الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: رد شبهات المرجئة قديماً، ومن وقع في الإرجاء حديثاً
الشبهة الأولى: استشهادهم بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة. ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها. فقال له صلة: "ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً)) (1).
لقد فهم بعضهم من قول حذيفة رضي الله عنه لصلة بن زفر: (تنجيهم من النار) أن تارك العمل الظاهر كلية من غير عذر مؤمن ناقص الإيمان، وإن عاش حياته كلها لا يسجد لله سجدة، ولا يركع لله ركعة، ولا يؤدي زكاة، ولا صوماً، ولا حجا، ولا أي عمل من أعمال الجوارح، طالما وأنه يقول:(لا إله إلا الله)!!
إنه لمن العجب العجاب أن يصدر ذلك ممن يتصدر لتدريس العقيدة والتوحيد، ويربي الشباب على منهج السلف – زعم - فنتج عن قوله التفلت من التكاليف الشرعية، وعدم أخذ الكتاب بقوة وجدية. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذا الحديث لا يصلح دليلاً لمن استشهد به على نجاة تارك العمل الظاهر كلية، ولو فهم هذا المستشهد الحديث وتأمله، وراجع كلام أهل العلم فيه لاتضح له ذلك جلياً.
فإن الحديث في حالة خاصة يعذر صاحبها إذا ترك العمل الظاهر؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول.
ولهذا جاء في الحديث: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجا، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقولون لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا. فقال: ولا صوم ينجيهم من النار)). اهـ (2).
(1) رواه ابن ماجه (4049) والحاكم (4/ 520)(8460) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال ابن حجر ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (87): صحيح على شرط مسلم، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (303): صحيح.
(2)
((مجموع الفتاوى)) (11/ 407، 408). والحديث رواه ابن ماجه (4049) بلفظ: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ..... )) من حديث حذيفة بن اليمان. قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي. وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3289)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (303).
وقال رحمه الله أيضاً: (وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: "لا إله إلا الله")). فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله)؟ فقال: "تنجيهم من النار"). اهـ (1).
وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
(القسم الخامس: ما ورد مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة، كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب
…
)) (2) الحديث. وفيه: ((وتبقى طوائف الناس)).
فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها، فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم تشبه من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها، كمن مات عقيب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم قبل العلم بالشرائع) (3).
الشبهة الثانية: استشهادهم على ما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، والذي اشتهر بحديث البطاقة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يصاح برجل من أمتي يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول الله عز وجل هل تنكر من هذا شيئاً فيقول: لا يا رب فيقول أظلمك كتبتي الحافظون ثم يقول ألك عندنا حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم.
فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السلجات وثقلت البطاقة)) (4).
قال محمد بن يحيى – شيخ ابن ماجه – (البطاقة: الرقعة. وأهل مصر يقولون للرقعة: بطاقة).
احتج بعضهم بهذا الحديث على أن النجاة من النار يوم القيامة تكون باعتقاد القلب، ونطق اللسان، وإن خلا العبد من أي عمل من أعمال الجوارح.
والجواب عن ذلك من خمسة أوجه:
الوجه الأول: لابد من حمل هذا الحديث على من قالها مع النجاة من الشرك، وإلا فإنه لو قالها مع الشرك بالله تعالى لم تنفعه، - وهم متفقون مع أهل السنة في ذلك -. قال الله تعالى لخير خلقه وصفوة أنبيائه ورسله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65].
(1)((مجموع الفتاوى)) (35/ 165).
(2)
رواه ابن ماجه (4049) والحاكم (4/ 520)(8460) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال ابن حجر ((فتح الباري)): إسناده قوي (13/ 19)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (87): صحيح على شرط مسلم، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (303): صحيح.
(3)
((حكم تارك الصلاة)) (ص: 25، 26).
(4)
رواه الترمذي (2639) وابن ماجه واللفظ له (4300) وأحمد (2/ 213)(6994) والحاكم (1/ 46)(9) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن غريب، وكذا قال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490) ، وحسنه الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273)، وقال الألباني ((مشكاة المصابيح)) (5492): إسناده صحيح.
وهذا فهم من النصوص الأخرى غير حديث البطاقة، ومثله يقال في أعمال الجوارح، علماً بأن بعضها ركن في الإيمان، وبعضها من كماله الواجب وبعضها من تمامه المستحب.
