الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَيَتَبَيَّنُ لَنَا مِنْ الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيل، إِلَاّ أَنَّنَا سَنَتَنَاوَل مَسْأَلَتَيْنِ عَاجِلَتَيْنِ كَثُرَ الْحَدِيثُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ.
أ -
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: حَوْل السُّنَّةِ
40 -
أَثَارَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُرْآنِيِّينَ، وَقَالُوا: إِنَّ أَمَامَنَا الْقُرْآنَ، نُحِل حَلَالَهُ وَنُحَرِّمُ حَرَامَهُ، وَالسُّنَّةُ كَمَا يَزْعُمُونَ قَدْ دُسَّ فِيهَا أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَؤُلَاءِ امْتِدَادٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ نَبَّأَنَا عَنْهُمْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ الْمِقْدَامِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُل مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُول: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُول اللَّهِ مِثْل مَا حَرَّمَ اللَّهُ (1) وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِقُرْآنِيِّينَ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُول فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ، وَاعْتَبَرَ طَاعَةَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل {مَنْ يُطِعْ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (2) بَل إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ الَّذِي يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِهِ نَفَى الإِْيمَانَ عَمَّنْ رَفَضَ طَاعَةَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقْبَل حُكْمَهُ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) . وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ السُّنَّةَ قَدْ دُسَّتْ فِيهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الأُْمَّةِ عُنُوا أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِتَنْقِيَةِ السُّنَّةِ مِنْ كُل دَخِيلٍ، وَاعْتَبَرُوا الشَّكَّ فِي صِدْقِ رَاوٍ مِنْ الرُّوَاةِ أَوِ احْتِمَال سَهْوِهِ رَادًّا لِلْحَدِيثِ.
وَقَدْ شَهِدَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الأُْمَّةِ بِأَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ أُمَّةٌ عُنِيَتْ بِالسَّنَدِ وَبِتَنْقِيحِ الأَْخْبَارِ وَلَا سِيَّمَا الْمَرْوِيَّةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَهَذِهِ الأُْمَّةِ.
(1) الفتح الكبير 3 / 438 ورواه الترمذي باختلاف في اللفظ وقال: حسن صحيح (سنن الترمذي بشرح ابن العربي ط الصاوي 10 / 132)
(2)
سورة النساء / 80
(3)
سورة النساء / 65
وَيَكْفِي لِوُجُوبِ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَكْتَفِي بِإِبْلَاغِ دَعْوَتِهِ بِإِرْسَال وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يَجِبُ الْعَمَل بِهِ.
ثُمَّ نَسْأَل هَؤُلَاءِ: أَيْنَ هِيَ الآْيَاتُ الَّتِي تَدُل عَلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ خَمْسٌ، وَعَلَى أَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى أَعْمَال الْحَجِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَْحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إِلَاّ مِنْ السُّنَّةِ.
وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لَا تَقِل خَطَرًا عَنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَقُول: إِنَّنَا نَقْبَل السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِل بِالْعِبَادَاتِ، أَمَّا مَا يَتَّصِل بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا، وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ، وَهِيَ حَادِثَةُ تَأْبِيرِ النَّخْل، وَحَاصِلُهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَأَى أَهْلَهَا يُؤَبِّرُونَ النَّخْل أَيْ يُلَقِّحُونَ إِنَاثَ النَّخْل بِطَلْعِ ذُكُورِهَا، فَقَال لَهُمْ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ، فَتَرَكُوهُ فَشَاصَ؛ أَيْ فَسَدَ وَصَارَ حَمْلُهُ شِيصًا وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَال: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَال: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ (1) .
هَذَا الْخَبَرُ إِنْ دَل عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُل عَلَى أَنَّ الأُْمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا صِلَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلاً أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، بَل هِيَ مِنْ الأُْمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ، لَا تَدْخُل تَحْتَ مُهِمَّةِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كَمُبَلِّغٍ عَنْ رَبِّهِ، بَل هَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ مِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى أَنَّ الأُْمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُل الْجَهْدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الأَْصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ
(1) رواه مسلم ببعض اختلاف في ألفاظ الروايات ومنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أظن ذلك (يعني التلقيح) يغني شيئا ". قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخ