الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مرور المؤمنين على الصّراط وخلاص المؤمنين من المنافقين
عندما يذهب بالكفرة الملحدين، والمشركين الضالين إلى دار البوار: جهنم يصلونها، وبئس القرار، يبقى في عرصات القيامة أتباع الرسل الموحدون، وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر كما في الحديث الذي يرويه مسلم في (صحيحه) عن عائشة قالت:((سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر)) (1). يقول شارح (الطحاوية): وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم. روى البيهقي بسنده عن مسروق، عن عبدالله، قال: يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد (2). وقد حدثنا تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط، فقال: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 12 - 15].
(1) رواه مسلم (315). من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(2)
رواه البيهقي في ((البعث والنشور)) (419). والحديث رواه الطبراني (9/ 357)، والحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص469): صحيح.
فالحق يخبر أن المؤمنين والمؤمنات الذين استناروا بهذا الدين العظيم في الدنيا، وعاشوا في ضوئه، يعطون في يوم القيامة نوراً يكشف لهم الطريق الموصلة إلى جنات النعيم، ويجنبهم العثرات والمزالق في طريق دحض مزلة، وهناك يبشرون بجنات النعيم، ويحرم المنافقون الذين كانوا يزعمون في الدنيا أنهم مع المؤمنين، وأنهم منهم، لكنهم في الحقيقة مفارقون لهم لا يهتدون بهداهم، ولا يسلكون سبيلهم من النور، كما حرموا أنفسهم في الدنيا من نور القرآن العظيم، فيطلب المنافقون من أهل الإيمان أن ينتظروهم ليستضيئوا بنورهم، وهناك يخدعون، كما كانوا يخدعون المؤمنين في الدنيا، ويقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، وبذلك يعود المنافقون إلى الوراء، ويتقدم المؤمنون إلى الأمام، فإذا تمايز الفريقان، ضرب الله بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويكون مصير المؤمنين والمؤمنات الجنة، ومصير المنافقين والمنافقات النار. وقد أخبر الحق أن دعاء المؤمنين عندما يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم هو رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم:8]، قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8]. قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طُفئ. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 272
ويتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً وذلك لأن المرور عليه إنما يكون بقدر الأعمال الصالحة التي قدمها المرء المسلم لربه في الحياة الدنيا، ويمكن أن نلخص كيفية المرور بما يلي:
1 -
يعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط:
كما في حديث جابر عند مسلم (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوراً. ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله)).
وكما في حديث ابن مسعود الطويل الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيعطون نورهم على قدر أعمالهم وقال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نوره دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطي نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة، ويطفأ مرة إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفئ قام)) (2)
2 -
انطفاء نور المنافقين: في هذا الموقف الرهيب حيث تجد أن الذعر والخوف قد استحوذ على الناس، كلهم يريد النجاة بحشاشة نفسه من الكلاليب، والخطاطيف، فإذا نور المنافقين يطفأ كما في حديث جابر عند مسلم (3)((ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوراً. ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين. ثم ينجو المؤمنون)).
(1) رواه مسلم (191).
(2)
رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629).
(3)
رواه مسلم (191).
3 -
اختلاف سرعة الناس في المرور على الصراط: تختلف سرعة الناس في المرور على الصراط وذلك باختلاف قوة النور الذي يعطى لهم على قدر أعمالهم كما بينا في الفقرة السابقة، ويدل عليه حديث ابن مسعود الطويل الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((ويمرون على الصراط والصراط كحد السيف، دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخرُّ يد، وتعلق يد، وتخر رجل، وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد)) (1).
قلت: وفي رواية أخرى عن ابن مسعود تبين أن الناس يردون النار كلهم ثم يخرجون منها بأعمالهم مع اختلاف في سرعتهم، كما قال السدي: ((سألت مرة الهمداني عن قول الله عز وجل: وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا [مريم: 71].
فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم)) (2).
وكذلك في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصراط، وذكر الشوكة العقيفاء، قال:((المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب)) (3).
شرح الألفاظ: قال العيني: (كالطرف): بكسر الطاء وهو الكريم من الخيل وبالفتح البصر)).
قلت: المعنى الثاني هو المراد بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعد ذلك البرق، والريح، ومرور الخيل على الترتيب في السرعة.
أجاويد الخيل: جمع الأجود وهو جمع الجواد وهو فرس بيَّنٌ الجودة.
(الركاب: الإبل واحدتها الراحلة من غير لفظها). (عمدة القاري)(20/ 320).
قلت: وهناك من يزحف على الصراط زحفاً كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً)) (4).
أما آخر الناس مروراً على الصراط فهو المسحوب كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى يمر آخرهم يسحب سحباً)) (5).
(1) رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629).
(2)
رواه الحاكم (2/ 407). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (311): إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
رواه البخاري (7439)، ومسلم (183).
(4)
رواه مسلم (195).
(5)
رواه البخاري (7439)، ومسلم (183).
أثر ابن مسعود: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يأمر الله تبارك وتعالى بالصراط فيضرب على جهنم قال: فيمر الناس زمراً على قدر أعمالهم، أوائلهم كلمح البرق (الخاطف) ، ثم كمر الريح، ثم كمر الطائر، ثم كأسرع البهائم، ثم كذلك ثم يمر الرجل سعياً، ثم يمر الرجل ماشياً، ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه يقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك!) (1). قلت: هذا الأثر له حكم الرفع لأنه مما لا يقال بالرأي فهو من الأمور الغيبية.
الأمانة والرحم على الصراط: يدل على ذلك حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر ذهاب الناس إلى آدم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد، قال صلى الله عليه وسلم:((وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً)) (2)
قلت: وذلك يدل على عظم شأنهما والظاهر والراجح أنهما تقومان كشيئين، ولا يعلم حقيقتهما إلا الله عز وجل.
قال الحافظ (3): (والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان هناك للأمين والخائن، والمواصل والقاطع، فيحاجان عن المحق، ويشهدان على المبطل). اهـ.
قال الطيبي (4): (ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب: 72]. (2) وصلة الرحم ما في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء: 1]. فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفطرتي الإيمان والدين القويم). اهـ. صفة الصراط لحاي الحاي – ص 19
(1) رواه الحاكم (4/ 641). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/ 92): روي مرفوعاً وموقوفاً والموقوف أصح.
(2)
رواه مسلم (195).
(3)
((فتح الباري)) (11/ 453) و ((مسلم)) (1/ 164).
(4)
((فتح الباري)) (11/ 453).