فلابد من جمع النصوص وضم بعضها إلى بعض
…
الوجه الثاني: يقال لهم: أنتم توافقونا في أنه لابد من تصديق القلب الذي لا يصح إيمان قائل (لا إله إلا الله) إلا به، وهذا لم يذكر في حديث البطاقة أيضاً، ولكنه مأخوذ من الأدلة الأخرى، فلابد من حمل الحديث على حالة خاصة.
الوجه الثالث: قولكم: (يكفي الاعتقاد والتلفظ للنجاة من الخلود في النار) لازمه أن تخرجوا عما أجمع عليه أهل السنة من أن الإيمان (قول وعمل واعتقاد)، إلى القول بأنه:(قول واعتقاد) فقط، أو القول بأنه:(قول وعمل واعتقاد، ولكن الأعمال شرط في كماله). وهل الأول إلا قول المرجئة، وهل الثاني إلا قول الأشاعرة والذين كم حذر السلف من بدعتهم؟!! (1).
الوجه الرابع: لابد لمن أتى بـ (لا إله إلا الله) أن يقولها عن صدق ويقين وإخلاص، وكذا باقي الشروط المعروفة. وهذا أيضا لم يرد في الحديث، ولكنه فهم من النصوص الأخرى.
(1) نقل بعضهم قول الاشاعرة في الإيمان، والبعض الآخر نقل قول المرجئة، والكل ينسبه إلى السلف!! وهذا ناشئ إما عن الجهل أو عن التلبيس.
الوجه الخامس: ليس في الحديث أن صاحب البطاقة المذكورة لم يأت بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، بل فيه ما يدل على خلافه وأن الرجل المذكور له حسنات (1)، ففي الحديث يقول الله عز وجل:((بلى، إن لك عندنا حسنات)) (2)، أما المحو بهذه البطاقة فإنه للكبائر (3).
(1) تنبيه: ورد عند الإمام أحمد في ((المسند)) (6994) رواية: ((إن لك عندنا حسنة واحدة)). وليس في ذلك دليل لمن قال بنجاة تارك العمل الظاهر كلية بلا عذر – على فرض صحة الرواية -؛ وذلك لما سبق من الوجوه المذكورة، وما سيأتي إن شاء الله تعالى. بيد أنها رواية تفرد بها إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((التقريب)) (104): صدوق يغرب.
(2)
رواه الترمذي (2639) وابن ماجه واللفظ له (4300) وأحمد (2/ 213)(6994) والحاكم (1/ 46)(9) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن غريب، وكذا قال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490) ، وحسنه الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273)، وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (5492): إسناده صحيح.
(3)
مسألة: ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه تشترط التوبة لتكفير الكبائر، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تغفر بالأعمال والحسنات، وإن لم تقع التوبة، قال رحمه الله وهو يتحدث عن أسباب زوال عقوبة الذنوب عن العبد: وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث:(ما اجتنبت الكبائر). فيجاب عن هذا بوجوه: أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض: كالصلوات الخمس، والجمعة، وصيام رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ *النساء: 31*، فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله سبحانه يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *الزلزلة: 7 - 8*. الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في قوله: (غفر له وإن كان فر من الزحف)، وفي ((السنن)):(أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار)، وفي ((الصحيحين)) في حديث أبي ذر:(وإن زنا وإن سرق). الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. وساق رحمه الله وجهين آخرين، وأطال النفس في ذلك، فليرجع إليه في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 489 - 498).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال، وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم. فالسعيد منهم من يكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيراً؛ فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء، والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر، كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيقال هل تنكر من هذا شيئاً فيقول لا يا رب، فيقول: لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات)) (1).
فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة). اهـ (2).
الشبهة الثالثة: استشهادهم بالنصوص المطلقة في دخول من شهد أن (لا إله إلا الله) الجنة:
ومما استشهد به المرجئة قديماً، ومن وقع في الإرجاء حديثاً:
1 -
قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
2 -
عن عثمان رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (3).
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال:((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنفدت أزواد القوم حتى هم بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر: يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. ففعل، فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، - قال مجاهد: ذو النواة بنواه – قلت – أبو صالح: الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، فدعا عليها، حتى ملأ القوم أزودتهم، فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة)) (4).
(1) رواه الترمذي (2639) وابن ماجه واللفظ له (4300) وأحمد (2/ 213)(6994) والحاكم (1/ 46)(9) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن غريب، وكذا قال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490) ، وحسنه الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273)، وقال الألباني ((مشكاة المصابيح)) (5492): إسناده صحيح.
