عند السلف عنصر أصلي من عناصر الإيمان، فلا يتصور تحقق الإيمان القلبي التام من قول القلب وعمله دون تحقق الإقرار باللسان، فهو على هذا الأساس يكون من جهة، عبارة عن (إنشاء) عقد جديد يتضمن الالتزام والانقياد، ومن جهة أخرى يكون عبارة عن (إخبار) عما في النفس من اعتقاد.
فمن استخدم لفظ (الإقرار) بمعناه العام هذا من الإخبار والالتزام وقال إن الإيمان هو الإقرار، فالخلاف معه خلاف لفظي، ومن استخدم اللفظ في المعنى الأخير وحده وهو الإخبار لزمه في تعريف الإيمان أن يضيف إليه الاعتقاد بالقلب.
يقول ابن تيمية: (ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:
أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة، ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد
…
فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول – وكذلك لفظ الإيمان – فيه إخبار وإنشاء التزام) اهـ (1).
فالإقرار باللسان إذن نتيجة تلقائية للتعبير عن تحقق الإيمان القلبي من تصديق بالحق وانقياد له. (ولذلك فإن العرب لا تعرف في لغتها التصديق والتكذيب إلا ما كان معنى ولفظاً أو لفظاً يدل على معنى، فلا يوجد في كلام العرب أن يقال: فلا صدق فلاناً أو كذبه إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك. فمن لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمناً، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فمن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ لم يجعل الله أحداً مصدقاً للرسل بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم، حتى يصدقوهم بألسنتهم. ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين، حيث اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين مع القدرة على ذلك فهو كافر، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها)(2).
يقول البدر العيني: (اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما قاله النووي: إن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار، لا يكون من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين.
قال: فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً، بل يخلد في النار إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لتغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمناً بالاعتقاد من غير لفظ) اهـ (3).
ولا بد أن نقرر هنا – وبناء على كل ما سبق - أن التلفظ بالشهادتين إذن ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود هو الإعلان عن تحقيق مدلولهما من:
الإقرار بالتوحيد (ولوازمه من النبوة والبعث).
ترك الشرك والتبرئ منه.
التزام شرائع الإسلام.
فإذا لم تعبر الشهادة عن نفس هذه المعاني لم تقبل من قائلها، حتى تكون تعبيراً واقعياً عن مدلولها. وإذا عبر عن نفس هذه المعاني بكلمات أخرى قبلت من قائلها، حتى يلقن الشهادتين أو يتعلمهما أو يحسن التكلم بهما.
(1)((الإيمان الأوسط)) (ص: 72، 73).
(2)
راجع: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 126، 131، 135، 207، 287). وراجع ((الإيمان الأوسط)) (ص: 95، 151).
(3)
((عمدة القاري)) (1/ 110).
والمتتبع لأقوال الأئمة في هذا الأمر يلاحظ مدى تعدد اجتهاداتهم في اعتبار أو رفض الدلالات المختلفة التي تعبر عن تحقق مدلول الشهادتين، وذلك حسب حال القائل، والظروف والملابسات المختلفة التي تحيط به مما يؤكد على هذه الحقيقة وهي أن العبرة دائماً بالحقائق والمعاني والدلالات وليس بالألفاظ المجردة.
يقول الإمام ابن القيم: (وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله ولم يزد، هل يحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد. أحدها يحكم بإسلامه بذلك، والثانية لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله، والثالثة أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه، وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به) اهـ (1).
ويقول البدر العيني: (وإذا نطق بهما لم يشترط معهما أن يقول: أنا بريء من كل دين خالف دين الإسلام على الأصح، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب، ولا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ. ومن أصحابنا من اشترط التبرؤ مطلقاً، وهو غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) (2). ومنهم من استحبه مطلقاً كالاعتراف بالبعث.
أما إذا اقتصر الكافر على قوله لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكون مسلماً. ومن أصحابنا من قال: يصير مسلماً ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتداً. وحجة الجمهور الرواية السالفة، وهي مقدمة على هذه، لأنها زيادة من ثقة، وليس فيها نفي للشهادة الثانية، وإنما فيها تنبيه على الأخرى.
وأغرب القاضي حسين فشرط في ارتفاع السيف عنه أن يقر بأحكامها مع النطق بها، فأما مجرد قولها فلا، وهو عجيب منه.
وقال النووي: اشترط القاضي أبو الطيب من أصحابنا الترتيب بين كلمتي الشهادة في صحة الإسلام، فيقدم الإقرار بالله على الإقرار برسوله، ولم أر من وافقه ولا من خالفه.
وذكر الحليمي في منهاجه ألفاظاً تقوم مقام لا إله إلا الله، في بعضها نظر لانتفاء ترادفها حقيقة، فقال: ويحصل الإسلام بقوله: لا إله غير الله، ولا إله سوى الله أم ما عدا الله، ولا إله إلا الرحمن أو البارئ، أو لا رحمن أو لا بارئ إلا الله، أو لا ملك أو لا رزاق إلا الله، وكذا لو قال: لا إله إلا العزيز أو العظيم أو الحكيم أو الكريم. وبالعكس قال: لو قال: أحمد أبو القاسم رسول الله فهو كقوله: محمد) اهـ (3).
