الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حكم الاحتجاج بالقدر
عقيدة الإيمان بالقدر لقيت كما لقي غيرها من أركان الإيمان كثيراً من الاعتراضات، وأثيرت حولها كثير من الشبهات، وليس هذا بمستغرب ما دام الصراع بين الحق والباطل موجوداً منذ أن استكبر إبليس على ربه، وأبى السجود لآدم عليه السلام، وإلى أن تقوم الساعة.
ولم يكن هناك داع لطرق هذا الموضوع
…
لولا أن القدر قد اشتهر عنه بصفة خاصة: في بطون الكتب، وعلى ألسنة الناس في كل زمان ومكان هذا الموضوع الذي هو موضوع الاحتجاج به، فكل من عرض له موضوع القدر، أو تحدث عنه، أو كتب فيه تجده يناقش هذه المسألة.
ومن المعلوم أن كثراً من الكافرين والمشركين والضالين، والمقصرين في عبادة الله والمنحرفين عن منهج الله قد وجدوا في القدر مجالاً للاحتجاج به على كفرهم، وفسادهم، وتقصيرهم. ولذلك ورد في الكتاب والسنة، وأقوال العلماء ما يرد على هؤلاء جميعاً ويدحض حججهم كلها.
لهذا كله كان من تمام الكلام في القدر أن نناقش أهم هذه الأسئلة التي تثار حوله، والمقصود: الأسئلة التي تثار حول القدر على وفق عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، وإلا فالأسئلة التي أثيرت وتثار على مذاهب المنحرفين في القدر كثيرة وكثيرة جداً، ومن ثم فسنقصر الحديث على الأسئلة التي أثيرت حول عقيدة السلف في القدر فقط. وستكون طريقتنا أن نذكر كل حجة على شكل سؤال، ثم نعقبه مباشرة بالمناقشة والبيان، وهكذا في الحجة الثانية وإلى آخر الحجج.
السؤال الأول:
وهو سؤال عام يجمع حججاً عديدة، ولذلك كان من أشهر الحجج وأكثرها شيوعاً عند كل من انحرف عن الطريق المستقيم في باب القدر، وملخصه:
أن كل من أذنب ذنباً، أو ارتكب معصية فإنه يحتج بأنه مقدر عليه، وأنه أمر مقدور، حاصل لا محالة، ومن ثم فما ذنب العاصي في معصيته، ما دامت مكتوبة عليه، وهؤلاء يستدلون بأن آدم عليه السلام قد احتج بالقدر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: حج آدم موسى، وذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، ثلاثاً)) (1).
جواب هذا السؤال ومناقشته من وجوه:
1 -
أنه قد علم بالاضطرار أن الاحتجاج بالقدر حجة باطلة وداحضة باتفاق كل ذي عقل، ودين من جميع العالمين، ويوضح هذا أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد، وإما أن لا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، فحينئذ يلزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه، ويأخذ ماله، ويفسد حريمه، ويضرب عنقه، ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعاً كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات، وترك الواجبات، لزمهم ألا يذموا أحداً، ولا يبغضوا أحداً، ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحداً فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع.
(1) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652).
وهذا يدل على ما يختلج في النفوس من شهوات وشبهات، ولذلك تراهم يحتجون بالقدر على أفعالهم ومعاصيهم، وفي نفس الوقت ينتقمون ممن اعتدى عليهم أو ظلمهم، ولو احتج عليهم بالقدر لما قبلوا، بل لو كان الاعتداء بما يحسن الاحتجاج بالقدر عليه كالمصائب التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لاعترضوا ولم يقبلوا أن يحتج بالقدر من كانت على يديه هذه المصائب دون عمد منه أو تفريط، وعند الاستقراء تجد أن هؤلاء يحتجون بالقدر في ترك حق ربهم، ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم، ولا مخالفة أمرهم، ويقول ابن تيمية عن هؤلاء:(ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك، والصوفية، والفقراء، والعامة، والجند، والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس، فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلاً، بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم، وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس)(1) ، ومعلوم أن الصوفية هم شر من ابتلي في هذا الباب حيث اعتقدوا أن ما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فالمقدور هو محبوب لله تعالى مهما كان.
2 -
أنه يلزم على الاحتجاج بالقدر لازم باطل ألا وهو تعطيل الشرائع، وحين تعطل الشرائع يلزم عليها أن يكون إبليس، وفرعون، وقوم نوح، وعاد وكل من عذبه الله بسبب مخالفته أمره معذوراً، ويلزم أيضاً ألا يفرق بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الله وأولياء الشيطان، وهذه كلها لوازم معلوم بطلانها بالضرورة.
والقدرية ثلاثة أصناف:
الأولى: القدرية المشركية، وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي فقالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام:148]، وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع وإن كانوا معترفين بربوبية الله العامة لكل مخلوق.
الثانية: القدرية الإبليسية: وهم الذين يصدقون بالشرع والقدر، ولكن عندهم أن هذا تناقض، وهؤلاء كثير في سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة.