(2)
((منهاج السنة النبوية)) (6/ 218 - 220).
(3)
رواه مسلم (26) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم (27) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4 -
وعن أبي هريرة أو عن أبي سعيد رضي الله عنهما – شك الأعمش – قال: ((لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: يجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله عليه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)) (1).
5 -
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)) (2).
6 -
وعن الصنابحي، أنه قال: دخلت على عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في الموت، فبكيت، فقال: مهلاً، لم تبكي؟ فوالله! لئن استشهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: والله! ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار)) (3).
7 -
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال:((يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة، قال: يا معاذ بن جبل قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) (4).
8 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((قيل يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) (5).
9 -
وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((
…
فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) (6).
(1) رواه مسلم (27) من حديث أبي هريرة أو أبي سعيد رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (3435) ومسلم واللفظ له (28) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (29) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (6500) ومسلم (30) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
رواه البخاري (425) ، ومسلم (33) من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه.
ووجه الدلالة عند هؤلاء من هذه النصوص، - ونحوها من النصوص العامة – أن عمومها يدل على أنه لا يخلد في النار إلا المشرك، ولم يذكر في هذه النصوص أن تارك العمل من المخلدين في النار، وأن بعض هذه الأدلة علق السعادة والشفاعة لأهل كلمة (لا إله إلا الله)، ولم يذكر فيها العمل، وأن العصمة تكون لأهل كلمة التوحيد دون تعرض للعمل، وأن بعض الأحاديث فرق بين شهادة لا إله إلا الله والعمل، مما يدل على المغايرة
…
وغير ذلك من أقوالهم.
الجواب عن استشهادهم بهذه الأدلة:
1 -
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أدخله الله الجنة). ونحو ذلك من النصوص) (1).
2 -
قال الشيخ العلامة حمد بن علي بن محمد بن عتيق رحمه الله معلقاً على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه السابق: ((من شهد أن لا إله إلا الله)) أي من شهد أن لا معبود بحق إلا الله، وقام بوظائف هذه الكلمة من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله، وتبرأ من كل المعبودات سواه، سواء كان ذلك المعبود نبياً أو غيره، وأن محمداً عبده ورسوله الصادق المصدوق، أفضل الرسل، فهو عبد الله ورسوله، أوجب الله تعالى على الخلق طاعته، ونهى عن عبادته، وأمر بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها، كما قال: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36]. وليس المراد أن الإنسان إذا شهد بهذا من غير عمل بمقتضاه يحصل له دخول الجنة، بل المراد به الشهادة لله بالتوحيد، والعمل بما تقتضيه شهادة أن لا إله إلا الله، من الإخلاص، وما تقتضيه شهادة أن محمداً عبده ورسوله، من الإيمان به، وتصديقه، وأتباعه) (2).
وقال رحمه الله أيضاً عند تعليقه على حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه السابق: (قوله: ((يبتغي بذلك وجه الله)) كقوله: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، حرم الله عليه النار)) (3)، ونحوه، وكالأحاديث التي فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة. قال شيخ الإسلام وغيره: هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة، وقالها مخلصاً من قلبه، مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين. فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد: أن لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله أن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك. وقال الحسن: معنى هذه الأحاديث: من قال هذه الكلمة، وأدى حقها وفريضتها. وقيل إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك، وهذا قول البخاري. وقال ابن المسيب: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي.
(1)((مجموع الفتاوى)) (7/ 613، 614).
(2)
((إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد)) (ص: 21).
(3)
رواه البخاري (425) ، ومسلم (33) من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه.
قال بعض المحققين: قد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة والمباحية ذريعة إلى طرح التكاليف، ورفع الأحكام، وإبطال الأعمال، معتقدين أن الشهادة وعدم الإشراك كاف، وربما يتمسك بها المرجئة، وهذا الاعتقاد يستلزم طيَّ بساط الشريعة، وإبطال الحدود والزواجر السمعية. ويوجب أن يكون التكليف بالترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي والجنايات غير متضمن طائلاً، بل يقتضي الانخلاع عن ربقة الدين والملة، والانسلال عن قيد الشريعة والحكمة والسنة، والولوج في الخبط والخروج عن الضبط). اهـ (1).
وقال: النطق بالشهادتين دليل على العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل. اهـ (2).
(1)((إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد)) (ص: 23، 24).
(2)
((إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد)) (ص: 24).
