الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة 73: التنازع في العمل
1
أ– في مثل: وقف وتكلم الخطيب – نجد فعلين لا بد لكل منهما من فاعل، وليس في الكلام إلا اسم ظاهر واحد، يصلح أن يكون فاعلًا لأحدها، وهذا الاسم الظاهر هو:"الخطيب"، فأي الفعلين أحق بالفاعل؟ وإذا فاز به أحدهما، فأين فاعل الفعل الثاني؟.
ب- وفي مثل: سمعت وأبصرت القارئ – نجد فعلين أيضًا، يحتاج كل منهما إلى مفعول به منصوب، وليس في الكلام ما يصلح أن يكون مفعولًا به إلا شيئًا واحدًا؛ وهو:"القارئ" فأيهما أحق به؟ وإذا فاز به أحدهما فأين مفعول الفعل الثاني؟.
جـ– وفي مثل: أنشد وسمعت الأديب، نجد فعلين يحتاج أحدهما إلى مرفوع يكون فاعلًا، ويحتاج الآخر إلى منصوب، يكون مفعولًا به، فمطلب كل منهما يخالف الآخر –على غير ما في الحالتين السالفتين– وليس في الكلام إلا لفظة:"الأديب" وهي تصلح لأحدهما، فأي الفعلين أولى بها؟ وما نصيب الآخر بعده؟
د– وفي مثل: أنست وسعدت بالزائر الأديب، نجد كلا من الفعلين محتاجًا إلى الجار مع مجروره2؛ ليكمل المعنى، فأي الفعلين أولى؟ وما نصيب الآخر بعد ذلك؟.
1 لنا في هذا الباب المضطرب المائج، وفي أحكامه، رأي خاص، نراه أنسب، وقد سجلناه في آخره، 201.
2 أوضحنا في باب: "تعدي الفعل ولزومه" ص 151 –وفي حروف الجر– ص 439" أن المجرور للتعدية في هذا المثال وأشباهه يعد في المعنى بمنزلة المفعول به، فهو في حكم المنصوب محلًا، برغم أنه مجرور لفظًا، ولا يجوز في الرأي الأحسن مراعاة المحل إذا جاء تابع بعده.
وفي باب التنازع قد يتكلم النحاة أحيانًا على العامل الذي ينصب المفعول به لفظًا، والذي ينصبه محلًا، يريدون بالأول ما يصل إليه العامل بنفسه، وبالثاني: ما يصل إليه بحرف الجر.
ومن الأمثلة السالفة –وأشباهها– نعرف أن الأفعال1 قد تتعدد في الأسلوب الواحد، ويحتاج كل منها إلى معمول خاص به، ولكن لا يوجد في الكلام إلا بعض معمولات ظاهرة، تكفي بعض الأفعال دون بعض، مع حاجة كل فعل إلى معمول خاص به؛ فتتزاحم تلك العوامل الكثيرة على المعمولات القلية، وكأنها تتنازع ليظهر كل منها وحده بالمعمول، ولهذا يسمى الأسلوب:"أسلوب التنازع"2، يعرفه النحاة بأنه:
"ما يشتمل على فعلين – غالبًا3، متصرفين 4، مذكورين، أو على اسمين يشبهانهما في العمل، أو على فعل واسم يشبهه في العمل، وبعد الفعلين وما يشبههما معمول مطلوب 5 لكل من الاثنين السابقين.
والفعلان أو ما يشبههما يسميان: "عاملي التنازع"، والمعمول يسمى:"المتنازع فيه".
فلا بد في التنازع من أمرين: أولهما: تقدم فعلين أو ما يشبههما في العمل، وكلاهما يريد المعمول.
ثانيهما: تأخير المعمول عنهما.
فمثال تقدم العاملين وهما فعلان متصرفان: تصدق وأخلص الصالح، ومثال تقدم العاملين وهما اسمان مشتقان يعملان عمل الفعل: المؤمن ناصر ومساعد الضعيف، ومثال المختلفين: دراك وساعد الملهوف، بمعنى أدرك وساعد، وهكذا الصور6 الأخرى التي تدخل في التعريف.
1 مثل الأفعال ما يشبهها مما يعمل عملها – كما سيجيء هنا.
2 يسميه بعض النحاة القدامى: "الإعمال".
3 سنعرف –في ص 189– أنه يجوز أن تزيد العوامل على اثنين مع زيادة المعمولات أو عدم زيادتها، ويشترط في كل الحالات أن يزيد عدد العوامل على المعمولات في الكلام؛ لكي ينشأ "التنازع".
4 إلا "فعلي التعجب"، فيجوز أن يكونا عاملين في "التنازع" مع أنهما جامدان – كما في الصفحة التالية.
5 من حيث المعنى والعمل معًا، ولو كان عملهما مختلفًا، وسيجيء في الزيادة والتفصيل نوع المعمول.
6 كأن يكون الفعلان معًا من نوع واحد "للماضي، أو المضارع، أو للأمر" وقد يكونان مختلفين في بعض الصور، وقد يكون أحد العاملين فعلًا والآخر اسمًا يشبهه، وقد يكون الفعل هو المقدم على الاسم الذي يشبه، أو العكس
…
على هذا لا يصح أن يكون من عوامل التنازع الحرف، ولا العامل المتأخر في مثل: أي الرجال قابلت وصافحت، ولا العامل الذي توسط المعمول بينه وبين العامل الآخر، نحو: اشتريت الكتاب وقرأت، ولا العامل الجامد؛ مثل:"عسى" أو"ليس"، كما في قول الشاعر:
من كان فوق محل الشمس موضعه
…
فليس يرفعه شيء ولا يضع
إلا فعلي التعجب1 فإنهما مع جمودهما يصح أن يكونا العاملين في أسلوب التنازع؛ نحو ما أحسن وأنفع صفاء النفوس، وأحسن وأنفع بصفاء النفوس.