الثالثة: القدرية المجوسية، وهم الذين يجعلون لله شركاء في خلقه، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقولون إن الذنوب ليست واقعة بمشيئة الله ولا قدرته، وهؤلاء هم المعتزلة الذين يعظمون الأمر والنهي، ولكنهم يشركون معه في باب القدر، ولهذا سموا بالقدرية المجوسية، فهؤلاء لا ينظرون إلى القدر في المصائب ولا في المعائب، في حيث أن الأولين يحتجون بالقدر في المصائب والمعائب، وكل منهم ضال في هذا الباب، وهو مقصر إما في جانب الشرع، أو في جانب القدر.
ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم تقطع يد سارق، ولا أقيم حد على زان، ولا جوهد في سبيل الله.
3 -
أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان قادر عليه، وكما هو معلوم فإن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل لكل مكلف، ومن ثم فالإنسان قادر متمكن، وقد خلق الله فيه القدرة على الإيمان، وحينئذ فحين لا يؤمن يكون هو الذي لا يريد الإيمان، ومادام الأمر كذلك فليس لأحد أن يقول: لماذا لم يجعلني الله مريداً للإيمان، لأنه لو أراد الإيمان لقدر عليه، ومادام الإنسان مريداً قادراً فاحتجاجه بالقدر باطل.
وينبغي أن يعلم أن الاحتجاج بالقدر إنما يرد على من لا يقر للإنسان بإرادة ولا قدرة كالجهمية والأشاعرة، أما على مذهب أهل السنة الحقيقي فلا يرد، لأنهم يقولون إن الإنسان مريد وفاعل حقيقة، وله قدرة يقع بها الفعل.
(1)((منهاج السنة النبوية)) (3/ 58 - 59).
4 -
وأقرب مثال على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال: إذا كان معلوماً أن الله قد علم وكتب أن فلاناً يتزوج امرأة ويطؤها ويولد له، وأن فلاناً يبذر البذر فينبت الزرع
…
إلخ ولا يمكن لأحد أن يحتج بالقدر هنا فيقول: أنا لا أتزوج أو أطأ امرأة، فإن كان قدر الله أن يولد لي ولد فسيولد، أو يقول: أن لا أبذر البذر، فإن كان قدر الله أن تنبت أرضي زرعاً فستنبت، لأن من قال هذا عد من أجهل الجاهلين، إذا وضح هذا المثال فنقول: إن الله تعالى علم وكتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة، وفلاناً يعصي ويفسق فيدخل النار، وحينئذ فمن قال: إن كنت من أهل الجنة فأنا سأدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضاً، لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل كان هذا مناقضاً لما علمه الله وقدره، وهذا شبيه بمن قال: أنا لا أطأ امرأة، وإن كان قد قدر أن يأتيني منها ولد فسيأتيني (1).
ومعلوم أن جميع الأسباب قد تقدم علم الله بها، وكتابته لها، وتقديره إياها، وقضاؤه بها، كما تقدم ربط ذلك بالمسببات، ومنها الأسباب التي بها يخلق الله النبات من المطر وغيره، فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده، ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب فهو ضال جاهل من وجهين:
أحدهما: (من جهة كونه جعل العلم جهلاً: فإن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب، لأن ذلك هو الواقع فمن قال: إنه يعلم شيئاً بدون الأسباب، فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء، فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء)(2)، فالله أخبر أن الأعمال هي سبب في الثواب والعقاب، فلو قال قائل: إن الله قد أخرج آدم بلا ذنب، وأنه قد قدر عليه، أو قال: إن الله قد غفر لآدم بلا توبة، وأنه قد علم ذلك، كان هذا كذباً وبهتاناً، بخلاف ما إذا أقر بأن آدم قد أذنب، وأنه قد تاب فتاب الله عليه، وكل ذلك مقدر، فإنه يكون صادقاً، ويقاس على ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى من أن السعادة والشقاوة تكون بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها (3).
(1) انظر: ((القدر)) لابن تيمية (ص: 265–266)، وانظر:((رسالة في تحقيق التوكل)) لابن تيمية (ص: 93) ضمن ((جامع الرسائل)) لابن تيمية.
(2)
((القدر)) لابن تيمية (ص: 277).
(3)
((القدر)) لابن تيمية (ص: 278 - 279).
والثاني: (أن العلم بأن الشيء سيكون، والخبر عنه بذلك، وكتابة ذلك لا يوجب استغناء ذلك عما به يكون من الأسباب التي لا يتم إلا بها، كالفاعل، وقدرته، ومشيئته، فإن اعتقاد هذا غاية في الجهل، إذ هذا العلم ليس موجباً بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء بل هو مطابق له على ما هو عليه، لا يكسبه صفة، ولا يكتسب منه صفة، بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا، كالموجودات التي كانت قبل وجودنا، مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته، فإن هذا العلم ليس مؤثراً في وجود المعلوم باتفاق العلماء، وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم، كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل، ويعرفنا صفته وقدره، فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم، إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم، وهذا التفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعلي له تأثير في المعلوم، وعلم انفعالي لا تأثير له في وجود المعلوم هو فصل الخطاب في العلم)(1) ، وهكذا علم الله تبارك وتعالى فعلمه بنفسه - سبحانه - لا تأثير له في وجود المعلوم، أما علمه بمخلوقاته التي خلقها بمشيئته وإراداته فهو مما له تأثير في وجود معلوماته، ولهذا كان الخلق مستلزماً للعمل ودليلاً عليه، (وأما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون، فعلمه وخبره حينئذ ليس هو المؤثر في وجوده، لعلمه وخبره، به بعد وجوده، لثلاثة أوجه:
أحدهما: أن العلم والخبر عن المستقبل كالعلم والخبر عن الماضي.