3 -
قال فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى: (ليس المقصود قول: (لا إله إلا الله) باللسان فقط من غير فهم لمعناها، لابد أن تتعلم ما معنى (لا إله إلا الله)، أما إذا قلت وأنت لا تعرف معناها، فإنك لا تعتقد ما دلت عليه، فكيف تعتقد شيئاً تجهله، فلابد أن تعرف معناها حتى تعتقده، تعتقد بقلبك ما يلفظ به بلسانك، فلازم أن تتعلم معنى (لا إله إلا الله). أما مجرد نطق اللسان من غير فهم لمعناها فهذا لا يفيد شيئاً. أيضاً لا يكفي الاعتقاد بالقلب ونطق اللسان، بل لابد من العمل بمقتضاها، وذلك بإخلاص العبادة لله، وترك عبادة من سواه سبحانه وتعالى، فـ (لا إله إلا الله) كلمة نطق وعلم وعمل، ليست كلمة لفظ فقط. أما المرجئة فهم يقولون: يكفي التلفظ بـ (لا إله إلا الله)، أو يكفي التلفظ بها مع اعتقاد معناها، والعمل ليس بلازم، من قالها ولو لم يعمل شيئاً من لوازمها من أهل الجنة، ولو لم يصل، ولم يزك، ولم يحج، ولم يصم، ولو فعل الفواحش والكبائر والزنا والسرقة وشرب الخمر، وفعل ما يريد من المعاصي، وترك الطاعات كلها؛ لأنه تكفيه (لا إله إلا الله) عندهم، هذا مذهب المرجئة، الذين يخرجون العمل من حقيقة الإيمان ويعتبرون العمل إذا جاء فبها ونعمت، وإن لم يجئ فإنها تكفي (لا إله إلا الله) عندهم، ويستدلون بأحاديث تفيد أن من قال:(لا إله إلا الله)، دخل الجنة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما اقتصر على هذه الأحاديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم له أحاديث أخرى تقيد هذه الأحاديث، ولابد من أن تجمع بين كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بعضه إلى بعض لا أن تأخذ منه طرفا وتترك طرفا لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضا، أما الذي يأخذ طرفاً ويترك، طرفاً فإنه من أهل الزيغ الذين يتبعون: مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7]. الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من قال: ((لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله)) (1). وهذا حديث صحيح، فلماذا غفلتم عنه، وقال صلى الله عليه وسلم:((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) (2)، أما الذي يقول (لا إله إلا الله)، ولا يكفر بما يعبد من دون الله، ويدعو الأولياء والصالحين، فإن هذا لا تنفعه (لا إله إلا الله)؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، ويقيد بعضه بعضاً فلا تأخذ بعضه وتترك بعضه، والله سبحانه وتعالى يقول: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران: 7] يأخذون الذي يصلح لهم، ويتركون الذي لا يصلح لهم، ويقولون: استدللنا بالقرآن. نقول: ما استدللتم بالقرآن، فالقرآن إذا قال كذا فقد قال كذا، فلماذا تأخذون بعضه وتتركون بعضاً؟ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، المحكم والمتشابه، فيردون المتشابه إلى المحكم، ويفسرونه به ويقيدونه به، ويفضلونه، أما إنهم يأخذون المتشابه ويتركون المحكم فهذه طريقة أهل الزيغ. فالذين يأخذون بحديث أن من قال:((لا إله إلا الله دخل الجنة))، ويقتصرون على هذا، ولا يوردون الأحاديث الواضحة التي فيها القيود، وفيها التفصيل، فهؤلاء أهل زيغ.
(1) أخرجه مسلم (23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33) من حديث عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه.
فيجب على طالب العلم أن يعرف هذه القاعدة العظيمة؛ لأنها هي جماع الدين وأساس الملة. ليس المقصود أنك تأخذ آية أو حديثاً وتترك غيره، بل المقصود أنك تأخذ القرآن كله، وتأخذ السنة كلها، وكذلك كلام أهل العلم. العالم إذا قال كلاماً لا تأخذه وحده حتى ترده إلى كلامه الكامل، وتتبع كلامه في مؤلفاته؛ لأنه يقيد بعضه بعضاً؛ لأنهم على سنن كتاب الله وسنة رسوله، فترد المطلق إلى المقيد من كلامهم، فطالب العلم يجب عليه أن يأخذ هذه القاعدة معه دائماً، ويحذر من طريقة أهل الزيغ الذين يأخذون الذي يصلح لهم من الكتاب، ومن السنة، ومن كلام أهل العلم، ويبترون النقول، ويتركون باقي الكلام، أو يتركون الكلام الثاني الذي يوضحه، ويأخذون الكلام المشتبه ويتركون الكلام البين، كثير من الذين يدعون العلم غفلوا عن هذا الشيء، إما عن قصد التضليل، وإما عن جهل، فيجب معرفة هذه الأمور، وأن تكون أصولاً وقواعد عند طالب العلم). اهـ (1).
