الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة 90:
د– معاني1 حروف الجر، ووجوه استعمالها.
المشهور من حروف الجر عشرون، سردنا ألفاظها2، وأنواعها الثلاثة.
ونشير إلى أمرين:
أولهما: أن كل حرف من هذه العشرين، قد يتعدد معناه، وقد يشاركه غيره في بعض هذه المعاني، أي: أن المعنى الواحد قد يؤديه حرفان أو أكثر، وللمتكلم أن يختار من الحروف المشتركة في تأدية المعنى الواحد أو غير المشتركة، ما يشاء مما يناسب السياق، غير أن الحروف المشتركة في تأدية المعنى الواحد قد تتفاوت في هذه المهمة، فبعضها أقوى على إظهاره من غيرها، لكثرة استعمالها فيه، وشهرتها به، وهذه الكثرة والشهرة، تختلف باختلاف العصور والطبقات، ومن ثم كان من المستحسن بلاغة اختيار الحرف الأوضح، والأشهر وقت الاستعمال، دون الحرف الغريب، أو غير المألوف، برغم صحة استعمال كل منهما استعمالًا قياسيًا في المعنى الواحد، أما إذا اختلف الحروف في أداء المعاني فجيب الاقتصار على ما يؤدي المعنى المراد، واختياره وحده؛ ولهذا يجب تنويع حروف وتغييرها على حسب المعاني المقصودة.
ثانيهما: أن بضع حروف الجر يكثر استعماله في الجر حتى يكاد يقتصر عليه؛ مثل: من، إلى، عن، على، رب، في، وبعضًا آخر يقل استعماله فيه، وهذا ستة أحرف3 هي: خلا – عدا – حاشا – كي – لعل – متى.
غير أن الذي يكثر استعماله في الجر والذي لا يكثر سيان، من ناحية أن
1 سبقت إشارة إلى معنى الحرف، "في رقم3 من هامش ص435 ورقم1 من هامش436"، وسألنا هناك؛ أيكون لحرف الجر معنى واحد يقتصر عليه، أم له أكثر؟
وهل ينوب بعض حروف الجر عن بعض؟ وقلنا: إن الإجابة عن هذا في ص455.
2 في ص431 م89.
3 ولا يصح قصر عامل على حرف منها، ولا حبس حرف منها على عامل انظر البيان الخاص في رقم4 من هامش ص161.
استخدامها قياسي في الموطن المناسب للمعنى، لا يمنع منه مانع؛ حتى القلة المشار إليها، فإنها ليست من النوع الذي يمنع القياس والمحاكاة، إذ هي قلة نسبية لا ذاتية1 "أي: أنها تعتبر قليلة إذا قيست بالنوع الآخر الكثير، وليست قليلة في ذاتها، بل كثيرة بغير تلك الموازنة".
فأما الثلاثة الأولى من القسم القليل القياسي، فقد سبق إيفاؤها حقها من الإبانة والتفصيل في باب الاستثناء2.
وأما "كي" فحرف جر أصلي للتعليل لا يجر إلا أحد ثلاثة أشياء:
الأول: "ما" الاستفهامية التي يسأل بها عن سبب الشيء وعلته؛ كأن يقول شخص: قد لازمت البيت أسبوعًا، فيسأله آخر: كيمه3؟ بمعنى: لمه؟ أي: لماذا؟، ومثل: أقصد الريف كل أسبوع، فيقال: كيمه؟ أي: لمه؟.
و"كي" هذه تسمى: "كي التعليلية"؛ لأنها تدخل على استفهام يسأل به عن العلة والسبب كما سبق، فهي بمنزلة اللام الجارة التي تسمى:"لام التعليل" في معناها وعملها.
الثاني: "ما" المصدرية مع صلتها4؛ فتجر المصدر المنسبك منهما معًا؛ مثل: أحسن معاملة الناس كي ما تسلم من أذاهم، أي: لسلامتك من أذاهم. وتسمى: "كي المصدرية": لجرها المصدر المنسبك من الحرف المصدري مع صلته؛ فهي مثل "لام التعليل" معنى وعملًا.
الثالث: "أن المصدرية" مع صلتها4؛ فتجر المصدر المنسبك منهما
1 انظر الأشموني جـ3 أول باب الإضافة عند بيت ابن مالك: "وأما أكسب ثان أولًا
…
"، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في مواضع مختلفة من أجزاء الكتاب، "ومنها رقم2 من هامش ص386، ومنها مع الإيضاح جـ3 رقم1 من هامش ص 64 م 93 ورقم 4 من هامش ص 87 م 94".
2 ص 357 م 83 وأن الأفضل اعتبارها حرف جر أصلية، لا شبيهة بالزائدة "كما أشرنا قريبًا في رقم 2 من هامش ص 452".
3 أصل الكلام: كيما؟ أي: لما؟
…
ومن المعروف أن "ما" الاستفهامية إذا جرت تحذف ألفها، ويحل محل الألف "هاء السكت" الساكنة، بشطر أن تكون هذه الزيادة ي حالة الوقف على "ما" دون حالة اتصالها بما بعدها من الكلام.
4 و 4 سبق تفصيل الكلام على "ما" المصدرية بنوعيها، ومعناها، وطريقة استعمالها، وصوغ المصدر منها، وكذا أن، في جـ1 باب الموصول ص 269 م 27.
معًا؛ والغالب في هذه الصورة إضمار "إن" بعد "كي" مثل: أحسن السكوت كي تحسن الفهم، والأصل: كي أن تحسن الفهم، فالمصدر المنسبك من "أن" المضمرة، وصلتها في محل جر بالحرف:"كي"1، وهي أيضًا مثل "لام التعليل"، معنى وعملًا.
أي: أنها في المواضع الثلاثة السابقة تؤدي معنى واحدًا وعملًا واحدًا2
…
ومما تقدم نعلم أن: "كي" الجارة لا تجر اسمًا معربًا، ولا اسمًا صريحًا.
وأما لعل3، فحرف جر شبيه بالزائد، ومعناه الكثير هو: الترجي والتوقع4؛
1 هناك مذهب؛ يجعل "كي" هي الناصبة المصدرية، وقبلها لام التعليل مقدرة في هذا المثال وغيره مما لا يظهر فيه "أن" الناصبة، "كما سيجيء في رقم2 هنا" ولا مانع من الأخذ به، وهو ملخص لما في جـ 4 باب إعراب الفعل:"قسم النواصب".
2 يكثر في الأساليب الفصيحة إما وقوع لام الجر قبل: "كي" مباشرة؛ مثل: تنقلت في البلاد؛ لكي أستفيد خبرة، وإما وقوع "أن" المصدرية بعدها، دون أن تسبقها لام الجر، مثل: أتجنب السهر الطويل؛ كي أن أحتفظ بقوتي ونشاطي، وإما أن تقع قبلها لام الجر وبعدها "أن" المصدرية "وهذه الصورة قليلة بالنسبة للسابقتين" مثل: أواظب على نوع من الرياضة البدنية؛ لكي أن أفيد جسمي، فإن وجدت "لام" الجر وحدها قبل:"كي" وجب اعتبار "كي" حرفًا مصدريًا ناصبًا بنفسه: فيكون مثل "أن" المصدرية؛ معنى وعملًا؛ لأن حرف الجر لا يدخل في الغالب على مثله إلا لتوكيد لفظي، وإن وقعت بعدها:"أن" المصدرية ولم تسبقها "لام" الجر وجب اعتبارها حرف جر كـ"لام" التعليل معنى وعملًا، وهذا قليل قياسي كما سبق، فالأحسن اعتبارها جارة
للمصدر المنسبك بعدها مع تأكيدها للام الجر قبلها، ويجوز أن تكون مصدرية مؤكدة "بأن" بعدها، والمصدر المنسبك مجرور باللام التي قبلها.
فإن لم توجد "لام" الجر قبلها، ولا "أن" بعدها جاز اعتبارها مصدرية بتقدير "اللام" قبلها، أو حرف جر بتقدير:"أن" بعدها، راجع أحكامها في جـ4 باب النواصب.
3 تكثر فيها لغات أربع: إثبات اللام الأولى مفتوحة، مع تشديد الثانية مفتوحة أو مكسورة، وحذف الأولى مع تشديد الثانية مفتوحة أو مكسورة؛ فهذه اللغات الأربع، هي التي تستعمل بكثرة في الجر دون غيرها من باقي اللهجات، واستعمالها حرف جر مقصور على قليل من العرب، وهو مع جوازه وقياسيته غير خفيف على الأسماع، ولا سائغ اليوم، لغرابته.
4 سبق في الجزء الأول، باب:"إن" أن الترجي أو التوقيع، هو: انتظار حصول شيء مرغوب فيه، ميسور التحقق، ولا يكون إلا في الأمر الممكن. "ولعل" قد تكون أحيانًا للتعليل، أو: الظن
…
نحو: لعل الغائب قادم غدًا، فكلمة:"لعل" حرف جر شبيه بالزائد "الغائب" مجرور بها لفظًا في محل رفع مبتدأ، "قادم" خبره، غدًا ظرف زمان منصوب على الظرفية.
وأما "متى" فحرف جر أصلي1 ومعناه: الابتداء غالبًا نحو: قرأت الكتاب متى الصفحة الأولى حتى نهاية العشرين، أي: من ابتداء الصفحة الأولى
…
فهي في تأدية هذا المعنى مثل "من الابتدائية".
إلى هذا انتهى الكلام على الحروف التي تستعمل قليلًا في الجر، مع قياس استعمالها.
وننتقل إلى الكلام على الحروف الكثيرة الاستعمال فيه، فنوضح المعاني القياسية لكل واحد، وما قد يتصل بعمله.
ويلاحظ ما سبق2، وهو أن حرف الجر الأصلي حين يؤدي معنى فرعيًا من المعاني التي ستذكر لا بد أن يقوم في الوقت نفسه بتعدية عامله اللازم إلى مفعول به معنى3، وهذا المفعول المعنوي هو الاسم المجرور بالحرف الأصلي.
من: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويقع أصليًا وزائدًا
…
ويتردد بين أحد عشر معنى:
1– التبعيض، أي: الدلالة على البعضية، وعلامتها: أن يكون ما قبلها
1 يستعمله قليل من العرب دون كثرتهم، ومن هذا القليل قبيلة:"هذيل"، ومن كلامهم: "أخرجها متى كمه: أي: من كمه، وقول شاعرهم أبي ذؤيب الهذلي في وصف السحب المتراكمة فوق لجج البحر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت
…
متى لجج خضر لهن نئيج
يريد: من لجج
…
النئيج: الصوت العالي وجاء في الهمع جـ2 ص34 ما نصه: "إنها تأتي بمعنى: "وسط" حكى: "وضعها متى كمه" أي: وسطه، وإذا كانت بمعنى "وسط" هي اسم أو "من" فحرف، جزم به ابن هشام وغيره". ا. هـ.
ويرى بعض النحاة كالفراء أنها عند "هذيل" مقصورة على الاسمية الخالصة، بمعنى:"وسط"، فإذا اقتصرنا على هذا الرأي فهي معربة، وإن جرينا على الرأي الذي يجعلها صالحة للاسمية والحرفية فهي مبنية، ومع جواز استعماله أسمًا أو حرفًا وقياسيته فيهما، لا ترتاح له الأذن اليوم، لغرابته.
2 في ص 438.
3 انظر رقم3 من هامش ص473.
في الغالب جزءًا من المجرور بها، مع صحة حذفها ووضع كلمة:"بعض" مكانها؛ نحو: خذ من الدراهم، وكقولهم: ادخر من غناك لفقرك، ومن قوتك لضعفك؛ فالمأخوذ بعض الدراهم، والمدخر بعض الغني والقوة، ويصح وضع كلمة:"بعض" مكان كلمة: "من"، ومثل هذا قول الشاعر:
وإنك ممن زين الله وجهه
…
وليس لوجه زانه الله شائن
فالمخاطب جزء من الاسم المجرور بها؛ وهو: "من" الموصولة التي بمعنى "الذين"، وقد يكون ذلك الجزء متأخرًا عنها وعن الاسم المجرور بها، وفي اللفظ دون الرتبة؛ كقولهم:"إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الخلاق الملق"، فالكذب والملق متأخران في الترتيب اللفظي وحده، ولكنهما متقدمان في درجتهما؛ لأن كلًا منهما هو:"اسم إن"، والأصل في "اسم إن" تقدمه في الرتبة على خبرها1
…
2– بيان الجنس2، وعلامتها: أن يصح الإخبار بما بعدها عما3 قبلها؛ كقولهم: اجتنب المستهترين من الزملاء، فالزملاء فئة من جنس عام هو: المستهترون؛ فهي نوع يدخل تحت جنس "المستهترين" الشامل للزملاء وغير الزملاء. وكقولهم: تخير الأصدقاء من الأوفياء
…
أي: الأصدقاء الذين هم جنس ينطبق على فئة منهم لفظ: "الأوفياء"، وهذا الجنس عام، يشمل بعمومه الأوفياء وغيرهم.
3-
ابتداء الغاية4 في الأمكنة كثيرًا، وفي الأزمنة أحيانًا وهي في الحالتين
1 ومثل هذا المتأخر في اللفظ ما ورد في الأثر: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، والأصل: إنما يرحم الله الرحماء من عباده.
2 أي: بيان أن ما قبلها في الغالب جنس عام يشمل ما بعدها، فما قبلها أكثر وأكبر؛ كالمثال الأول الآتي، وقد يكون العكس، نحو: هذا السوار من ذهب، وهذا الباب من خشب، "وانظر رقم5 من هامش ص416".
3 له علامة أخرى: أن يصح حذف، "من" ووضع اسم مفعول مكانها مع ضمير يعود على ما قبلها، هذا إن كان ما قبلها معرفة، فإن كان نكرة فعلامتها أن يخلفها الضمير وحده؛ نحو: أساور من ذهب، أي: هي ذهب.
4 معنى الغاية هنا رقم ما سيجيء في2 من هامش ص468: المسافة المكانية حينًا، والمقدار الزمني حينًا آخر، على حسب الياق، بيان هذا: أن الفعل وشبيهه المتعدي بمن الجارة له معنى يستمر قليلا أو طويلا، وابتداء هذا المعنى هو الاسم المجرور بمن، وهذا الاسم هو الدال على زمان أو مكان كما في الأمثلة التالية. وليس المراد معناها الحقيقي الذي هو آخر الشيء، فالتسمية هنا من تسمية الكل باسم الجزء.
ومعناها هنا قد يختلف عنه في الظروف على حسب ما هو مبين في رقم2 من هامش ص292م 79.
قياسية، وهذا المعنى أكثر معانيها استعمالًا1؛ فمثال الأولى قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ؛ فابتداء مكان الإسراء هو المسجد الحرام، ونحو: جاءتني رسالة من فلان، فابتداء مكان المجيء هو فلان
…
ومثال الثانية قولهم: فلان ميمون الطالع من يوم ولادته، راجح العقل من أول نشأته
…
فابتداء زمان اليمن هو يوم ولادته، وابتداء زمان رجاحة العقل هو أول نشأته.
4– التوكيد، "ولا تكون معه إلا زائدة"، وزيادتها إما للنص على عموم المعنى وشموله كل فرد من أفراد الجنس، وإما لتأكيد ذلك العموم والشمول إذا كانا مفهومين من الكلام قبل دخولها، فالأول مثل:"ما غاب من رجل"، وأصل الجملة: ما غاب رجل، وهي جملة قد يفهم منها أن نفي المعنى منصب على رجل واحد دون ما زاد عليه، أي: أن رجلًا واحدًا هو الذي لم يغب، وأن من الجائز غياب رجلين أو رجال.
والسبب في اختلاف الفهم أن كلمة: "رجل" النكرة، ليست من النكرات الملازمة للوقوع بعد النفي، "وهي النكرات القاطعة في الدلالة على العموم والشمول بعد ذلك النفي، ويتحتم أن ينصب النفي الذي قبلها على كل فرد من أفراد مدلولها؛ وأن يمتنع معه الخلاف في الفهم؛ مثل: كلمة: أحد، وديار، وغريب، وإنما كلمة "رجل" من النكرات التي قد تقع بعد النفي، أو لا تقع، وإذا وقعت بعده لم تفد العموم والشمول الإفادة القاطعة التي تشمل كل فرد من الرجال إلا بقرينة، وإنما تفيدهما مع احتمال خروج بعض الأفراد من دائرة المعنى المنفي كما
1 ما معنى الحرف: "من" الداخل على المفضل عليه بعد أفعل التفضل؟ أمعناه: الابتداء أم المجاوزة؟ الجواب في رقم1 من هامش ص464.
أوضحنا، فإذا أردنا إزالة هذا الاحتمال، وجعل المعنى نصًا في العموم والشمول على سبيل اليقين أتينا بالحرف الزائد:"من" ووضعناه قبل هذه النكرة مباشرة، وقلنا:"ما غاب من رجل"؛ وعندئذ لا يصح أن يختلف الفهم، ولا أن يتنوع؛ إذ يتعين أن يكون المراد النص على عدم غياب فرد واحد، وما زاد عليه من أفراد الرجال، ومن ثم لا يصح أن يقال:"ما غاب من رجل، وإنما غاب رجلان أو أكثر"، منعًا للتناقض والتخالف، في حين يصح هذا قبل مجيء "من" الزائدة؛ لأن الأسلوب قبل مجيئها قد يحتمل أمرين؛ نفي الواحد دون ما زاد عليه؛ ونفيه مع ما زاد عليه معًا كما أسلفنا، وهذا معنى قولهم:"من الزائدة" تفيد النص على عموم الحكم، وشموله كل فرد من أفراد الجنس إذا دخلت على نكرة منفية لا تقتضي وجود النفي الدائم الشامل قبلها اقتضاء
محتومًا.
وعلى ضوء ما سبق تتبين فائدة "من" في قول الشاعر:
ما من غريب وإن أبدى تجلده
…
إلا تذكر عند الغربة الوطنا
وأما الثاني وهو: "تأكيد معنى العموم"
…
فمثل: "ما غاب من ديار"؛ من كل كلام مشتمل على نكرة لا تستعمل غالبًا إلا بعد النفي، أو شبهه "مثل: أحد – عريب - ديار
…
و
…
"، فإنها بعده تدل دلالة قاطعة على العموم والشمول، أي: أن كل نكرة من هذه النكرات، ونظائرها لا يراد منها فرد واحد من أفراد الجنس ينتفي عنه المعنى، وإنما يراد أن ينتفي المعنى عن الواحد وما زاد عليه، ففي المثال السابق قطع ويقين بأمر واحد؛ هو: عدم غياب فرد أو أكثر من الأفراد؛ فكل الأفراد حاضر لم يغب أحد، ولا مجال لاحتمال معنى آخر، فإذا أتينا بحرف الجر الزائد "من"، وقلنا: ما غاب من ديار لم يفد الحرف الزائد عنى جديدًا، ولم يحدث دلالة طارئة لم تكن قبل مجيئه، وإنما أفاد تقوية المعنى القائم وتأكيده، وهو النص على شمول المعنى المنفي وتعميمه؛ بحيث ينطبق على الأفراد كلها فردًا فردًا.
والفصيح الذي لا يحسن مخالفته عند استعمال "من" الزائدة أن يتحقق شرطان1:
1 هذا رأي البصريين ومن سايرهم من كثرة النحاة التي اقتصرت في الحكم على أغلب الوارد، وخالفهم الكوفيون ومن سايرهم فلم يشترطوا الشرطين.
وقوعها بعد نفي1 أو شبهة "وهو هنا: النهي2 وبضع أدوات الاستفهام"، وأن يكون الاسم المجرور بها نكرة، وهذا الاسم يكون مجرورًا في اللفظ لكنه مرفوع المحل إما؛ لأنه مبتدأ، أو أصله مبتدأ؛ في مثل قولهم: هل من صديق للواشي؟ وما من صاحب للنمام3، وإما؛ لأنه فاعل؛ في مثل قولهم: ما سعى من أحد من الشر إلا ارتد إليه سعيه وقد يكون مجرورًا في اللفظ منصوب المحل "إما؛ لأنه مفعول به، كقولهم: تأمل هذا الكون العجيب هل ترى من نقص أو قصور؟ وهل تظن من أحد يقدر على هذا الإبداع إلا الله؟ وإما؛ لأنه مفعول مطلق، نحو قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، أي: من تفريط.
ومن النادر الذي لا يقاس عليه، زيادتها في غير هذه المواضع الأربعة التي يكون الاسم فيها مجرورًا لفظًا كما سبق، لكنه في محل رفع مبتدأ، "الآن أو بحسب أصله" أو: فاعل، أول في محل نصب؛ لأنه مفعول به، أو مفعول مطلق
…
و
…
وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز في التابع أمران4؛ الجر مراعاة للفظ
1 فلا تزاد في الإثبات إلا في تمييز "كم" الخبرية إذا كان مفصولًا منها بفعل متعد لم يستوف مفعوله، فتجيء "من" وجوبًا؛ لكيلا يلتبس التمييز بمفعول الفعل المتعدي، وهي في هذه الصورة الواجبة زائدة، "كما يقول الصبان في هذا الموضع، أخذًا برأي فريق من النحاة، وكما سيجيء في ج 4 م 164 ص 528، باب: كنايات العدد
…
كم وأخواتها"، ونحو قوله تعالى:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ}
…
ونحو قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، وقد وردت زيادتها في قول زهير:
ومنهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد أجاز النحاة أن تكون: "من" زائدة بعد: "مهما"، "وسيجيء هذا في ج4 ص 326 م 155 باب الجوازم وص 381 ل م 161 باب "أما".
ومما تصلح فيه للزيادة مع وقوعها في الإثبات قوله: $"رحم الله امرأ أصلح من لسانه".
2 مثال النه: لا تظلم من أحد، ومثال الاستفهام "ولا يكون هنا إلا "بالهمزة" أو: هل" هل جاءك
…
، أو: أجاءك
…
من بشير؟
3 ومثل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} .
4 في هذا الحكم تفصيل هام سبق بيانه في رقم1 من هامش 69، واستيفاء الحكم يقتضي الرجوع إليه.
المتبوع، والرفع أو النصب مراعاة لمحله، نحو: ما للواشي من صديق مخلص، بجر كلمة:"مخلص"، أو برفعها، باعتبارها نعتا لكلمة:"صديق"، وكذا بقية التوابع، وباقي الأمثلة المختلفة، وأشباهها.
5-
أن تكون بمعنى كلمة: "بدل" بحيث يصح أن تحل هذه الكلمة محلها. كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} ، أي: بدل الآخرة.
6-
أن تكون دالة على الظرفية1، "أي: على أن شيئا يحويه آخر، كما يحوي الإناء ما في داخله، أو: كما يحوي الظرف وهو الغلاف المظروف، وهو الشيء الذي يوضع فيه"، نحو: ماذا أصلحت من حقلك، وغرست من جوانبه؟
أي: في حقلك
…
في جوانبه.
7– إفادة التعليل، فتدخل على اسم سببًا وعلة في إيجاد شيء آخر، نحو: لا تقوى العين على مواجهة قرص الشمس، من شدة ضوئها، ونحو: من كدك ودأبك أدركت غايتك، أي: بسبب شدة ضوئها
…
وبسبب كدك2
…
8– إفادة المجاوزة3، فتدخل على الاسم للدلالة على البعد الحسي أو المعنوي
1 فتكون: "من" بمعنى: "في" التي للظرفية، ويدخل في هذا النوع "من" الداخلة على: "قبل وبعد
…
والغالب في الداخلة على الظروف غير المتصرفة أن تكون للسببية، أي: بمعنى: "في" الدالة على السببية، أما مجيئها لابتداء الغاية فقليل؛ نحو: جئت من عندك، هب لي من لدنك وليًا "راجع حاشية الألوسي على القطر ص34"، وقد شرحنا معنى الغاية في رقم 292، وفي رقم 4 من هامش 459.
2 ومثل قول الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
…
وليس بموت المرء من عثرة الرجل
أعني: بسبب عثرة
…
3 المجاوزة كما قالوا ابتعاد شيء مذكور، أو غير مذكور، عما بعد حرف الجر؛ بسبب شيء قبله؛ فالأول، نحو: رميت السهم عن القوس، أي: جاوز السهم القوس بسبب الرمي، والثاني نحو: رضي الله عنك: جاوزتك المؤاخذة؛ بسبب الرضا، ثم المجاوزة قد تكون حقيقية كهذين المثالين، وقد تكون مجازية؛ نحو أخذت العلم عن العالم، كأنه لما علمت ما يعلمه قد جاوزه العلم بسبب الأخذ. "الصبان في باب حروف الجر، عند الكلام على الحرف: "عن" وهو الحرف الذي يكثر استعماله في المجاوزة، وأما غيره فلا يبلغ درجته"، وقد يراد بالمجاورة الابتعاد عن الشيء بسبب العجز عن الوصول إليه كقول أحد الشعراء.