الثاني: أن العلم المؤثر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلق، ليس هو ما يستلزم الخبر
…
الثالث: أنه لو قدر أن العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعلوم المخبر به، فلا ريب أنه لا بد مع ذلك من القدرة والمشيئة فلا يكون مجرد العلم موجباً له بدون القدرة والإرادة، فتبين أن العلم والخبر والكتاب لا يوجب الاكتفاء بذلك عن الفاعل القادر المريد، ومما يدل على ذلك، أن الله سبحانه وتعالى يعلم ويخبر بما يكون من مفعولات الرب، كما يعلم أنه سيقيم القيامة ويخبر بذلك، ومع ذلك فمعلوم أن هذا العلم والخبر لا يوجب وقوع المعلوم المخبر به بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً له) (2).
ومن ثم فالاحتجاج بعلم الله السابق باطل، وبهذا تبطل كثير من الشبه التي تثار حول القدر.
5 -
أما حديث احتجاج آدم وموسى، فقد تكلم فيه العلماء وأطالوا الإجابة عنه، وغالب أجوبتهم بعيدة عن الصواب، ومن الأجوبة:
أ- أن آدم حج موسى لأنه أبوه، فحجه كما يحج الرجل ابنه، وهذا فاسد؛ لأن الحجة يجب المصير إليها سواء كانت مع الأب أو الابن، أو العبد أو السيد.
ب – وقيل: إن آدم حج موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة، وهذا كالذي قبله، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تلوم الأمم التي قبلها المخالفة لرسلها.
ج- وقيل: حجه لأنه لامه في غير دار التكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت حجة لموسى عليه، وهذا فاسد، كما ذكر ابن القيم، لوجهين:
أحدهما: أن آدم لم يقل له لمتني في غير دار التكليف، وإنما قال: أتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق، فلم يتعرض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.
والثاني: أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة.
(1)((القدر)) لابن تيمية (ص: 280)
(2)
((القدر)) لابن تيمية (ص: 281).
د- وقيل: إنه حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب سبحانه وتعالى بربوبيته، وقالوا: إن مشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة؛ لأنه شهد نفسه عدماً محضاً، قالوا ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم، وهذا قول بعض الصوفية، ويقول عنه ابن القيم: (وهذا المسلك أبطل مسلك سلك في علم الحديث
…
ولو صح لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجة لكل مشرك، وكافر، وظالم، ولم يبق للحدود معنى، ولا يلام جانٍ على جنايته، ولا ظالم على ظلمه، ولا ينكر منكر أبداً) (1)
هـ - وقيل: إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لومه، وهذا لا يصح أيضاً لوجوه منها:
- أن آدم لم يذكر ذلك في جوابه، ولا جعله حجة على موسى، ومنها: أن موسى عليه الصلاة والسلام، أعرف بالله من أن يلومه على ذنب قد تاب منه (2).
وإذا تبين فساد هذه الأقوال فما هو الجواب الصحيح في معنى هذا الحديث؟
الجواب الصحيح: (أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل، وموسى عليه السلام، كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه، وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب)(3).
وقد ذكر هذا الجواب ابن القيم – رحمه الله – وحكاه عن ابن تيمية، ثم قال:(وقد يتوجه جواب آخر، وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد، ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه: أن آدم قال لموسى، أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق، فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة، وزال أمره حتى كأن لم يكن، ثم أنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليَّ قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً، ويرتكب باطلاً كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله)(4).
وهذا الذي ذكره ابن القيم جواب جيد، وإن كان ظاهره أنه يرجع إلى الجواب الأول، لأن من أذنب ذنباً ثم تاب منه، وجاء الخبر من الله أنه تاب عليه من هذا الذنب، فإذا كان قد ترتب على هذا الذنب عقوبة معجلة فهي من قبيل المصائب، والله أعلم.
هذا هو ملخص الرد على سؤال الاحتجاج بالقدر، وربما يدخل فيها بعض الأسئلة التي سترد فيما بعد، فلعل في هذه الإجابة ما يغني عن كثير من الأمور التي تحتاج إلى جواب.
(1)((شفاء العليل)) (ص: 14).
(2)
((شفاء العليل)) (ص: 14).
(3)
((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 154 - 155)، وانظر:((القدر)) لابن تيمية (ص: 108، 178)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 89)، و ((منهاج السنة)) (2/ 10)، و ((رسالة الاحتجاج بالقدر)) لابن تيمية (ص: 26)، و ((شفاء العليل)) (ص: 18)، و ((الكواشف الجليلة)) (ص: 525).
(4)
((شفاء العليل)) (ص: 18).