4 -
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن قيل: فقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) (2). متفق عليه.
(1)((سلسلة شرح الرسائل)) ((تفسير كلمة التوحيد)) (ص: 135 - 139).
(2)
رواه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قلنا: هذا الخبر قد روي فيه ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرم دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله)). رواه ابن ماجه وابن خزيمة في (صحيحة)(1). فهذا المقيد يقضي على ذلك المطلق، ثم لو كان قد قيل مفرداً، فإن الصلاة والزكاة من حقها، كما قال الصديق لعمر ووافقه عمر وسائر الصحابة على ذلك، ويكون صلى الله عليه وسلم قد قال كلا من الحديثين في وقت، فقال:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (2)؛ ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها وجب الكف عنه، وصار دمه وماله معصوماً، ثم بين في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين؛ ليعلم أن تمام العصمة وكمالها إنما تحصل لذلك، ولئلا تقع الشبهة؛ فإن مجرد الإقرار لا يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة حتى طلاها الصديق ثم وافقه، وتكون فائدة ذلك أنه إذا قال (لا إله إلا الله) كان قد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت، وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار ((أن رجلاً من الأنصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، فقال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله قال: بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلي قال: بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)) (3). رواه الشافعي، وأحمد في (مسنديهما). ولو كانت الشهادتان موجبة للعصمة مع ترك الصلاة لم يسأل عنها، ولم يسقها مع الشهادتين مساقاً واحداً. وقوله بعد ذلك:((أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)). يوجب حصر الذين نهي عن قتلهم في هذا الصنف. وعن أبي سعيد في حديث الخوارج، فقال ذو الخويصرة التميمي للنبي صلى الله عليه وسلم:((يا رسول الله، اتق الله. فقال: ويلك، ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال: لا، لعله أن يكون يصلي. قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)) رواه مسلم (4)، فلما نهى عن قتله وعلل ذلك باحتمال صلاته علم أن ذلك هو الذي حقن دمه لا مجرد الإقرار بالشهادتين؛ فإنه قد قال: يا رسول الله، ومع هذا لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وحده موجبا لحقن الدم. وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم فقال لا، ما صلوا)) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. ولأن الصلاة أحد مباني الإسلام الخمسة فيقتل تاركها كالشهادتين.
(1) رواه ابن ماجه (3927) وابن خزيمة (2248) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(2)
رواه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(3)
رواه مالك في الموطأ (1/ 171)(413) وأحمد (5/ 432)(23720) والشافعي في مسنده (1/ 320)(1496) وابن حبان في صحيحه (13/ 309)(5971) من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله تعالى عنه. قال الذهبي (المهذب)(3/ 1295): جيد الإسناد من أمالي عبد الرزاق ولم يخرجوه في الستة وقال العراقي (طرح التثريب)(2/ 145): إسناده صحيح وقال الهيثمي (مجمع الزوائد)(1/ 29): رجاله رجال الصحيح.
(4)
رواه البخاري (4351) ، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
اهـ (1).
وقال رحمه الله أيضا: (وهذه المسألة (2) لها طرفان:
أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42](3).
الشبهة الرابعة: قولهم: الإيمان لغة هو التصديق، وهو باق على معناه اللغوي لم ينقل عنه، فوجب أن يكون كذلك في الشرع.
قال العلامة محمد بن نصر المروزي رحمه الله مبينا أن هذا من حجج المرجئة: (ومن أعظم حجج المرجئة التي يقولون بها عند أنفسهم: اللغة، وذلك أنهم زعموا أن الإيمان لا يعرف في اللغة إلا بالتصديق، وزعم بعضهم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب، وقال بعضهم: لا يكون إلا بالقلب واللسان، وقد وجدنا العرب في لغتنا تسمي كل عمل حققت به عمل القلب واللسان: تصديقاً). اهـ (4).