هديتي تقصر عن همتي
…
وهمتي تقصر عن حالي
وخالص الود ومحض الثنا
…
أحسن ما يهديه أمثالي
"راجع معجم الشعراء، للمرزباني حرف الميم ص372".
بينه وبين ما قبله
…
نحو قوله تعالى: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} ، أي: عن هذا، بمعنى بعيدين عنه، وقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: عن ذكر الله.
ومثل: كلام الحمقى بمعزل من الصواب، أي: عن الصواب1
…
9– إفادة الاستعانة2 فتدخل على الاسم للدلالة على أنه الأداة التي استخدمت في تنفيذ أمر من الأمور؛ نحو: ينظر العدو إلى عدوه من عين ترمي بالشرر، أي: بعين
…
10– إفادة الاستعلاء، فتدخل على الاسم للدلالة على أن شيئًا حسيًا أو معنويًا وقع فوقه؛ نحو: قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} . أي: على القوم3
…
1 سبق سؤال "في رقم1 من هامش ص460" عن معنى الحرف: "من" الداخل على المفصل عليه بعد أفعل التفضيل، أهو للابتداء أم للمجاوزة؟ والجواب: أنه صالح لكل منهما كما سيجيء في ج3 باب: أفعل التفضيل م 112 ص 388 عند الكلام على أقسامه، فإذا كان للابتداء فهو لابتداء الارتفاع إذا كان السياق للمدح نحو: النشيط أفضل من الخامل، ولابتداء الانحطاط إذا كان السياق للذم، نحو: المنافق أضر من العدو، وإذا كان للمجاوزة فمعناه أن المفضل جاوز المفضول في الأمر المحمود أو المذموم.
2 فتشبه "الباء" في هذا.
3 وقد اقتصر ابن مالك على خمسة من المعاني السابقة: حيث يقول:
بعض، وبين، وابتدئ في الأمكنة
…
بمن، وقد تأتي لبدء الأزمنه
…
وزيد في نفي وشبهه؛ فجر
…
نكرة كما لباغ من مفر
فقد ضمن البيتين: البعضية، وبيان الجنس، وابتداء الغاية الزمانية أو المكانية، والزيادة بعد نفي أو شبهه مع جر النكرة، وهذه المعاني أربعة، أما الخامس وهو البدلية، فإنه سيذكره "في هامش ص487" بقوله:
"ومن" و"باء" يفهمان بدلًا
11– إفادة معنى القسم، ذلك أن بعض العرب يستعملها "مضمومة الميم أو مكسورتها" حرف قسم، ولا يكاد يجر إلا كلمة:"الله" نحو؛ من الله لأقاومن الباطل1، ويجب معه حذف الجملة القسمية، "فعلها وفاعلها".
"وسيجيء2 الكلام على بقية أدوات القسم بنوعيه وأحكامه".
هذا، وقد تتصل "ما" الزائدة بالحرف:"من"، فلا تخرجه عن معناه ولا عن عمله، بل يبقى له كل اختصاصه كما كان قبل مجيء هذا الحرف الزائد3؛ نحو: مما أعمال المسيء يلاقي جزاءه، أي: من أعمال المسيء؛ وبسببها4
…
1 ويجوز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله من الجر، كالشأن في جميع حروف القسم حين تجر لفظ الجلالة انظر رقم4 من ص532.
2 في رقم1 من هامش ص477 و497 وما بعدها:
3 انظر "أ" من الزيادة الآتية وقواعد رسم الحروف تقتضي وصلهما كتابة.
4 وسيشير ابن مالك إلى زيادة "ما" بعد "من" و"عن" و"الباء" ببيت سيجيء آخر الباب نصه: في هامش ص 494 و 515 و 529.
وبعد "من"، و"عن" و"باء" زيد "ما"
…
فلم يعق عن عمل قد علما
أي: لم يمنع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ– من الأساليب الواردة المأثورة: "مما" كالتي في حديث لابن عباس نصه:
"كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة إذا نزل عليه الوحي، وكان مما يحرك لسانه وشفتيه".
وكقول الشاعر:
وإنا لمما يضرب الكبش ضربة
…
على رأسه تلقي اللسان من الفم
و
…
و
…
وقد قيل: إن معنى "مما" هنا هو: "ربما" طبقًا لما بينه سيبويه في كتابه "جـ1 ص476"، وملخصه: أن "من" الجارة المكفوفة بالحرف "ما"1 قد تكون بمعنى "ربما"، واستشهد بالبيت السالف.
وقال ابن هشام في "المغني" عند الكلام على: "من" وعلى معناها العاشر: إنها تكون بمعنى "ربما"، وذلك إذا اتصلت بما؛ كالبيت السالف، ثم أردف هذا بقوله:"والظاهر: أن "من" في البيت ابتدائية و"ما" مصدرية، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب2
…
".
ب- إذا كان الاسم المجرور بالحرف: "من" مبدوءا بالأداة: "أل" التي ليست معدودة في حروفه الأصلية، فالأشهر فتح النون، مثل: قد نعرف
1 الفرق كبير في المعنى والعمل، أو عدمه بين "ما" هذه والتي في الصفحة السابقة.
2 تفصيل هذا البحث مدون في المجلد التاسع من مجلة المجمع اللغوي القاهري ص 116، وهو بحث مفيد قد اكتفينا بتقديم ملخص في الجزء الأول م42 ص 551 عند الكلام على:"كان" ومن تمام الاستفادة الرجوع إلى ذلك البحث المفيد، أو إلى ملخصه، وما فيهما من أمثلة وأساليب تتصل بما نحن فيه، وكذلك ما نقلناه عن "القاموس" من آخر جزئه الرابع باب: الألف اللينة، عند الكلام على أنواع "ما"، واستعمالاتها حيث يقول ما نصه:"إذا أرادوا والمبالغة في الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل كالكتابة، قالوا: إن زيدًا مما أن يكتب. أي: أنه مخلوق من أمر؛ ذلك الأمر هو الكتابة". ا. هـ.
ولهذا البحث إشارة موجزة في ص1 بمناسبة الكلام على الحرف: "رب".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
من الإذاعة ما لا نعرفه من الصحف، وغيره1.
والأحسن ألا تحذف النون إن وقع حرف مشدد بعد "أل" السالفة؛ نحو: لا تعجب من الشعوب إذا انتقمت من الظالم.
وإن وقع بعد: "من" حرف ساكن آخر تحركت النون بالكسر غالبًا نحو: عجبت من استهانة الإنسان بحقوق أخيه ومن استبداده به.
1 بعض القبائل يحذف النون في هذه الصورة، وبها جاء قول النابغة الجعدي:
ولقد شهدت عكاظ قبل محلها
…
فيها وكنت أعد ملفتيان
أي: من الفتيان، وقول عبد الرحمن بن حسان في مدح آل سعيد بن العاص:
أعفاء تحسبهم ملحيا
…
ء ومرض تطاول أسقامها
أي: من الحياء، وكذلك المنتبي حيث يقول:
نحن ركب ملجن في زي ناس
…
فوق طير لها شخوص الجمال
أي: من الجن، وقول أبي القاسم بن هانئ:
إذا لم تنل بالعلم مالًا ولا علًا
…
ولا جانيًا ملأجر فالعلم كالجهل
يريد: من الأجر.
إلى: حرف جر أصلي1 يجر الظاهر والمضمر، وينتقل بين معان أشهرها ستة:
1– انتهاء الغاية2 مطلقًا؛ "أي: سواء أكانت الغاية في زمان أم مكان؛ وسواء أكانت" هي الآخر الحقيقي لما قبل "إلى" أم ليست الآخر الحقيقي، ولكنها متصلة به اتصالًا قريبًا أو بعيدًا"، وهذا المعنى أكثر استعمالات الحرف إلى؛ فمثال انتهاء الغاية الحقيقية الزمانية: نمت الليلة إلى طلوع النهار، ومثال انتهاء الغاية الزمانية المتصلة بالآخر اتصالًا قريبًا: نمت الليلة إلى سحرها3، ومثال انتهاء الغاية الزمانية البعيدة من الآخر نمت الليلة إلى نصفها أو ثلثها و
…
و
…
ومثال انتهاء الغاية المكانية الحقيقية: عربت الطريق إلى الجانب الآخر محترسًا، ومثال انتهاء الغاية المكانية المتصلة بالآخر: قرأت الكتاب إلى خاتمته، ومثال انتهاء الغاية المكانية البعيدة من الآخر، قرأت الكتاب إلى ثلثه.
والغالب أن نهاية الغاية نفسها لا تدخل في الحكم الذي قبل "إلى" ما لم توجد قرينة تدل على دخوله، فإذا قلت: قرأت الكتاب إلى الصفحة العاشرة، فالمقصود غالبًا في مثل هذا الاستعمال أن الصفحة العاشرة لم تقرأ، فهي خارجة من الحكم الذي ثبت لما قبل "إلى"، وكذلك لو قلت: صمت الأسبوع الماضي إلى يوم الخميس؛ فإن يوم الخميس لا يدخل غالبًا في أيام الصيام، فإذا وجدت قرينة تدل على دخولها كانت داخلة؛ مثل: صمت الشهر المفروض من أوله إلى اليوم الأخير، ومثل: أكملت قراءة الكتاب كله من أوله إلى الصفحة الأخيرة
…
لأن صيام الشهر المفروض يقتضي صوم اليوم الأخير منه، وإكمال الكتاب كله
1 سيجيء في الزيادة ص471 أن بعض النحاة يجيز زيادته، وأن رأيه مردود.
2 سبق في رقم4 من هامش ص459 أن الغاية في هذا الباب، هي: المسافة المكانية حينًا، والمقدار الزمني حينًا آخر على حسب السياق، وأنها تختلف عن الغاية في الظروف، "وقد سبق بيانها في رقم2 من هامش ص292"، والمراد بانتهاء الغاية هنا أن المعنى قبل:"إلى" ينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور بعدها، واتصاله به.
ويبين حروف الجر ثلاثة تشترك في انتهاء الغاية؛ "هي: إلى اللام في ص472 حتى، في من ص482"، وسيجيء البيان الخاص بكل حرف.
3 السحر: الثلث الأخير من الليل.
يقتضي قراءة الصفحة الأخيرة منه1
…
2-
المصاحبة2، كقولهم: من قعد عن طلب الزرق أساء أهله إلى نفسه، وعذبهم إلى عذابه، أي: مع نفسه
…
ومع عذابه
…
وكقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، أي: مع الله.
3– التبيين، "فتبين أن الاسم المجرور بها فاعل في المعنى لا في الصناعة النحوية، وما قبلها مفعول به في المعنى لا في الصناعة كذلك، وذلك بشرط أن تقع بعد اسم التفضيل، أو: فعل التعجب، المشتقين من لفظ يدل على الحب أو: البغض، وما بمعناهما، كالود والكره
…
"، كقولهم: "احتمال المشقة أحب إلى النفس الكريمة من الاستعانة بلئيم الطبع، فما أبغض الاستعانة به إلى نفوس الأحرار!! "، فكلمة: "نفس"، هي الفاعل المعنوي لا النحوي لاسم التفضيل "أحب"؛ لأنها في الواقع هي فاعلة الحب، أو: هي التي قام بها الحب، وكذلك كلمة "نفوس"، فإنها الفاعل المعنوي "لا النحوي" لفعل التعجب: "أبغض"؛ إذ هي فاعلة البغض حقيقة، أو: هي التي قام بها البغض، والذي قطع في الحكم بفاعليتها المعنوية، ومنع كل احتمال آخر هو وقوعهما بعد حرف الجر: "إلى" الذي من وظيفته القطع في مثل هذا الأسلوب الذي يحتاج إلى تيقظ، لدقته3؛ ولأنه قد يلتبس بما يقع فيه حرف "اللام"
1 انظر الفرق بين "إلى" و"حتى" في هذا وفي غيره "رقم4 من هامش ص482".
2 انضمام شيء لآخر انضمامًا يقتضي تلازمها في أمر يقع عليهما معًا، أو يقع منهما معًا على غيرهما، او يتصل بهما بنوع من أنواع الاتصال، وعلامة المصاحبة: أن يصح حذف حرف الجر ووضع كلمة: "مع" مكانه؛ فلا يتغير المعنى، وقد يعبر عن "المصاحبة" بكلمة:"المعية" كما ورد في الخضري ج1
باب: المفعول معه"، حيث قال: "المعية"، ومثل لما بقوله: "بعت العبد بثيابه". ا. هـ أي، مع ثيابه.
3 ضابط ذلك: أن نجعل مكان اسم التفضيل أو فعل التعجب فعلًا من مادتهما ومعناهما، يكون فاعله النحوي هو الاسم المجرور بالحرف "إلى"، ومفعوله هو الكلام السابق على التفضيل، أو اللاحق لفعل التعجب، فإن صح المعنى واستقام كان مجيء "إلى" ملائمًا، وإلا وجب العدول عنها، ففي المثال المذكور
نقول: تحب النفي الكريمة احتمال المشقة
…
تبغض نفوس الأحرار الاستعانة
…
وما سبق من معنى "التبيين" في "إلى" يختلف عن معناها في "اللام الجارة"، وسيجيء في رقم15 من ص478 وكلاهما يوضح المراد من الآخر.
مكان "إلى"، "وسيأتي الكلام عليه في اللام"1.
4– الاختصاص "أي: قصر شيء على آخر، وتخصيصه به"، كقولهم: الأب راعي الأسرة؛ وأمرها إليه، والحاكم راعي المحكومين، وأمرهم إليه
…
فليتق الله كل راع في رعيته.
5– الظرفية2: كقولهم: سيجمع الله الولاة إلى يوم تشيب من هوله الولدان
…
أي: في يوم.
6-
البعضية، "وهذا قليل في المسموع"3، نحو: شرب العاطش فلم يرتو إلى الماء، أي: من الماء.
1 ص 478.
2 سبق شرحها في رقم6 من ص465، وهي من المعاني الدقيقة التي يؤديها الحرف "إلى"، ومما يحتمل هذا المعنى قول النابغة الذبياني.
فلا تتركني بالوعيد كأنني
…
إلى الناس مطلي به القار، أجرب
وقول طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
…
إلى ذروة البيت الكريم المصمد
يريد: في الناس
…
في ذروة
…
3 فلا يحسن القياس عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ– جعل بعض النحاة من معاني: "إلى" أن تكون بمعنى: "عند1" مستدلًا بمثل قول القائل:
أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره
…
أشهى إلي من الرحيق السلسل
وأن تكون زائدة؛ مستدلًا بقراءة من قرأ قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، بفتح الواو، أي: تهواهم
…
وقد دفع ذلك الرأي بأن الشاهد الأول وقعد فيه "إلى" للتبيين؛ لأن ما بعدها وهو باء المتكلم فاعل معنوي على الوجه المشروح الحالة الثالثة السالفة، وأن الشاهد الثاني:"الآية" وقع فيه الفعل، "تهوى" مضمنًا، معنى:"تميل" فلا تكون "إلى" زائدة، وهذا رأي حسن يقتضينا أن نأخذ به؛ فرارًا من الحكم بالزيادة من غير ضرورة.
ب– يجب قلب ألفها2 ياء إذا كان المجرور بها ضميرًا، نحو: نقصد الوفود إلينا من بلاد بعيدة، فتقدم إليهم ضروب المجاملة الكريمة.
فإن كان الضمير ياء المتكلم أدغمت الياءان؛ نحو: إلي يتجه الخائف.
1 سبق الكلام على "عند" في باب الظرف مع نظائرها من الظرف ص291 من هذا الجزء.
2 وهي المكتوبة ياء؛ تبعًا لقواعد رسم الحروف.
اللام: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويقع أصليًا وزائدًا1
…
، ويؤدي عدة معان قد تجاوز العشرين.
1-
انتهاء الغاية2 "أي: الدلالة على أن المعنى قبل اللام ينتهى، وينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور بها، الداخل في ذلك المعنى"، نحو: صمت شهر رمضان لآخره، وقرأت الكتاب لخاتمته
…
واستعمالها في هذا المعنى قليل بالنسبة لباقي معانيها، ولكنه مثل كل معانيها المختلفة قياسي "كما سبق"3.
2-
الملك؛ وتقع بين ذاتين، الثانية منهما هي التي تملك حقيقة، نحو: المنزل لمحمود، وهذا المعنى أكثر استعمالاتها.
3– شبه الملك؛ وتقع: إما بين ذاتين، والثانية منهما لا تملك ملكًا حقيقيًا؛ وإنما تختص بالأولى، وتقتصر الأولى عليها، دون تملك حقيقي من إحداهما للأخرى؛ نحو:"السرج للحصان – المفتاح للباب – الباب للبيت"، وإما قبلهما نحو: للصديق ولد نبيه، حيث تقدمت "اللام" على الذاتين
…
، وإما بين معنى وذات؛ نحو الحمد للأمهات، والشكر للوالدين
…
وتسمى هذه اللام بصورها الثلاثة: لام الاستحقاق، أو: لام الاختصاص.
4– الدلالة على شبه التمليك؛ نحو: جعلت للمحتاج عطاء ثابتًا، فالعطاء الذي يأخذه المحتاج يصير ملكًا له، يتصرف فيه تصرف المالك الحر كما يشاء.
5-
الدلالة على شبه التمليك؛ نحو: جعلت لك أعوانًا من أبنائك البررة، فالأعوان هنا بمنزلة الشيء المملوك، ولكنه ليس ملكًا حقيقيًا تقع عليه التصرفات
1 من أي النوعين لام الاستغاثة الداخلة على المستغاث؟ وهل تحتاج مع مجرورها إلى تعليق؟
الإجابة تحتاج إلى تفصيل، وسرد بعض أحكام مختلفة، وقد عرضنا لكل هذا في الباب المناسب، وهو: باب: "الاستغاثة""ج 4 م 133 ص 87".
2 فهذا الحرف مثل: "إلى" في هذا المعنى الذي سبق إيضاحه في رقم4 من هامش459، وفي رقم2 من هامش ص468، ومثل "حتى فيه، وسيجيء الكلام عليها، في ص 482 والثلاثة مشتركة في هذا المعنى دون بقية حروف الجر، كما قلنا.
3 في ص 455.
المختلفة، وإنما يشبهه من بعض الوجوه دون بعض1.
6– الدلالة على النسب؛ نحو: لفلان أب يقول الحق، ويفعل الخير، أي: ينتسب فلان لأب1
…
7– التعدية2 المجردة؛ نحو: ما أحب العقلاء للصمت المحمود، وما أبغضهم للثرثرة.
8– التعليل؛ بأن يكون ما بعدها علة وسببًا فيما قبلها، نحو: الاكتساب ضروري، لدفع الفاقة وذل الحاجة3.
9-
التوكيد المحض، وتكون في هذه الحالة زائدة زيادة محضة لتأكيد معنى الجملة كلها، لا معنى العامل وحده كما شرحنا4، ويجري عليها ما يجري على حرف الجر الزائد4، وأكثر ما تكون زيادتها بين الفعل ومفعوله؛ نحو قول الشاعر:
وملكت ما بين العراق ويثرب5
…
ملكًا أجار6 لمسلم ومعاهد
أي: أجار مسلمًا ومعاهدًا7، وقول الشاعر في الغزل:
1،1 الحق أن المعاني الثلاثة "التمليك – شبه – النسب" متقاربة، ويمكن الاستغناء عنها بعد إلحاقها بحروف أخرى، ولكنها مع اللام أوضح؛ فنسبت إليها، ولقد قيل: إن كل معنى من المعاني الثلاثة يستفاد من الجملة كلها، لا من اللام وحدها وهذا صحيح، وقد أجابوا بأن فهم هذا المعنى من التركيب متوقف على "اللام" فنسب إليها.
2 إذا كانت لمجرد التعدية فما بعدها في حكم المفعول به معنى، وإن كان مجرورًا كما سبق في أول هذا الباب، ص437 و439، وفي باب:"التعدي واللزوم"، ص151.
وكونها هنا للتعدية المجردة لا ينافي أنها في بقية مواضعها للتعدية أيضًا مع إفادتها شيئًا آخر في الوقت نفسه، كما جاء في حاشية الصبان.
3 ما بعدها هو السبب هنا؛ لأن السبب لا بد أن يظهر في الوجود قبل المسبب، والرغبة في دفع الفاقة سابقة على وجود الاكتساب.
4و4 في ص 450، ومنه يعلم: أن حرف الجر لزائد زيدة محضة لا يفيد إلا توكيد المعنى العام في الجملة كلها، وأنه لا يتعلق بعامل، وأنه يمكن الاستغناء عنه، دون أن يتأثر الكلام بحذفه
…
و
…
و
…
5 اسم للمدينة المنورة.
6 أجاره: نصره وحماه.
7 يستدل النحاة بالبيت السالف على زيادة "اللام" كما قلنا لكن البيت للشاعر "ابن ميادة" من أبيات يمدح بها أمير المدينة، وبعده:
ماليهما ودميهما من بعدما
…
غشي الضعيف شعاع سيف المارد
وهذا يجعل الحكم بزيادة اللام غير مقطوع به، إذ يصح أن يكون "المفعول به"
هو"ماليهما"
…
إلا أن أعربنا هذه الكلمة "بدلًا" من "مسلم"
…
فالاستشهاد
بالبيت السالف استشهاد بما يقبل الاحتمال من غير داع، ولا يصلح للقطع.
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
…
تمثل لي ليلى بكل سبيل
…
1
فالفعل: "أريد" متعد يحتاج للمفعول به، ومفعوله الذي يكمل المعنى هو المصدر المؤول بعد "لام التعليل" الجارة، والأصل: أريد أن أنسى، واللام زائدة بينهما. أو بين المتضايفين؛ كقولهم: لا أبا لفلان، على الرأي الذي يعتبرها زائدة2.
وقد أجازوا زيادتها3 للضرورة الشعرية بين المنادى المضاف والمضاف إليه، كقول الشاعر4 في فتاة:
لو تموت لراعتني، وقلت: ألا
…
يا بؤس للموت، ليت الموت أبقاها
وقول الآخر5:
يا بؤس للجهل ضررًا لأقوام
…
ومن المستحسن اليوم الاقتصار في الزائدة على المسموع6؛ مبالغة في الاحتياط.
1 سيذكر البيت لمناسبة أخرى في هامش ص476.
2 وهو أحد الأوجه التي أوضحناها، وشرحنا معها الأسلوب، والمراد منه، في ج 1 باب:"السماء الستة" م8 ص99.
3 كما سيجيء في جـ3 باب: "الإضافة" وفي جـ4 باب: "النداء".
4 هو أبو جنادة العذري من الشعراء الذين أدركوا الدولة الأموية.
5 هو النابغة الذبياني، وصدر البيت:
قالت بنو عامر خالوا بني أسد
…
إلخ: خالي فلان قبيلته: تركها، والمراد: اتركوا بني أسد
…
6 ومن المسموع زيادتها بعد الفعل: "أعطى"، وهو من الأفعال التي تنصب مفعولين في الأصل، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
أحجاج لا تعط العصاة مناهم
…
ولا الله يعطي للعصاة مناها
وقال آخر من أصحاب المبرد:
ولكنني أعطي صفاء مودتي
…
لمن لا يرى يومًا علي له فضلا
وانظر ما يتصل بهذا في آخر رقم4 من هامش ص20 حيث المنقول عن: "المغني" و"الصبان"
…
10-
التقوية، وهي التي تجيء لتقوية عامل ضعيف؛ إما بسبب تأخره عن معموله، نحو، قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 1، وقوله تعالى:{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ، وإما بسبب أنه فرع مأخوذ من غيره، كالفروع المشتقة؛ مثل قوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، وقوله:{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} ، وقول علي رضي الله عنهم:"لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به"، فأصل الكلام في الآيتين الأوليين: إن كنتم تعبرون الرؤيا يرهبون ربهم
…
فلما تقدم كل من المفعولين على فعله ضعف الفعل بسبب تأخيره عن معموله "مفعوله"؛ فجاءت اللام لتقويته2، وأصل الكلام في الآيتين الأخيرتين وفي كلام علي: فعال
1 الرؤيا هنا: الحلم المنامي، وتعبيره: تفسيره.