ويقول الشوكاني: (وعن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقال: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم إني أبرأ مما صنع خالد، ومرتين)) رواه أحمد والبخاري (4). وهو دليل على أن الكناية مع النية كصريح لفظ الإسلام.
قوله: صبأنا صبأنا، أي دخلنا في دين الصابئة، وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئاً، وكأنهم قالوا: أسلمنا أسلمنا
…
وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلماً بالتكلم بالشهادتين ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح
…
(1)((زاد المعاد)) (2/ 42).
(2)
رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
((عمدة القاري)) (1/ 110، 111).
(4)
رواه أحمد (2/ 150)(6382)، والبخاري (4084). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قال الحافظ في (الفتح) عند الكلام على حديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (1) في باب قتل من أبى من قبول الفرائض من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين ما لفظه: وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلماً؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله: إلا بحق الإسلام.
قال البغوي: الكافر إذا كان وثنياً أو ثنوياً لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع الأحكام، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكراً للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله. فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلا بد أن يقول: إلى جميع الخلق، فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن اعتقاده.
قال الحافظ: ومقتضى قوله يجبر، أنه إذا لم يلتزم يجرى عليه حكم المرتد، وبه صرح القفّال، واستدل بحديث الباب وادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهي غفلة عظيمة، فإن ذلك ثابت في الصحيحين في كتاب الإيمان منهما (2) كما قدمنا الإشارة إلى ذلك. اهـ.) (3).
فالقضية إذن هي قضية تحقق أصل الإيمان في القلب، ثم التعبير عن تحقق هذا الأصل باللسان. فالشهادة إذن ليست حجاباً من الكلمات التي يتمتم بها قائلها فترفع عنه السيف في الدنيا ثم تستره من العذاب في الآخرة، دون أن يكون لها أية حقيقة في قلبه وفي ظاهر أمره، من العلم والمعرفة والتصديق بالحق على ما هو عليه فعلاً، ثم الخضوع والانقياد والاستسلام له، ومحبته والالتزام به وتعظيمه ولوازم ذلك كله، من كراهية الباطل والانخلاع عنه والتبرئ منه، والالتزام بشريعة الرسول والدخول في طاعته ومحبته وتوقيره صلى الله عليه وسلم. حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبد الهادي المصري – ص 33
مسألة: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله
إن قول القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادي.
وعمل القلب: وهو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي.
فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة، والمقادير وسائر المغيبات.
فالإقرار بهذا والتصديق به مجملا أو مفصلا هو قول القلب، وهو التوحيد الخبري الاعتقادي.
وعمل القلب
…
يتضمن توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حبا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وإنابة وتوكلا وخشوعا واستعانة ودعاء وإجلالا وتعظيما وانقيادا، وتسليما لأمره الكوني وأمره الشرعي، ورضا بحكمه القدري والشرعي، وسائر أنواع العبادة التي صرفها لغير الله شرك (4).
(1) رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
((نيل الأوطار)) للشوكاني (8/ 9، 10) باب ما يصير به الكافر مسلماً.
(4)
كما يتضمن عمل القلب أعمالا دون ذلك مما افترضها الله وجعلها من واجبات الإيمان، كمحبة المؤمنين والنصح لهم، والتواضع، والشفقة، واجتناب الكبر والحسد، ونحو ذلك.
وهذان هما نوعا التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التي هي رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هي إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط.
…
أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما في القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعي أو العرفي وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين.
فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شيء في الوجود، الذي يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهي شهادة أن لا إله إلا الله؟!
ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد.
فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة- الآتي حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة.
وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث قال موسى:((يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! – زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به – قال: يا موسى، لو أن السموات السبع – وعامرهن غيري – والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفه مالت بهن لا إله إلا الله)) (1).
فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله)، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التي لا تكاد ترى.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر: كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.
وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره) (2).
(1) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 209)(10670)، وأبو يعلى في ((المسند)) (2/ 528)(1393)، وابن حبان (14/ 102)(6218)، والحاكم (1/ 710)،. من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 85): رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا وفيهم ضعف، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب والترهيب)) (923).
(2)
((مدارج السالكين)) (1/ 329 - 330).
(وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله)) (1) وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة) (2).
(والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان.
وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم:((من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة حطت عنه خطاياه – أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)) (3) وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان. نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب (4).
ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.
وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته – وهو في تلك الحال – على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر آخر، وإيمان آخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها.
وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت – مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها – ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان) (5) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي – 2/ 534
(1) رواه البخاري (425)، ومسلم (33). من حديث عتبان بن مالك السالمي رضي الله عنه.
(2)
((مدارج السالكين)) (1/ 330).
(3)
رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
حديث البطاقة رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (3488)، وأحمد (2/ 213)(6994)، والحاكم (1/ 46). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490): حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (33/ 595)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 173) كما أشار لذلك في المقدمة، وصححه السفاريني الحنبلي في ((لوائح الأنوار السنية)) (2/ 197)، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 22): رجاله موثقون، وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273): حسن.
(5)
((مدارج السالكين)) (1/ 331 - 332).