الجواب عن هذه الشبهة من أربعة أوجه، كلها لفارس الميدان، وبطل المضمار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
1 -
رده رحمه الله على من يرى أن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق بما يشفي صدور المؤمنين، ويزيل شبهة المبتدعين والمغرورين، وسوف أنقل كلامه بطوله لأهميته:
قال رحمه الله: (وليس لفظ الإيمان مرادفاً للفظ التصديق كما يظنه طائفة من الناس، فإن التصديق يستعمل في كل خبر، فيقال: لمن أخبر بالأمور المشهورة مثل: الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض، مجيبا: صدقت، وصدقنا بذلك، ولا يقال: آمنا لك، ولا آمنا بهذا، حتى يكون المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبر: آمنا له، وللمخبر به: آمنا به، كما قال إخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، أي: بمقر لنا، ومصدق لنا؛ لأنهم أخبروه عن غائب، ومنه قوله تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111]، وقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وقوله: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47]، وقوله تعالى: وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 21]، وقوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]، أي أقر له.
وذلك أن الإيمان يفارق التصديق، أي: لفظا ومعنى، فإنه أيضا يقال: صدقته، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال: أمنته إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل آمنت له، وإذا ساغ أن يقال: ما أنت بمصدق لفلان، كما يقال: هل أنت مصدق له؛ لأن الفعل المتعدي بنفسه إذا قدم مفعوله عليه، أو كان العامل اسم فاعل ونحوه مما يضعف عن الفعل، فقد يعدونه باللام تقوية له، كما يقال: عرفت هذا، وأنا به عارف، وضربت هذا، وأنا له ضارب، وسمعت هذا ورأيته، وأنا له سامع وراء، كذلك يقال: صدقته، وأنا له مصدق، ولا يقال صدقت له به، وهذا خلاف آمن، فإنه لا يقال إذا أردت التصديق: آمنته كما يقال: أقررت له، ومنه قوله: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فهذا فرق في اللفظ.
(1) رواه مسلم (1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2)
المراد: مسالة حكم تارك الأركان الأربعة.
(3)
((مجموع الفتاوى)) (7/ 611).
(4)
((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 716).
الفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب. فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار.
وأما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من: قر، يقر، وهو قريب من آمن، يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:
أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]، وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد؛ فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]، فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه: آمن له، بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر. والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنا للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وأيضا: فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فإن التصديق إخبار بصدق المخبر، والتكذيب إخبار بكذب المخبر، فقد يصدق الرجل الكاذب تارة، وقد يكذب الرجل الصادق أخرى، فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر. فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر يخبر عنها، بخلاف الإيمان، والإقرار، والإنكار، والجحود ونحو ذلك، فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق أيضا). اهـ (1)(2).
2 -
رد شيخ الإسلام على من ادعى الإجماع على أن الإيمان لغة هو التصديق:
قال رحمه الله: وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة:
أحدها: (قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق، ويقول: هو بمعنى الإقرار وغيره.
والثاني: قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب، واللسان، وسائر الجوارح، كما قال النبي:((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (3).
(1) هذا تأصيل نفيس، وقياس بديع، يسطر بماء العيون، فرحم الله أبا العباس، ولله دره من إمام، نصر الله به الملة، وقمع به البدعة، فهل سيفقه كلامه من تخبط في بدعة الإرجاء؟!!
(2)
((مجموع الفتاوى)) (7/ 529 – 532).
(3)
رواه البخاري (6612) ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والثالث: أن يقال: ليس هو مطلق التصديق، بل هو تصديق خاص، مقيد بقيود اتصل اللفظ بها، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص وصفه وبينه.
والرابع: أن يقال: وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى.
الخامس: قول من يقول: أن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً.
السادس: قول من يقول: أن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي.
السابع: قول من يقول: أنه منقول.
فهذه سبعة أقوال:
الأول: قول من ينازع في أن معناه في اللغة التصديق، ويقول: ليس هو التصديق بل بمعنى الإقرار وغيره.
قوله: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق.
فيقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟
الثاني: أن يقال: أتعني بأهل اللغة نقلتها، كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقوله لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم، ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك.
الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد أو اثنان فليس هذا إجماعاً.
الرابع: أن يقال هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا عنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلاماً عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي، وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يدره، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.
الخامس: أنه لو قدر أنهم قالوا: هذا فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق؟ فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل: فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به، وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين، حتى انتهى إلينا فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظاً ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر ونحو ذلك، على ما هو معناها في القرآن، وإلا فلو كلفنا نقلاً متواتراً لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لاسيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به، والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفاً على شيء من ذلك، بل الصحابة بلغوا معاني القرآن كما بلغوا لفظه، ولو قدرنا أن قوماً سمعوا كلاماً أعجمياً وترجموه لنا بلغتهم، لم نحتج إلى معرفة اللغة التي خوطبوا بها أولاً.
