الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الوجه الرابع زعمهم أن الإيمان بالقدر يقضي بترك الأعمال وإهمال الأسباب
لقد أخطأ هذا الفريق في دعواه أن الإيمان بالقدر لا يحتاج العبد معه إلى العمل، وذهل هؤلاء عن حقيقة القدر، فالله قدرَّ النتائج وأسبابها، ولم يقدر المسببات من غير أسباب، فمن زعم أن الله قدر النتائج والمسببات من غير مقدمتها وأسبابها فقد أعظم على الله الفرية. فالله إذا قدرَّ أن يرزق فلاناً رزقاً جعل لذلك الرزق أسباباً ينال بها، فمن ادعى أن لا حاجة به إلى السعي في طلب الرزق وأنَّ ما قدر له من رزق سوف يأتيه سعي أو لم يسع لم يفقه قدر الله في عباده.
وإذا قدر الله أن يرزق فلاناً ولداً، فإنه يكون قدر له أن يتزوج ويعاشر زوجه، فالأسباب هي من الأقدار. والله يقدر أن فلاناً يدخل الجنة، ويقدر مع ذلك أن هذا الإنسان يؤمن ويعمل الصالحات، ويستقيم على أمر الله، ويقدر أن فلاناً يكون من أهل النار، ويقدر أسباب ذلك من تركه الإيمان والأعمال الصالحة. ويقدر أن فلاناً يمرض فيتناول الدواء فيشفى، فالله قدر المرض، وقدر السبب الذي يزيل المرض ويحقق الشفاء. والله يقدر أن فلاناً يدعوه ويستغيث به، فيجيب دعاءَه ويقبل رجاءَه، ويقدر أن فلاناً لا يدعوه ولا يرجوه، فيكله إلى نفسه، ويبقيه في تعسه، فالله قدر المسببات وقدر أسبابها، ومن زعم أن المسبب يقع من غير سبب فإنه لم يفقه دين الله، ولم يعرف قدر الله، وهو كمن يزعم أن الولد يأتي من غير سبب، وأن الزرع يحصل من غير ماء ولا تراب، وأن الشبع يحدث من غير طعام، والري يكون من غير تناول شراب. والنصوص الدالة على هذا الذي شرحناه وبيناه كثيرة وافرة.
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدة لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار. قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] وقال: وَأَعِدُّواْ لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60] وأمر المسافرين للحج بالتزود وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزادِ التَّقْوَى [البقرة: 197] وأمر بالدعاء والاستعانة وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ [الأعراف:128]. وأمر باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه وجنته كالصلاة والصيام والزكاة والحج. وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل حياة المرسلين جميعاً والسائرين على نهجهم كلها شاهدة على أخذهم بالأسباب، والجد والاجتهاد في الأعمال. إن الأخذ بالأسباب هو من قدر الله تبارك وتعالى، وليس مناقضاً للقدر ولا منافياً له. وقد فقَّه الرسول صلى الله عليه سلم بمعنى القدر، وأنه لا يُوجبُ ترك العمل، بل يوجب الجد والاجتهاد فيه لبلوغه ما يطمح الإنسان في نيله وتحقيقه، فقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن فائدة العمل إذا كانت الأعمال مقدرة مقضية جفَّ بها القلم، وفرغ منها رب العالمين، فقال:((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) (1) وقرأ عليه السلام: فَأَما مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَما مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5 - 10]. وقال بعض الصحابة الذين فقهوا عن الله ورسوله مراده لما سمع أحاديث القدر: ما كنت بأشدّ اجتهاداً مني الآن. إن الذي يفقه عن الله مراده في القدر يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال، بل يدفع إلى الجد والاجتهاد والحرص على تحصيل ما ينفعه في الدنيا والآخرة. إلا أنه يجب التنبه إلى أن العبد وإن أخَذَ بالأسباب فإنه لا يجوز أن يعتمد عليها، ويتوكل عليها، بل يجب أن يتوكل على خالقها ومنشئها. وقد قال علماؤنا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع. وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلاً، ولا بدَّ له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله ربُّ كل شيء ومليكه، وأن السماوات والأرض وما بينهما والأفلاك وما حوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلاً بإحداث شيء من الحوادث، بل لا بدَّ له من مشارك ومعاون، وهو مع ذلك له معارضات وممانعات.
(1) رواه البخاري (4949)، ومسلم (2647). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فكل سبب له شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه، ولم يُصرف عنه ضده لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتمُّ حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ومجموع ذلك لا يفيد إن تصرف المفسدات. والعقلاء من البشر يعلمون أنهم لا يستقلون بفعل ما يريدون، فكثير منهم تتهيأ له الأسباب، ثم يحال بينه وبين ما يشتهي وما يريد حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24]. يذكر اللالكائي أن رجلاً طلب من جاريته أن تسقيه، فجاءته بقدح من زجاج، فصبت له ماء، فوضعه على راحته، ثم رفعه إلى فيه، ثم قال: يزعم ناس أني لا أستطيع أن أشرب هذا، ثم قال: هي حرة إن لم أشربه (يعني جاريته التي صبت الماء) فما كان من الجارية إلا ضربت القدح بِردن قميصه، فوقع القدح وانكسر وأهرق الماء (1).
وهكذا أثبتت الجارية لهذا المسكين أنه لا يقدر على كل ما يريد ما لم يقدره الله، فلقنته درساً، وحررت نفسها من رق العبودية. وكم من ثري أو قوي أو مُقدّم قوم ظن أن الدنيا خضعت له وأعطته زمامها، وجد نفسه عاجزاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، قد يقعده عن فعل ما يشتهي عدو طاغ، أو مرضٌ مُقْعِدٌ، أو خيانة صديق. أو طمع محب وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 54]. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص83
(1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 426).