1 كما أشرنا في رقم4 من الهامش السالف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ– ليس من اللازم – كما أشرنا1 – الاقتصار في أسلوب "التنازع" على عاملين متقدمين، ولا على معمول واحد ظاهر2 بعدهما،
فقد يقتضي الأمر أن يكون العوامل ثلاثة3 متقدمة من غير أن يتعدد المعمول؛ نحو: يجلس ويسمع ويكتب المتعلم، وقد تتعدد العوامل والمعمولات
الظاهرة؛ نحو: تكتبون وتقرءون وتحفظون النصوص الأدبية كل أسبوع، ففي صدر الكلام ثلاثة عوامل تتنازع العمل في معمولين بعدها؛ "أي: في المفعول به، وهو: النصوص"، وفي الظرف4، وهو: "كل
…
"، والكثير في التنازع الاقتصار على عاملين ومعمول واحد. ولا يعرف في الأساليب القديمة الزيادة على أربعة عوامل، ولكن لا مانع من الزيادة عند وجود ما يقتضيها، ويشترط -في كل الحالات- أن تقوم القرينة على أن الأسلوب أسلوب تنازع؛ لتجري عليه أحكام التنازع، وأنه ليس من باب اللف والنشر: مثل: غرد وزأر العصفور والأسد؟ أي غرد العصفور، وزأر الأسد....
1 في رقم 3 من هامش الصفحة 187.
2 لا فرق في المفعول بين أن يكون اسمًا ظاهرًا، أو ضميرًا بشرط أن يكون الضمير منفصلًا مروعًا، أو منصوبًا، أو متصلًا مجرورًا، نحو: على إنما قام وقعد هو، وما زرت وصافحت إلا إياه، ووثقت وتقويت بك.
كذلك لا فرق بين اختيار الأول وغيره للعمل ما لم يكن لأحدهما مرجح؛ كوجود "لا" أو: "بل" العاطفين، فيجب إعمال الأول في مثل: أهنت لا أكرمت النمام، ويجب إعمال الثاني في مثل: ضربت بل أكرمت الرجل؛ لأن "بل" –هنا– تجعل الحكم لما بعدها – فما قبلها مسكوت عه، فلا يطلب المعمول، و"لا" – هنا – تجعل الحكم لمال قبلها مثبتًا، فما بعدها منفي لا يطلب المفعول.
3 ومنه قول القاطمي:
صريع غوان راقهن ورقنه
…
لدن شب حتى شاب سود الذوائب
فقد تنازع العمل في الظرف: "لدن" عوامل ثلاثة؛ هي: صريع، وراق – وراق، الثاني أيضًا، المسند إلى نون النسوة.
4 انظر "ج" ص 190.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ب– لا بد أن يكون بين العاملين –أو العوامل– نوع ارتباط؛ كالعطف في مثل: أعيد وأخاف الله، أو أن يكون العامل المتأخر جوابًا معنويًا عن السابق؛ نحو قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} 1، أي: يستفتونك في الكلالة، قل الله يفتيكم في الكلالة
…
أو جوابًا نحويًا، كجواب الأمر وغيره مما يحتاج لجواب؛ نحو: أنشد، أسمع القصيدة، أو يكون المتأخر معمولًا للسابق؛ نحو قوله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطا} ، أو أن يكون العاملان خبرين عن اسم؛ نحو: الحاكم مكافئ معاقب المستحق.
ج– يقع التنازع في أكثر المعمولات، ومنها: المفعول به، والمفعول المطلق، والمفعول لأجله، وشبه الجملة، دون الحال والتمييز -على الأصح-.
د– ليس من التنازع "التوكيد اللفظي" كالذي في قولهم:
"هيهات هيهات العقيق ومن به
…
"؛ لأن شرط التنازع: أن يكون المعمول مطلوبًا لكل واحد من العاملين من حيث المعنى، وأن يوجد الضمير -إذا كان مرفوعًا– في العامل المهمل، وهو غير موجود في هذا التوكيد؛ إذ الطالب للمعمول إنما هو كلمة: "هيهات الأولى؛ فهي وحدها المحتاجة للعقيق؛ لتكون فاعلها، والإسناد بينهما، أما كلمة:"هيهات" الثانية فلم تجئ للإسناد إلى العقيق؛ وهي خالية من المضير المرفوع؛ وإنما جاءت لمجرد تأكيد الأولى وتقويتها؛ فالأولى هي المحتاجة للفاعل، أما الثانية فلا تحتاج لفاعل؛ ولا لغيره، فليست عاملة، ولا معمولة؛ شأن نظائرها التي تجيء للتوكيد اللفظي: ومثل هذا: جاءك جاءك الراغبون في معرفتك2.
1 الكلالة: الميت الذي ليس له والد ولا ولد، أو: الوارث الذي ليس بوالد ولا بولد للميت.
2 فريق من النحاة يدخل هذين المثالين وأشباهما في باب التنازع، ويجري عليهما أحكامه، بأن يكون العامل هو الأول، وفي الثاني ضمير مستتر، أو العكس مع مراعاة التفصيل الخاص بأحكام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الضمير في باب التنازع، في هذه الحالة لا يكون العامل الثاني في باب التوكيد اللفظي؛ لأن العامل الثاني في بابه زائد للتوكيد اللفظي؛
فلا فاعل له – في الرأي الشائع – فلا يتحمل ضميرًا – كما سيجيء في باب: "التوكيد" من الجزء الثالث، ص 510 م 116.
والذين يقولون: إن التوكيد اللفظي لا يصلح للتنازع يستدلون بأمثلة مسموعة: منها قول الشاعر يخاطب نفسه:
فأين إلى أين النجاة ببغلتي؟
…
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس
فلو كان في الكلام تنازع لقال – أتاك أتوك اللاحقون، أو: أتوك أتاك اللاحقون، تطبيقًا لأحكام التنازع.
والحق أن كلا الرأيين لا يصلح للأخذ المطلق أو الرفض المطلق؛ لمجرد أنه منسوب لذا أو لذاك، وإنما الذي يعول عليه عند عدم الضمير البارز هو الأخذ بما يساير المعنى ويحقق الغرض؛ فيجب أن أن تكون المسألة من باب التوكيد اللفظي وحده – ولا دخل للتنازع فيها – حين يقتضي المقام تحقيق غرض من أغراض التوكيد اللفظي، وفي مقدمتها إزالة شك يحيط بالعامل وحده؛ كأن يجري الحديث عن سقوط المطر عدة أيام متوالية؛ فيقول أحد الحاضرين: لم يسقط المطر أمس
…
فيرد آخر: سقط سقط
المطر أمس، ففي هذه الصورة يدور الشك حول الفعل:"سقط" وحده دون فاعله؛ إذ ليس هناك شك في أن الذي سقط هو: المطر، وليس حجرًا، ولا حديدًا، ولا خشبًا
…
و
…
أما في صورة أخرى يدور الشك فيها حول العامل ومعموله معًا، فإن إزالة الشك عنها قد تكون بتكرار الجملة كلها، وتكرارها قد يدخلها في باب التنازع، ولا سيما منع وجود الضمير البارز، مثال ذلك: أن يدور حول عدم حضور أحد من الغائبين؛ بأن يقول قائل: لم يحضر أحد من الغائبين، فيرد آخر: حضر حضر أخي، أو: حضر حضر المجاهدان، أو: حضرا حضر المجاهدان
…
فالمقام هنا يقتضي أن يكون المسألة من باب: "التنازع" وليست من توكيد الجملة الفعلية بأختها؛ لأن توكيد الجملة الفعلية بنظيرتها الفعلية يقتضي تكرار لفظي الفعل والفاعل في كل واحدة منها كما هو مدون في باب: "التوكيد" جـ 3 م 116ص 510-
الأحكام الخاصة بالتنازع 1:
تتلخص هذه الأحكام يما يأتي:
1-
لا مزية لعامل على نظيره من ناحية استحقاقه للمعمول "أي: للمتنازع فيه"؛ فكل عامل يجوز اختياره للعمل من غير ترجيح في الأغلب2؛ فيجوز اختيار الأول السابق مع إهمال الأخير، ويجوز العكس3، وإذا كانت العوامل ثلاثة أو أكثر فإن الحكم لا يتغير بالنسبة للأول والأخير، أما المتوسط بينهما – ثالثًا أو أكثر – فيصح أن يساير الأول أو الأخير؛ فالأمران متساويان بالنسبة لإعمال الثالث المتوسط، وما زاد عليه من كل عامل بين الأول والأخير.
2– إذا وقع الاختيار على الأول ليكون هو العامل المستحق للمعمول وجب تعويض العامل الأخير المهمل تعويضًا يغنيه عن المعمول، وذلك بإلحاق ضمير4 به يطابق ذلك المعمول مطابقة تامة في الإفراد والتثنية، والجمع، والتذكير،
1 سنذكر أشهر الآراء، ثم نردفه – آخر الباب في الزيادة والتفصيل ص 201 و 203 – برأي لنا خاص قد يكون يه يسر ونفع خالصان من الشوائب – كما أشرنا في رقم 1 من هامش ص 186.
2 إلا في الحالتين المذكورتين في رقم 2 من هامش ص 189.
3 الكوفيون يعملون الأول لسبقه، والبصريون يعملون الثاني لقربه، وهذا خلاف يجب إهماله؛ إذ لا قيمة له في الترجيح، وفي تفضيل أحد العاملين على الآخر إلا ما سبقت الإشارة إليه –في رقم 2– ويقول ابن مالك في الإشارة للتنازع ما نصه:
إن عاملان اقتضيا في اسم عمل
…
قبل، فللواحد منهما العمل
والثان أولى عند أهل البصره
…
واختار عكسا غيرهم ذا أسره
يقول: إن وجد عاملان يتطلبان عملًا في اسم ظاهر، وكانا قبله، فلواحد منهما العمل دون نظيره، وهذا الواحد ليس معينًا مقصورًا على أحدهما، وإنما يجوز أن يعمل هذا أو ذاك؛ ولا يصح أن يكون العمل لهما معًا في ذلك الاسم: وإعمال الثاني أولى عند البصريين، لقربه، واختار غيرهم العكس، أي: إعمال الأول، لسبقه، ومعنى:"ذا أسرة"، صاحب رابطة قوية، يريد بها الرابطة العلمية، وأصحاب هذا الرأي هم الكوفيون، "التقدير: اختار غيرهم العكس حالة كون غيرهم ذا أسرة".
4 إلا في الحالة التي في ص 195 والأخرى التي في ص 198 حيث يجب إحلال اسم ظاهر يدل ذلك الضمير، طبقًا للتفصيل الموضح هناك.
والتأنيث، لأن المعمول، "المتنازع فيه" هو المرجع للضمير، ويعتبر هذا المرجع متقدمًا برغم تأخر لفظه عن الضمير، ولا بد من المطابقة بين الضمير ومرجعه في الأشياء السالفة.
والأفضل وجود الضمير في جمع الحالات؛ سواء أكان ضمير رفع، أم نصب، أم جر؛ فمن إعمال الأول في المعمول المرفوع مع إعمال الأخير في ضميره: المثال الوارد في "أ"، وهو1:"وقف – وتكلم – الخطيب"، فنقول:"وقف – وتكلما – الخطيبان"، "وقف – وتكلموا – الخطيبون"، "وقفت – وتكلمت – الخطيبة"، "وقفت – وتكلمتا – الخطيبتان" – "وقفت – وتكلمن – الخطيبات".
فكأن الأصل: "وقف الخطيب، وتكلم"، "وقف الخطيبان وتكلما"، "وقف الخطيبون، وتكلموا"، "وقفت الخطيبة، وتكلمت"، "وقفت الخطيبتان، وتكلمتا"، "وقفت الخطيبات وتكلمن"، وهكذا.
والوسيلة المضبوطة لاستعمال الضمير على الوجه الصحيح أن نتخيل العامل الأول، وهو في صدر الجملة، ثم يليه مباشرة المعمول:"المتنازع فيه"، وقد تقدم من مكانه حتى صار بعد العامل الأول بغير فاصل بينهما، ثم يليهما كل عامل مهمل، وبعده الضمير المناسب لهذا التركيب القائم على التخيل المحض؛ كما في الأمثلة السالفة؛ وكما في الآتية:
"أوقد واستدفأ الحارس"؛ فكل من الفعلين: "أوقد" و"استدفأ" يحتاج إلى كلمة: "الحارس" لتكون فاعلًا له، فإذا أعملنا الأول وجب تعويض الأخير بإلحاق ضمير مناسب بآخره، ولكي يكون الضمير مناسبًا صحيح الاستعمال نتخيل أن الاسم الظاهر "المتنازع فيه"، وهو كلمة:"الحارس" قد تقدم حتى صار بعد العامل الأول مباشرة "أي: بغير فاصل بينهما"، وهذا يقتضي أن يتأخر عنهما كل عامل مهمل، فكأن أصل الأسلوب:"أوقد الحارس واستدفأ"، "فالحارس" هو الفاعل للفعل:"أوقد" أما الفعل المهمل"استدفأ"، فقد لحق
1 ص186.
بآخره ضمير مستتر، مرفوع، يعرب فاعلًا، ويغني عن الاسم الظاهر "المتنازع فيه"، وهذا الضمير هنا مفرد مذكر؛ ليطابق مرجعه "المتنازع فيه"، فلو كان المرجع مفردًا مؤنثًا أو مثنى أو جمعًا بنوعيهما، لوجب أن يطابقه الضمير، فتقول:"أوقدت – واستدفأت – الحارسة"، "أوقد – واستدفأ – الحارسان". "أوقدت – واستدفأتا – الحارستان"، "أوقد – واستدفئوا – الحارسون"، "أوقدت – واستدفأن - الحارسات"
…
و
…
وهكذا، فكأن الأصل:"أوقدت الحارسة، واستدفأت"، "أوقد الحارسان، واستدفأا"، "أوقدت الحارستان، واستدفأتا"، "أوقد الحارسان، واستدفئوا"، "أوقدت الحارسان، واستدفأن....".
هذا حكم "التنازع" عند إعمال الأول حين تتعدد العوامل، ولا يتعدد المعمول المرفوع؛ وهو هنا الفاعل الظاهري الذي يطلبه كل منهما.
وما سبق يقال في مثال: "ب"1 وهو: "سمعت وأبصرت القارئ" عند إعمال الأول أيضًا؛ حيث تعددت العوامل التي يحتاج كل منها إلى المفعول به؛ وليس في الكلام إلا مفعول به واحد؛ فنقول: "سمعت – وأبصرته – القارئ"، "سمعت – وأبصرتها القارئة"، "سمعت – وأبصرتهما – القارئين"، "سمعت – وأبصرتهما – القارئتين"، "سمعت – وأبصرتهم – القارئين""سمعت – وأبصرتهن – القارئات".
فكأن أصل الكلام عند التخيل: "سمعت القارئ وأبصرته"، "سمعت القارئة وأبصرتها""سمعت القارئتين، وأبصرتهما"، "سمعت القارئتين، وأبصرتهما"، "سمعت القارئين وأبصرتهم"، "سمعت القارئات وأبصرتهن".
وكذلك يقال في مثال: "ج"2 وهو: "أنشد وسمعت الأديب"، برغم اختلاف المطلب بني العاملين، فأحدهما يريد المعمول فاعلًا له، والآخر يريد مفعولًا به؛ فنقول؛ عند إعمال الأول3؛ و"أنشد – وسمعته – الأديب"4، "أنشدت - وسمعتها - الأديبة"، "أنشد - وسمعتهما - الأديبان"، "أنشدت -
1، 2 ص 186.
3 أما عند إعمال الأخير المحتاج للمفعول به، فيجيء حكمه في ص 199.
4 ومثله قول أبي الأسود – كما رواه صاحب أساس البلاغة:
كساني ولم أستكسه فحمدته
…
أخ لي يعطيني الجزيل، وناصر
وسمعتهما – الأديبتان"، "أنشد – وسمعتهما – الأديبون"، "أنشدت – وسمعتهن – الأديبات".
فكأن الأصل مع التخيل: "أنشد الأديب، وسمعته"، "أنشدت الأديبة، وسمعتها". "أنشد الأديبان، وسمعتهما"، "أنشد الأديبون وسمعتهم"، "أنشدت الأديبات وسمعتهن
…
".
ومثل هذا يقال عند إعمال الأول أيضًا في مثال: "د"1 وهو: "أنست وسعدت بالزائر الأديب" حيث يحتاج كل من العاملين في تكملة معناه إلى الجار مع المجرور؛ نحو: "أنست – وسعدت – بالزائر الأديب، به2"، "أنست- وسعدت – بالزائرة الأديبة، بها"، "أنست – وسعدت - بالزائرين الأديبين، بهما"، "أنست – وسعدت بالزائرتين الأديبتين، بهما"، "أنست – وسعدت – بالزائرين الأديبين، بهم"، "أنست - وسعدت - بالزائرات الأديبات، بهن".
وكأن الأصل مع التخيل: "أنت بالزائر الأديب، وسعدت به"، "أنست بالزائرة الأديبة، وسعدت بها"، "أنست بالزائرين الأديبين، وسعدت بهما"، "أنست بالزائرتين الأديبتين، وسعدت بهما"، "أنت بالزائرين الأديبين، وسعدت بهم"، "أنت بالزائرات الأدبيات، وسعدت بهن
…
"
…
و
…
وهكذا نرى أن إعمال الأول يقتضي أمرين محتومين: ألا يعمل الأخير مباشرة في ذلك المعمول الظاهر، وأن يعمل هذا الأخير في ضمير مطابق للمعمول الظاهر، في الإفراد والتثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث.
ويعتبر مرجع الضمير في كل الصور السالفة متقدمًا عليه، بالرغم من تأخر لفظ المرجع – كما أسلفنا.
وهناك حالة واحدة لا يصح فيها مجيء الضمير لتعويض الأخير المهمل، وإنما يجب أن يحل محله اسم ظاهر، تلك الحالة تتحقق بأن يكون هذا الفعل المهمل محتاجًا إلى مفعول به لا يصح حذفه؛ لأنه عمدة في الأصل، ولا يصح إضماره، إذ لو أضمرناه لترتب على إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر؛ مثل:"أظن – ويظناني أخا – محمودًا وعليًا، أخوين"، فكلمة:"محمودا" هي المفعول به الأول
1 ص186.
2 يجيز فريق من النحاة تقديم هذا المعمول بعد عامله، وسيجيء في الزيادة والتفصيل رأى مستقل.
للعامل، وهو الفعل:"أظن"، وكلمة:"عليًا" معطوفة عليها، و"أخوين" هي المفعول به الثاني للفعل:"أظن"، وإلى هنا استوفى الفعل – العامل:"أظن" مفعوليه، ويبقى الفعل الأخير المهمل:"يظنان" وهو محتاج لمفعولين كذلك. فأين هما؟ أو أين ما يغني عنهما؟.
إن "الياء" ضمير، وهي مفعوله الأول، وبقي مفعوله الثاني، فلو أتينا به ضميرًا أيضًا، فقلنا: أظن –ويظناني إياه– محمودًا وعليًا أخوين، أي: أظن محمودًا وعليا أخوين، ويظناني إياه - لكان "إياه" مطابقا في الإفراد "للياء" التي هي المفعول الأول، فتتحقق المطابقة بينهما، على اعتبار أن أصلهما مبتدأ وخبر، كما هو الشأن في مفعولي:"ظن وأخواتها"، ولكنها لا تتحقق بين الضمير "إياء"، وما يعود عليه؛ وهو:"أخوين"؛ إذ "إياه" ضمير للمفرد، ومرجعه دال على اثنين؛ فتفوت المطابقة بين الضمير ومرجعه، وهذا غير جائز.
ولو أتينا بالضمير الثاني مثنى فقلنا: أظن – ويظناني إياهما – محمودًا وعليًا، أخوين – لتحققت المطابقة بين الضمير ومرجعه؛ فكلاهما لاثنين، ولكن تفوت المطابقة بين المفعول الثاني، والمفعول الأول، مع أن الثاني أصله خبر عن الأول، ولا بد من المطابقة هنا بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما المبتدأ أو الخبر، – كما أشرنا.
فلما كان الإضمار هنا يوقع في الخطأ وجب العدول عنه إلى الإظهار الذي يحقق الغرض، ولا يوقع في الخطأ، فنقول: أظن – ويظناني أخًا – محمودًا وعليصا أخوين، أي: أظن محمودًا وعليًا أخوين، ويظناني أخا، وفي هذه الصورة لا تكون المسألة من باب التنازع1.
3-
إذا أعملنا الأخير، وأهملنا الأول، وجب الاستغناء عن تعويض الأول المهمل؛ فلا نلحق به ضمير المعمول "المتنازع فيه"، ولا ما ينوب عن ذلك الضمير، إلا في ثلاث حالات، لا بد في كل واحدة من الإتيان بضمير مطابق للمعمول، المتأخر عن هذا الضمير "وفي الحالات الثلاث يجوز عودة الضمير على متأخر لفظًا ورتبة"2.
1 لهذه الحالة نظير "في ص198"، ولكن عند إعمال الأخير وإهمال الأول.
2 كما سبق في بابي: الضمير، والفاعل، جـ1 ص184م 20.
الأولى: أن يكون المعمول المتأخر مرفوعًا، كأن يكون فاعلًا مطلوبًا لعاملين قبله –أو أكثر– وكل عامل يريده لنفسه؛ نحو: شرب وتمهل العاطش، فإذا أعملنا الأخير وأهملنا الأول وجب إلحاق الضمير المناسب بالأول1؛ فنقول:"شربت، وتمهلت العاطشة"، "شربا، وتمهل العاطشان"، "شربتا، وتمهلت العاطشتان""شربوا وتمهل العاطشون"، "شربن وتمهلت العاطشات".
الثانية: أن يكون المعمول "المتنازع فيه" اسمًا منصوبًا أصله عمدة؛ كمفعولي "ظن" وأخواتها؛ فأصلهما المبتدأ والخبر؛ وكخبر "كان" وأخواتها2، وفي هذه الحالة لا يحذف الضمير المناسب، وإنما يبقى ويوضع متأخرًا من المعمول "المتنازع فيه"، نحو: أظنهما – ويظن محمد حامدًا ومحمودًا، مخلصين – إياهما، فالفعلان تنازعا كلمة:"مخلصين" لتكون المفعول الثاني
…
فجلعناها للأخير، وأعلمنا الأول في الضمير العائد إليهما وجعلناه ومتأخرًا.
والمراد: يظن محمد حامدًا ومحمودًا مخلصين، وأظنهما إياهما، أي: أظن حامدًا ومحمودًا مخلصين، "فحامدًا"؛ مفعول أول للفعل:"يظن"، و"محمودًا" معطوف عليه، "مخلصين" مفعول ثان للفعل:"يظن"، و"أظنهما":"أظن" مضارع، فاعله مستتر تقديره:"أنا"، "هما" ضمير، مفعول أول، وقد تقدم ليتصل بفعله؛ لأن الاتصال ممكن؛ وهذا يقتضي التقديم فلا داعي للانفصال3، "إياهما": المفعول الثاني الذي جاء متأخرًا4.
ومثل: كنت وكان الصديق أخا إياه، فالفعلان تنازعا كلمة:"أخا" لتكون خبرا، فجعلناها للمتأخر منهما، وأعملنا السابق في ضمير هذا الخبر وجعلنا
1 ولكي يقع الضمير موقعا صحيحا نتخيل -كما سبق- أن الفعل المهمل قد تأخر عن مكانه إلى آخر الجملة، وقد سبقته واو العطف وقبلها الفعل العامل وفاعله، وعلى أساس هذا التخيل نجيء بالضمير مطابقا لمرجعه المتقدم عليه، فكأن أصل الكلام: تمهلت العاطشة، وشربت، تمهل العاطشان وشربا، تمهلت العاطشتان وشربتا، تمهل العاطشون وشربوا، تمهلت العاطشات وشربن....
2 إلا خبر الجامد منها، مثل:"ليس" و"عسى" إذ لا يصلح الجامد الذي ليس فعل تعجب قياسي أن يكون عاملا في "التنازع" -كما أوضحنا في ص187 و188-.
3 طبقا لما سبق في باب الضمير من الجزء الأول م20.
4 هناك رأي حسن، يجيز حذفه، وارتضاه كثير من النحاة.
الضمير متأخرا بعد الخبر، فالمراد: كان الصديق أخا، وكنت إياه، أي: كنت أخا، ويصح: كنته؛ لأن الاتصال ممكن وجائز، فلا داعي لوجوب الانفصال1.
بقي أن نذكر حالة2 لا يصح فيها حذف ضمير الاسم المتنازع فيه، ولا إعمال الأول المهمل فيه، وإنما يجب أن يحل محله اسم ظاهر، وهذه الحالة هي التي يكون فيها الفعل الأول المهمل محتاجا إلى مفعول به، أصله عمدة، فلا يحذف3 ولو أضمرناه لترتب على إضماره عدم مطابقه لمرجعه الاسم الظاهرة، نحو:"يظناني، وأظن الزميلين أخوين -أخا"، فكلمة:"أظن" مضارع، فاعله مستتر، تقديره:"أنا" وهذا المضارع محتاج إلى مفعولين، أصلهما: المبتدأ والخبر، فلا يحذف واحد منهما، "الزميلين" مفعوله الأول، "أخوين": مفعوله الثاني، إلى هنا استوفى العامل الأخير مفعوليه، بقي أن يستوفي المتقدم المهمل "وهو:"يظنان""، مفعوليه، فالفعل "يظنان" مضارع، فاعله: "ألف الاثنين" و"الياء"، مفعوله الأول، فأين مفعوله الثاني؟.
لو جئنا به ضميرا مطابقا للمفعول الأول فقلنا: يظناني -وأظن الزميلين أخوين إياه- لتحققت المطابقة بين المفعول الثاني "إياه" والمفعول الأول: "الياء" وهي المطابقة الواجبة بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما المبتدأ والخبر، ولكن تفوت المطابقة بين الضمير:"إياه" الذي للمفرد، ومرجعه المثنى، وهو:"أخوين".
ولو جئنا به مثنى، فقلنا: يظناني -وأظن الزميلين أخوين- إياهما، لتحققت المطابقة الواجبة بين الضمير ومرجعه، فكلاهما للتثنية، وضاعت بين المفعول الثاني، الدال على التثنية، والمفعول الأول وهو "الياء" الدالة على المفرد، مع أن المطابقة بينهما لازمة؛ لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر.
فللخروج من هذا الحرج نأتي بالمفعول الثاني اسما ظاهرا، فنقول: يظناني وأظن الزميلين أخوين -أخا، ولا تكون المسألة من باب "التنازع"4.
فإن كان المفعول: "المتنازع فيه" ليس عمدة في أصله، وكان العامل هو
"1، 2" وهي التي أشرنا إليها في رقم1 من هامش ص196 عند إعمال الأول، وإهمال الأخير.
3 بالرغم من جواز الحذف في غير التنازع -انظر "ا" من ص201.
4 فهي في هذا كالتي سبقت في ص196.
المتأخر، فالأحسن حذف المعمول، نحو: عاونت وعاونني الجار، وليس من الأحسن أن يقال: عاونته وعاونني الجار.
الثالثة: أن يكون الضمير مجرورا1، ولو حذف لأوقع حذفه في لبس، فيبقى ويوضع متأخرا عن المعمول، نحو: استعنت -واستعان علي الزميل- به، فالفعل الأول يطلب كلمة:"الزميل" لتكون مجرورة بالباء: "أي: استعنت بالزميل" والفعل الأخير يطلبها لتكون فاعلا؛ لأنه استوفى معموله المجرور بالحرف، "على"، فأعملنا الفعل المتأخر في الاسم الظاهر، وأضمرنا بعده ضميره مجرورا بالباء، فقلنا:"به"، ولو تقدم بحيث يقع بعد عامله المهمل، ويتوسط بين الفعلين لترتب على هذا تقدم الضمير الفضلة، المجرور على مرجعه، وهو غير مستحسن في هذه الصورة، ولو حذفناه وقلنا: استعنت -واستعان على الزميل لأدى حذفه إلى لبس، إذ لا ندري: آلزميل مستعان به، أم مستعان عليه
…
فإن أمن اللبس فالأحسن الحذف مع ملاحظة المحذوف في النية، فكأنه موجود، نحو: مررت ومر بي الصديق2.
1 يعد المجرور بحرف جر للتعدية بمنزلة المفعول به المنصوب حكما، "كما سبقت الإشارة في رقم2 من هامش ص186".
2 عرض ابن مالك أحكام التنازع مجملة، موجزة، متداخلة، وساقها في الأبيات القليلة التالية:
وأعمل المهمل في ضمير ما
…
تنازعاه، والتزم ما التزما
يريد: إذا أعمل واحد وأهمل الآخر، فإن المهمل يعمل في ضمير الاسم المتنازع فيه، مع التزام الطريقة التي أشار النحاة بالتزامها في الإعمال، أو: مع التزام الطريقة التي التزمها العرب في مثل هذه الأساليب، ولم يوضح هذه الطريقة، ولم يتعرض لتفصيلها إلا بذكر مثالين في البيت الآتي، يوضح أولهما إعمال العامل الأخير في الاسم الظاهر المتنازع فيه، مع إعمال المتقدم في ضميره. ويوضح ثانيهما إعمال الأول في ذلك الاسم الظاهر المتنازع فيه مع إعمال الأخير في ضميره، وكلا الفعلين يحتاج للاسم الظاهر، ليكون فاعلا له، يقول:
كيحسنان ويسيء ابناكا
…
وقد بغى واعتديا عبداكا
فالاسم المتنازع فيه هو: "ابناك"، وقد أعمل فيه مباشرة الفعل المتأخر:"يسيء" أما الفعل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
= المتقدم: "يحسن" فقد أعمل في ضميره، فصار:"يحسنان" والمثال الذي في الشطر الثاني يشتمل على الاسم المتنازع فيه، وهو:"عبداك"، وقد أعمل فيه الأول:"بغى" وأهمل المتأخر وهو، "اعتدى"، ولكنه أعمل في ضميره، فصار:"اعتديا"، ولم يحذف الضمير في المثالين؛ لأنه ضمير رفع، فلا يحذف
…
ثم انتقل إلى بيان حكم خاص بالعامل الأول المهمل، يتلخص في أنه لا يعمل في ضمير الاسم المتنازع فيه، إلا إذا كان ذلك الضمير للرفع، فإن كان للنصب، أو للجر لم يذكر مع الأول، وإنما يحذف إن كان ضميرا ليس عمدة في الأصل، ويؤخر إن كان أصله عمدة، "وقد شرحنا هذا تفصيلا، وأوضحناه بالأمثلة". ويقول فيه:
ولا تجئ مع أول قد أهملا
…
بمضمر لغير رفع أوهلا
بل حذف الزم إن يكن غير خبر
…
وأخرنه إن يكن هو الخبر
"أوهل: أهل، أي: صار أهلا، بمعنى: أعد، واستعمل في غير الرفع"، ثم بين الحالة
التي يحل فيها الظاهر محل الضمير، فقال:
وأظهران يكن ضمير خبرا
…
لغير ما يطابق المفسرا
نحو: أظن ويظناني أخا
…
زيدا وعمرا أخوين في الرخا
"الرخا = الرخاء، وهو سعة الرزق".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
يعد باب "التنازع" من أكثر الأبواب النحوية اضطرابا، وتعقيدًا، وخضوعًا لفلسفة عقلية خيالية، ليست قوية السند بالكلام المأثور الفصيح، بل ربما كانت مناقضة له.
أ– فأما الاضطراب فيبدو في كثرة الآراء والمذاهب المتعارضة التي لا سبيل للتوفيق بينها، أو التقريب، وقد أهملنا أكثرها.
يتجلى هذا في أن بعضها يجيز حذف المرفوع؛ كالفاعل، وبعضها لا يجيز. وفريق يجيز أن يشترك فعلان أو أكثر في فاعل واحد، وفريق يمنع، وطائفة تبيح الاستغناء عن المعمولات المنصوبة، وعن ضمائرها
…
، وطائفة تبيح حذف ما ليس عمدة الآن أو في الأصل، وفئة تحتم تقدير ضمير المعمول متأخرًا في بعض الصور، وفئة لا تحتم
…
و
…
فليس بين أحكام "التنازع" حكم متفق عليه، أو قريب من الاتفاق، حتى ما اخترناه هنا، وقد يبدوا الخلاف واضحًا في كثير من المسائل النحوية الأخرى، ولكنه في مسائل "التنازع" أوضح وأفدح، كما يبدو في المراجع المطولة1، حيث يدور الرأس، وتضيق النفس.
ومن مظاهر الاضطراب أيضًا أن يحرموا هنا ما أباحوه في أبواب أخرى، فقد منعوا حذف ضمير الاسم المتنازع فيه إن كان أصله عمدة؛ كأحد مفعولي "ظن" وأخواتها، مع أنهم أباحوا ذلك في باب "ظن"2، ومنعوا حذف المعمول إن كان فضله، والمهمل هو المتأخر، مع أنهم أجازوه في الأساليب الأخرى التي ليست للتنازع، ومنعوا هنا الإضمار قبل الذكر في بضع الحالات، مع أنهم أباحوه في مكان آخر
…
و
…
وكأن اسم هذا الباب قد سرى إلى كل حكم من أحكامه.
ب– وأما التعقيد فلما أوجبوه مما ليس بواجب، ولا شبه واجب؛ فقد حتموا أن يكون ضمير الاسم المتنازع فيه واجب التأخير عنه حينًا – في رأي كثرتهم؛
1 كالأشموني وحاشيته، والتوضيح وشروحه وحواشيه، والجزء الثاني من الهمع و
…
و
…
2 سبقت الإشارة لهذا في رقم 3 من هامش ص 198.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قرارًا من الإضمار قبل الذكر، ومتقدمًا حينًا آخر إذا تعذر تأخيره لسبب ما تخيلوه، وربما استغنوا عن الضمير، وأحلوا محله اسمًا ظاهرًا مناسبًا إذا أدى الإضمار إلى الوقوع في مخالفة نحوية عندهم.
ولقد نشأ من مراعاة أحكامهم هذه أساليب بلغت الغاية في القبح، لا ندري: ألها نظير في الكلام العربي، أم ليس لها نظير؟ كقولهم ما نصه الحرفي:"استعنت واستعان علي زيد به"، "وطننت منطلقة وظننتي منطلقًا هند إياها"، "وأعلمني وأعلمته إياه إياه زيد عمرًا قائمًا"، "وأعلمت واعلمنى زيدًا عمرا قائمًا إياه إياه
…
و
…
و
…
"1، وهذا قليل من الأمثلة البغيضة، التي لا يطمئن المرء إلى أن لها نظائر في الأساليب المأثورة، ومن شاء زيادة عجيبة منها فليرجع إلى مظانها في المطولات.
ج– وأما الخضوع إلى الفلسفة العقلية الوهمية فواضح في عدد من مسائل هذا الباب؛ منها: تحتيمهم التنازع في مثل: قام وذهب محمد؛ حيث يوجبون أن يكون الفاعل: "محمد" لأحد الفعلين، وأما فاعل الآخر فضمير، ولا يبيحون أن يكون لفظ:"محمد" فاعلًا لهما؛ بحجة "أن العوامل كالمؤثرات فلا يجوز اجتماع عاملين على معمول واحد"2، ولا ندري السبب في منع هذا الاجتماع مع إباحته لو قلنا:"قيام محمد وذهب"، فإن فاعل الفعل:"ذهب" ضمير يعود على محمد، فمحمد في الحقيقة فاعل الفعلين؛ ولا يقبل العقل غير هذا
…
من كل ما سبق يتبين ما اشتمل عليه هذا الباب من عيوب الاضطراب؛ والتعقيد، والتخيل الذي لا يؤيده –في ظننا– الفصيح المأثور.
ومن سلامة الذوق الأدبي وحسن التقدير البلاغي الفرار "من محاكاة الصور البيانية، وأساليب التعبير الواردة بهذا الباب - ولو كان لها نظائر مسموعة – لقبح تركيبها، وغموض معانيها، وصعوبة الاهتداء إلى صياغتها الصحيحة
…
1 الأشموني – في هذا الباب – عند شرح بيت ابن مالك الذي شطره الأخير:
وأخرنه إن يكن هو الخبر
وكذا في المطولات الأخرى.
2 حاشية الصبان وغيره، وقد أجاز الاجتماع فريق آخر ودفع الإجازة فريق ثالث! وهكذا دواليك.
ولتدارك هذا كله، والوصول إلى أحكام واضحة، سهلة، لا غبار عليها من ناحية السلامة اللغوية، وقوة مشابهتها للكلام البليغ، وتناسقها مع الأحكام النحوية الأخرى – نرى أن تكون أحكام التنازع مقصورة على ما يأتي، "وكلها مستمد من آراء ومذاهب لبعض النحاة، تضمنتها الكتب المتداولة، وهذا ما نود التنويه به".
1-
تعريف التنازع: هو ما سبق أن ارتضيناه من مذاهب النحاة، ونقلناه أول هذا الباب1.
2-
تتعدد العوامل؛ فتكون اثنين، أو أكثر، وقد تتعدد المعمولات، أو لا تتعدد، ويشترط عند تعددها أن تكون أقل عددًا من عواملها المتنازعة.
3 كل عامل من العوامل المتعددة يجوز اختياره وحده للعمل في المعمول المذكور في الكلام، ولا ترجيح من هذه الناحية، لعامل على آخر.
4-
إذا تعددت العوامل وكان كل واحد منها محتاجًا إلى معمول مرفوع؛ "كاحتياجه إلى الفاعل في مثل: جلس وكتب المتعلم"، فالمرفوع الظاهر في الكلام يكون لأحدها، أما غيره من العوامل فمرفوعه ضمير يعود على ذلك الاسم المرفوع، ولا مانع ها من عودة الضمير على متأخر في الرتبة.
ويجوز أن يكون المرفوع الظاهر مشتركًا بين العوامل المتعدد كلها2؛ إذا كان متأخرًا عنها؛ فيكون فاعلًا –مثلًا– لها جميعًا، ولا يحتاج واحد منها للعمل في ضميره.
5-
إذا تعددت العوامل وكان وكان كل منها محتاجًا إلى معمول غير مرفوع جاز اختبار أحدهما للعمل، وترك الباقي من غير عمل، لا في ضمير المعمول، ولا في اسم ظاهر ينوب عنه؛ لأن الاستغناء عن هذا الضمير أو ما يحل محله من اسم ظاهر، وجائز في الأساليب الفصيحة الخالية من التنازع، فلا بأس أن يجري في التنازع أيضًا، وبضع المأثور من أمثلة التنازع يطابق هذا ويسايره، ولا فرق بين ما أصله عمدة، وما أصله فضلة، وإذا أوقع الحذف في لبس وجب إزالته بإحدى الوسائل التي لا تعقيد فيها، ولا تهوى بقوة الأسلوب، وحسن تركيبه.
1 ص187.
2 وتعدد العوامل مع وجود معمول واحد لها، وأي يبيحه ويصرح به بعض أئمة النحو، كالفراء -ومكانته بين كبار النحاة معروفة، وقد أوضحناها في جـ3 م98 ص158 باب:"أبنية المصادر".