السادس: أنه لم يذكر شاهداً من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر، وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر، ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك، والقائل لذلك وإن كان تصديق القلب داخلاً في مراده فليس مراده ذلك وحده، بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه.
السابع: أن يقال: من قال ذلك فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها، وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلا لم يسموه مؤمناً به، كما أنهم لا يسمون مؤمناً بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار، دون المعرض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حق، كما لا يسمون إبليس مؤمناً بالله وإن كان مصدقا بوجوده وربوبيته، ولا يسمون فرعون مؤمناً وإن كان عالما بأن الله بعث موسى، وأنه هو الذي أنزل الآيات وقد استيقنت بها أنفسهم مع جحدهم لها بألسنتهم، ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول وإن كانوا يعرفون أنه حق كما يعرفون أبناءهم. فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيء مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه، ولا يعظمه، ولا يخافه، ولا يرجوه، بل يجحد به ويكذب به بلسانه، أنهم يقولون هو مؤمن، بل ولو عرفه بقلبه وكذب به بلسانه لم يقولوا: هو مصدق به، ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه لم يقولوا: هو مؤمن به، فلا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه، وقوله: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، فإن هذا استدلال بالقرآن وليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر كما بسطناه في موضعه.
الوجه الثامن: قوله: لا يعرفون في اللغة إيماناً غير ذلك، من أين له هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطة به؟! بل هو قول بلا علم.
التاسع: قول من يقول: أصل الإيمان مأخوذ من الأمن كما ستأتي أقوالهم إن شاء الله، وقد نقلوا في اللغة الإيمان بغير هذا المعنى، كما قاله الشيخ أبو البيان في قول.
الوجه العاشر: أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة، ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام، كالحيوان إذا أخذ بعض أنواعه وهو الإنسان، كان فيه المعنى العام ومعنى اختص به، وذلك المجموع ليس هو المعنى العام. فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص من غير تغيير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان وأنه ناطق.
الوجه الحادي عشر: أن القرآن ليس فيه ذكر مطلق غير مفسر. بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد وإما مطلق مفسر، فالمقيد كقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، وقوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83] والمطلق المفسر كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]، وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] ونحو ذلك، وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وأمثال هذه الآيات. وكل إيمان مطلق في القرآن فقد يبين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمناً إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لابد فيه من عمل مع التصديق كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج.
فإن قيل: تلك الأسماء باقية، ولكن ضم على المسمى أعمالاً في الحكم لا في الاسم، كما يقوله القاضي أبو يعلى وغيره، قيل: إن كان هذا صحيحاً قيل مثله في الإيمان، وقد أورد هذا السؤال لبعضهم ثم لم يجب عنه بجواب صحيح، بل زعم أن القرآن لم يذكر فيه ذلك، وليس كذلك، بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة وإجماع السلف.
الثاني عشر: أنه إذا قيل: أن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة، وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقاً وعاماً، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير يريدون شخصا معينا يعرفونه، دلت عليه اللام مع معرفتهم به، وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، والدعاء الذي صفته كذا وكذا، فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد بين أنه لا يكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلاً عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تؤمنون حتى تكونوا كذا)) وفي قوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، كقوله عليه السلام:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (1)، وقوله:((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) (2) وأمثال ذلك. فقد بيَّن لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو أن يكون تصديقا على هذا الوجه، وهذا بيِّنٌ في القرآن والسنة من غير تغيير للغة، ولا نقل لها.
الثالثة عشر: أن يقال: بل نقل وغُيِّرَ، قوله: لو نقل لتواتر، قيل: نعم، وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة، وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله، من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به، كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ وهذا متواتر في القرآن والسنن، ومتواتر أيضاً أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض، ومتواتر عنه أنه أخبر أنه من مات مؤمنا دخل الجنة ولم يعذب، وأن الفساق لا يستحقون ذلك بل هم معرضون للعذاب، فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأي تواتر أبلغ من هذا؟ وقد توفرت الدواعي على نقل ذلك وإظهاره ولله الحمد. ولا يقدر أحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً يناقض هذا، لكن أخبر أنه يخرج منها من كان معه شيء من الإيمان، ولم يقل: إن المؤمن يدخلها، ولا قال: إن الفساق مؤمنون، لكن أدخلهم في مسمى الإيمان في مواضع، كما أدخل المنافقين في اسم الإيمان في مواضع مع القيود، وأما الاسم المطلق الذي وعد أهله بالجنة فلم يدخل فيه لا هؤلاء ولا هؤلاء.
(1) رواه البخاري (2475) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم بلفظ (لا يدخل الجنة)(46) ورواه أحمد (2/ 288)(7865) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الرابع عشر: قوله: ولا وجه للعدول بالآيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن، وسلبت الإيمان عمن لم يعمل أصرح وأبين وأكثر من هذه الآيات، ثم إذا دلت على أنه عربي فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربيا؛ ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك لم يقولوا: هذا ليس بعربي، بل خاطبهم باسم المنافقين، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: أنه ليس بعربي؛ لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج، فإذا كان اللفظ مشتقاً من لغتهم وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم، لم يخرج ذلك عن كونه عربيا.
الوجه الخامس عشر: أنه لو فرض أن هذه الألفاظ ليست عربية، فليس تخصيص عموم هذه الألفاظ بأعظم من إخراج لفظ الإيمان عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، فإن النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحب الله ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعمل شيئاً من الواجب، ولا يترك شيئا من المحرم، كثيرة صريحة، فإذا قدر أنه عارضها آية، كان تخصيص اللفظ القليل العام أولى من رد النصوص الكثيرة الصريحة.
السادس عشر: أن هؤلاء واقفة في ألفاظ العموم، لا يقولون بعمومها، والسلف يقولون: الرسول وقفنا على معاني الإيمان، وبيَّنه لنا، وعلمنا مراده منه بالاضطرار، وعلمنا من مراده علما ضرورياً أن من قيل: أنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى، ولا صام، ولا أحب الله ورسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول، معادياً له، يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن). اهـ (1).
3 -
وقال رحمه الله أيضا: (وأما المقدمة الثانية فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق، فقولهم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان عنه جوابان:
أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني، وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (2)، وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف. قال الجوهري: والصِّدِّيقُ مثال الفِّسِّيقِ، الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وهذا مشهور عن الحسن، يروى عنه من غير وجه، كما رواه عباس الدوري: حدثنا حجاج، حدثنا أبو عبيدة الناجي، عن الحسن قال:(ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال)، من قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحاً رفعه العمل، ذلك بأن الله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ [فاطر: 10]. ورواه ابن بطة من الوجهين: وقوله: ليس الإيمان بالتمني، يعني الكلام، وقوله: بالتحلي، يعني أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم). اهـ (3).
(1)((الإيمان)) (ص: 116 - 125).
(2)
رواه البخاري (6612) ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
((مجموع الفتاوى)) (7/ 293، 294).
4 -
وقال رحمه الله أيضاً: (فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته. وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول. وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين.
فمن ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً، فالكفر أعم من التكذيب. يكون تكذيباً وجهلاً، ويكون استكباراً وظلماً، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب.
ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء، فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق، ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنت خبرا وأمرا، فإنه يحتاج إلى مقام ثان، وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله.
فإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال:(وأشهد أن محمداً رسول الله) تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار.
فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين – وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول – ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول ظاهراً وباطناً ثم يمتنع من الانقياد للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى – كإبليس -.
وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله ورسوله ينافي الانقياد له، والطاعة منفاة ذاتية، وينافي التصديق بطريق الاستلزام؛ لأنه ينافي موجب التصديق ومقتضاه، ويمنعه عن حصول ثمرته مقصوده. لكن الإيمان بالرسول إنما يعود أصله إلى التصديق فقط؛ لأنه مبلغ لخبر الله وأمره، لكن يستلزم الانقياد له؛ لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته، فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه، وكلاهما كفر صريح). اهـ (1).
فهذا واضح جلي في أن الإقرار والانقياد لازم للتصديق القلبي، فهل سيعقل ذلك من نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله خلافه؟!!
الشبهة الخامسة: قالوا: إن الله تعالى خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل وجود الأعمال، فدل ذلك على تحقيق الإيمان بدونها.
الجواب عن هذه الشبهة: قد أجاب عن هذه الشبهة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: الجواب عن قولهم: خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال، فنقول: يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين، ولهذا قال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] ولهذا لم يجيء ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وفد عبد القيس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضمام بن ثعلبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل؛ وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء الله متى فرض الحج.
(1)((الصارم المسلول)) (3/ 967 – 969).