2 تخصيص اللام بمعنى "التقوية" على الوجه الذي يقوله كثير من النحاة، تخصيص لا مسوغ له، فليست "لام التقوية" نوعًا مستقلًا يخالف "اللام الزائدة" في قليل أو كثير كما سيبين مما يلي هنا، وفي هامش الصفحة الآتية مباشرة. وقد سبق أن أشرنا باختصار في رقم2 من هامش ص435 إلى أن اللام التي تفيد التقوية زائدة زيادة غير محضة، "أي: أنها زائدة شبيهة بالأصلية"؛ لأنها تفيد عاملها لا الجملة معنى جديدًا: هو: "التقوية" ومن أجل هذا المعنى تتعلق بعاملها فأشبهت حرف الجر الأصلي في جلب معنى جديد يكمل العامل، وفي التعلق بهذا العامل، ولكنها من ناحية أخرى يمكن حذفها لا يتأثر المعنى بحذفها، لكل ما سبق لم تكن زيادتها محضة "راجع الصبان والتصريح عند كلامهما على "لام الجر" ثم "المغني"".
ومما تجب ملاحظته أن لام التقوية لا تدخل على مفعولي عامل ينصب مفعولين مذكورين بشرط أن يتقدما عليه معًا، أو يتأخرا عنه معًا، فمتى وجد المفعولان كذلك، فلن يصح دخولها عليهما معًا، ولا على أحدهما، وإذا حذف أحدهما أو تقدم، صح دخولها على الذي لم يحذف، وكذا على المتقدم منهما، كما في الصبان، ومقدمة الجزء الأول من "المغني" التي جاء فيها على لسان ابن هشام ما نصه:
"وها أنا بائح بما أسررته، مفيد لما قررته وحررته"، فقال العلامة الأمير تعقيبًا عليه ما نصه:
"اللام في قوله: "لا" مقوية؛ إذ مادة الإفادة تتعدى بنفسها، لا يقال: إنها تتعدي لمفعولين؛ تقول: أفدت محتاجًا مالًا؛ وما يتعدى لمفعولين لا يقوى باللام؛ لأنا نقول محل ذلك إذا كان المفعولان مذكورين، مقدمين، أو مؤخرين عن العامل، كما يفيده كلام ابن مالك في تعليل منع ذلك؛ لأن اللام إما أن تزاد فيهما؛ فيلزم تعدي عامل واحد بحرفي جر متحدين، وهذا ممنوع في الأغلب وإما أن تزاد في أحدهما؛ فيلزم الترجيح بلا مرجح، فإن كان أحدهما محذوفًا كما هنا
…
"فإنه حذف من يفاد وهو الشخص المستفيد، لعدم تعلق غرض به وذكر ما يفاد، وهو الشيء المفيد
…
"، فإن "اللام" تدخل على المذكور؛ لأن المحذوف حينئذ قطع النظر عنه، سواء نزلت العامل بالنظر للمحذوف منزلة اللازم أو لا. وكذلك إذا تقدم أحدهما دخلت عليه اللام؛ لأن العامل عن المقدم أضعف، أو نائب أحدهما عن الفاعل، نحو: محمود مفاد مالًا، دخلت على المنصوب؛ لأن طلبه المرفوع أقوى". ا. هـ.
هذا، ومما يصلح عندهم أن تكون اللام فيه للتقوية قولهم في الدعاء:
"سقيًا للمحسن ورعيًا له"، وفي هذا الأسلوب وأمثاله، تفصيلات معنوية، وأحكام إعرابية مختلفة، أوضحناها كاملة في ج 1 م 39 ص 468.
ما يريد مصدقًا ما معهم، التاركينه
…
فكلمة: "فعال" صيغة مبالغة متعدية، تعمل عمل فعلها، ولكنها أضعف منه، فجاءت اللام لتقويتها.
وكذلك كلمة: "مصدقًا"، وكلمة "التاركين" وكلاهما اسم فاعل1
…
1 هذا كلام كثير من النحاة، ويزيدون أن حرف الجر أصلي هنا؛ فهو مع مجروره متعلقان بالعامل الضعيف
…
وكلامهم مردود بما سردناه في رقم 2 من هامش ص 184، وبما نسرده هنا: فما معنى التقوية إذا كان من الممكن الصحيح حذف هذه اللام، وتعدية الفعل أو المشتق إلى المفعول به مباشرة من غير حاجة إليها، ما دام العامل معدودًا في اللغة من العوامل المتعدية بنفسها؛ فتقول؛ {إن كنتم الرؤيا تعبرون – ربهم يرهبون – مصدقا لما معهم – فعال ما يريد}
…
فيصل بنفسه الفعل أو المشتق إلى المفعول به بغير حاجة إلى هذه الواسطة؛ سواء أكان هذا العامل متقدمًا أم متأخرًا؟ وكيف تكون اللام للتقوية مع أن الاسم قبل مجيئها كان مفعولًا به منصوبًا، فلما جاءت جرته؛ فصار مفعولًا به في المعنى دون اللفظ، ولا شك أن العامل الذي يؤثر في مفعوله لفظًا ومعنى أقوى من العامل الذي يؤثر فيه معنى فقط
…
، وكان الأولى بالنحاة أن يقولوا: إن هذه اللام تزاد جوازًا في المفعول به إذا تقدم على عامله الفعل، كما تزاد في المفعول به إذا كان عامله وصفًا ينصب المفعول به متقدمًا أو متأخرًا، وأن الار والمجرور لا يتعلقان؛ لأن حرف الجر زائد، وأن المجرور لفظًا منصوب محلًا.
على أن الرأي الأقرب للسداد هو ما سجله "المبرد" في كتابه: "الكامل""جـ 3 ص 36 الطبعة القديمة بمطبعة الفتوح"، ونصه عند شرح لقول أبي النجم الشاعر:"سبي الحماة وابهتى عليها" أن الأصل هو: "وابهتيها"، فوضع "ابهتي" في موضع:"اكذبي" فمن ثم وصلها بعلي، والذي يستعمل في صلة الفعل "اللام"؛ لأنها لام الإضافة؛ تقول: لزيد ضربت، ولعمرو أكرمت، والمعنى: عمرا أكرمت، وزيدًا ضربت، فإنما تقديره: إكرامي لعمرو، وضربي لزيد: فأجرى للفعل مجرى المصدر، وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدم المفعول؛ لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام: كما قال الله عز وجل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} ، وإن أخر المفعول فعربي حسن، والقرآن محيط بكل اللغات الفصيحة، قال الله عز وجل:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، والنحويون يقولون في قوله تعالى:{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ} إنما هو: ردفكم، وقال كثير عزة:
أريد لأنسى ذكرها، فكأنما
…
تمثل لي ليلى بكل سبيل
ا. هـ، كلام المبرد في الكامل، وسيذكر البيت: "سبي الحماة
…
" لمناسبة أخرى في هامش ص540.
وشيء آخر: جاء في مجلة المجمع اللغوي بدمشق "جـ4 ص182" بقلم الأب أنستاس الكرملي، العضو السابق بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، والعراق، وغيرهما، ما نصه: "زعموا أنه لا يقال: يمكن لأحدكم
…
"، وعندي أنه يجوز. والنحاة تسمي هذه اللام: "اللام المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله، وهي كثيرة الورود في كلامهم، وإن أنكرها المرحوم "إبراهيم البازجي". ا. هـ.
11-
الدلالة على القسم1 والتعجب معًا، بشرط أن تكون جملة القسم محذوفة، وأن يكون المقسم به هو لفظ الجلالة؛ كقولهم:"لله! ! لا ينجو من الزمان حذر"، يقال هذا في عرض الحديث عن رجل حريص يتوقى أسباب الضرر جهد استطاعته، ولكنه بالرغم من ذلك يصاب.
وقولهم: "لله! ! انتصرت الفئة القليلة المؤمنة بحقها على الفئة الكبيرة المختلفة". وهذا يقال في معرض الكلام عن قلة متوحدة؛ مؤتلفة، لم يكن أحد ينتظر لها الفوز والغلبة، على كثرة تفوقها عدة وعديدًا، فلا بد من قرينة تدل على معنى القسم والتعجب المجتمعين في "اللام".
وبغير القرينة لا يتضح هذا المدلول.
ومن الجائز أن تحذف هذه اللام، ويبقى المقسم به على حاله من الجر بشرط أن يكون لفظ الجلالة.
12-
الدلالة على التعجب بغير قسم، بشرط القرينة أيضًا؛ ويكون بعد النداء كثيرًا؛ نحو: يا للأصل2 وما به من روعة يا للكشف العلمي وما انتهى إليه. ويكون بعد غيره، نحو: لله در فلان شجاعًا في الحق، لله أنت معوانًا في الخير 3
…
1 حروف القسم المشهورة هي: "الباء – التاء – الواو – اللام" إلا أن اللام تنفرد بأنها تدل على التعجب مع القسم، أما غيرها فمعناه مقصور على القسم وحده، وسيأتي تفصيل الكلام على كل واحد من الأربعة، وأوجه الشبه والمخالفة بينه وبين إخوته، وهناك حرف خامس سبقت الإشارة إليه في ص 465 هو:"من"، فقليل من العرب يستخدم هذا الحرف "بكسر ميمه أو ضمها" أداة قسم، قد حذف فعل القسم وفاعله وجوبًا، فيقول: من الله لأنصرن النزيه، أي: والله، ولا يكاد يكون القسم معه بغير الله.
وأندر من هذا الحرف استعمال القدماء الحرف "ها" للقسم بعد "إي" التي بمعنى: "نعم" وبدونها
…
جاء في الأمالي "جـ 1 ص 172" أن أعرابيًا قال لآخر: أنشدنا رحمك الله، وتصدق على هذا الغريب بأبيات
…
فقال: إي: ها الله إذًا
…
"انظر البيان الخاص بها في ص 506 رقم 3 من هامشها".
2 الوقت بعد العصر إلى المغرب، ويجوز في اللام هنا الفتح أو الكسر إذا كان المنادى مقصودًا به التعجب. "انظر جـ4 ص66 م134".
3 ويصح أن يكون من هذا ما يرد في بعض النصوص القديمة، من مثل قول الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
…
عني، ولا أنت دياني فتخزوني
والأصل: الله ابن عمك، بحذف لام الجر قبل لفظ الجلالة.
13– الدلالة على العافية المنتظرة، "أي: على النتيجة المرتقبة، أو: الصيرورة". نحو: "سأتعلم للحياة السعيدة، وأتنقل في جنبات المعمورة لتحصل أنفع التجارب"، ونحو: "ربيت النمر لهجوم علي"، يقول هذا من صادف نمرًا صغيرًا فأشفق عليه وتعهده، وخدع فيه، ثم غدر به النمر، فكأنه يقول ساخطًا متهمكًا: ربيته، فكانت عاقبة التربية ونتيجتها الهجوم علي، ونحو: "أربي هذا الولد الضال ليسرقني، ويفر كأخيه"، يقول هذا من يؤدي إليه شريدًا، ويحسن إليه، وهو يتوقع أن يغافله، ويسرقه، ويهرب، كما فعل أخوه من قبل: وتسمى اللام في الأمثلة السابقة وأشباهها: لام "الصيرورة" أو: "العاقبة"؛ لأنها تبين ما صار إليه الأمر، وتوضح عاقبته1
…
14– الدلالة على التبليغ؛ وهي الدالة على إيصال المعنى إلى الاسم المجرور بها؛ نحو: قابلت صديقك، ونقلت له ما تريد أن أنقله2
…
"وقد يسميها لذلك بعض النحاة "لام التعدية" يريد: إيصال المعنى وتبليغه".
15– الدلالة على التبيين؛ أي: إظهار أن الاسم المجرور بها هو في حكم المفعول به معنى، وما قبلها هو الفاعل في المعنى كذلك، بشرط أن تقع بعد اسم تفضيل أو فعل تعجب، مشتقين من لفظ يدل على الحب، أو البغض، وما بمعناهما؛ كالود، والكره، ونظائرهما
…
، نحو:"السكون في المستشفى أحب للمرضى، وإطالة زمن الزيارة أبغض لنفوسهم"، فالمجرور باللام في المثالين وأشباههما في حكم المفعول به من جهة المعنى "لوقوع أثر الكلام السابق عليه" لا من جهة الإعراب، فكلمة "السكون" هي الفاعل المعنوي لا النحوي الذي أوجد الحب، وكان سببًا فيه، وكلمة:"المرضى" هي المفعول به المعنوي لا النحوي الذي وقع عليه الحب، وأنصب عليه أثره، ومثل هذا يقال في
1 ومنها قوله تعالى في موسى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} .
2 ومثلها التي في صدر البيت الآتي لشوقي:
"قل للمشير إلى أبيه وجده
…
أعلمت للقمرين من أسلاف"؟
والتي في صدر البيت الآخر:
"وليس عتاب المرء للمرء نافعًا
…
إذا لم يكن للمرء لب يعاتبه"
كلمتي: "إطالة، ونفوس"، فالأولى هي الفاعل المعنوي لا النحوي، والأخرى هي المفعول به المعنوي كذلك.
ومثل: البدوي الصميم أحب للصحراء، وأبغض للخضر، وما أكرهه للاستقرار، ودوام الإقامة في مكان واحد1.
ومن هنا يتبين الفرق الدقيق بين: "إلى" التي تفيد التبيين، و"اللام" التي تفيده أيضًا2، ويتركز في أن ما بعد "إلى" التبيينية "فاعل" في المعنى لا في اللفظ؛ وما قبلها مفعول به في المعنى كذلك، أما "اللام التبيينية" فبعكسها؛ فما بعدها مفعول به معنوي لا لفظي؛ وما قبلها فاعل معنوي كذلك، فإذا قلت: الوالد أحب إلى ابنه، كان الابن هو المحب، والوالد هو المحبوب، أي: أن الابن هو فاعل الحب معنى، والوالد هو الذي وقع عليه الحب؛ فهو بمنزلة المفعول به معنى، أما إذا قلت: الوالد أحب لابنه، فإن المعنى ينعكس؛ فيصير الابن هو المحبوب؛ فهو بمنزلة المفعول به معنى، والأب هو المحب، فهو بمنزلة الفاعل معنى، وقد سبق2 القول بأن مثل هذا الأسلوب دقيق يتطلب يقظة في استعماله، وفهمه 3.
16– أن تكون بمعنى: بعد4، كقولهم:"كان الخليفة يقصد المسجد لأذان الفجر مباشرة، ويصلي الصبح بالناس إمامًا، ثم ينظر قضاياهم، ولا يغادر المسجد إلا للعصر، وقد فرغ من صلاته، ونظر شؤون رعيته"، أي: بعد أذان الفجر مباشرة، وبعد العصر، ومن هذا النوع ما كان يؤرخ به الأدباء وسائلهم؛ فيقولون:"كتبت هذه الرسالة لخمس خلون من "شوال"" يريدون: بعد خمس ليال مررن
1 فالمراد: يحب البدوي الصحراء، يبغض البدوي الحضر يكره البدوي الاستقرار.
2 و 2 راجع ما سبق في ص 469، حيث الإيضاح والضابط الذي يبين الفاعل والمفعول به المعنويين.
3 من أمثلة اللام التبيينية: سقيًا لك رعيًا لك تبًا للخائن
…
وفي هذه الأمثلة وأشباهها تفصيلات لغوية دقيقة، لها آثار معنوية هامة تتصل باعتبارها جملة واحدة حينًا، وجملتين حينًا آخر، وقد وفيناها حقها من الإبانة، والإيضاح، وعرض أبقوم الطرائق لاستعمالها الصحيح في الجزء الأول ص 380، م 39 في قسم الزيادة والتفصيل الخاص بمواضع حذف المبتدأ، ولا مناص للباحث المستقصي من الرجوع إليها.
4 بعد، من الظروف التي سبق الكلام عليها في باب: الظرف بهذا الجزء ص 283.
من شوال، ومثل قول الشاعر1:
توهمت آيات لها فعرفتها
…
لستة أعوام، وذا العام سابع
أي: بعد ستة أعوام
…
، وقول الآخر:
فلما تفرقنا كأني ومالكا
…
لطول2 اجتماع لم نبت ليلة معًا
17– أن تكون بمعنى: "قبل"، كقولهم في التاريخ: كتبت رسالتي لليلة بقيت من رمضان، أي: قبل ليلة.
18– أن تفيد الظرفية3 نحو: قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقوله: تعالى في أمر الساعة: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} 4، وقولهم في التاريخ: كتبت هذه الرسالة لغرة شهر رجب، وقولهم: مضى فلان لسبيله
…
، "أي: في يوم القيامة في وقتها في غرة شهر رجب في سبيله".
19– أن تكون بمعنى: "من البيانية"5 كقول الشاعر يخاطب عدوه:
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم
…
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
أي: نحن أفضل منكم يوم القيامة.
20– أن تكون للمجاوزة6. "مثل: عن" كقول الشاعر:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدًا وبعضًا إنه لذميم
أي: عن وجهها
…
ويرى بعض النحاة أنها هنا بمعنى الظرفية "أي مثل: "في". وأنها لا تكون بمعنى: "عن" ولا بمعنى: "على"، المفيدة للاستعلاء"7.
1 النابغة الذبياني.
2 جعلها بعضهم هنا بمعنى: مع كما أشرنا في ج3 باب الإضافة م95 ص109 والأول أنسب.
3 الظرفية احتواء الشيء في داخله شيء آخر، كما يحتوي الظرف المظروف،
…
و
…
و
…
فتكون بمعنى: "في"، "انظر ما يتصل في رقم6 ص463 وهامشه".
4 وقيل: إن اللام في الآية الكريمة بمعنى: "عند"، أي عند وقتها "كما جاء في "المحتسب" لابن جني، ج2 ص323.
5 سبق الكلام عليها "في ص458".
6 سبق في رقم3 من هامش 463 تعريفها وبيان أقسامها.
7 جعلها بعضهم للاستعلاء الحسي في مثل قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ
…
} وقول الشاعر: "فخر صريعا لليدين وللفم"
…
وللاستعلاء المعنوي "وهو المجازي" في مثل قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي: إن أسأتم فعليها، والأمر متوقف على موضوع معناها في السياق.
والرأي السديد أنها إن دلت في السياق على المجاورة، أو: الاستعلاء دلالة واضحة كالتي في الأمثلة الواردة جاز أن تكون من حروفهما، وإلا طلبنا لها معنى آخر يظهر فيه الوضوح والإبانة.
21– أن تكون لتوكيد النفي، وهي الداخلة في ظاهر الأمر دون حقيقته على المضارع المسبوق بكون منفي؛ وتسمى:"لام الجحود"1؛ لسبقها بالنفي دائمًا. نحو: ما كان الحق لينهزم، ولم يكن الباطل لينتصر.
22– أن تكون بمعنى: "مع" كقوله تعالى في اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، أي: مع أموالكم.
23– أن تكون بمعنى "عند" المفيدة للتوقيت؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر} ، أي: عند أول الحشر 2
…
حركة لام الجر:
تتحرك لام الجر بالكسرة إن دخلت على اسم ظاهر غير المستغاث3 في نحو: يا للقادر للضعيف؛ وتتحرك بالفتحة إن دخلت على ضمير، إلا على ياء المتكلم؛ فتكسر في نحو: رب اغفر لي، و
…
1 تفصيل الكلام عليها في باب: "النواصب" من الجزء الرابع.
2 جاء في تفسير: "صفوة البيان، لمعاني القرآن" ما نصه: "المعنى: عند أول الحشر واللام للتوقيت: كالتي في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . ا. هـ.
أي: لتحولها وميلها عن وسط السماء إلى ما يليه.
ويقول المفسرون في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}
…
إن لام الجر هنا للتوقيت، أي: لوقت وقوعها، كالتوقيت الذي في قولهم: كتبت الرسالة لسبع خلون من رمضان مثلًا
…
3 وغير المنادى المقصود به التعجب؛ كالذي سبق في رقم12 من ص477 فإن اللام فيه صالحة للفتح والكسر.
حتى1: حرف جر أصلي، وهو نوعان:
أ– نوع لا يجر إلا الاسم الظاهر الصريح2، ومعنى:"حتى" في هذا النوع الدلالة على انتهاء الغاية3؛ ولهذا تسمى فيه: "حتى الغائية"، نحو: تمتعت بأيام الراحة حتى آخرها، والأكثر أن يكون الوصول إلى نهاية الغاية تدرجًا وتمهلًا، أي: دفعات لا دفعة واحدة، والغالب كذلك أن يجر الآخر من الأشياء، أما ما يتصل بالآخر مما يكون قبله مباشرة، نحو:"شربت الكوب كله حتى الصبابة، وأتممت الصفحة حتى السطر الأخير".
ونحو: "سهرت الليلة حتى السحر، وتنقلت في الحديقة حتى الباب الخارجي". والغالب أيضًا أن تدخل نهاية الغاية في الحكم4 الذي قبل "حتى"، إلا إذا قامت قرينة تدل على عدم الدخول؛ نحو: قرأت الكتاب كله حتى الفصل الأخير؛ فنهاية الغاية داخلة بقرينة تدل على الشمول والعموم؛ هي كلمة: "كل"، بخلاف: كدت أفرغ من الكتاب؛ فقد قرأته حتى الفصل الأخير؛ لأن كلمة: "كدت" التي معناها: "قاربت" تدل على أن بعضه الأخير لم يقرأ
…
وعلى هذا لا يستحسن الإتيان "بحتى" في مثل: قرأت الكتاب حتى ثلثه أو نصفه، وإنما يجيء مكانها "إلى".
ب- نوع لا يجر إلا المصدر المنسبك من "أن" المضمرة وجوبًا، وما دخلت عليه من الجملة المضارعية، وأشهر معاني هذا النوع ثلاثة: الدلالة على انتهاء
1 سيجيء في جـ 4م 149 ص314 تلخيص مفيد لجميع أنواع "حتى"، وتفصيل هام عن نوعها الجار.
2 المراد بالظاهر ما ليس ضميرًا، وبالصريح ما ليس مصدرًا مؤولًا من "أن المصدرية"، والجملة المضارعية بعدها.
3 أي: على أن المعنى قبله ينتهي، وينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور به كما سبق وعلامته، صحة وقوع:"إلى" الدالة على انتهاء الغاية مكانه.
"وحتى" أحد حروف ثلاثة تدل على انتهاء الغاية، وقد سبق الحرفان الآخران:"إلى" في ص 468 و"اللام" في ص 472، وإذا كانت "حتى" لانتهاء الغاية اقتضت أن ينقضي ما قبلها شيئًا فشيئًا، لا دفع واحدة، ولا سريعًا: فلا بد في انقضائه في التدرج والتمهل كما سيجيء.
4 وهذا أحد الأوجه التي تخالف فيها: "إلى"، ومنها أيضًا؛ أنه يجوز أن نقول: كتبت إلى الأخ رسالة، ولا يصح: كتبت حتى الأخ رسالة؛ لأن "حتى" الغائية تتطلب كما سبق أن =
الغاية، كالنوع السابق، أو الدلالة على التعليل1، أو الدلالة على الاستثناء2 إن لم يصلح أحد المعنيين السابقين.
وهذا النوع كما قلنا: لا يجر إلا المصدر المنسبك من "أن" الناصبة للمضارع، المقدرة وجوبًا، ومن صلتها الفعلية المضارعية3؛ نحو: أتقن عملك حتى تشتهر اجتب الكسب الخبيث حتى تسلم ثروتك التاجر الحصيف يحرص على الأمانة حتى يزداد ربحه
…
، ولا يصح أن تكون في هذه الأمثلة لانتهاء الغاية؛ لأن انتهاء الغاية يقتضي انقطاع ما قبل:"حتى" وانتهاءه بمجرد وقوع ما بعدها وحصوله، ولا يتحقق هذا في الأمثلة السالفة إلا بفساد المعنى؛ إذ ليس المراد أن يتقن المرء عمله حتى يشتهر؛ فإذا اشتهر ترك الإتقان
…
ولا أن
= ينقضي المعنى قبلها شيئًا فشيئًا، وعلى عدة دفعات حتى يصل إلى نهاية الغاية؛ بخلاف "إلى"، والكتابة لا تحتاج إلى هذا، فناسبها "إلى" كما يجوز أن تقول: انتقلت من البادية إلى الحاضرة، ولا يحسن أن تقول:"حتى" الحاضرة؛ لأن الأساليب الصحيحة المأثورة التزمت أو كادت مجيء: "إلى" الدالة على النهاية بعد: "من" الدالة على البدلية.
ومنها: أن "حتى" قد تجر المصدر المنسبك من: "أن المضمرة وجوبًا، والفعل المضارع وفاعله،" نحو: أسرعت حتى أدرك القطار، أي: أن أدرك، ولا يصح أسرعت إلى أدرك القطار؛ إذ لا تدخل "إلى" على الفعل مطلقًا إلا مع "أن" الظاهرة.
فملخص الفروق خمسة:
أن: "إلى" تجر الظاهر والمضمر، أما:"حتى" فلا تجر إلا الظاهر في أصح الآراء، ويجب الاقتصار عليه.
وأن: "نهاية الغاية" لا تدخل مع "إلى" إلا بقرينة، والأمر بالعكس مع "حتى"، فالغاية النهائية معها داخلة، ولا تخرج إلا بقرينة.
وأن "إلى" تقتضي انقضاء ما قبلها غالبًا بغير تمهل أو انقطاع، بخلاف "حتى". ولهذا آثار في التعبير.
وأن "إلى" لا تدخل على المضارع بدون "أن" الظاهرة التي تنصبه، بخلاف "حتى"، فإنها تدخل عليه إذا كان منصوبًا بأن المقدرة بعدها فتجر المصدر المنسبك.
وأن: "إلى" تجيء للدلالة على النهاية حين توجد: "من" الدالة على البداية ولا يصح مجيء: "حتى".
1 الدلالة على أن ما قبلها علة وسبب فيما بعدها، فهي مخالفة للام التعليل وأمثالها مما يكون ما بعده هو لعلة. "انظر رقم 8 من ص 475".
2 يجيء بيان هذه الدلالة على الاستثناء ص485.
3 للأداة: "حتى" الجارة للمصدر المنسبك من "أن" الناصبة للمضارع وصلتها، عدم أحكام أخرى مكانها المناسب الذي ستذكر فيه تفصيلًا هو الجزء الرابع، باب:"إعراب الفعل" حيث الكلام على: "النواصب"
…
يجتنب الكسب الخبيث حتى تسلم ثروته، فإذا سلمت لا يجتنبه
…
، ولا أن يحرص على الأمانة حتى يزداد ربحه، فإذا ازداد تركها، ليس المقصود شيئًا من هذا لفساده؛ فهي في تلك الأمثلة للتعليل.
ومثال الدلالة على انتهاء الغاية: أقرأ الكتاب النافع حتى تنتهي صفحاته يمتد الليل حتى يطلع الفجر
…
أما دلالتها على الاستثناء فقليلة1.
1 تفصيل الكلام عليها في الصفحة التالية مباشرة كما أشرنا في رقم2 من هامش الصفحة السابقة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ– قلنا فيما سبق1: إن "حتى" الجارة نوعان؛ نوع: يجر الاسم الصريح، ومعنى هذا النوع الدلالة على الغائية، أي: على نهاية الغاية، فيجر الآخر أو ما يتصل بالآخر، ونوع يجر المصدر المنسبك من "أن" المضمرة وجوبًا، وما دخلت عليه من الجملة المضارعية، ومعنى هذا النوع، إما نهاية الغاية2 وإما التعليل، وإما الاستثناء.
فمن معاني "حتى": الدلالة على الاستثناء وهذا أقل استعمالاتها، ولا يلجأ إليه إلا بعد القطع بعدم صحة واحد من المعنيين السابقين، ولا تجر فيه إلا المصدر المنسبك من "أن" الناصبة المستترة وجوبًا ومن صلتها الفعلية المضارعية، وتكون "حتى"3 في هذه الحالة بمعنى "إلا" الاستثنائية، والغالب أنه يكون الاستثناء منقطعًا، فتكون "إلا" فيه بمعنى "لكن" أي: يصح أن يحل محلها: "لكن"
1 في ص 482.
2 يفهم من هذا أن "حتى" لا بد أن تكون لنهاية الغاية إذا كان المجرور بها اسمًا صريحًا، ولا عكس؛ فلا يلزم من كونها للغاية أن يكون المجرور بها اسمًا صريحًا. لا يلزم هذا؛ لجواز أن يكون مصدرًا مؤولًا من أن المصدرية، وصلتها الجملة المضارعية.
3 قد تكون: "حتى" مع "أن" المستترة بمعنى: "إلا أن"؛ فيكون الاستثناء منقطعًا، مع ملاحظة أن أداة الاستثناء، هنا مقصورة على:"إلا" وحدها، أما الحرف:"أن" الذي يليها فلا شأن له بالاستثناء، وإنما جيء به لمجرد التفسير والإيضاح.
وقد يكون الاستثناء أحيانًا متصلًا كما في بعض الأمثلة التي عرضت، وكما في نحو: لا أجيب الصديق حتى يدعوني لمزاملته؛ أي: لا أجيبه وقتًا إلا وقت دعوتي، ببقاء النفي الذي قبل "حتى" على حاله بعد تأويلها كما هو الأغلب، فالاستثناء متصل مفرع للظرف، ولا تصلح "حتى" غائية؛ لأن عدم الإجابة لا يقع تدريجًا على دفعات؛ إذ الإجابة لا تمتد ولا تتطاول إلى زمن الدعوة، بل إنها لا تكون قبل الدعوة، ولا تصلح أن تكون "تعليلية"؛ لأن عدم الإجابة ليس سبب الدعوة، فلم يبق إلا أن تكون بمعنى الاستثناء، وهو صالح هنا أن يكون متصلًا؛ فلا يعدل إلى الانقطاع، ومثله قوله تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}
…
، أي: ما يعلمان من أحد وقتًا "أي: في وقت" إلا وقت أن يقولا
…
ولهذه المسألة بيان أشمل، يستوعب جوانبها الهامة المختلفة، وهو في ج4 م149 باب:"النواصب" ص314 وما بعدها: حيث الكلام المفصل عن "حتى" وأنواعها، وكثير من الأمثلة الأخرى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
التي تفيد الابتداء والاستدراك معًا؛ "فيكون الاستثناء منقطعًا"؛ نحو: لا يذهب دم القتيل هدرًا حتى تثار1 له الحكومة، أي: إلا أن تثأر له الحكومة بمعنى: لكن تثأر له الحكومة، فلا يذهب هدرا، والغالب في هذا المثال –وأشباهه– أن يبقى النفي الذي قبل "حتى" على حاله بعد تأويلها بالحرف "إلا".
ولا يصح في المثال السالف أن تكون: "حتى" للغاية؛ لأن "حتى" الغائية –كما عرفنا– إذا وقع ما بعدها وتحقق معناه توقف المعنى الذي قبلها، وانقطع.
يترتب على هذا أن الحكومة حين تثأر للقتيل، ينقطع عدم ذهاب دمه هدرًا؛ وانقطاعه وتوقفه يؤدي -حتمًا- إلى وقوع ضده وحصوله؛ أي: إلى أن دمه يذهب هدرًا، وهذا فاسد.
وشيء آخر يمنع أن تكون "حتى" غائية في المثال؛ هو: أن ما قبلها لا ينقضي شيئًا فشيئًا.
وكذلك لا تصح أن تكون: "حتى""تعليلية"؛ لأن ما قبلها –هنا– ليس علة وسببًا فيما بعدها؛ إذ عدم ذهاب دمه هدرًا بالفعل ليس هو السبب في انتقام الحكومة له؛ لأن هذا يناقض المراد، وإنما الانتقام له فعلًا وواقعًا هو السبب في عدم ذهاب دمه هدرًا، إذ السبب لا بد أن يسبق المسبب، ويوجد قبله؛ ليجيء بعده ما ينشأ عنه، ويترتب عليه، وهو: المسبب، فأخذ الثأر لا بد أن يتحقق بطريقة عملية توجد أولًا، ليوجد بعدها عدم ذهاب الدم هدرًا، لا العكس.
وإذا كانت "حتى" في المثال السابق وأشباهه لا تصلح أن تكون غائبة، ولا تعليلية فلا مفر بعدهما من أن تكون بمعنى:"إلا" الاستثنائية، في استثناء منقطع؛ أي: أنها بمعنى: "لكن" التي تفيد الابتداء والاستدراك معًا -كما أسلفنا- ومن الأمثلة:
1-
كل مولود يولد جاهلًا بالشر حتى يتعلمه من أسرته وبيئته، بمعنى
1 تثأر؛ أي: تأخذ بثأره، وتقتص له من الجاني.
إلا أن يتعلمه، أي: لكن يتعلمه، فلا تصلح أن تكون "غائية"؛ لأن ما قبلها هنا لا يقع متدرجًا متطاولًا بحيث يمتد إلى ما بعدها، بل يقع دفعة واحدة، ولا تصلح أن تكون "تعليلية"؛ لأن ولادة الجاهل بالشر ليست هي العلة المؤثرة في أمر التعليم، ولا السبب المباشر فيه؛ إذ العلة لا يتخلف أثرها؛ فلا بد أن يتحقق بتحققها المعلول، ويوجد بوجودها: لأن العلة لا يتأخر عنها المعلول، فلم يبق إلا أن تكون "حتى"، بمعنى:"إلا" في استثناء منقطع، أي: بمعنى: "لكن" المشار إليها.
2-
ناديتك حتى تحصد القمح بعد ساعات؛ فالنداء ليس فيه تمهل وتدرج يمتدان إلى وقت الحصد، وليس سببًا مباشرًا في الحصد.
3-
افتح نوافذ الحجرة حتى يشتد البرد ليلًا
…
ويقال فيه ما سبق1
…
ب- من الأمثال: "ما سلم القادم العزيز حتى2 ودع"، "وهو مثل
1 وفي معاني الحروف الثلاثة: "حتى - اللام - إلى" يقول ابن مالك:
للانتها: "حتى"، و"لام"، و"إلى"
…
و"من"، و"باء" يفهمان بدلا
واللام للملك وشبهه، وفي
…
تعدية أيضًا، وتعليل، قفي
"وزيد..... "
"قفي، أي: نسب وعرف".
سرد ابن مالك في هذين البيتين وكلمة من أول الثالث عدة معان لعدد من الحروف؛ فبين أن: "حتى" و"اللام" و"إلى" تشترك في تأدية معنى واحد؛ هو: الانتهاء، وأن "من" و"الباء" يشتركان في معنى واحد، هو: البدلية، وأن اللام بعد ذلك تفيد معنى الملك وشبهه، والتعدية، والتعليل، وقد تقع زائدة، واكتفى بهذه المعاني القليلة التي يردها لعدد من حروف الجر سردًا مختلطًا مبتورًا، ومن أسبابه ضيق الأوزان الشعرية وقيودها التي لا تتسع لما يتسع له النثر، وقد تداركنا الأمر بالشرح والترتيب المناسبين.
2 ويلاحظ أن "حتى" في هذا المثال حرف ابتداء: لوقوع الماضي بعدها؛ فليست حرف جر؛ إذ الجارة لا بد من دخولها كما عرفنا على اسم صريح، أو على مصدر منسبك من "أن" وصلتها الجملة المضارعية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقال فيمن قصرت مدة زيارته"، أي: ما سلم في زمن؛ لكن ودع فيه، أو: ما سلم في زمن إلا زمنًا ودع فيه1.
ومن المستحسن التخفف من استعمال "حتى" التي بمعنى "إلا" قدر الاستطاعة؛ لأن فهم المراد منها، والتمييز بينهما وبين نوعيها الآخرين لا يخلو من صعوبة؛ ولأن كثيرًا من النحاة لا يوافق على أنها تكون بمعنى "إلا"، ويتأول الوارد منها.
ج- وضح مما تقدم أن "حتى" الجارة بنوعيها لا تدخل على جملة؛ لأن التي تدخل على الجملة "الاسمية أو الفعلية" نوع آخر، يسمى:"حتى الابتدائية"2 وسيجيء تفصيل الكلام عليها في موضعها المناسب3
…
1 ففيه نوع شبه بما مر في رقم3 من هامش ص 485 برغم الاختلاف في نوع: "حتى".
2 وهي الداخلة على جملة مضمونها غاية "أي: نهاية" لشيء قبلها "كما جاء في الخضري جـ2 باب "العطف" عند الكلام على "حتى".
3 باب النواصب، جـ 4 ص 252 م 149.
الواو، والتاء: حرفان أصليان للجر، ومعناهما القسم1 غير الاستعطافي2 ولا يصح أن يذكر معهما جملة القسم، وهما لا يجران إلا الاسم الظاهر، والتاء تفيد مع القسم التعجب3، ولا تجر من الأسماء الظاهرة إلا ثلاثة:"الله - رب - الرحمن"، ومن الشذوذ أن تجر غير هذه الثلاثة.
فمن أمثلة واو القسم قول الشاعر:
فلا وأبيك ما في العيش خير
…
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
ومن أمثلة تاء القسم قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} 3.
ويجري على الحرفين السابقين ما يجري على كل حروف القسم من جواز الحذف4 مع بقاء المقسم به مجرورًا بشرط أن يكون هو لفظ الجلالة "أي: الله".
1 أشرنا في رقم1 من هامش ص 477 إلى أن أحرف القسم المشهورة أربعة: "اللام"، وقد سبق الكلام عليها هناك، وكذلك "الواو والتاء والباء"، وسيجيء الكلام على الثلاثة هنا، والصحيح أن "الواو" و"التاء" أصيلان في القسم، وليسا نائبين فيه عن "الباء"، وليست الباء بعدهما مقدرة تجر الاسم؛ لأن هذا تعقيد لا داعي له، وقد أشرنا أيضًا في تلك الصفحة إلى أن بعض العرب يستعمل الحرف "من""بكسر الميم أو ضمها" حرف قسم، ولا يكاد يجر به إلا كلمة:"الله"، نحو: من الله لأصاحبنك، وأندر من هذا استعمال كلمة:"ها" حرف قسم بعد كلمة: "إي":، بمعنى: نعم أو بدونها، ولا داعي اليوم لاستعمال هذه اللغات النادرة، بالرغم من جواز استعمالها.
2 إيضاحه في ص 497 و 498.
3و3 جاء في "المغني" ج 1 حرف التاء المفردة ما نصه: "التاء حرف جر، معناه: "القسم" ويختص بالتعجب، وباسم الله تعالى، وربما قالوا: تربى وترب الكعبة، وتالرحمن، قال الزمخشري في قوله تعالى:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}
…
الباء أصل حروف القسم، والواو بدل منها يريد أنها تحل محلها والتاء بدل من الواو، وفيها زيادة معنى التعجب؛ كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه، مع عتو نمروذ وقهره". ا. هـ.
وجاء في حاشية الأمير التي على هامشه ما نصه: "قوله: ويختص بالتعجب" أي: أن المقسم عليه بها لا بد أن يكون غريبًا". ا. هـ، كلام المغني.
وجء في القاموس المحيط "آخر الجزء الرابع، باب الألف اللينة" ما نصه تحت عنوان "التاء": "
…
حرف جر للقسم، ويختص بالتعجب، وباسم الله تعالى، وربما قالوا: تربى، وترب الكعبة، وتا الرحمن". ا. هـ.
4 لحذف حروف الجر، ومنها حروف القسم، موضوع مستدل يجيء في ص 532.
ملاحظة:
حرف "الواو" أنواع متعددة، لكل نوع استعمال خاص يؤدي إلى معنى معين. ومن أنواعه "واو: رب" حيث ينوب عن "رب" جوازًا بعد حذفها في مواضع محددة يأتي بيانها1، ولا يتحتم أن تكون هذه الواو نائبة عن "رب المحذوفة كما سنعرف.
الباء: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويقع أصليًا وزائدًا2، ويؤدي عدة معان، أشهرها خمسة عشر:
1-
الإلصاق حقيقة أو مجازًا؛ نحو: أمسكت باللص، ومررت بالشرطي، فمعنى أمسكت به، قبضت على شيء من جسمه، أو مما يتصل به اتصالًا مباشرًا؛ كالثوب ونحوه، وهو عند كثير من النحاة أبلغ من: أمسكت اللص؛ لأن معناه مع "الباء"، المنع من الانصراف منعًا تامًا.
ومن الإلصاق الحقيقي قول الشاعر:
سقى الله أرضًا لو ظفرت بتربها
…
كحلت بها من شدة الشوق أجفاني
ومعنى مررت بالشرطي: ألصقت مروري بمكان يتصل به
…
2-
السببية أو التعليل "بأن يكون ما بعدها سببًا وعلة فيما قبلها"، نحو: كل امرئ يكافأ بعمله، ويعاقب بتقصيره، أي: بسبب عمله، وبسبب تقصيره3
…
وقول الشاعر:
إنما ينكر الديانات قوم
…
هم بما4 ينكرونه أشقياء
وقول الآخر:
جزى الله الشدائد كل خير
…
عرفت بها عدوي من صديقي
والمراد: هم أشقياء بسبب ما ينكرونه وعرفت بسببها5.
3-
الاستعانة، "بأن يكون ما بعد الباء هو الآلة لحصول المعنى الذي قبلها"5
1 في ص 528.
2 وأحسن لغاته أن يتحرك بالكسر في جميع أحواله.
3 وقوله تعالى في بعض الأمم البائدة: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}
…
أي: أهلكم
بسبب ذنوبهم.
4 الجار والمجرور متقدم لفظًا فقط، ولكنه متأخر في إعرابه.
5، 5 الفرق بين باء الاستعانة وباء السبب، أن "باب السببية" داخلة على السبب الذي أدى إلى حصول المعنى الذي قبلها، وتحققه سلبًا، وإيجابًا؛ نحو: مات الرجل بالمرض، أي: بسبب المرض، وأن "باء الاستعانة" داخلة على أداة الفعل، وآلته التي هي الواسطة بين الفاعل ومفعوله؛ نحو: فتحت الباب بالمفتاح، قطعت اللحم بالسكين، كتبت ارسالة بالقلم.
نحو: سافرت بالطيارة رصدت الكوكب بالمنظار، وهذا المعنى هو والإلصاق أكثر معانيها استعمالًا.
4-
الظرفية؛ نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} ، أي: في بدر.
5-
التعدية، أو: النقل: "وهي التي يستعان بها غالبًا في تعدية الفعل اللازم إلى مفعول به، كما تعديه همزة النقل"، نحو: ذهبت بالمريض إلى الطبيب، بمعنى: أذهبته، وقعدت بفلان همته عن الطموح، بمعنى: أقعدته
…
6-
أن تكون بمعنى كلمة: "بدل"1، "بحيث يصح إحلال هذه الكلمة محل "الباء" من غير أن يتغير المعنى"، مثل: ما يرضيني بعملي عمل آخر أرتضي بالملاكمة رياضة أخرى، أي: ما يرضيني بدل عملي عمل آخر، أرتضي بدل الملاكمة2 رياضة أخرى.
1 هل هناك فرق بين: "البدل، والعوض"؟ الجواب في هامش الصفحة الآتية.
2 إذا كانت الباء بمعنى: "بدل"، فالأكثر دخولها على المتروك؛ "أي: على الشيء الذي لم يؤخذ للاستغناء عنه بأخذ غيره، بدلًا منه" كالأمثلة المعروضة، وكقوله تعالى في الكفار: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، ويصح دخول "الباء" على المأخوذ لا المتروك، فقد
جاء في المصباح مادة: "بدل" ما نصه: "أبدلته بكذا إبدالًا، نحيت الأول، وجعلت الثاني مكانه". ا. هـ.
وفي مختار الصحاح، مادة:"بدل" ما نصه: "الأبدال قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر". ا. هـ.
وجاء في تاج العروس مادة: "بدل" ما نصه:
"قال ثعلب، يقال: أبدلت الخاتم بالحلقة، إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته، وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتمًا، قال: وحقيقته أن التبديل تغيير الصورة إلى صورة أخرى الجوهرة بعينها، والإبدال: تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى، وقال أبو عمرو: فعرضت هذا على المبرد فاستحسنه، وزاد فيه فقال: وقد جعلت العرب أبدلت مكان بدلت
…
". ا. هـ.
وجاء في تفسير الألوسي لقوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} مثل ما سبق من كلام ثعلب، =
ومنه قول الشاعر:
إن الذين اشتروا دنيا بآخرة
…
وشقوة بنعيم، ساء ما فعلوا
7-
العوض1 "أو: المقابلة"؛ نحو: اشتريت الكتاب بعشرة دراهم، واشتراه أخي بأحد عشر
…
8-
المصاحبة2؛ نحو قوله تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ} ، ونحو: سافر برعاية الله، وارجع بعنايته، أي: ع سلام مع رعاية الله مع عنايته.
9-
التبعيض، أو: البعضية، "بأن يكون الاسم المجرور بالباء بعضًا من شيء قبلها"، نحو قوله تعالى:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، أي: منها، وقولهم: حفلت المائدة؛ فتناولت بها شهي الطعام، ولذيذ الفواكه، أي: تناولت منها3
…
= وزاد شاهدًا آخر لدخول الباء على المأخوذ، هو قول الطفيل لما أسلم:
"وبدل طالعي نحسي بسعد"
ا. هـ.
ولا فرق في هذا بين أن يكون ما تعلق به الجار والمجرور هو الفعل: "بدل" وفروعه، وما تصرف منه، أم غيره بقرينة كبعض الأمثلة التي عرضناها، ومن الأمثلة الأخرى قول عروة بن الورد:
فلو أني شهدت أبا سعاد
…
غداة غدا بمهجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي
…
ولا آلوك إلا ما أطيق
"يفوق: يجود بها وبلفظها ساعة الاحتضار" يريد: فديت بنفسي ومالي نفسه. أي: قدمتهما فداء له، وبدلًا منه.
1 المراد بالعوض: دفع شيء من جانب، في نظير أخذ شيء يقابله من جانب آخر، والفرق بين العوض والبدل، أن العوض هو دفع شيء في مقابله آخر، أما البدل فهو اختيار أحد الشيئين وتفضيله على الآخر من غير مقابلة من الجانبين كأن يكون أمامك شيئان لتختار أحدهما؛ فتقول: آخذ هذا بدل الآخر من غير أن يكون هناك تعويض، وهذا هو الشائع، وقيل: البدل أعم مطلقًا؛ فهو الدال على اختيار شيء وتفضيله على آخر؛ سواء أكان هناك مقابلة وعوض أم لا، والحكم في هذا للقرينة؛ فهي التي تعين المراد وتوجه الذهن إليه.
2 سبق توضيحها في رقم2 من هامش 469؟ عند الكلام على: "إلى" وقد يعبر عنها أحيانًا، "بالمعية".
3 ومثل قول المتنبي يمدح:
فإن نلت ما أملت منك فربما
…
شربت بماء يعجز الطير ورده
11-
المجاوزة1؛ نحو قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، أي: عنه، وقوله تعالى في وصف المؤمنين يوم القيامة:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ، أي: عن إيمانهم، وقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، أي: عن الغمام
…
12-
الاستعلاء فترادف: على؛ كقولهم: من الناس من تأمنه بدينار فيخون الأمانة، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب، فيصونه ويؤديه كاملًا، أي: على دينار، وعلى قنطار.
13-
أن تكون بمعنى: "إلى"، نحو قوله تعالى:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ، بمعنى أحسن إلي.
14-
التوكيد2؛ "وهي الزائدة" جوازًا في مواضع معينة.
منها: الفاعل؛ نحو قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، والمفعول به نحو قوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، والمبتدأ نحو: بحسبك البراعة الفنية، وخبر الناسخ؛ مثل: ليس المال بمغن عن التعلم3
…
والتقدير: كفى الله، ولا تلقوا أيديكم، حسبك البراعة، ليس المال مغنيًا
…
كما يجوز زيادتها في المبتدأ الواقع بعد "إذا الفجائية"؛ نحو: نزلت البحر فإذا بالماء بارد4، وكذلك يجوز زيادتها في لفظين من ألفاظ التوكيد المعنوي، هما:"نفس، وعين"؛ مثل: خرج الوالي نفسه، أو بنفسه يتفقد أحوال الناس كلمت الوالي نفسه، أو بنفسه وهو يراقب عماله، سلمت على الوالي
1 سبق إيضاح معناها وأقسامها في رقم3 من هامش ص463.
2 سبق معنى التوكيد المستفاد من الحرف الزائد، في أول هذا الباب ص450، وكذلك في الجزء الأول " م5 ص 65"، أما مواضع زيادة الباء، فتوضحها الأمثلة الآتية هنا، وفي ص 495 حيث بيان الحكم على زيادتها من ناحية القياس والسماع.
3 ومثل قوله تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، وفي قول الشاعر:
ليس التدين بالكلام، وإنما
…
صدق الفعال أمارة المتدين
ومثل آخر البيت الآتي:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن
…
ليس الكريم إذا أعطى بمنان
4 سبقت الإشارة لهذا في ص281.
11-
المجاوزة1؛ نحو قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، أي: عنه، وقوله تعالى في وصف المؤمنين يوم القيامة:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ، أي: عن إيمانهم، وقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، أي: عن الغمام
…
12-
الاستعلاء فترادف: على؛ كقولهم: من الناس من تأمنه بدينار فيخون الأمانة، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب، فيصونه ويؤديه كاملًا، أي: على دينار، وعلى قنطار.
13-
أن تكون بمعنى: "إلى"، نحو قوله تعالى:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ، بمعنى أحسن إلي.
14-
التوكيد2؛ "وهي الزائدة" جوازًا في مواضع معينة.
منها: الفاعل؛ نحو قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، والمفعول به نحو قوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، والمبتدأ نحو: بحسبك البراعة الفنية، وخبر الناسخ؛ مثل: ليس المال بمغن عن التعلم3
…
والتقدير: كفى الله، ولا تلقوا أيديكم، حسبك البراعة، ليس المال مغنيًا
…
كما يجوز زيادتها في المبتدأ الواقع بعد "إذا الفجائية"؛ نحو: نزلت البحر فإذا بالماء بارد4، وكذلك يجوز زيادتها في لفظين من ألفاظ التوكيد المعنوي، هما:"نفس، وعين"؛ مثل: خرج الوالي نفسه، أو بنفسه يتفقد أحوال الناس كلمت الوالي نفسه، أو بنفسه وهو يراقب عماله، سلمت على الوالي
1 سبق إيضاح معناها وأقسامها في رقم3 من هامش ص463.
2 سبق معنى التوكيد المستفاد من الحرف الزائد، في أول هذا الباب ص450، وكذلك في الجزء الأول " م5 ص 65"، أما مواضع زيادة الباء، فتوضحها الأمثلة الآتية هنا، وفي ص 495 حيث بيان الحكم على زيادتها من ناحية القياس والسماع.
3 ومثل قوله تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، وفي قول الشاعر:
ليس التدين بالكلام، وإنما
…
صدق الفعال أمارة المتدين
ومثل آخر البيت الآتي:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن
…
ليس الكريم إذا أعطى بمنان
4 سبقت الإشارة لهذا في ص281.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
تعددت هنا الأمثلة للباء الزائدة كي تدل على أنها تزاد في الفاعل، والمفعول به، والمبتدأ، وخبره، وخبر الناسخ، وقد تزاد في غير ذلك قليلًا.
بقي أن نسأل: أزيادتها قياسية أم سماعية1؟ الأحسن الأخذ بالرأي القائل: إن الزائدة في الفاعل تكون واجبة في فاعل فعل التعجب الذي صيغته القياسية: "أفعل"، مثل: أصلح بنفسك، وأحسن بعملك؛ بمعنى: ما أصلح نفسك! ! وما أحسن عملك! !
وتكون جائزة، في فاعل:"كفى"، مثل: كفى بالله شهيدًا.
أما الزائدة في المفعول به فغير مقيسة، ولو كان مفعولًا به للفعل:"كفى" نحو: كفى بالمرء عيبًا أن يكون نمامًا.
وقول الشاعر:
كفى بالمرء عيبًا أن تراه
…
له وجه وليس له لسان
ويستثنى من هذا زيادتها في مفعول الأفعال الآتية: "عرف علم بمعنى: عرف - جهد - سمع - أحسن"، فإن هذه الزيادة جائزة.
والزائدة في المبتدأ والخبر غير قياسية؛ إلا في مثل الأنواع المسموعة2 كثيرًا منها
1 راجع يما يأتي: المغني، حرف الباء، وحاشية الصبان جـ2 باب:"حروف الجر" عند الكلام على: "الباء الجارة".
2 ما المراد هنا من المسموع؟ أهو عام بعد كلمة: "كيف" يشمل إدخال الباء على المبتدأ الاسم الظاهر، وعلى الضمير مطلقًا؛ "المتكلم أو لمخاطب، أو لغائب، من غير تقيد بنوع الضمير المسموع ولا بلفظه"، وكذلك إدخالها على المبتدأ الذي يلي "إذا" الفجائية بغير تقيد؟ أم أن المراد هو التقاصر على نص الضمير المسموع لفظًا ونوعًا بعد "كيف"، وعلى الاسم الظاهر، وكذلك على نص المبتدأ المسموع لفظًا ونوعًا بعد "إذا" الفجائية؟
الأحسن الأخذ بالرأي الأول الذي يفيد العموم في هذين الموضعين؛ فيبيح زيادة الباء في صدر المبتدأ التالي: "كيف" و"إذا" الفجائية مطلقًا من غير تقيد باسم ظاهر، ولا ضمير، ولا نوع من أحدهما، وهذا الرأي هو الأقوى الذي تؤيده الشواهد الكثيرة الفصيحة، أما زيادتها قبل "حسب"، فمقصور على لفظها ذاته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- كالتي بعد: "كيف" و"إذا" وقبل كلمة: "حسب" كقول الشاعر:
وقفنا، فقلنا إيه عن أم سالم
…
وكيف بتكليم الديار البلاقع؟
ونحو: كيف1 بك إذا اشتد الأمر أصغيت فإذا بالطيور2 مغردة بحسبك علم نافع.
أما زيادتها في خبر: "ليس"، وخبر:"ما" النافية، وخبر:"كان" المنفية"، فقياسية في الثلاثة بالشروط الهامة، والتفصيلات المعروضة في مكانها الأنسب3.
وزيادتها جائزة4 في كلمتي: النفس، والعين، عند استعمال لفظهما في5 التوكيد؛ مثل: اخترقت الطائرة السحاب نفسه أو بنفسه، واجتازت الغلاف الهوائي عينه أو بعينه، قطعت السيارات نفسها أو بنفسها، الصحراء، وقول علي رضي الله عنه:"من نظر في عيوب الناس فأنكرها، ثم رضيها لنفسه؛ فذاك الأحمق بعينه".
1 وكذلك قول النابغة كما نقله الأساس، جـ1 ص137 مادة:"جنح" ونصه:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم
…
فكيف بحصن والجبال جنوح
وأصل الجملة في: "يف بك"، كما سبقت الإشارة لهذا جـ1 هامش رقم 2 من ص 305 م 33 هو: كيف أنت؟ فلما زيدت الباء الجارة وجب تغيير الضمير: "أنت"؛ لأنه ضمير للمخاطب مقصور على الرفع؛ فأتينا بضمير يؤدي معناه، ويصلح لدخول حرف الجر وهو "كاف الخطاب"، فالكاف مجرورة لفظًا في محل رفع مبتدأ، ومثلها:"الباء" في نحو: خرجت فإذا بالشمس طالعة، وكذلك في بيت النابغة زائدة في المبتدأ المجرور لفظًا المرفوع محلًا، كمنا سيأتي في رقم2.
2 مثال للمبتدأ الواقع بعد "إذا" الفجائية وقد دخلته الباء الزائدة، ومثله ما سبق في رقم 1.
3 جـ 1 م 47 ص 589 موضوع: "نفي الأخبار في باب": "كان" مع زيادة باء الجر
…
".
4 كما سبق في ص 493.
5 إيضاح هذا في باب التوكيد جـ 3 ص 49 م 116.
15-
الدلالة على القسم؛ وهذا من أكثر استعمالاتها، وهي الأصيلة فيه دون حروفه السابقة "اللام، الواو، التاء، من
…
"، وتشاركها في جواز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله؛ بشرط أن يكون هذا الاسم هو لفظ الجلالة " الله"، ولكنها تخالف تلك الحروف في ثلاثة أمور تنفرد بها، ولا يوجد واحد منها في حرف آخر من حروف القسم، غير الباء؛ هي:
أ- جواز إثبات فعل القسم وفاعله مع الباء أو حذفهما؛ نحو: أقسم بالله لأعاونن الضعيف، أو بالله لأعاونن الضعيف، أما مع غير الباء فيجب حذفه فعل
القسم وفاعله.
ب- وجواز أن يكون المقسم بالباء اسمًا ظاهرًا، أو ضميرًا بارزًا؛ نحو: برب الكون لأعملن على نشر السلام، بك لأنزلن عند رغبتك الكريمة، أما غير الباء فلا يجر إلا الظاهر.
ج- وجواز أن يكون القسم بالباء "استعطافيًا"1 "وهو الذي يكون جوابه إنشائيًا"؛ نحو: بالله، هل ترحم الطائر الضعيف، والحيوان الأعجم؟ بربك، أموافق أنت على تأييد الضعفاء؟ وقول الشاعر2:
بعيشك هل أبصرت أحسن منظرًا
…
على ما رأت عيناك من هرمي مصر؟
أما القسم بغير الباء فمقصور في الرأي الغالب على القسم غير الاستعطافي.
1 سيجيء في: "الزيادة والتفصيل" أن القسم نوعان: "استعطافي"، و"غير استعطافي، أو خبري"، وإيضاح كل، وما يطلبه
…
مع بسط الكلام على جواب القسم، ولهذا البحث مناسبة أخرى هامة في ج 4 م 158 ص 472، ومن المقيد الإطلاع عليه، توفية للموضوع.
2 سيعاد هذا البيت في ص 510 لمناسبة أخرى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ- كل حرف من أحرف القسم الأربعة1 هو ومجروره يتعلقان معًا بالعامل: "أحلف"، أو:"أقسم"، أو: نحوهما من كل فعل يستعمل في القسم، ومن فعل القسم وفاعله تتكون الجملة الفعلية الإنشائية: التي هي: "جملة القسم" ولا بد أن تكون فعلية؛ سواء أذكر الفعل أم حذف، لكن ليس من اللازم أن يكون الفعل "صريحًا" في دلالته على القسم كالأفعال السابقة؛ فهناك ألفاظ أخرى يسمونها:"ألفاظ القسم غير الصريح"، وهو الذي لا يعرف منه بمجرد سماعه أن الناطق به حالف؛ بل لا بد معه من قرينة؛ ومن أمثلته الأفعال: شهد - علم 2- آلى
…
؛ نحو: أشهد لقد رأيت الغلبة للحق آخر الأمر، علمت لقد فاز بالسبق من أحسن الوسيلة إليه، والقرينة هنا:"اللام، وقد" الداخلان على الجواب، غير أن الجملة القسمية التي من هذا النوع خبرية لفظًا.
ولا بد لجملة القسم من جملة بعدها، تسمى:"جواب القسم"3، بيان ذلك: أن الغرض من "جملة القسم" إما تأكيد المراد من جملة تجيء بعدها، وإزالة الشك في معناها؛ بشرط أن تكون هذه الجملة الثانية خبرية4، وغير تعجبية5، نحو: أقسم بالله "لا أنقاد لرأي يجافي العدالة"، فهذه الجملة الثانية هي "جواب القسم"، ولا محل لها من الإعراب في الأغلب6، ويسمى القسم في هذه الحالة:
1 سبق في ص 477 وفي رقم 1 من هامش ص 489 الإشارة إلى حرف خامس هو: "من"، ومن المستحسن اليوم عدم استعماله لغرابته، وأغرب منه وأندر استعمال:"ها" حرف قسم، بعد كلمة:"إي" في الغالب التي معناها: نعم. "طبقًا لما سبق في ص 477
…
".
2 انظر ما يتصل بهذا الفعل في رقم 7 و 8 من هامش ص 5.
3 هل يكون جواب القسم غير جملة؟ الإجابة في "ح" من ص 505.
4 فلا تصلح الجملة الشرطية، ولا أنواع الإنشائية، ومنها القسمية كما سيجيء في:"و" من ص 503.
5 يرى كثير من النحاة أن جملة التعجب خبرية، ولكنهم يوافقون غيرهم في أنها لا تصلح جوابًا للقسم.
6 الأغلب أن الجملة الواقعة جوابًا للقسم لا محل لها، وقد يكون لها محل، كما سبق بيانه في رقم1 من هامش ص31، وكما يأتي في رقم2 من ص 504.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
"قسمًا خبريًا" أو: "غير استعطافي" وإما تحريك النفس، وإثارة شعورهم بجملة إنشائية تجيء بعد جملة القسم، والفصيح أن تكون الأداة هي الباء؛ نحو: بربك، هي رحمت الثكلى؟ بحياتك، أعطفت على البائس؟ وقول الشاعر:
بعينيك يا سلمى ارحمي ذا صبابة
…
أبى غير ما يرضيك في السر والجهر
فالجملة الثانية هي جواب القسم، ولا محل لها من الإعراب هنا، ويسمى القسم في هذه الحالة:"استعطافيًا"، أو"غير إنشائي"، ولا بد أن يكون جوابه جملة إنشائية، "كما أوضحنا"1، وهي لا تحتاج لزيادة شيء عليها، بخلاف: القسم "غير الاستعطافي"، فإن جوابه يتطلب إدخال بعض الزيادة على جملته، بالتفصيل الآتي2:
1-
إن كان الجواب جملة فعلية
…
فعلها ماض، متصرف، مثبت، فالكثير الفصيح اقترانها "باللام" و"قد"، معًا، نحو:"والله لقد أفاد الاعتدال في ممارسة الأمور"، ويجوز - بقلة - الاقتصار على أحدهما، أو التجرد منهما، مع ما في الأمرين من ترك الكثير الفصيح، وتسمى هذه اللام المفتوحة:"لا جواب القسم، أو: الداخلة على جوابه".
وإن كان الماضي غير متصرف فالكثير الفصيح اقترانه باللام فقط؛ نحو: "والله لنعم المرء يبتعد عن الشبهات" إلا الفعل "ليس" فلا يقترن بشيء؛ مثل: "والله ليست قيمة المرء بالأقوال، ولكن بالأفعال".
وإن كان الماضي غير مثبت لم يزد عليه شيء إلا حرف من حروف النفي الثلاثة التي يكثر دخولها على الجواب المنفي؛ وهي: ما - لا - إن -؛ نحو: "والله ما مدحت أثيمًا"، "بالله لا رفضت عتاب الصديق، ولا غضبت منه". "تالله إن امتنعت عن مزاملتك فيما رفع الشأن، أي: بالله ما امتنعت"، وغير هذا شاذ.
2-
إن كان الجواب جملة مضارعية مثبتة، فالأغلب الأقوى اقتران مضارعها
1 مما سبق نفهم قول النحاة: القسم جملة إنشائية جاءت لتأكيد جملة خبرية بعدها، وهذا هو القسم غير الاستعطافي، فإن كانت الثانية إنشائية أيضًا فالقسم استعطافي.
2 سيذكر هذا البيان في جـ 4 م 158 ص 362 عند اجتماع الشرط والقسم، ومن المفيد الرجوع إليه أيضًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
باللام ونون التوكيد معًا1؛ نحو؛ والله لأحبسن يدي ولساني عن الأذى، ومن القليل الجائز الاقتصار على أحدهما.
فإن كانت الجملة مضارعية منفية
…
لم يزد عليها شيء إلا أحد حروف النفي الثلاثة2 التي يكثر دخولها على الجواب المنفي3، "وقد سبقت لها الإشارة" مثل: والله ما أحبس يدي ولساني من محاربه المنكر، والله إن أحبس يدي ولساني
…
والله لا أحبس يدي ولساني، ومن هذا قول الشاعر:
رقي4، بعمركم لا تهجرينا
…
ومنينا المنى، ثم امطلينا
3-
إن كان الجواب جملة اسمية مثبتة، فالأحسن اقترانه بحرفين معًا، هما:"إن" ولام الابتداء في خبرها5، نحو: والله إن الغدر لأقبح الطباع.
1 راجع ماله صلة بهذا في ص 31، 32 وهامشهما.
2 ويزاد عليهما هنا: "لن" في رأي مقبول من آراء تعارضه، وله إشارة في رقم 2 من هامش ص501، ومن أمثلته قول أبي طالب يعلن حمايته للرسول من أعدائه المشركين القرشيين:
والله لن يصلوا إليك بجمهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
3 قد يكون وجود حرف النفي قبل هذه الجملة المضارعية مقدرًا غير ظاهر اللفظ: "بأن يكون ملحوظ غير ملفوظ"، ومن أمثلته قوله تعالى:{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}
…
وقول ليلى الأخيلية في رثاء توبة:
فأقسمت أبكي بعد توبة هالكًا
…
وأحفل من دارت عليه الدوائر
أي: لا أبكي ولا أحفل، ومثل قول الآخر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
…
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي: لا أبرح، جاء في أمالي أبي القاسم الزجاجي ص 50، ما معناه: أن العرب تحذف النفي من جواب القسم في مثل الصور السالفة لأمن اللبس فيها، حيث لا يلتبس الجواب المنفي بالمثبت لوضوح المعنى؛ ولأن الجواب لو كان مثبتًا لوجب تأكيده باللام والنون معًا، أو بأحدهما، طبقًا للقاعدة السالفة، فعدم اقترانه دليل على أنه منفي بأداة مقدرة.
4 منادى، والأصل: يا رقي، يريد: يا رقية.
5 اللام الداخلة على جواب القسم لا تدخل على "إن" المشددة ولا على شيء من أخواتها، إلا:"كأن"، نحو: والله لكأن صدقة البخيل اقتطاع من جسده، أما اللام الداخلة على خبر "إن"، فهي لام ابتداء سواء أكانت "إن" مسبوقة بقسم هي في صدر جوابه، أم غير مسبوقة به.
"وقد تقدم في الجزء الأول في ش 597 م 53 تفصيل الكلام على لام الابتداء، وفائدتها، وموضعها
…
".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ويجوز الاقتصار على أحدهما؛ نحو: والله إن عنوان المرء عمله، أو: والله لعنوان المرء عمله، ولا يستحين التجرد من أحدهما؛ إلا إذا طال القسم بأن ذكر معه تابع له، أو: شيء آخر يتصل به؛ نحو: بالله الذي لا إله سواه، الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وقول الشاعر:
ورب السموات العلا وبروجها
…
والأرض وما فيها المقدر كائن
ولا يصح اقتران الجملة الاسمية الجوابية بالحرف: "إن" إذا كانت هذه الجملة مصدرة بحرف ناسخ من أخوات "إن": كقولهم في وجه جميل: والله لكأن جماله يقتاد العيون قسرًا إليه؛ فما تستطيع عنه تحولًا.
فإن كان الجواب جملة اسمية منفية لم يزد عليه إلا أداة النفي في أوله، وهي إحدى الحروف الثلاثة السالفة "ما - لا - إن"، نحو: والله ما هذه الدنيا بدار قرار1 بالله لا المال ولا الجاه بنافع إلا بسياج من الفضيلة
…
والله إن هذه الدنيا بدار قرار
…
مما سبق يتبين أن الجواب المنفي، في جميع أحواله لا يتطلب زيادة شيء إلا أداة النفي قبله، مع اشتراط أن تكون إحدى الأدوات الثلاث2، سواء أكان الجواب جملة فعلية ماضوية، أم مضارعية، أم جملة اسمية.
"ملاحظة":
قد يكون الكلام مشتملًا على جملة قسمية، ظاهرها مثبت، ولكن معناها منفي، وجواب القسم جملة فعلية ماضوية لفظًا، مستقبلة معنى، مصدرة "بإلا" أو:"لما" التي بمعناها، نحو: سألتك بالله إلا نصرت المظلوم، بالله ربك لما قلت الحق
…
وأمثال هذا مما يعد نوعًا خاصًا من "الاستثناء المفرغ
…
"، "وقد سبق بيان هذا النوع، وتفصيل الكلام - بإسهاب - على معناه، وحكمه، وطريقة إعرابه"3.
1 وقول الشاعر:
فلا والله ما في العيش خير
…
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
2 ويزاد عليها: "لن" في الجملة المضارعية في رأي أشرنا إليه في رقم2 من هامش ص500.
3 له إشارة في أول هامش ص 324 وبيان في: "أ" من الزيادة والتفصيل، ص 326.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ب- قد يقع القسم بين أداتي نفي، بقصد تأكيد النفي في المحلوف عليه؛ كقول الشاعر:
أخلاي، لا تنسوا مواثيق بيننا
…
فإني لا -والله- ما زلت ذاكرا
ج- قد تتكرر أداة القسم -ومعها مجرورها- مبالغة في التأكيد، غير أن المستحسن ألا يتكرر حرف من حروف القسم إلا بعد استيفاء الأول جملة جوابه، نحو: بالله لأطيعن الوالدين، بالله لأطيعنهما، والله لأطيعنهما1.
د- تحذف جملة القسم وجوبًا إن كان حرف القسم "الواو"، أو:"التاء"، أو:"اللام"2، وجوازًا إن كان حرف القسم الباء كما سبق عند الكلام على الحروف الأربعة3، ومن أوضح الدلائل المرشدة إلى جملة قسمية محذوفة، "ومعها أداة القسم" وجود واحد من الألفاظ الآتية بعدها؛ وهي: "لقد - لئن4- المضارع
المبدوء باللام المفتوحة المختوم بنون التوكيد"، فإن وجد أحد هذه الألفاظ الثلاثة بغير أن يسبقه جملة قسم فهي، مع القسم وأداته، مقدرة قبله، ومن الأمثلة قوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، أي: أقسم بالله لقد صدقكم الله وعده5، ومثله قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} ، وقوله تعالى:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ، وهذه اللام المفتوحة في المواضع السالفة هي الداخلة على الجواب بعد حذف جملة القسم، وأداته ولا يصح فيها، وفي أمثالها أن تكون لام ابتداء أو غيره؛ لأن أنواع اللام الأخرى لها مواضع محدودة معينة، ليس منها هذه.
هـ- يجوز أن تحذف أداة القسم وحدها مع بقاء الاسم المجرور بهاء على حاله، بشرط أن يكون الاسم لفظ الجلالة:"الله" طبقًا للرأي الأرجح6؛ مثل الله
1 يصح ذكر الجملة الواقعة بعد القسم المقصود به التوكيد اللفظي، على اعتبارها توكيدًا أيضًا للجملة الجوابية الأولى، ويصح حذفها لعدم الحاجة إلى استخدامها توكيدًا لفظيًا؛ فهي مختلفة عن الجمل الجوابية الأخرى التي يجب حذفها
…
وستأتي.
2 وكذا: "من" عند من يعتبرونها أداة قسم، كما في ص 465.
3 في ص 465 و 477 و 489.
4 انظر "و" الآتية.
5 ومن هذا قول الشاعر:
إذا اغرورقت عيناي قال صحابتي
…
لقد أولعت عيناه بالهملان
6 وهو رأي سيبويه ومن وافقه، "سيأتي في رقم 3 من ص 533 وهامشه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأساعدن الضعيف، أي: والله، ويجوز حذف أداة القسم والمقسم به معا لوضوحهما بكثرة الاستعمال؛ نحو أقسم إن الحرية لغالية، أشهد إن الوطن لعزيز، أي: أقسم بالله، أشهد بالله، ومنه قول الشاعر:
فأقسم ما تركي عتابك عن قلى
…
ولكن لعلمي أنه غير نافع
و ما نوع "اللام" في مثل: والله لئن أخلصلت لي لأخلصن لك؟ وهي "اللام" التي قبلها قسم، وبعدها أداة شرط؛ كالمثال السابق وأشباهه، والتي سبقت في:"د"؟.
يسميها بعض النحاة "لام الشرط"، ويسميها آخرون:"اللام الموطئة" للقسم؛ أي: الممهدة له؛ لأنها التي تهيئ الذهن لمعرفته، وتدل على أن الجملة المتأخرة المصدرة بلام أخرى، هي جواب للقسم وليست جوابًا للشرط، فاللام الأولى "الموطئة" هي التي أعلمت بذلك، وبينت أن اللام الثانية هي "اللام" الداخلة على جواب القسم، وأن الجملة بعد هذه اللام الثانية هي جملة جواب القسم. ولا يصح أن تكون "اللام" الأولى، وما دخلت عليه جوابًا للقسم؛ لأن القسم كما أسلفنا1 لا يكون جوابه جملة شرطية، ولا جملة قسمية، ويجب التنبه إلى الفرق بين "لام القسم"، "ولام الابتداء"، وقد أوضحناه في مكانه المناسب من الجزء الأول عند الكلام على:"لام الابتداء"2.
وحين يجتمع أداتا قسم وشرط فالجواب يكون في الأغلب للمتقدم منهما3، أما المتأخر فيحذف جوابه؛ لوجود الجواب السابق الذي يدل عليه، وبسبب أن الجواب في الأغلب للمتقدم لم تحذف النونان في المضارع من قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} ، وهو السبب أيضًا في عدم مجيء الفاء قبل "إن" في قول الشاعر:
لئن كنت محتاجًا إلى الحلم إنني
…
إلى الجهل4 في بعض الأحايين أحوج
1 في رقم 4 من هامش ص 498.
2 ص 598 وهامشها م53.
3 هذا هو الأغلب، والتفصيل المناسب لهذه المسألة مدون في البحث الخاص بها؛ وهو: بحث اجتماع الشرط والقسم جـ 4 باب الجوازم ص 362 م 158.
4 الغضب والانتقام، وسيعاد البيت في الجزء الرابع في الموضع السالف من الجوازم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ز- تحذف جملة القسم وجوبًا في إحدى حالات ثلاث:
1-
أن يتأخر القسم ويتقدم عليه جملة تغني عن جوابه لدلالتها عليه نحو: "تسعد الأمة وتشقي بأبنائها، والله"، ويلاحظ أن جملة الجواب نفسها لا يصح تقديمها على القسم.
2-
أو أن يحيط بالقسم جملة تعني عن الجواب كذلك؛ نحو: "سعادة الأمة والله رهن بعمل أبنائها"، فجواب القسم في هذه الحالة كالتي قبلها جملة محذوفة لا يصح ذكرها؛ لوجود ما يغني عنها؛ فلا داعي للتكرار فيهما بقولنا:"تسعد الأمة وتشقى بأبنائها، والله تسعد الأمة وتشقي بأبنائها"، وقولنا:"سعادة الأمة رهن يعمل أبنائها، والله سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها".
أما في مثل: "الغضب والله إنه وخيم"، أو:"الغضب والله إنه لوخيم"، حيث يكون المتأخر عن القسم جملة فيصح في هذه الجملة المتأخرة أن تكون جوابًا للقسم، وجملة القسم جوابه في محل رفع خبر السابق1، "وهذا من المواضع التي يكون فيها لجملة القسم مع جملة جوابه محل من الإعراب"2، كما يصح أن تكون الجملة المتأخرة خبرًا للمتقدم في محل رفع وجواب القسم محذوف لوجود ما يغني عنه ويدل عليه.
3-
أو أن يجتمع أداتا شرط وقسم ويتأخر القسم عن الشرط والحكم في هذه الحالة هو الأغلب كما سبق في: "و".
وتحذف جملة الجواب جوازًا في غير الحالات السالفة، لدليل أيضًا؛ نحو قوله تعالى:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، فجواب القسم محذوف تقديره:"إنك لمنذر"، أو: نحو: هذا، بدليل قوله تعالى بعد ذلك:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ، ومثله قوله تعالى:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} .
1 يراجع الجزء الثاني من "المغني" في موضوع حذف جواب القسم، وفي موضوع الجمل التي لا محل لها من الإعراب، والملخص: أن جملة القسم مع جملة جوابه
قد يكون لهما أحيانًا معًا موضع عن الإعراب؛ لأنهما متماسكتان بمنزلة جملة واحدة، ولا محل لإحداهما بدون الأخرى في الرأي المشهور، وقد سبق لمناسبة أخرى بيان هام يختص بهذا الحكم "في رقم 1 من هامش ص 31".
2 سبقت الإشارة لهذا في رقم 1 هامش ص 31 كما قلنا وفي رقم 6 من هامش ص 498.
فجملة الجواب محذوفة، تقديرها كالسابقة:"إنك لمنذر"؛ بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ، أو: نحو هذا مما يكون فيه دلالة على المحذوف.
ومن الأمثلة أن يقال: أتقسم على أنك أديت الشهادة الصادقة؟ فتقول: أقسم والله.
ومن مواضع الحذف الجائز لدليل أن يكون القسم مسبوقًا بحرف جواب عن سؤال سابق؛ كقوله تعالى: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} ، فالأصل: بلى وربنا؛ إن هذا هو الحق، ومثله أن يسألك سائل: أتعاهد على تأييد الملهوف؟ فنقول: إي، والله، أو: نعم، والله، أو: أجل، والله
…
أو غير هذا من أحرف الجواب التي تسبق القسم مباشرة.
ج- جواب القسم لا يكون إلا جملة؛ فلا يكون مفردًا، ولا شبه جملة، غير أن النحاة عرضوا حالة وقع فيها لجار والمجرور سادًا مسد جواب القسم، ومغنيًا عنه وليس جوابًا أصيلًا وهي التي سبقت1 عند الكلام على جواز فتح همزة "إن" وكسرها؛ حيث قالوا: يجوز فتح همزة "إن" وكسرها إذا وقعت في صدر جواب القسم، وفعل القسم مذكور قبلها، وليس في خبرها اللام؛ نحو: أقسم بالله أن الإحسان نافع، فقد جوزوا عند فتح الهمزة أن يكون التقدير؛ أقسم بالله نفع الإحسان، أي: أقسم بالله على نفع الإحسان؛ فيصح في المصدر المؤول الجر بحرف الجر المحذوف مع بقاء جره2، والجار مع مجروره يسد مسد الجواب مباشرة.
أو: أن المصدر المؤول منصوب على نزع الخافض3؛ فهو مفعول به تأويلًا. وهذا المفعول به ساد مسد الجواب4.
وهناك إعرابات أخرى لا تتصل بموضوعنا الحالي.
ط- من الألفاظ التي قد تستعمل أحيانًا في القسم: "جير"، كقول الشاعر:
1 في جـ 1 م 52 ص 592 من الطبعة الثالثة.
2 فمن المواضع التي يحذف فيها الجار، ويبقى الجر أن يكون الجار داخلًا على أن
ومعموليها "انظر ص 532 م 91 هـ".
3 سبق إيضاح معنى "النصب" على نزع الخافض في جـ 1 م 52 ص 592.
4 راجع الأشموني والصبان في الموضع السالف من باب "إن وأخواتها" عند بيت ابن مالك: "بعد إذا فجاءة أو قسم
…
".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قالوا: قهرت، فقلت: جير؛ ليعلمن
…
عما قليل أينا المقهور
والأحسن في إعرابها: أن تكون حرف قسم مبنيًا على الكسر لا محل له من الإعراب1.
ومنها: "لا جرم" في مثل: لا جرم إن الله يمهل الظالم، حتى إذا أخذه لم يتركه بعد ذلك، وقد سبق أن قلنا2: إذا كسرت همزة "إن" فالسبب إجراء: "لا جرم" مجرى اليمين عند بعض العرب؛ بدليل وجود اللام بعدها في مثل: لا جرم لأنا مكرمك، فالحرف "لا"، ناف للجنس "جرم" اسمه مع تضمنه القسم، والجملة بعده من "إن ومعموليها" جواب القسم، أغنت عن خير "لا".
أما مع فتح همزة "أن" فكلمة: "جرم" فعل ماض، بمعنى:"وجب" و"لا" زائدة، والمصدر المؤول فاعل.
ومنها: "ها" التي للتنبيه في مثل: ها الله ما فعلت كذا
…
أي: والله ما فعلت كذا
…
وقد سبقت الإشارة إليها3
…
1 وتصلح في بعض الأساليب الأخرى أن تكون حرف جواب فقط.
2 جـ 1 ص 595، م 51 مواضع فتح همزة "إن" وكسرها.
3 في رقم 1 من هامش ص 477، وقد ورد في الأحاديث النبوية، وفي نصوص فصيحة أخرى استعمال هذا الحرف في القسم؛ قال الجوهري:"ها" للتنبيه، وقد يقسم بها؛ يقال: لا ها الله ما فعلت كذا، قال ابن مالك: في هذا شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، ولا يكون ذلك إلا مع كلمة:"الله"، أي لم يسمع لا ها الرحمن، كما سمع والرحمن، ثم قال: وفي النطق بها أربعة أوجه "كما جاء في ص 263 من كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، في الحديث ج 7 باب السلب، تأليف الشوكاني".
أولها: ها الله، باللام بعد الهاء في النطق مع غير إظهار شيء من الألفين.
ثانيها: ظهور الألفين نطقًا وكتابة مع قطع الهمزة، فيقال: ها لله.
ثالثها: إظهار ألف واحدة من غير همزة، فيقال: ها لله.
رابعها: حذف ألف "ها" وإظهار همزة القطع في أول كلمة: "الله" فيقال. هألله، والمشهور من هذه الآراء هو الأول والثاني. ا. هـ، وقد تسبقها كلمة:"إي" التي بمعنى: نعم.
في: حرف يجر الظاهر والمضمر، والغالب فيه أن يكون أصليًا، وأشهر معانيه تسعة:
1-
الظرفية1 حقيقة أو مجازًا؛ نحو: "المعادن متراكمة في جوف الأرض، والنفط حبيس في طبقاتها"، ونحو:"السعادة في راحة النفس، والغنى في التعفف عما لا يملكه المرء2"، وهذا المعنى أكثر استعمالاته.
2-
السببية؛ نحو: كان المحامي الشاب مغمورًا؛ فاشتهر في قضية خطيرة تجرد لها، وذاع اسمه فيها، أي: اشتهر بسبب قضيته
…
وذاع اسمه بسببها3
…
3-
المصاحبة؛ كقول أحد المؤرخين: "كان الخليفة العباسي يتخير يومًا للراحة، ولقاء بطانته، ويدعو فيه الشاعر الذي يؤنسهم، فيستجيب فرحًا، ويسرع في الداخلين، فيستقبله الخليفة، قائلًا إلي في بطانتي؛ فلن يتم سرورنا إلا بك"
…
أي: يدعو معهم، يسرع مع الداخلين، مع بطانتي
…
ومن هذا قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} ، أي: مع أمم.
4-
الاستعلاء؛ نحو: "غرد الطائر في الغصن، أي: على الغصن"، "يصيح الغراب في المئذنة، أي: عليها"، وقولهم:"بطل كأن ثيابه في سرحة4 أي: على سرحة؛ لأنه ضخم طويل".
5-
المقايسة، أو: الموازنة5؛ نحو: قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
1 سبق إيضاح معنى "الظرفية" في رقمي 1 و 3 من هامشي ص 463 و 480.
2 وكقول الشاعر:
ولا خير في فرع إذا طاب أصله
…
ولم يك ذا طيب يدل على الأصل
3 ومما تصلح فيه للسببية، ولأن تكون بمعنى "إلى" الغائية قوله عليه السلام:"من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار، قضاها أو لم يقضها، كان خيرًا له من اعتكاف شهرين"، أي: بسبب حاجة أخيه
…
، أو إلى حاجة أخيه.
4 شجرة عظيمة.
5 معناهما: ملاحظة شيء بالقياس إلى شيء آخر، والحكم عليه بعد هذا القياس بأمر من، كالحسن، أو القبح، والزيادة، أو النقص
…
و
…
ويغلب هنا أن تكون الموازنة بين شيء سابق على الحرف: "في" وشيء لاحق بعده، وهذا اللاحق أفضل أو أكثر من السابق، ولا مانع من العكس أحيانًا.
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} أي: بالنسبة للآخرة، وموازنته بمتاعها.
6-
أن تكون بمعنى: "إلى" الغائية؛ نحو: دعوت الأحمق للسداد؛ فرد يده، في أذنيه، أي: إلى أذنيه، كي لا يسمع النصح، ومنه قوله تعالى:{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} ، كناية عن عدم الرد، وعن ترك الكلام، وقوله تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ِ.
7-
أن تكون بمعنى "من" التبعيضية غالبًا؛ نحو: أخذت في الأكل قدر ما أشار الطبيب، أي: من الأكل، "بعض الأكل".
8-
أن تكون بمعنى "الباء" التي للإلصاق1؛ نحو: وقف الحارس في الباب، أي: ملاصقًا له.
ومثل قولهم: من لم يكن بصيرًا في ضرب المقاتل لم يكن آمنًا على حياته، أي: بضرب المقاتل.
9-
التوكيد "بسبب زيادتها"، والرأي الراجح أن زيادتها غير قياسية، فيقتصر فيها على المسموع؛ مثل قول الشاعر:
أنا أبو سعد إذا الليل دجا
…
يخال في سواده يرندجا2
أي: يظن سواده يرندجا3.
1 حقيقة أو مجازًا، "ويوضح معنى الإلصاق ما سبق في "الباء"، رقم 1 ص 490".
2 اليرندج: الجلد الأسود، أو الطلاء الأسود.
3 فيما سبق من معاني "الباء" و"في" يقول ابن مالك متقصرًا على بعض المعاني:
…
والظرفية استبن "ببا"
…
و"في"، وقد ببينان السببا
أول البيت كلمة لم نذكرها، هي:"وزيد"؛ لأنها مختصة بمعنى حرف سبق؛ هو اللام التي في معانيها التوكيد؛ فتكون معه زائدة، ومعنى استبن:"ببا" الظرفية، أي: صير الظرفية واضحة بها؛ لأنها معنى من معانيها، ومعاني "في"، فكلا الحرفين يدل على الظرفية، أي: صير الظرفية واضحة بها؛ لأنها معنى من معانيها، ومعاني "في" فكلا الحرفين يدل على الظرفية، كما يدل على السببية. ثم بين معاني الباء، فقال:
"بالبا" استعن، عد، عوض، ألصق
…
ومثل مع، ومن، وعن، بها انطق
أي: أنها تكون للاستعانة؛ وللتعدية، وللعوض، ولللصاق، وبمعنى "مع" "أي: للمصاحبة"، وبمعنى: "من" "أي: التبعيض" وبمعنى: "عن" "أي: للمجاوزة"، وقد شرحنا هذا كله فيما سبق.
على: حرف جر أصلي يجر الظاهر والمضمر، وأشهر معانيه ثمانية1:
1-
الاستعلاء؛ وهو أكثر معانيه استعمالًا، ويدل على أن الاسم المجرور به قد وقع فوقه المعنى الذي قبل "على" وقوعًا حقيقيًا مباشرًا2 أو مجازيًا، فالحقيقي نحو: يعود السائحون إما على القطر، وإما على السيارات، أو على الطائرات، أو على البواخر، والمجازي، نحو قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقولهم: إن الدموع على الأحزان أعوان.
وليس من الاستعلاء المجازي قولهم: توكلت على الله، واعتمدت عليه؛ لأن الله لا يعلو عليه شيء حقيقة أو مجازًا، وإنما هي بمعنى الاستناد له، والإضافة إليه "أي: النسبة إليه"؛ تريد: أسندت توكلي واعتمادي إلى الله، وأضفتهما "أي: نسبتهما" إليه.
2-
الظرفية؛ نحو قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} 3، أي: في حين غفلة، وقول الشاعر:
يا حبذا النيل على ضوء القمر
…
وحبذا المساء فيه والسحر
أي: في ضوء القمر
…
1 زاد بعضهم معنى تاسعًا، هو: أن تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة، وساق مثلًا لها قول الشاعر:
إن الكريم وأبيك يعتمل
…
إن لم يجد يومًا على من يتكل
"يعتمل: يعمل بالأجرة" جاء في "القاموس المحيط" مادة: "على" ما نصه" "أي: من يتكل عليه، فحذف "عليه" وزاد "على" قبل الموصول؛ عوضًا". ا. هـ.
وفي هذا زيادة لا داعي لها وتكلف بغيض؛ إذ يستقيم المعنى بدونهما، على الوجه التالي الذي سجله الصبان هنا، ونسبه المغني لابن جني ونصه "قيل: إن مفعول يجد" محذوف، أي: إن لم يجد شيئًا، ثم استأنف مستفهمًا استفهامًا إنكاريًا، فقال: على من يتكل؟ ". ا. هـ كلام الصبان، فالكلام على زيادتها عوضًا، مردود وكذلك القول بزيادتها وهي غير عوض.
2 وقد يكون الوقوع غير مباشر بأن يقع فوق شيء قريب منه كقوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} ، أي فوق مكان قريب من النار.
3 إذا جرت "على" الظرف كانت بمعنى: "في" وقد نص "الخضري" على هذا في باب الإضافة عند بيت ابن مالك:
وابن أو اعرب ما كإذ قد أجريا
"حبذا: جملة فعلية للمدح العام وقبلها الحرف: "يا"1
…
3-
المجاوزة2؛ نحو: إذا رضي علي الأبرار غضب الأشرار، أي: رضي عني.
4-
التعليل؛ نحو: اشكر المحسن على إحسانه، وكافئه على صنيعه، أي: لإحسانه، ولصنيعه3
…
5-
المصاحبة؛ نحو: البر الحق أن تبذل المال على حبك له، وحاجتك إليه، أي: مع حبك له4
…
ومثل قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} ، أي: مع ظلمهم5
…
، وقول الشاعر6:
بعيشك، هل أبصرت أحسن منظرا
…
على ما رأت عيناك من هرمي مصر
أي: مع ما رأت
…
6-
أن تكون بمعنى من، نحو قوله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} ، أي: من الناس، ونحو قوله عليه السلام:
"بني الإسلام على خمس"
…
أي: من خمس مواد.
7-
أن تكون بمعنى "الباء"؛ نحو: سمعت من الوالد نصحًا، وحقيق عليه أن يقول ما ينفع، أي: حقيق به، بمعنى جديد به.
8-
الإضراب، والمراد به هنا: إبعاد المعاني الفرعية التي تخطر على البال من
1 تفصيل الكلام على حبذا في الباب الأنسب، وهو باب:"ألفاظ المدح والذم" ج 3 م 91 366، أما الكلام على الحرف:"يا" ففي باب "النداء" ج 4 م 127 ص5.
2 سبق في رقم 3 من هامش ص 463 تعريفها، وبيان أقسامها.
3 ومما يصلح للتعليل "أي: بيان العلة والسبب" قول شوقي في الشرق العربي:
إنما الشرق منزل لم يفرق
…
أهله إن تفرقت أصقاعه
وطن واحد على الشمس والف
…
صحى، وفي الدمع والجراح اجتماعه
4 ومن أمثال العرب: "لا قرار على زأر من الأسد" أي: مع زأر يريدون: لا أمان ولا استقرار في مكان يسمع فيه زئير الأسد.
5 ومما تصلح فيه المصاحبة قول الشاعر:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه
…
فما فاته منها فليس بضائر
6 سبق البيت التالي لمناسبة أخرى في ص 497.
كلام سابق، وإبطال ما يرد على النفس منها؛ "فهو كالاستدراك المستفاد من كلمة:"لكن""، ومن أمثلته قولهم: "هفا الصديق فاحتملت هفوته؛ على أن احتمالها مر أليم، وجفا، فقبلت جفوته، على أن الرضا بها كالرضا بالطعنة المسددة؛ كل نفس لها كارهة
…
، فقد بين المتكلم أنه احتمل الهفوة، وقد يوحي هذا في النفس أن احتمالها سهل، وأنه راض به الاحتمال، فأزال هذا الاحتمال بما ذكره من أن احتمالها مر وأليم، كذلك بين أنه قبل جفوة صديقه. وهذا قد يشعر بأن قبولها كان عن رضا وارتياح؛ فأزال هذا الوهم، نافيًا له؛ مبينًا أن الرضا به بغيض إلى النفس بغض الطعنة القاتلة
…
وكانت وسيلته للإبانة هي كلمة: "علي" التي بمنزلة: "لكن".
ومن ذلك قولهم: "الإسراف كالشح؛ كلاهما داء وبيل، يخشى عواقبه اللبيب، على أن داء الشح أخف ضررًا، وأهون خطرًا من داء الإسراف
…
"، فقد بين أن كلاهما داء سيئ العاقبة، وهذا يوحي إلى النفس أنهما في الشر سواء، ومنزلتهما من الضرر واحدة، فأزال هذا المعنى الفرعي المتوهم بكلمة: "على"، وما بعدها؛ فهي بمنزلة: "لكن"، التي تجيء أول الجملة لإبطال المعاني الفرعية الناشئة مما قبلها.
ومن الأمثلة أيضًا ما قاله الشاعر في أمر قربه أو بعده عن ديار أخلائه، وأنه يفيد أو لا يفيد:
بكل تداوينا؛ فلم يشق ما بنا
…
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
…
إذا كان من تهواه ليس بذي ود
فقد بين أولًا أن تداوي بالقرب وبالبعد فلم يفده واحد منهما، وعدم الإفادة بعد التجربة يوقع في الوهم أنهما سيان من كل الوجوه، لكنه أبطل هذا التوهم بتصريحه بعد ذلك حيث يقول:"على أن قرب الدار خير من البعد"، فهذه الجملة تبطل ما سبق، وتوحي بمعنى جديد؛ هو: أن القرب مطلقًا خير من البعد، ثم عاد فأبطل هذا المعنى الذي أوحي به الوهم بجملة جديدة؛ هي: قرب الدار ليس بنافع"
…
وكانت أداة الإضراب والإبطال هي كلمة: "على".
والأحسن في كلمة: "على" الجارة الأصلية إذا كانت للإضراب1 والإبطال عدم تعلقها هي ومجرورها بشيء؛ "لأنها في هذا الاستعمال بمنزلة: "لكن" التي تفيد الاستدراك" مع اعتبارها كحرف ابتداء لوقوعها في أول الجملة، وعلى هذا تكون "على" التي للإضراب والإبطال حرف جر واستدراك معًا2
…
وقد تستعمل: "على" اسمًا بمعنى: "فوق" ويكثر هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف "من"، فإنه لا يدخل إلا على الأسماء، نحو: تمر من على بلدنا الطائرات، أي: من فوق بلدنا3، فقد خرجت من حرفيتها، وصارت اسمًا بمعنى "فوق"، كما نرى، وهذا قياسي كباقي استعمالاتها.
وإذا كان المجرور بها ضميرًا وجب قلب ألفها ياء4؛ نحو: تقبل علينا وفود السائحين شتاء، وقول الشاعر:
إذا طلعت شمس النهار فإنها
…
أمارة تسليمي عليك، فسلمى
فإن كان الضمير ياء المتكلم، وجب إدغام الياءين؛ نحو: علي أن أسعى للخير جاهدًا5
…
1 انظر ما يتصل بمعنى التعلق وبالإضراب في ص437 و439 وهامشها.
2 ولا داعي للأخذ بالرأي الذي يقول: إنهما متعلقان بمحذوف هو خير لمبتدأ محذوف والتقدير: "التحقيق كائن على أن كذا وكذا
…
"؛ لأن هذا الرأي مع صحته يحوي التعقيد، والتكلف، وكثرة المحذوف من غير داع، وقد كررنا وأوضحنا الأسباب أنه لا يصح الالتجاء إلى الحذف والتقدير، والتعسير بغير ضرورة قاسية، لا سبيل للتغلب عليها إلا من هذه الناحية، والرأيان في حاشية الأمير على الشذور ص15 عند الكلام على "ذي" إحدى الأسماء الستة، وكذلك في "المغني" ج1 عند الكلام على الحرف: "على، ونص كلام المغني:"وتعلق "على" هذه بما قبلها عند من قال به كتعلق "حاشا" بما قبلها عند من قال به؛ لأنها أوصلت معناها إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإراج، أو: هي خبر لمبتدأ محذوف: أي: "والتحقيق على كذا"، وهذا الوجه اختاره ابن الحاجب، قال: ودل على ذلك أن الجملة الأولى وقعت على غير التحقيق، ثم جيء بما هو التحقيق فيها". ا. هـ، كلام المغني.
3 وقد أشار إلى هذا ابن مالك في بيت سيجيء في هامش ص517 عند كلامه على "الكاف" التي قد تقع اسمًا.
4 وهي المكتوبة ياء، تبعًا لقواعد رسم الحروف.
5 "ملاحظة": جاء في "الكامل" للمبرد جـ1 ص270 أنه بعض العرب يحذف من آخرها اللام والياء إذا كان المجرور بها مبدوءًا "بأل"، ويحذف معها همزة "أل" كقول قطري بن الفجاءة:
غداة طفت علماء بكر بن وائل
…
وعجنا صدور الخيل نحو تميم
يريد طفت على الماء القتلى من بكر
…
وجاء على هامش الموضع السالف أن أولئك العرب تفعل ذلك كثيرًا في النثر والشعر. ا. هـ، لكن الأنسب اليوم عدم مجاراتهم، لما فيه من لبس.
عن1: حرف جر أصلي؛ يجر الظاهر والمضمر، وأشهر معانيه تسعة:
1-
المجاوزة2، وهي أظهر معانيه، وأكثرها استعمالًا؛ نحو: جلوت عن بلد المظالم، ورغبت عن الإقامة فيه، أي: ابتعدت وتركت.
2-
أن تكون بمعنى: "بعد"3، كقولهم: دع المتكبر؛ فعن قليل يؤدبه زمانه، والمغرور؛ فعن قريب تكشفه أيامه، أي: بعد قليل، وبعد قريب
…
3-
الاستعلاء "فتكون بمعنى: "على"، نحو: من يبخل بخدمة وطنه فإنما يسيء لنفسه بما يبخل عنها، ويمنع من إفادتها
…
أي: بما يبخل عليها4 وكقولهم: العظيم من زادت خيراته عن المحتاج لها، وفصلت عنه
…
أي: على المحتاج لها وفصلت عنه
…
أي: على المحتاج لها، وفضلت عليه، وقول الشاعر:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
…
فما زال غضبانًا علي لئامها
4-
التعليل، "أن يكون ما بعدها علة وسببًا فيما قبلها"، نحو: لم أحضر إليك إلا عن طلب منك، ولم أفارقك إلا عن ميعاد ينتظرني، أي: بسبب طلب، وبسبب ميعاد.
5-
الظرفية؛ كقولهم: الزعيم لا يكون عن حمل الأعباء الثقال وانيًا، ولا عن
1 الغالب أن تتحرك النون بالكسر إذا وقع بعدها ساكن مطلقًا: "أل، أو غيرها"، نحو: انصرف عن الأذى انصرافك عن استقبال البلايا.
2 سبق معناها في رقم 3 من هامش ص 463 عند الكلام على: "من" تعريفها، وبيان أقسامها، مع التمثيل والإيضاح.
3 "بعد" ظرف سبق الكلام عليه تفصيلًا في باب الطرف، ص 283.
4 ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} .
بذل التضحيات مترددًا، أي: في حمل
…
وفي بذل.
6-
الاستعانة1؛ نحو: رميت عن القوس؛ أي: بالقوس، إذا كانت القوس أداة الرمي2
…
7-
أن تكون بمعنى: بدل، نحو قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} .
ومثل: أديت العمل عن صديقي المريض، أي: بدل نفس، وبدل صديقي، وقول الشاعر يمدح محسنًا:
وتكفل الأيتام عن آبائهم
…
حتى وددنا أننا أيتام
8-
أن تكون بمعنى: "من" نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ، أي: من عباده3، "وهذا أوضح من اعتبارها للمجاورة؛ على معنى: الصادرة عن عباده، ولا تقدير فيه"
…
9-
أن تكون بمعنى الباء، نحو قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، أي: بالهوى.
وقد ذكر لها بعض معان أخرى، تركناها متابعة للمتعرضين بحق عليها4.
1 سبق في ص 490 شرح معناها وما يتصل بها.
2 ومثل: ضربت الخائن عن السيف، أي: بالسيف إذا كان السيف أداة الضرب.
3 وكقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} .
4 منها أن تكون زائدة سماعًا، ويجب الاقتصار في زيادتها على المسموع وحده؛ نحو:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}
…
وهذه تصلح أصلية إذا كان السؤال لمعرفة شأن الأنفال، وطلب الاستخبار عنها، لا لطلب الاستعطاء وأخذ شيء منها. ومن زيادتها المسموعة ما نص عليه ابن هشام في المعنى جـ1 عند الكلام عليها قائلًا: "إنها تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة؛ كقول الشاعر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها
…
فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
قال ابن جني: أراد؛ فهلا تدفع عن التي بين جنبيك، فحذفت "عن" من: أول الموصول، وزيدت بعده"
…
ا. هـ، والبيت مذكور أيضًا في ذيل الأمالي ص 107.
وفيما سبق من معاني "على"، و"عن" يقول ابن مالك باختصار:
"على" للاستعلا، ومغني:"في" و"عن"
…
بعن تجاوزا، عنى من قد فطن
وقد تجيء موضع "بعد" و"على"
…
كما "على" موضع "عن" قد جعلا
يريد: أن "على" تكون للاستعلاء وتكون للظرفية؛ مثل: "في" وللمجاوزة مثل: "عن" التي تؤدي هذا المعنى إذا قصده من فطن؛ لأنها تؤديه، ثم بين أن: عن" قد تكون بمعنى: "بعد"، وبمعنى: "على" المفيدة للاستعلاء، كما أن: "على" تكون بمعنى: "عن" المفيدة للمجاوزة.
وتستعمل "عن" اسمًا بمعنى: "جانب"، ويغلب أن يكون هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف:"من"، نحو: يجلس القاضي: ومن عن يمينه مساعده، ومن عن يساره كاتبه، أي: من جانب يمينه، ومن جانب يساره1
…
، وهذا الاستعمال قياسي كباقي استعمالاتها السابقة.
اتصال "ما" الزائدة بالحرف: عن.
إذا كانت "عن" جارة جاز وقوع "ما" الزائدة بعدها، فلا تغير شيئًا من عملها أو معناها؛ وإنما يبقى لها كل اختصاصها السابق قبل مجيء الحرف الزائد، نحو: عما قريب يتحقق المأمول2.
الكاف: حرف يجر الظاهر، ويقع أصليًا وزائدًا، وأظهر معانيه أربعة:
1-
التشبيه: وهو بنوعيه الحسي والمعنوي أكثر معانيه تداولًًا، والأغلب دخول "الكاف" على المشبه به؛ نحو: الأرض كرة كالكواكب الأخرى، تستمد ضوءها من الشمس كبقية المجموعة الشمسية، ونحو: الذكاء كالكهرباء، كلاهما لا يدرك إلا بآثاره، ويقولون في المدح: فلان كهربي الذكاء، يريدون: أنه في سرعة فهمه واستنباطه كالكهربا؛ في سرعة تأثرها وتأثيرها3
…
1 وسيشير إلى هذا ابن مالك في بيت يجيء رقم 4 من هامش ص 517 عند الكلام على: "الكاف".
2 ومثل قول الشاعر في الحث على الإجادة، والإتقان عند ممارسة الأمور والأعمال؛ حرصًا على الذكرى الطيبة بعد الممات:
إذا كنت في أمر فكن فيه محسنًا
…
فعما قليل أنت ماض وتاركه
وتقضي قواعد الكتابة باتصال الحرفين خطًا، وسيشير ابن مالك آخر الباب ص 529 إلى مسألة زيادة الحرف:"ما"؛ بعد: "من" و"عن" و"الباء"، وأن هذه الزيادة لا تعوق تلك الحروف عن عملها؛ فيقول:
وبعد "من" و"عن"، و"باء"، زيد "ما"
…
فلم يعق عن عمل قد علما
3 ومن الأمثلة قول الشاعر:
ابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو
…
لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان
أي: كبناية الأجيال.
2-
التعليل والسببية؛ كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ، أي: بسبب هدايته لكم، وقوله تعالى عن الوالدين:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ، أي: بسبب تربيتهما إياي في صغري.
3-
التوكيد1 ويختص بالزائدة؛ نحو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أي: ليس شيء مثله
…
"وهذا في رأي من يرون زيادة الكاف هنا"2.
4-
الاستعلاء؛ كقولهم: كمن كما أنت، أي: على الحال التي أنت عليها. واستعمالها في هذا المعنى، والذي قبله قليل، ولكنه قياسي.
ومن الاستعمالات القياسية أن تخرج "الكاف" عن الحرفية، لداع يوجب ذلك، فتصير اسمًا مبنيًا بمعنى:"مثل"، يجري عليه ما يجري عليه ما يجرى على نظائره من الأسماء المبنية3؛ كقولهم: لن ينفع في منع الإجرام كالعقوبات الرادعة، وقولهم:
ابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو
…
لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان
أي: كبناية الأجيال.
1 سبق في أول هذا الباب ص450 إيضاح للتوكيد الذي ينشأ من الحرف الزائد، كما سبق في الجزء الأول ص70 م5.
2 وحجتهم أنها لو لم تكن زائدة لترتب على أصالتها الاعتراف بوجود مثل المولى تعالى؛ وهذا محال، والأسهل الموافقة على زيادتها في هذا الموضع ونظائره، ومنها قوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}
…
، لتجنب التأويلات الأخرى، والآراء التي يشوبها التعقيد.
أما من يمنعون زيادتها فحجتهم: أن "مثل" بمعنى: ذات، وأن القرآن ليس فيه زائد، لكن فاتهم أن الزائد هنا وفي فصيح الكلام العربي يؤدي توكيد معنى الجملة "طبقًا لما فصلناه عند الكلام على الحرف في ج 1 م 5 ص 70"، فلا عيب في زيادته مع أدائه هذا الغرض، إنما المعيب المنزه عنه القرآن، هو الزائد الذي له فائدة معه، يكون وجود كعدمه، ومن أمثلة زيادتها ما نقلوه عن أعرابي سئل: كيف تصنعون الأقط؟ فأجاب: كهين، يريد؛ هو هين، فالكاف زائدة كما قالوا على أني لا أرى مانعًا أن تكون اسمًا مبنيا بمعنى:"مثل"؛ فكأنه يقول: "مثل هين" أي: مثل شيء هين
…
3 فيكون اسمًا مبنيًا في محل رفع، أو: نصب، أو: جر، على حسب موقعه من الجملة التي لا تستغني في تركيبها عنه اسمًا، لا حرفًا.
ما عاتب الحر الكريم كنفسه1
…
وقولهم:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو
…
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
أي: مثل العقوبات مثل نفسه مثل العفو؛ فالكاف في الأمثلة السالفة اسم، لحاجة الجملة إلى فاعل، فالكاف فاعل1، مبني على الفتح في محل رفع.
وقد تكون أحيانًا خبرًا لمبتدأ2؛ كقولهم: من حذرك كمن بشرك
…
وقد تكون مفعولًا به في نحو قول الشاعر:
ولم أر كالمعروف؛ أما مذاقه
…
فحلو، وأما وجهه فجميل3
…
4
وقد تكون في محل جر في نحو: يبتسم فلان عن كاللؤلؤ المكنون، وهكذا
…
فهي بمعنى: "مثل" في كل ذلك، وفي كل موضع آخر يستوجب المعنى والإعراب أن تكون فيه اسمًا مبنيا5.
1 في قول الشاعر:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه القرين الصالح
2 أو لما أصله المبتدأ، كوقوعها خبرًا للناسخ "ليس" في قول الشاعر:
ليس من قال بالصواب كمن قال
…
بجهل؛ والجهل داء عياء
3 وبعد هذا البيت:
ولا خير في حسن الجسوم وطلوهاإذا لم يزن حسن الجسوم عقول
…
4 وفي الكلام على معاني "الكاف"، وعلى أنها تستعمل اسمًا بمعنى:"مثل"، وكذلك:"عن" و"على" بدليل دخول "من" عليهما، وهي لا تدخل إلا على الأسماء يقول ابن مالك أولًا:
"شبه" بكاف، وبها "التعليل" قد
…
يعنى، وزائدًا لتوكيد ورد
يريد: أن كلمة: "الكاف" تستعم في التشبيه، وأن "التعليل" بها قد يعني "أي: يقصد" وورد هذا الحرف زائدًا للتوكيد، ثم قال:
واستعمل اسمًا، وكذا:"عن" و"على"
…
من أجل ذا عليهما "من" دخلا
يريد: أن حرف "الكاف" استعمل اسمًا، وكذلك "عن" و"على"، من أجل استعمالها اسمين دخل عليهما الحرف الجار:"من" وهو لا يدخل إلا على الأسماء كما سبق، في ص 515.
5 انظر هامش رقم3 في الصفحة السابقة.
وإذا كانت "الكاف" أداة جر، فقد تتصل بها "ما" الزائدة، فتكفها عن العمل غالبًا وتزيل اختصاصها "وهو: الدخول على الاسم لجره"، فتدخل على الجمل الاسمية والفعلية، نحو: "الصحة خير النعم؛ كما المرض شر المصائب"، ونحو: "الفقر يخفي مزايا المرء، كما يزيل ثقة الناس بصاحبه1
…
"، وهذه هي "ما" الزائدة الكافة عن العمل، ومن القليل؛ الذي لا يقاس عليه أن يبقى لها اختصاصها الأول، فتدخل على الاسم، فتجره بالرغم من اقترانها بكلمة "ما" الزائدة؛ نحو: قول القائل:
وننصر مولانا ونعلم أنه
…
كما الناس مظلوم عليه وظالم
أي: كالناس، وهذه هي "ما" الزائدة فقط، وليست بكافة.
مذ ومنذ2: يكثر استعمالها اسمين ظرفين، أو اسمين غير ظرفين، كما يكثر استعمالهما حرفين أصليين للجر.
أ- فيصلحان للاسمية المجردة من الظرفية إذا لم تقع بعدهما جملة، وإنما وقع بعدهما اسم مرفوع؛ نحو: ما سافرت مذ الشهر الماضي، أو منذ
…
فمذ ومنذ مبتدأ خبره الاسم المرفوع بعده3.
1 وسيشير إلى هذا ابن مالك آخر الباب ص 529 حيث يعيد البيت التالي في زيادتها بعد "الكاف" و"رب"، وأنها تكفهما عن العمل أو لا تكفهما:
وزيد بعد "رب" والكاف فكف
…
وقد يليهما وجر لم يكف
أي: لم يمنع، يريد بقوله:"وزيد" الحرف: "ما" وأن هذا الحرف كفهما عن العمل، وقد يليهما فلا يكفهما.
2 سبق كلام عليهما في باب الظرف، ص 299 ولأهميتهما وتشعب أحكامها سيجيء لهما بحث شامل مستقبل، آخر هذا الجزء ص 544 "وكذلك سبق الكلام عليهما في جـ1 لمناسبات مختلفة في ص 357 م 36 و 366 م 37 و 370 م 38".
3 هذا هو الأحسن، ويجوز إعراب كل منهما ظرفًا مقدمًا "أي: لتعلقه بالخبر المحذوف، كما في رقم 3 من هامش ص 300" بمعنى:"بين، وبين" مضافين المعنى فمعنى ما سافرت مذ أو منذ الشهر الماضي: الشهر الماضي بيني وبين عدم السفر، راجع الصبان، و"الشهر" هو المبتدأ المؤخر.
ولا بد من تقدم "مذ ومنذ" عند إعرابهما مبتدأ أو خبرًا، وشروط أخرى هي المشار لها في رقم3 من هامش الصفحة الآتية.
ويصلحان للظرفية إذا وقع بعدهما جملة اسمية، أو فعلية ماضوية، ولا يصح أن تقع بعدهما المضارعية المستقبلة1؛ فمثال الجملة الاسمية: ما سافرت مد الجو مضطرب، أو منذ
…
فكلاهما ظرف زمان للفعل "سافر"، مبني على السكون والضم، في محل نصب، وهو مضاف، والجملة الاسمية بعدهما في محل جر مضاف إليه، ومثال الجملة الفعلية الماضوية: أسرعت إليك مذ أو منذ دعوتني، وكلاهما ظرف زمان للفعل:"أسرع" مبني على السكون والضم في محل نصب. والظرف مضاف والجملة الماضوية بعده مضاف إليه في محل جر، ومن هذا قول الشاعر:
بدا الصبح فيها2 منذ فارقت مظلما
…
فإن أبت صار الليل أبيض ناصعًا
"فمنذ" ظرف زمان للفعل: "بدا".
ب- ويكونان حرفين أصليين للجر، وهذا يوجب شروطًا؛ أهمها3: أن يكون المجرور اسمًا ظاهرًا، لا ضميرًا، وأن يكون وقتًا4، وأن يكون هذا الوقت متصرفًا، معينًا لا مبهمًا، ماضيًا أو حاضرًا لا مستقبلًا، نحو: ما رأيته مذ يوم السبت الأخير، أو مذ ساعتنا، فلا يصح: مذه، ولا مذ البيت، ولا: مذ سحر، "تريد: سحر يوم معين" ولا مذ زمن، ولا مذ غد، وكذلك "منذ" في كل ما سبق.
1 فلا يصح: "مذ، أو منذ" يفهم؛ لأن عاملهما لا يكون إلا ماضيًا، فلا يجتمع مع المستقبل كما سيجيء في البحث الآتي "ص 545" منقولًا عن الصبان.
2 في الدار، أو البلدة.
3 والراجح أن هذه الشروط تجري على الاسم المنفرد المرفوع بعدهما أيضًا إذا لم يكونا حرفي جر.
4 ومثل الوقت ما يسأل به عن الوقت، بشرط أن يكون ظرف زمان؛ نحو: منذ كم يومًا سافرت؟ أو منذ متى سافرت؟ أو منذ أي وقت سافرت؟ ومثلها: مذ.
ويقول النحاة كما جاء في الهمع: "ويجوز وقوع المصدر بعدهما، نحو: ما رأيته مذ قدوم علي، بالرفع والجر، وهو على تقدير حذف زمان؛ أي: مذ زمن قدوم علي، ويجوز وقوع "أن وصلتها"، بعدهما؛ نحو: ما رأيته مذ أن الله خلقني، فيحكم على موضعهما بما حكم به للفظ المصدر من رفع أو جر وهو على تقدير زمان أيضًا". ا. هـ.
ويشترط في عاملهما أن يكون ماضيًا، إما منفيًا يصح أن يتكرر معناه؛ نحو: ما رأيته مذ أو منذ يوم الجمعة، وإما مثبتًا، معناه ممتد متطاول1؛ نحو: سرت مذ، أو منذ يوم الخميس.
فإن كان الاسم المجرور بهما معرفة ومدلول زمنه ماضيًا، كان معناهما الابتداء مثل:"من" الابتدائية، نحو: ما رأيته مذ، أو: منذ يوم الجمعة الماضي، أي: من يوم الجمعة؛ فابتداء عدم الرؤية هو يوم الجمعة، وإن كان معرفة ومدلول زمنه حاضرًا كان معناهما لا إعرابهما الظرفية، مثل "في" نحو: ما رأيته مذ ساعتنا، أو منذ يومنا، أي: في ساعتنا وفي يومنا.
أما إن كان المجرور بهما نكرة معدودة2 فمعناهما الابتداء والانتهاء معًا؛ فهما مثل "من" و"إلى" مجتمعين؛ نحو: ما رأيته مذ أو منذ يومين، أي: ما رأيته من ابتداء هذه المدة إلى نهايتها.
ومما يجب التنويه به أن الاسم بعد "مذ"، و"منذ" مع جواز جره على اعتبارهما حرفي جر، وجواز رفعه على اعتبارهما اسمين محضين قد يترجع فيه أحد الضبطين على الآخر، وقد يقوي حتى يقترب من الوجوب كما يتبين مما يأتي.
إذا كان الزمن بعدهما للحاضر فالراجح أن يكونا حرفي جر، والاسم بعدهما مجرورًا بهما، نحو: ما تركت الكتابة مذ أو منذ ساعتنا، وعلى هذا تجري أكثر القبائل العربية، وتكاد تلتزمه وتوجبه.
وإذا كان الزمن بعدهما للماضي، فالأرجح اعتبار "منذ" حرف جر، والاسم بعدها مجرور، نحو: ما زرت الصديق منذ يومين، والعكس في "مذ"، نحو ما زرت الصديق مذ يومان3.
1 في ص549 بيان "المتطاول" وما يتصل بهذا.
2 لتكون معينة؛ لأن المبهمة أي: غير المعدودة، مثل: برهة، وحين
…
لا تصلح بعدهما، كما سبق، ولا فرق في المعدود بين أن يكون معدودًا لفظًا ومعنى؛ نحو: يومين، أو معنى فقط: نحو: شهر.
3 وفي الكلام على مذ ومنذ واسميتهما، وحرفيتهما وأحكامهما يقول ابن مالك:
و"مذ" و"منذ" اسمان حيث رفعا
…
أو أوليا الفعل، كجنت مذ دعا
يريد: أنهما يكونان اسمين حين يرفعان اسمًا بعدهما؛ باعتبارهما مبتدأين، وهو الخبر المرفوع بالمبتدأ، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
في مثل: "ما رأيته مذ أو منذ أن الله خلقه" بفتح همزة أن، "أي: من زمن أن الله خلقه" يجوز اعتبارهما اسمين، مبتدأين، والمصدر المؤول خبرهما، كما يجوز اعتبراهما حرفي جر والمصدر المؤول هو المجرور بهما، أما عند كسر همزة "إن" فيتعين اعتبارهما اسمين مبتدأين لوقوع جملة اسمية بعدهما هي الخبر1.
= أو حين يليها ويجيء بعدهما الفعل وفاعله؛ مثل: جئت مذ دعا، واكتفى بأن ذكر الجملة الفعلية وترك الاسمية لفهم القارئ، أو؛ لأنها ستعرب خبرًا والخبر مرفوع عندهم بالمبتدأ، فتدخل في ضمن الحالة الأولى، ثم قال في معناهما:
وإن يجرا في مضي "فكمن"
…
هما، وفي الحضور معنى:"في"، استبن
أي: اطلب، بيان معنى "في" وهو: الظرفية.
1 لهذا إشارة في رقم 4 من هامش ص 519، وبيان في رقم 3 من هامش ص 546.
"رب": ليس بين حروف الجر ما يشبه هذا الحرف في تعدد الآراء فيه. واضطراب المذاهب النحوية، واللغوية في أحكامه ونواحيه المختلفة: "التي منها ناحية معناه، وناحية حرفيته، وناحية زيادته أو شبهها، وتعلقه بعامل أو عدم تعلقه، ونوع الفعل الذي يقع بعده، والجملة التي يوصف بها مجروره
…
و
…
"، وكان من أثر هذا الاضطراب قديما وحديثا الحكم على بعض الأساليب بالخطأ عند فريق، وبالصحة عند آخر، وبالقبول بعد التأول والتقدير عند ثالث، وكل هذا يقتضينا أن نستخلص أفضل الآراء، بأناة، وحسن تقدير.
وخير ما نستصفيه من معناه، ومن أحكامه النحوية هو ما يأتي:
أ- أن معناه قد يكون التكثير وقد يكون التقليل، وكلاهما لا بد فيه من القرينة التي توجه الذهن إليه، ولهذا كان الاستعمال الصحيح للحرف "رب"، وما دخل عليه أن يجيء بعد حالة خالية من اليقين1 تقتضي النص على الكثرة أو القلة، "كأن يقول قائل2: أظنك لم تمارس الصناعة، فتجيب: رب صناعة نافعة مارستها، فقد جاءت الأداة "رب"، وجملتها لإزالة أمر مظنون قبل مجيئها". فمثال دلالتها على الكثرة: رب محسود على جاهه احتمل البلاء بسببه، ورب مغمور في قومه سعد بغفلة العيون عنه
…
وقولهم: رب أمل في صفاء الزمان قد خاب، ورب أمنية في مسالمة الليالي قد بددتها المفاجئات.
ومثال القلة قولهم: رب منية في أمنية تحققت
…
ورب غصة في انتهاز فرصة تهيأت، وقولهم: رب غاية مأمولة دنت بغير سعي، ورب حظ سعيد أقبل بغير انتظار
…
والقرينة على القلة والكثرة في الأمثلة السالفة هي: التجارب الشائعة التي يعرفها السامع، ويسلم بها.
ب- وأن أحكامه النحوية أهمها:
1-
أنه حرف جر شبيه3 بالزائد، وله الصدارة في جملته؛ فلا يجوز
1كحالة الظن، أو الشك
…
2 أو من هو في حكم القائل؛ بأن تدل هيئته على أنه في حالة ظن أو شك، فليس من اللازم أن ينطق فعلًا، وإنما يكفي أن يقدر فيه ذلك، "شرح المفصل جـ 8 ص 27".
3 سبق الكلام في ص452 على حرف الجر التشبيه بالزائد، وأوجه الاتفاق والمخالفة بينه وبين الأصلي والزائد.
أن يتقدم عليه شيء منها1، لكن يجوز أن يسبقه الواو، أو أحد الحرفين. "ألا" الذي للاستفتاح2 و"يا"، نحو: ألا رب مظهر جميل حجب وراءه مخبرًا مرذولًا. يا رب عظيم متواضع زاده تواضعه عظمة وإكبارًا، وقول الشاعر:
فيا رب وجه كصافي النمير
…
تشابه حامله والنمر
2-
وأنه لا يجر غالبًا إلا الاسم الظاهر النكرة3، وقد وردت أمثلة قليلة لا يحسن القياس عليها كان مجروره فيها ضميرًا للغائب، يفسره اسم منصوب، متأخر عنه وجوبًا، يعرب تمييزًا، نحو: ربه شابًا نبيلًا صادفته، وفي تلك الأمثلة القليلة كان الضمير مفردًا غائبًا في جمع أحواله، يعود على التمييز الواجب التأخير، ويجب مطابقة هذا التمييز لمدلول هذا المضير المسمى:"الضمير المجهول4"، لعدم عودته على متقدم، نحو: ربه شابين نبيلين صادفتهما، ربه شبابًا نبلاء صادفتهم، ربه فتاة نبيلة صادفتها
…
و
…
وهكذا.