السؤال الثاني: وملخصه: لماذا منّ الله سبحانه وتعالى بالهداية على المؤمنين، دون الكافرين، وإذا كان – تعالى- قد بين طرق الهدى للناس، فلماذا أعان المؤمن حتى أصبح مؤمناً طائعاً، ولم يعن الكافر فأصبح عاصياً كافراً؟
وجواب ذلك كما يلي:
1 -
أن الزعم بأن منة الله بالهداية على المؤمنين دون الكافرين ظلم منه، باطل لأمرين:
أحدهما: أن هذا تفضل من الله، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] وكما قالت الأنبياء: إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم:11]، فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد قوة وعلم، وصحة، وجمال، ومال، والله – سبحانه وتعالى قد تفضل على جميع عباده بنعم جليلة لا تحصى، ولو عبدوا الله بأنواع العبادات والقربات طوال أعمارهم ليلاً ونهاراً لما جاءت إلا في مقابل جزء صغير من نعم الله وأفضاله عليهم، ولذلك فالله – تعالى- يدخل عباده الجنة برحمته لا بأعمالهم، وأعمالهم سبب لدخول الجنة لا بدل لها، فإذا تفضل على بعض عباده بالهداية كان ذلك له سبحانه، ولا يعد ظلماً.
والثاني: أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والله سبحانه وتعالى إنما يضع العقوبة في محلها، فإذا بين سبحانه الهدى للناس جميعاً، وأقام الحجة عليهم، أقدرهم على الإيمان وعدمه، كان كل ذلك محض العدل منه، فحين يمن على بعض عباده بالإيمان ولا يمن على بعضهم لا يكون ذلك ظلماً منه سبحانه وتعالى (1).
2 -
أن الله – سبحانه وتعالى – قد قامت حجته على من منعهم الهدى، وذلك بتخليته بينهم وبين الهدى، فالله تعالى قد أرسل لهم الرسل ليردوهم إلى الصراط المستقيم، ويدلهوهم عليه، كما أقام لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل سبحانه وتعالى بينهم وبين تلك الأسباب التي توصلهم إلى الهداية، فلم يكلف سبحانه الصغير والمجنون، فالله لم يمنعهم من الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، وحين تكون الحجة قائمة عليهم لا يبقى لمعترض اعتراض على توفيق الله ومنته لبعض عباده بالهدى والتوفيق (2)، وكم لله سبحانه وتعالى من النعم على الكفار (3).
3 -
أما قول من يقول: لماذا أعان المؤمن دون الكافر؟ فهذا باطل لوجوه:
أحدها: أن حقيقة هذا القول: لماذا لم يهد الله جميع الناس، وهذا فاسد لأن لله تعالى، حكماً عظيمة وجليلة في خلق الناس متفاوتين، ولو شاء سبحانه وتعالى أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، ولكنه، تعالى لم يفعل لحكم عظيمة، ظهر بعضها للعباد، وبعضها لم ظهر (4).
(1) انظر: ((منهاج السنة)) (1/ 92 - 93).
(2)
انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 80).
(3)
انظر: ((الفصل)) لابن حزم (3/ 187).
(4)
انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 284)
الثاني: أن الإعانة من أفعاله تعالى، ومن ثم فما فعله سبحانه وتعالى فلحكمة، وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة، أما الطاعة فهي من فعل الإنسان، وتعود مصلحتها له، فإذا أعان الله عبداً من عباده كان فضلاً منه، وإذا خذله كان ذلك عدلاً منه، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى قد بين الهدى للناس وأقام الحجة عليهم، فحينئذ من أقبل على الله مؤمناً به مصدقاً برسوله، فالله تعالى يعينه على الهدى ويمكنه منه، أما من كذب رسله وأعرض عن هداه فإن الله تعالى يخذله ولا يمكنه من الهدى كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، فهم الذين استحبوا العمى على الهدى فعاقبهم الله بالخذلان، وسد أبواب الهداية عنهم عقوبة لهم (1) ، (فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته، وذكره وشكره، فأبى العبد إلا إعراضاً وكفراً، قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصده عن الإيمان، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدل منه فيه)(2).
الثالث: أن التكليف إرشاد وهدى، وتعريف للعباد بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، فمن عرف أن هذا الفعل يضره وهذا ينفعه، فعليه أن يذل لله ويخضع له حتى يعينه على فعل ما ينفعه، ولا يقول: أنا لا أفعل حتى يخلق الله فيَّ الفعل، كما أنه لو هجم عليه عدو أو سبع فإنه يهرب ويفر ولا يقول: سأنتظر حتى يخلق الله في الهرب (3).
الرابع: أن إعانة الله تعالى للكفار قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة يتضمن مفسدة أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، ومثال ذلك، أن الجهاد في سبيل الله لا شك أنه طاعة، ولكن حين يفضي إلى بعض المفاسد التي ترتب على خروج المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن الله تعالى ثبط المنافقين لأنه كرهه منهم، قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] فأهم المفاسد المترتبة على خروج هؤلاء مع المؤمنين: زيادة المؤمنين خبالاً أي: فساداً وشرا، وإيضاعهم خلالهم بالسعي بينهم بالفساد والشر، وإرادتهم الفتنة، وفي المؤمنين سماعون لهم قابلون منهم، مستجيبون لهم، فينتج من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشرور والمفاسد ما هو أعظم من مصلحة خروجهم (4).
ومن هذا المثال يتضح أن لله حكماً حين يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه.
الخامس: أن الله خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان، قادر عليه، فلو أراده لفعله، فإذا لم يؤمن كان ذلك دليلاً على أنه لم يرده، لا بعجزه وعدم قدرته، لأنها موجودة، وحينئذ:(فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه، أطاع قطعاً إذا لم يكن عاجزاً، فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة، فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور)(5) ومن لم يرد الطاعة فإنه لا يفعلها، ولا يطلب أن يخلقها الله تعالى فيه ويعينه عليها، لأنه لو أرادها لفعلها (6).
(1) انظر: ((القضاء والقدر)) لمحمد متولي الشعراوي (ص: 49 - 50).
(2)
((شفاء العليل)) (ص: 86).
(3)
انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 7).
(4)
انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 285)، وانظر:((منهاج السنة)) (2/ 38).
(5)
((منهاج السنة)) (2/ 7).
(6)
((منهاج السنة)) (2/ 7).
السادس: ننبه إلى خطأ المعتزلة في هذا الباب، فإنهم قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، وقالوا: إن الله إذا أمر العباد فيلزمه أن يعينهم، فلما رأوا أن بعض العباد لم يعن ومات كافراً، قالوا: لا يجوز أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد، لأن من أمر غيره بأمر فلا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك، وقد أجاب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فبين أن قول المعتزلة هذا يكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون الآمر أمر غيره لمصلحة تعود إليه، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ماله، فهذا تلزم إعانته، والثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالآمر بالمعروف إذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، فهذا أيضاً تلزم إعانته، ولكن تبقى حالة وهي:
ما إذا كان الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا نفع يعود إليه من فعله، كالناصح فإنه قد يأمر غيره وينهاه مريداً للنصيحة، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، إذ ليس كل ما يكون من مصلحته أن يأمر غيره وينصحه، يكون من مصلحته أن يعينه عليه، بل قد تكون مصلحته إرادة ما يضاده، كالرجل الذي يستثير غيره في خطبة امرأة، فإنه يأمره أن يتزوجها لأن ذلك مصلحة المأمور، وإن كان يرى أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه، فإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين ففي حق الله تعالى أولى - ولله المثل الأعلى - فالله أمر خلقه على ألسنة رسله بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، فمنهم من استجاب وأعانه الله ومنهم من لم يعنه، ولا يلزمه سبحانه إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة، فتبين أن الله إذا أمر العباد بما يصلحهم بالأمر لم يلزم من ذلك أن يعينهم، وهذا ما غلط فيه المعتزلة (1).
4 -
إذا تبين ما سبق، وأن الاعتراض مردود، وحجة الله قد قامت على عباده، فتبقى مسألة: وهي: أصل القدر، وهو كونه - تعالى - قدر المقادير فأوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، مع كونه – تعالى- غنياً عن خلقه الغنى التام، فما أصل القدر؟ الجواب ما قاله الطحاوي:(وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين)(2) وعلم القدر قال عنه علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه)(3) وسماه الطحاوي بالعلم المفقود، لأن الله طواه عن الخلق (4) ، ونحن نؤمن بأن له تعالى في خلقه حكماً عظيمة، وإذا كان هناك من الحكم ما هون خاف فلا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته تبارك وتعالى (5).
السؤال الثالث: يقول مورد هذا السؤال: إذا كانت المعاصي مقدرة من الله، فلماذا يعاقب عليها؟
والجواب عليه من وجوه:
1 -
هذا السؤال ليس بعيداً عن السؤال السابق، وفيما سبق من جوابه ما يغني عن جواب هذا السؤال، ولكن نزيد الأمر بياناً وتمحيصاً بإضافة الوجوه التالية:
(1) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 3839).
(2)
((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 276).
(3)
((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 277)
(4)
((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 292)
(5)
((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 292)
2 -
أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على جميع عباده - وفيهم العصاة - بنعم عظيمة، ومنها أمران عظيمان هما أصل السعادة:
أحدهما: أن الله خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة، فكل مولود يولد على الفطرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه
…
)) (1) وحينئذ فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته شيئاً، ولم تشرك به، ولم تجحد ربوبيته، ولكن إذا اقترن بها شيطان من شياطين الإنس أو الجن فقد يزين لها الإغواء، فتنحرف عن الهدى.
الثاني: أنه سبحانه وتعالى هدى الناس هداية عامة، وذلك بما أودعه فيهم من المعرفة، وبما أرسل من الرسل، وبما أنزل من الكتب، وقد هدى الله جميع العباد إلى معرفته والإيمان، حتى قامت الحجة عليهم، فإذا ما أعرض الإنسان عن الهدى كان هو المريد لذلك المختار له، ومن ثم فهو الذي يتحمل عاقبة إعراضه وكفره (2).
