الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَقْسَامِ الإِْبْرَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ، فَاخْتَارَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُحْمَل عَلَى الاِسْتِيفَاءِ لِعَدَمِ فَهْمِ غَيْرِهَا فِي عَصْرِهِ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الإِْطْلَاقِ هُوَ الْعُرْفُ.
وَعَلَيْهِ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ بِإِبْرَائِهَا لَهُ مِنَ الْمَهْرِ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهَا، لَا يَبْطُل التَّعْلِيقُ، فَإِذَا أَبْرَأَتْهُ بَرَاءَةَ إِسْقَاطٍ صَحَّتْ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَهُ.
وَمِثْلُهُ مَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَنْ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى وَجْهِ الإِْسْقَاطِ فَلِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا تَبَرَّعَ بِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الصُّوَرَ إِلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الضَّامِنَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ ثُمَّ أَبْرَأَهُ عَنْهُ الْغَرِيمُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ إِنْ وَهَبَهُ بَعْضَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ. (2)
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
ج -
وُجُوبُ الْحَقِّ، أَوْ وُجُودُ سَبَبِهِ:
36 -
الأَْصْل أَنْ يَقَعَ الإِْبْرَاءُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لإِِسْقَاطِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ انْشِغَالِهَا. وَلَكِنَّهُ قَدْ يَأْتِي قَبْل وُجُوبِ الْحَقِّ، وَهُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي يَنْشَأُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الإِْبْرَاءِ قَبْل وُجُودِ السَّبَبِ، فَوُجُودُهُ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ فِيهِ سَاقِطٌ أَصْلاً
(1) تبويب الأشباه 383، وحاشية ابن عابدين 2 / 518 ط بولاق، وتكملة حاشية ابن عابدين 2 / 502 الطبعة الثانية مطبعة عيسى الحلبي
(2)
القواعد لابن رجب 120 الطبعة الأولى.
بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا مَعْنَى لإِِسْقَاطِ مَا هُوَ سَاقِطٌ فِعْلاً، وَيَكُونُ الإِْبْرَاءُ مِنْهُ مُجَرَّدَ امْتِنَاعٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْزِمٍ، لأَِنَّهُ وَعْدٌ، وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِمَا أَبْرَأَ مِنْهُ، عَلَى مَا سَبَقَ. (1)
37 -
وَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَفِي اشْتِرَاطِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَحُصُولِهِ فِعْلاً خِلَافٌ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، فَلَا يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ قَبْل الْوُجُوبِ وَإِنْ انْعَقَدَ السَّبَبُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِيمَا لَا يُمْلَكُ (2) . وَالإِْبْرَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا، وَقَدِ اعْتَبَرُوا مَا لَمْ يَجِبْ سَاقِطًا فَلَا مَعْنَى لإِِسْقَاطِهِ. (3)
وَقَدْ مَثَّل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِالإِْبْرَاءِ عَنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْل فَرْضِهَا (أَيْ الْقَضَاءِ بِتَقْدِيرِهَا) فَلَا يَصِحُّ، لأَِنَّهُ إِبْرَاءٌ قَبْل الْوُجُوبِ - بِالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الاِحْتِبَاسُ - وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْل وُجُوبِهِ لَا يَصِحُّ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا الإِْبْرَاءُ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِيهِ تَبَعًا لِوُجُوبِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الإِْبْرَاءُ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ
(1) الالتزامات للحطاب (كما في فتح العلي المالك 1 / 322)
(2)
حديث " لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك " رواه أبو داود والحاكم بلفظ " لا طلاق إلا فيما يملك ولا عتق إلا فيما يملك ". رواه ابن ماجه عن المسور بن مخرمة بلفظ " لا طلاق قبل النكاح ولا عتاق قبل ملك ". قال ابن حجر: سنده حسن. وله طرق أخرى (تلخيص الحبير 3 / 210) . (فيض القدير 6 / 432)
(3)
الأشباه والنظائر للسيوطي 410 ط عيسى الحلبي، والفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 82، والقليوبي 2 / 211 و3 / 282، والشرواني على التحفة 7 / 397، والفروع 4 / 195، وكشاف القناع 4 / 256
مِنَ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِ رَدِّهَا (أَيْ تُصْبِحُ لَدَيْهِ وَدِيعَةً) لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ تَعَلَّقَ بِضَمَانِ الرَّدِّ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ. أَمَّا إِنِ اسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ، أَوْ مَنَعَهَا مِنَ الْمَالِكِ بَعْدَ طَلَبِهَا، فَلَا أَثَرَ لِلإِْبْرَاءِ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا. فَلَمْ يَتَعَلَّقِ الإِْبْرَاءُ بِالْقِيمَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا حَال قِيَامِ الْعَيْنِ. (1)
كَمَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ الإِْبْرَاءِ عَنِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ (فِيمَا لَوْ تَكَفَّل بِأَدَاءِ مَا يَمُوتُ فُلَانٌ وَلَمْ يُؤَدِّهِ) لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَمَّا يَجِبُ مِنْ مَالٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَال لَمْ يَجِبْ لِلْكَفِيل عَلَى الأَْصِيل، فَلَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ قَبْل الْوُجُوبِ. وَنَحْوُهُ لَوْ قَال: أَبْرَأْتُكَ عَنْ ثَمَنِ مَا تَشْتَرِيهِ مِنِّي غَدًا فَلَا يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ أَيْضًا.
وَمَثَّل لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِإِبْرَاءِ الْمُفَوِّضَةِ عَنْ مَهْرِهَا قَبْل الْفَرْضِ (التَّقْدِيرِ) وَالدُّخُول، وَمِثْلُهُ الإِْبْرَاءُ عَنِ الْمُتْعَةِ قَبْل الطَّلَاقِ، لِعَدَمِ الْوُجُوبِ. وَاسْتَثْنَوْا صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الإِْبْرَاءُ قَبْل الْوُجُوبِ. وَهِيَ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، أَوْ رَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ حَافِرُهَا مِمَّا يَقَعُ فِيهَا. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الاِكْتِفَاءِ بِوُجُودِ السَّبَبِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ أَوِ الْوَاقِعَةُ الَّتِي يَنْشَأُ بِهَا الْحَقُّ الْمُبْرَأُ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ بَعْدُ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ الْحَطَّابُ فِي (الاِلْتِزَامَاتِ) فَعَقَدَ فَصْلاً لإِِسْقَاطِ الْحَقِّ
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 653 ط بولاق. أما الإبراء بعد الفرض فيصح مما مضى مطلقا، وعما بعده مما وجب بدخول أول وقته حسب طريقة فرض النفقة باليوم أو الشهر أو السنة.
(2)
الفتاوى الهندية 3 / 95، الفتاوى الخانية 3 / 63 بهامش الهندية، والأشباه والنظائر للسيوطي 490
قَبْل وُجُوبِهِ، وَتَعَرَّضَ لِلْمَسَائِل الْمَشْهُورَةِ، وَكَرَّرَ الإِْشَارَةَ لِلْخِلَافِ، وَاسْتَظْهَرَ الاِكْتِفَاءَ بِالسَّبَبِ. وَمِمَّا قَال:" إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنْ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْل الْبِنَاءِ وَقَبْل أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، فَقَال ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ: يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الإِْبْرَاءِ مِمَّا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْل حُصُول الْوُجُوبِ (وَذَكَرَ عِبَارَاتٍ شَتَّى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى تَقَدُّمِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَوْ حُصُول الْوُجُوبِ) ثُمَّ قَال: فَهُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْل وُجُوبِهِ بَعْدَ سَبَبِهِ ". (1)
ثُمَّ أَشَارَ الْحَطَّابُ إِلَى مَسْأَلَةِ إِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَل فَقَال: فِي لُزُومِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: هَل يَلْزَمُهَا؛ لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا قَدْ وُجِدَ، أَوْ لَا يَلْزَمُهَا؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفْصِيُّ " ثُمَّ قَال آخِرَ الْمَسْأَلَةِ:" وَالَّذِي تَحَصَّل مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَل لَزِمَهَا ذَلِكَ عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ ". (2)
38 -
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ الْمُبْرَأِ مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِلْوَاقِعِ لَا لِلاِعْتِقَادِ، فَلَوْ أَبْرَأَهُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، صَحَّ الإِْبْرَاءُ لِمُصَادَفَتِهِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ. وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَصْرِيحٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ سِوَى الاِسْتِئْنَاسِ بِمَا سَبَقَ
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب (ضمن فتاوى عليش فتح العلي المالك 1 / 322 ط البابي الحلبي) والأمثلة لديه كثيرة في الصفحات 1 / 306 - 332 مع الإشارة لبعض المسائل لم يصح فيها الإسقاط لملاحظ خاصة لا لعدم وجوب الحق فيها.
(2)
الالتزامات للحطاب 1 / 322