3 -
أن الأعمال والأقوال من الطاعات والمعاصي من العبد، بمعنى أنها قائمة به، وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها المتحرك، الذي يعود حكمها عليه، وهي مع ذلك مخلوقة لله سبحانه وتعالى وهذا لا يعارض كونها فعلاً للعبد، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وبناء على ذلك: فمن فعل المعاصي، فقد فعلها باختياره فهو الذي أعرض وتولى عن الهدى، وهو الذي توجه إلى المعصية وفضلها على الطاعة، فإذا اعترض العاصي هنا وقال: إن المعصية كانت مكتوبة عليَّ. فيقال له: قبل أن تقترف المعصية، ما يدريك عن علم الله تعالى؟ فما دمت لا تعلم، ومعك الاختيار والقدرة، وقد وضحت لك طرق الخير والشر، فحينئذ إذا عصيت فأنت مختار للمعصية، المفضل لها على الطاعة، المعرض عن الهدى، وإذا كان الأمر كذلك فتتحمل عقوبة معصيتك، ولا حجة لك مطلقاً (3).
4 -
ومما يوضح الوجه السابق أن يقال: إذا كانت المعصية مقدرة من عند الله فكيف يعاقب عليها، نقول له: إذا كان الله قد علم وكتب أن فلاناً سيعصي وقدر الله سيقع لا محالة، كما علمه سبحانه، فهل يقال: إنه مستحق للعقوبة بذلك، أم أن الله أخبر أنه لا يعاقب إلا بعد وقوع المعصية منه؟ أم أن الأمر سيان؟ فإذا كان من المقطوع به أن العقاب لا يقع إلا بعد وقوع المعاصي من العباد، دل ذلك على أن القدر السابق لا حجة فيه للعاصي، فالله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي، والخير والشر، بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب، بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل رسله وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، إعذاراً إليهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟ إذا فقول القائل: كيف يعاقب العاصي وقد قدر عليه المعصية؟ باطل ومردود.
5 -
والسؤال بصيغته يدل على أن المقصود من إيراده من جانب المنحرفين إثارة الشبهة والإفساد، ولذلك تجدهم يركزون على ناحية المعاصي فقط، فيقولون: كيف يقدر الله المعاصي، ثم يعاقب عليها، ولكنهم يتجاهلون الشق الثاني من السؤال الذي يجب أن يرد مع الشق الأول، وهو: إذا كانت الطاعات بقدر الله فلماذا يثيب الله عليها؟
(1) رواه البخاري (6599)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 173).
(3)
((شفاء العليل)) (ص: 35)، وانظر:((القضاء والقدر)) للشعراوي (ص: 56).
إذن لماذا يوردون الشق الأول دون الثاني؟ ولماذا يفرقون بين السؤالين؟ إن الهوى ومحاولة إيجاد مبررات الانحراف والعصيان هو الداعي لذلك (1) كما قال بعض العلماء: (أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وفق هواك تمذهبت به)(2).
6 -
وأخيراً يقال: إن العقاب على المعاصي يقع لأن الإنسان يفعلها بإرادته واختياره، ولذلك لا يعاقب ما ليس من اختياره، فلو كان في جسم الإنسان برص أو عيب خلق فيه، فإنه لا يستحسن ذمه ولا عقابه على ذلك، فعلم أن الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول (3).
السؤال الرابع: وملخصه: كيف يأمر الله الكافر بالإيمان، ولا يريده منه؟ ويقول يلزم أن يكون الكافر مطيعاً لأنه فعل ما هو مراد الله تعالى.
والجواب من وجوه:
1 -
أن منشأ الضلال في هذا السؤال هو التسوية بين الإرادة والمشيئة وبين المحبة والرضا،
…
والقول الحق الذي تعضده أدلة الكتاب والسنة، وأدلة العقول، وملخص القول الحق: أن هناك فرقاً بين الإرادة والمحبة والرضى، إذ إن النصوص دالة على أن كل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وإرادته، وهذا يشمل الطاعات والمعاصي، ثم إن النصوص دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا المعاصي ولا الفساد، وقد اتفقت الأمة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات، ويحب المأمورات دون المنهيات، فالطاعات يريدها الله من العباد الإرادة المتضمنة لمحبته لها، ورضاه بها، إذا وقعت وإن لم يفعلها، والمعاصي يبغضها ويكره من يفعلها من العباد وإن شاء أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك، ولا يلزم إذا كرهها للعبد لكونها تضر بالعبد أن يكره أن يخلقها هو لما له فيه من الحكمة، وكون الإرادة لا تستلزم المحبة مما هو مستقر في فطر العقول وفي واقع الناس، كإرادة المريض للدواء الذي يبغضه، وكمحبة المريض للطعام الذي يضره، ومحبة الصائم للطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ولا يريد أن يشربه، ومحبة الإنسان للشهوات التي لا يريدها والتي يكرهها بعقله ودينه، فإذا عقل ثبوت أحدهما دون الآخر، وأن أحدهما لا يستلزم الآخر، فكيف لا يمكن ثبوت ذلك في حق الخالق تعالى ولله المثل الأعلى (4).
إن هذا كاف في الإجابة على هذا السؤال ولكن نزيد الأمر وضوحاً بإضافة الوجوه التالية:
2 -
أن يقال: المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لله، مرضي له، فما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره: هو المراد بالعرض، وهذا قد لا يكون مقصوداً لما يريد، ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته، ولكنه وسيلة إلى مقصوده فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما (5).
(1) انظر: ((القضاء والقدر)) للشعراوي (ص: 54).
(2)
((منهاج السنة)) (1/ 362).
(3)
انظر: ((منهاج السنة)) (1/ 361 - 362).
(4)
انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 279–280)، و ((منهاج السنة)) (2/ 35 - 36).
(5)
انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 280–281)، و ((منهاج السنة)) (2/ 36).
ومما يوضح ما سبق ما عقب عليه شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة فقد قال: (وعلى هذا ينبني مسألة محبة الرب – عز وجل – نفسه، ومحبته لعباده، فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو المشيئة العامة قالوا: إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب، وتأولوا محبته – تعالى – لعباده بإرادة ثوابهم، ومحبتهم له بإرادة طاعتهم له والتقرب إليه، ومنهم طائفة كثيرة قالوا: هو محبوب يستحق أن يحب، ولكن محبته لغيره بغيره بمعنى مشيئته، وأما السلف، والأئمة، وأئمة الحديث، وأئمة التصوف وكثير من أهل الكلام والنظر .. فأقروا بأنه محبوب لذاته، بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو، وهذا حقيقة الألوهية، وهو حقيقة ملة إبراهيم ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية، ولم يجعل الله معبوداً لذاته، ولا أثبت التلذذ بالنظر إليه
…
وأما الذين أثبتوا أنه محبوب، وأن محبته لغيره بمعنى مشيئته، فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة فيقولون: إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى ذلك، وأن العارف إذا شهد المقام لم يستحسن حسنة، ولم يستقبح سيئة، لشهوده القيومية العامة وخلق الرب لكل شيء) (1) ومن هذا يتبين أن الانحراف في هذه المسألة، مسألة هل الإرادة مستلزمة للمحبة؟ قد لا يقف عند حد، بل قد يوصل إلى الكفر وإبطال الشرائع.
3 -
أن الإرادة نوعان: إرادة تتعلق بالأمر، وإرادة تتعلق بالخلق، فالإرادة المتعلقة بالأمر: أن يريد من العبد فعل ما أمره، وهذه الإرادة متضمنة للمحبة والرضا، وهي الإرادة الدينية الشرعية، وأما إرادة الخلق، فأن يريد ما يفعله هو، وهي المشيئة، وهي الإرادة الكونية القدرية، وحينئذ فالطاعة موافقة للأمر المستلزم لتلك الإرادة، فتكون طاعة محبوبة مرضياً عنها، أما المعصية فليست مرادة لله تعالى، بالاعتبار الأول، أي الإرادة الدينية، وحين تكون موافقة للنوع الثاني أي الإرادة الكونية لا تكون طاعة بمجرد ذلك (2) وبهذا التفصيل في باب الإرادة تزول كل الإشكالات.
ومما يوضح هذا الأمر أن يقال: الإرادة نوعان: أحدهما: بمعنى المشيئة وهو: أن يريد الفاعل أن يفعل فعلاً فهذه الإرادة المتعلقة بفعله، والثاني: أن يريد من غيره أن يفعل فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين مفعول في الناس وكل من الجهمية والقدرية قال بنوع واحد فقط، فالجبرية قالوا بالنوع الأول فقط لأن الأمر عندهم يتضمن الإرادة، والقدرية قالوا بالنوع الثاني لأن الله عندهم لا يخلق أفعال العباد، ولكن القول الصحيح إثبات النوعين من الإرادة كما أثبت ذلك السلف والأئمة لأن الله تعالى أمر الخلق بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله فأراد هو - سبحانه - أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فتبين أن جهة خلقه - سبحانه - لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه بيان ظاهر، مصلحة للعبد أو مفسدة (3).
5 -
بالوجوه السابقة يتضح جواب هذا السؤال، فالله - تعالى - أمر الكافر بالإيمان وحين أمره هيأ له أسبابه، ففطره على الفطرة السليمة، وبين له طرق الهدى، وأعطاه الإرادة والقدرة على الفعل، ولكن كونه سبحانه لم يرد الإيمان منه كوناً، لا يعارض هذا ولا يتناقض معه، وليس فيه حجة لأحد، إذ إن الطاعة هي في موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، فتبين بذلك أن الله قد يأمر الكافر بالإيمان شرعاً ولا يريده منه كوناً.
(1)((منهاج السنة)) (2/ 37).
(2)
انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 38).
(3)
انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 35).
وكذلك فإن الكافر لا يكون مطيعاً لأنه فعل ما هو مراد لله كوناً، لأن الكفر قد نهى الله عنه، ولا يلزم من كونه - تعالى - أراد أمراً أن يكون محبوباً له، وهذا كما أنه تعالى خلق كثيراً من الشرور وهي مبغضة له غير محبوبة، ولكن خلقها لأنها تفضي إلى محبوبات له كثيرة، وأقرب مثال إلى ذلك خلق الله لإبليس لعنه الله الذي هو مادة الفساد في الأديان والأعمال والاعتقادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها منها: ظهور أسمائه القهرية مثل: القهار، والعدل، والضار، والشديد العقاب. ومنها ظهور أسمائه المتضمنة لحلمة وعفوه ومغفرته. ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس ما وجدت، كعبودية الجهاد، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى
…
إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن تعدادها وحصرها (1).
السؤال الخامس:
وخلاصة هذا السؤال: إذا كان الكفر بقضاء الله، فيلزم عدم الرضا بقضاء الله وقدره.
وجوابه كما يلي:
1 -
أن يقال: إننا لا نسلم بأن الرضا واجب لكل المقتضيات، ولا دليل على وجوب ذلك من كتاب ولا سنة، ولا قاله أحد من السلف والله – تعالى – أخبر بأنه لا يرضى بأمور مع أنها مخلوقة له، فهو – سبحانه – يكره أموراً كثيرة ويبغضها ويمقتها، وقد أمرنا الله أن نكرهها ونبغضها، وذلك كالكفر والمعاصي وغيرها (2).
وقد تنازع الناس في الفقر والمرض والذل، هل يجب الرضا به أم يستحب على قولين، والراجح أنه لا يجب بل هو مستحب وإنما أوجب تعالى الصبر على ذلك (3)
2 -
ويقال أيضاً: المسألة تحتاج إلى تفصيل.
أ- فالقضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه، وكتابه، وتقديره، ومشيئته، فالرضا به واجب لأنه من تمام الرضا بالله رباً، وإلهاً، ومالكاً، ومدبراً.
ب – أما الرضا بالقضاء الذي هو المقضي، ففيه تفصيل، لأن القضاء نوعان: ديني وكوني. فالديني: يجب الرضا به وهو من لوازم الإسلام، أما الكوني: فمنه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها، ومن تمام شكرها الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب (4).
3 -
وقد قيل في الإجابة: إن المقدورات لها وجهان: وجه يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله خلقاً ومشيئة، ووجه فيه تفصيل وهو تعليقها بالعبد، فمنه ما يرضى به كالطاعات، ومنه مالا يرضى به كالكفر غير المفعول (5).
وهذان الجوابان فيهما ضعف، فيحتاجان إلى إيضاح، فنقول: من المعلوم أن لله في خلقه حكماً عظيمة، وقد خلق تعالى الشرور والمفاسد لكونها تفضي إلى محبوبات لله كثيرة، فيقال: العبد يجب عليه أن يكره الذنوب ويبغضها لأن الله تعالى يبغضها ويمقتها، ويجب عليه أن يرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة، ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية، لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة فنرضى بقضاء الله وقدره (6).
السؤال السادس: وخلاصته: ما الفائدة من التكليف مع سبق الأقدار؟
وجوابه من وجوه:
(1) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 236) وما بعدها.
(2)
انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 287)، وانظر:((منهاج السنة)) (2/ 49).
(3)
انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 49).
(4)
انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 278).
(5)
انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 278)، وانظر:((منهاج السنة)) (2/ 51).
(6)
انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 50).
1 -
أن هذا سؤال فاسد، لأن معناه إنكار أن يكون لله تعالى أية حكمة في خلق السموات والأرض، وخلق البشر، لأن العلم السابق كاف في ثبوت هذه الحكم، وهذا من أبطل الباطل.
وظهور ما لله تعالى من الحكم في خلقه وفي تعريض عباده للابتلاء والامتحان هي حكم عظيمة جليلة لا تحصى، إنما يتم ذلك بوقوعه كما قدره الله، ولا يمكن أن يقال إنها حاصلة بدون ذلك.
2 -
وإقامة الحجة على العباد لا يمكن أن تتم إلا بعد إيجادهم، وتمكينهم وتبيين طرق الهدى لهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، حتى يعرفوا طريق الهدى وطريق الشر، فيختاروا أحد الطريقين، وبعد ذلك ينالوا جزاءهم في الدار الآخرة إما النعيم وإما العذاب ولو لم يقع الابتلاء والامتحان في الدنيا ثم عوقبوا في الآخرة على مقتضى القدر لاحتجوا على الله.
والقول بأن العلم السابق كاف في وقوع المقدور قد بينا بطلانه في الرد على السؤال الثاني.
3 -
والله سبحانه وتعالى (أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليهم أحكام أسمائه وصفاته، فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملاً فمن كماله ظهور آثار كماله في: خلقه، وأمره، وقدره، ووعده، ووعيده، ومنعه، وإعطائه، وإكرامه، وإهانته
…
) (1).
هذه هي أهم الأسئلة التي وردت وترد في باب القدر، ناقشناها وبينا وجه الحق فيها، وإن كانت هناك أسئلة أخرى فهي إما راجعة إلى أحد الأسئلة التي ذكرناها، أو أنها ضعيفة لا تستحق الرد، أو أنها جاءت اعتراضاً على المذاهب المنحرفة في القدر، ولا تأتي على مذهب السلف أهل السنة والجماعة.
القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود -بتصرف - ص 271 - 290
(1) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 243).