3-
وأن النكرة التي يجرها تحتاج في أشهر الآراء لنعت مفرد، أو جملة، أو شبه جملة، غير أن الأكثر الأفصح حين يكون النعت جملة أن تكون فعلية، ماضوية لفظًا ومعنى، أو: معنى فقط كالمضارع المسبوق بالحرف "لم"
1 ومن المسموع الذي لا يقاس عليه ندرته قول الشاعر:
وقبلك رب خصم قد تمالوا
…
علي فما هلعت ولا ذعرت
تمالوا: أي: تمالئوا، بمعنى: اجتمعوا واتفقوا، الخصم: المخاصم، وقد يكون للاثنين، وللجمع، وللمؤنث. . .
2 ويجوز مثله مع قلته، الحرف:"لكن"، بسكون النون لذي يفيد الاستفتاح والاستدراك معًا، كقول أحد الشعراء من أهل القرن الثالث الهجري كما سجله صاحب كتاب:"الهفوات النادرة" لغرس النعمة الصابي ص 272:
نعمة الله لا تعاب، ولكن
…
ربما استقبحت على أقوام
وسيذكر البيت لمناسبة أخرى في ص 526.
3 سيجيء إعراب هذا الاسم تفصيلًا في ص 532.
4 وله أسماء متعددة، منها: ضمير الشأن، وضمير القصة
…
"، وقد سبق شرحه وتفصيل الكلام عليه في باب "الضمير" ج 1 م 19 ص 226".
"نحو: رب صديق وفي عرفته، رب صديق لازمك عرفته، رب صديق عندك عرفته، رب صديق في الشدة عرفته، رب صديق لم يتغير عرفته"، ومثال النعت بجملة اسمية، رب ملوم لا ذنب له، وقول الشاعر:
ذل من يغبط الذليل بعيش
…
رب عيش أخف منه الحمام1
4-
وأن "رب" مع مجرورها لا بد أن يكون لها في الأغلب الأحوال اتصال معنوي يفعل ماض يقع بعدها، أو: بما يعمل عمله ويدل دلالته الزمنية، "وهذا الفعل مع فاعله غير الجملة الماضية التي قد تقع أحيانًا صفة لمجرورها"، ويكون الفعل أو ما يعمل عمله بمنزلة العامل الذي تتعلق به "رب" ومجرورها2 بالرغم ما هو مقرر من أن حرف الجر الزائد، وشبه الزائد لا يعلق مع مجروره بعامل كما سبق نحو: رب كلمة طيبة جلبت خيرًا، ودفعت شرًا، وقول الشاعر:
فيا رب وجه كصافي النمير
…
تشابه حامله والنمر
…
والأغلب في هذا الفعل وما في معناه أن يكون محذوفًا مع فاعله؛ لأنهما معلومان تدل عليهما قرينة لفظية أو معنوية، "لما قدمنا من أن الاستعمال الصحيح للحرف "رب"، وما دخل عليه أن يكون بعد حالة ظن، أو شك تستدعي النص على القلة أو الكثرة، فيكون جوابًا عن قول لقائل، أو: من هو في حكمه"؛ فاللفظية نحو: ما أطيب العمل، وما أبغض البطالة: فرب عمل نافع، ورب بطالة
1 الموت.
2 راجع شرح المفصل "جـ 8 ص 27 و 29 ثم الصبان في أول باب الإضافة عند الكلام على الإضافة اللفظية، ومناقشته مثال ابن مالك: "رب راجينا عظيم الأمل
…
".
ونص ما نقله الصبان: "إن الأكثرين يقولون بوجوب مضي ما تتعلق به "رب"، بناء على أنها تتعلق، لا أنهم يقولون بوجوب مضي مجرورها؛ وأن ابن السراج يجوز كونه حالًا أي: في الزمن الحالي وابن مالك يجوز كونه حالًا أو مستقبلًا. وقد قال في التسهيل: "ولا يلزم وصف مجرورها خلافًا للمبرد ومن وافقه، ولا مضي ما تتعلق به". ا. هـ.
هذا، ولا يحسن الأخذ بالآراء الضعيفة إلا في فهم ما ورد بها، أما المحاكاة والقياس، فيجريان على الأعم الأشهر الذي لخصناه.
3 ومثل هذا قول الآخر:
رب ليل كأنه الدهر طلًا
…
قد تناهى فليس فيه مزيد
ضارة، فالتقدير: فرب عمل نافع أحببته، ورب بطالة ضارة كرهتها، والمعنوية كأن تمر على قوم منهمكين في العمل، مشغولين به، فتبتسم ابتسامة الرضا والانشراح، ثم تنصرف عنهم قائلا: رب علم نافع، ورب بطالة ضارة، فالتقدير رب عمل نافع أحببته، أو احترمت صاحبه، أو أكبرته
…
أو
…
، ورب بطالة ضارة كرهتها، أو أنكرت أمرها
…
أو
…
ومن الجائز ذكر هذا الفعل وفاعله.
ويقول النحاة: إن "رب" توصل معنى هذا الفعل وما في حكمه إلى الاسم المجرور بها، ففي مثل:"رب رجل عالم أدركت" أوصلت معنى الإدراك إلى الرجل1، وكذلك في الأمثلة السابقة، ومن ثم كان الأحسن عندهم في مثل:"رب عالم لقيته"، وقول الشاعر:
رب حلم2 أضاعه عدم المال
…
وجهل غطى عليه النعيم
أن تكون الجملة الفعلية الماضوية المذكورة هي الصفة للنكرة المجرورة بالحرف: "رب"، وأن تكون هناك جملة أخرى ماضوية محذوفة، تتصل بها "رب" ومجرورها اتصالًا معنويًا، ولا يرتاحون أن تكون الجملة الماضوية المذكورة هي المرتبطة ارتباطًا معنويًا بهما؛ لأنها صفة للنكرة المجرروة "برب"، وهذه النكرة قد تستغني عن كل شيء أساسي أو غير أساسي بعدها إلا عن الصفة، ومثل هذا الفعل الداخل في جملة الصفة لا يصلح أن يكون هو الذي بمنزلة العامل في:"رب" ومجرورها؛ لأن الصفة لا تعمل في الموصوف؛ منعًا للفساد المعنوي.
5-
وأنه يجوز أن يتصل بآخرها "ما" الزائدة، والشائع في هذه الحالة
1 هذا المثال بنصه وبالكلام الخاص به، منقول من الجزء الثامن ص27 من كتاب:"المفصل" عند البحث الخاص بالحرف: "رب" وهو كلام يجعل حرف الجر الزائد والشبيه بالزائد معديًا للعامل، مع أن كثرة النحاة تجعل التعدية مقصورة على حرف الجر الأصلي، دون الزائد وشبهه كما سبق في ص 451 و 452، ويجيء في رقم 1 من هامش ص530 إلا أن كان المقصود الاتصال المعنوي المجرد كما قلنا وليس في كلامه دليل عليه.
2 عقل، وفي بعض الروايات: رب علم.
أن تمنعها من الدخول على الأسماء المفردة، ومن الجر، فتجعلها مختصة بالدخول على الجمة الفعلية والاسمية1، ولذا تسمى:"ما" الزائدة الكافة؛ "لأنها كفتها - أي: منعتها من عملها؛ وهو: الجر؛ ومن اختصاصها؛ وهو: الدخول على الاسم وحده؛ لجره"؛ نحو: ربما رأيت في الطريق مستجديًا، وهو في الأغنياء. ونحو: ربما كان السائل أغنى من المسؤول، أو ربما السائل أغنى من المسؤول. ولكن دخولها على الماضي2 هو الكثير، أما دخولها على المضارع الصريح3 وعلى الجملة الاسمية فنادر لا يقاس عليه، إلا إن كان معنى المضارع محقق الوقوع قطعًا كما سيجيء، ومن العرب من يبقيها على حالها من الدخول من الأسماء المفردة، وجرها مع وجود "ما" الزائدة؛ فيقول: رب ما سائل في الطريق أزعجني، ولا تسمى "ما" في هذه الحالة "كافة"؛ وإنما تسمى:"زائدة" فقط. والأفضل الاقتصار على الرأي الأول الشائع4.
6-
والشائع أيضًا أن "رب" بحالتيها العاملة والمكفوفة عن العمل، لا تدخل إلا على كلام يدل على الزمن الماضي، سواء أكان مشتملًا على فعل ماض أم على غيره مما يدل على الزمن الماضي، كالمضارع المقرون بالحرف:" لم"، أو: الوصف الدال على الماضي
…
أو
…
نحو: رب معروف قدمته سعدت بفعله رب علم لم ينفع صاحبه أحزنه رب بئر متفجرة أمس نفعت بما في داخلها.
وقد أشرنا إلى أنها تدخل على المضارع الصريح إذا كان معناه محقق الوقوع لا شك في حصوله؛ فكأنه من حيث التحقق بمنزلة الماضي الذي رفع معناه5،
1 أما معناه فيبقى على الوجه الذي سيجيء مشروحًا في الزيادة والتفصيل "ب، ص 531".
2 ولو كان مبنيًا للمجهول؛ كقول الشاعر: وقد سبق لمناسبة أخرى في هامش ص 523:
نعمة الله لا تعاب، ولكن
…
ربما استقبحت على أقوام
3 وهو الذي يكون لفظه مضارعًا، وزمنه مستقبلًا خالصًا.
4 وإذا كانت "ما" كافة، و"رب" غير عاملة، فالواجب وصلهما كتابة، أما إذا كانت "رب" عاملة فالواجب فصلهما.
5 وقد تدخل على مضارع في لفظه، ولكنه ماض في زمنه، بقرينة تدل على المضي الزمني، كقول الشاعر لهارب من حاكم توعده بالقتل، فجاءه الخبر بموت ذلك الحاكم:
ربما تجزع النفوس من الأمر
…
له فرجة كحل العقال
=
صار أمرًا مقطوعًا به، كقوله تعالى، في وصف الكفار يوم القيامة، ووصفه صدق لا شك فيه:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 1، أما في غير ذلك فشاذ لا يقاس عليه2.
وإنما كان الأكثر دخولها على الزمن الماضي؛ لأن معناه التكثير والتقليل، لا يمكن الحكم بأحدهما إلا على شيء قد عرف3
…
7-
أنه يجوز في ضبطها لغات تقارب العشرين، أشهرها ضم الراء أو فتحها مع تشديد الباء في الحالتين، أو مع تخفيفها بالفتح بغير تشديد، كما يجوز أن تلحقها تاء التأنيث المتسعة في المشهور لتدل على تأنيث مجرورها؛ نحو: ربت
= فهو يريد: ربما جزعت. . . ولا يصلح زمن المضارع هنا إلا المضي؛ لأن الجزع لن يقع في المستقبل بعد موت الحاكم الظالم، زوال سبب الخوف، ومثل هذا قول الشاعر:
وحديث ألذه هو مما
…
يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب؛ وتلحن أحيانًا
…
وخير الكلام ما كان لحنًا
أي: رب حديث ألذه، فقد دخلت "رب" المحذوفة، والتي تدل عليها الواو، على أمر حصل محقق عند المتكلم، ولا شك في وقوعه زمنه وانتهائه قبل الكلام؛ فالمضارع ماضي الزمن.
"تلحن: تشير إلى ما تريد بغير كلام".
1 "ربما""بتخفيف الباء"، مثل:"ربا" بتشديدها، كما سيجيء.
2 ومن أمثلة الشاذ ما جاء في تفسير القرطبي لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وهو قول بعض السلف: لا تكرهوا الملمات الواقعة: فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، قال الشاعر:
رب أمر تتقيه
…
جر أمرًا ترتضيه
خفي المحبوب منه
…
وبدا المكروه فيه
والدليل على أن المضارع بعد "رب" في المثال المنثور مستقبل الزمن وجود "لا" الناهية ي المضارع الذي قبله؛ وهي تجعل زمنه مستقبلًا خالصًا.
وهناك قرينة أخرى عقلية في المثال المنثور، وفي البيتين تدل على استقبال المضارع؛ هي الحث والحض والترغيب، وهذه الأمور لا تكون إلا في شيء لم يقع.
3 من كل ما تقدم يتبين نوع المضارع الذي يقصده النحاة بقولهم: إن المضارع يكون ماضي الزمن إذا وقع بعد "رب"، كما جاء في الهمع جـ1 ص8".
عبارة موجزة أغنت عن كلام كثير، وتكون التاء إما ساكنة ويوقف عليها بالسكون، وإما مفتوحة ويوقف عليها بالهاء.
حذف رب:
يجوز حذف "رب" لفظًا، مع إبقاء عملها ومعناها كما كانت، وهذا الحذف قياسي بعد "الواو"، و"الفاء"، و"بل"، ولكنه بعد الأول أكثر، وبعد الثاني كثير، وبعد الثالث قليل بالنسبة للحرفين الآخرين، نحو:
وجانب1 من الثرى يدعي الوطن
…
ملء العيون، والقلوب، والفطن2
ونحو: أن تسمع من يقول: "ما أعجب ما قرأته على صفحات الوجوه اليوم"، فتقول:"فحزين قضى الليل هما طلع النهار عليه بما بدد أحزانه، ومبتهج نام ليلة قريرًا، ثم أفاق على هم وبلاء"، ونحو:"بل حزين قد تأسى3 بحزين"
1 "ملاحظة": هذا البيت أو قصيدة لشوقي، موضوعها: الوطن، والشائع في مثل هذه الصورة إعراب "الواو نائبة" عن "رب"، أو: يقال: "واو رب"، ويفر المعربون من اعتبارها:"عاطفة". . . أو شيئًا آخر، لكن جاء في كتاب:"تفسير أرجوزة أبي نواس" في تفريط الفضل بن الربيع، تأليف: أبي الفتح عثمان بن جني اللغوي المشهور، وإخراج الأستاذ بهجة الأثري، ص 9 عند بيت أبي نواس:
وبلدة فيها زور
…
صعراء تخطى في صعر
ما نصه الحرفي، قوله:"وبلدة" قيل في هذا الواو قولان، أحدهما: أنها للعطف، والآخر: أنها عوض من "رب"، فكأنهم إنما هربوا أن يجعلوها عاطفة؛ لأنها في أول القصيدة وأول الكلام لا يعطف، ولا يمتنع العطف على ما تقدم من الحديث والقصص؛ فكأنه كان في حديث ثم قال: وبلدة؛ "فكأنه وكل الكلام إلى الدلالة في الحال، ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وإن لم يجر للقرآن ذكر، وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني: الشمس، فأضمرها وإن لم يجر لها ذكر، وهذا في كلام العرب واسع فاش". ا. هـ، كلام ابن جني.
ويوضحه بل يؤيده ويقويه ما جاء في "المغني ج2" عند كلامه على "الواو المفردة" الجارة، وقد أشرنا لكل ما سبق في ج3 باب: العطف "م120" عند الكلام على حذف المعطوف عليه بقي السؤال: هل هناك مانع أن تكون الواو في مثل ما سبق للاستئناف؟ لا أرى مانعًا.
2 ومن هذا قول الشاعر:
ومستعبد إخوانه بثرائه
…
لبست له كبرًا أبر على الكبر
"أبر = زاد وتغلب".
3 تسلي.
أي: رب جانب. . . رب حزين قضى الليل. . . رب مبتهج. . . رب حزين قد تأسي. . .
وكل حرف من هذه الثلاثة يسمى: "العوض" عن: "رب"1؛ أو: "النائب عنها"؛ لأنه يدل عليها، وهو مبني لا محل له من الإعراب؛ والاسم المجرور بعده، مجرور برب المحذوفة2، وليس مجرورًا في الصحيح العوض عنها أو النائب3.
1 فعند الإعراب يقال: "الواو: واو رب"، "الفاء: فاء رب"، "بل: بل رب"، أو يقال في كل واحد إنه: نائب عن: رب.
2 ويقول ابن مالك في زيادة كلمة: "ما" بعد: "من"، و"عن"، و"الباء"، وأن هذه الزيادة لا تعوق الأحرف السالفة عن العمل، كما شرحنا عند الكلام على كل:
وبعد "من"، و"عن"، و"باء" زيد:"ما"
…
فلم يعق عن عمل قد علما
وقد تقدم هذا البيت في ص 515 عند الكلام على "من" و"عن" و"الباء" للمناسبة الخاصة بكل، ويقو في زيادتها بعد "رب" و"الكاف"، وأنها قد تكفهما أو لا تكفهما:
وزيد بعد "رب" و"الكاف" فكف
…
وقد يليهما، وجر لم يكف
وقد سبق البيت في هامش ص518، ثم يقول في حذف:"رب" بعد الحروف الثلاثة:
وحذفت "رب"، فجرت بعد:"بل"
…
و"الفا" وبعد: "الواو شاع ذا العمل
3 يرى سيبويه أن الجر هو بكلمة: "رب" المحذوفة، أما الواو، والفاء، وبل، فحروف عطف مهملة هنا لا تعمل شيئًا، مع أن نائبة عن:"رب" ودالة عليها، وكثير من النحاة يقول: إن العمل هو للحرف النائب وليس للمحذوف "راجع المفصل جـ2 ص117 باب الإضافة"، وهذا الخلاف شكلي محض لا أثر له.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
أ- إذا كان الحرف: "رب" شبيهًا بالزائد1 فمن الواجب أن يكون للاسم النكرة المجرور به ناحيتان، ناحية الجر لفظًا، وناحية الإعراب محلًا، فيكون مجرورًا في محل رفع، أو محل نصب على حسب حاجة الجملة، ويعامل بما يعامل به عند عدم وجودها، ففي مثل: رب زائر كريم أقبل، تعرب كلمة:"زائر" مجرورة برب لفظًا، في محل رفع: لأنها مبتدأ، وفي مثل: رب زميل وديع صاحبت، تعرب كلمة:"زميل" مجرورة لفظًا في محل نصب؛ لأنها مفعول به للفعل: "صاجبت"، وفي مثل: رب مساعدة خفية ساعدت، تعرب كلمة:"مساعدة" مجرورة لفظا في محل نصب؛ لأنها مفعول مطلق، وفي مثل: رب ليلة مقمرة سهرت مع رفاقي، تعرب كلمة:"ليلة" مجرورة لفظًا في محل نصب؛ لأنها ظرف زمان. . . و. . . وهكذا. . .
وخير مرشد لمعرفة المحل الإعرابي للاسم المجرور بها هو ما قلناه من تخيل عدم وجود "رب"، وإعراب المجرور بها بما يستحقه عند فقدها. . .
ويترتب على ما سبق من جر النكرة لفظًا بها واعتبارها في محل رفع أو نصب أن التابع لهذه النكرة "من نعت، أو: عطف، أو: توكيد، أو: بدل" يجوز فيه الأمران، مراعاة لفظ النكرة، أو مراعاة المحل، ففي مثل: رب زائر كريم أقبل، يجوز في كلمة: "كريم الجر والرفع، وفي مثل: رب زميل وديع صاحبت،
1 هذا رأي أكثرية النحاة من أهل التحقيق، وخالف فيه غيرهم، كما أشرنا في رقم1 من هامش ص525، ومن هذه الأكثرية المحققة "الخضري" أحد نحاة القرن الثاني عشر الهجري، وصاحب الحاشية المشهورة على ابن عقيل، وآخر أصحاب الحوالشي على شرح:"ألفية ابن مالك" وغيرها حتى عصرنا هذا، وقد اطلع بلا شك على الآراء المخالفة، ولم يعتد بها حين رأى شرح ابن عقيل في أول باب حروف الجر ينص على أن الحرف:"لعل"، حرف جر زائد: فاستدرك الخضري مصححًا ومصرحًا بما نصه:
"صوابه: شبيه بالزائد، ومثلها "لولا" و"رب"؛ لأن الزائد لا يفيد شيئًا غير التوكيد؛ وهذه الحروف تفيد الترجي، والامتناع، والتقليل، وإنما أشبهت الزائد في أنها لا تتعلق بشيء. . . ا. هـ"، وهذا نص واضح المرمى، وله صلة أيضًا بما سيجيء في هذه الزيادة والتفصيل. . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يجوز في كلمة: "وديع" الجر والنصب. . . وهكذا.
ولا يتغير الحكم لو جاء تابع آخر كالعطف، فقلنا: رب زائر كريم وسائح هنا، فيجوز في كلمة:"سائح" المعطوفة، الأمران الجائزان في المعطوف عليه. . . ويجوز أن يكون المعطوف هنا معرفة، نحو؛ رب زائر كريم وأخيه أقبلا، مع أن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فهو بمنزلة الاسم الذي دخلت عليه "رب"، فحقه أن يكون نكرة كمجرورها، إلا أن الأساليب العربية الفصحى تدل على أنه قد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، وهذا معنى قول النحاة: قد يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل1.
ب- إذا دخل الحرف: "رب" على الجمل بنوعيها2، وهو مكفوف بسبب اتصاله، "بما" الكافة، فإن معناه يبقى على حاله من إفادة التكثير أو التقليل على حسب القرائن، "كما أشرنا من قبل"3، ولكن التكثير أو التقليل في هذه الحالة يكون منصبًا على النسبة التي في الجملة، وهي النسبة الدائرة بين طرفيها؛ ففي مثل: ربما أتى الغائب، أو ربما الغائب آت. . .، يكون التقليل والتكثير واقعًا على نسبة الإتيان للغائب، وقيل: إن معنى "رب" المكفوفة، هو: التحقيق.
ج- قد تحل: "مما". . .، محل:"ربما" فتؤدي معناها؛ طبقًا للبيان الموجز الذي سبق في ص 466، وللتفصيل الشامل الذي تقدم في جـ1 م 42، ص549 عند الكلام على النواسخ، و"كان" الناسخة.
1 تكررت الإشارة لهذا المعنى في أبواب مختلفة، ولا سيما باب الاستثناء، عند الكلام على حكم المستثنى الذي أدانه:" "إلا" إذا كان تامًا غير موجب ص 336، وله إشارة في رقم1 من هامش69.
2 انظر حكم دخولها على الجملة الاسمية والمضارعية في رقم 5 من ص 525.
3 في رقم1 من هامش ص 526.
المسألة91:
هـ- حذف حرف الجر وحده، مع إبقاء عمله1، وحذفه مع مجروره.
يجوز أن يحذف حرف الجر، ويبقى عمله كما كان قبل الحذف، ويطرد هذا في مواضع قياسية، أشهرها أربعة عشر نذكرها كاملة هنا، وقد مر بعضها في مواضع متفرقة2.
1-
أن يكون حرف الجر هو: "رب" بشرط أن تكون مسبوقة "بالواو"، أو:"بالفاء"، أو "بل"، كما سبق قريبًا عند الكلام عليها3 نحو:
وعامل بالحرام، يأمر بالبر،
…
كهاد يخوض في الظلم
2-
أن يكون الاسم المجرور بالحرف مصدرًا مؤولًا من "أن" من معموليها، أو من "أن" والفعل والفاعل؛ نحو: فرحت أن الصانع بارع، أو: أفرح أن يبرع الصانع، والأصل: فرحت بأن الصانع بارع، أو: أفرح بأن يبرع الصانع. والتقدير فيهما: فرحت ببراعة الصانع، أو: أفرح. . .
ولا بد من أمن اللبس قبل حذف حرف الجر على الوجه الذي شرحناه في مكانه من باب: "تعدية الفعل ولزومه"4.
1 أما حذفه ونصب ما بعده على ما يسمى: "النصب على نزع الخافض"، وهو نوع مما يسمى "الحذف الإيصال"، فمقصور على السامع في غير الضرورة الشعرية؛ طبقًا للبيان الذي سلف في رقم5 من ص 159، ورقم 8 من ص وهامشها.
2 بعضها في ص161 وفي هامش تلك الصفحة تفصيلات هامة، أما الداعي إلى ملاحظة حرف الجر المحذوف، واعتباره كالموجود فهو المحافظة على سلام المعنى، أو على صحة التركيب.
3 ص 528.
4 ص 163، وقلنا هناك: إن الباء الجارة التي بعد صيغة "أفعل" في التعجب يجوز حذفها إن كان المجرور بها مصدرَا مؤولًا من "أن والجملة الفعلية بعدها".
لكن النحاة لا يجيزون حذفها بعد تلك الصيغة إن كان المصدر مؤولًا من "أن" ومعموليها، ولا داعي لهذه التفرقة في مسألة التعجب؛ لأن حذف الجار مطرد قبل أن وأن.
وإذا حذفت الباء في التعجب أتقدر أم لا تقدر؟ رأيان كما أشرنا في ج 3 باب التعجب م 109 ص 272.
3-
أن يكون حرف الجر حرفا من حروف القسم، والاسم المجرور به هو لفظ الجلالة "الله"، نحو: الله لأكثرن من العمل النافع، أي: بالله1
…
4-
أن يكون حرف الجر داخلا على تمييز "كم" الاستفهامية، بشرط أن تكون مجرورة بحرف جر مذكرو قبلها؛ نحو: بكم درهم اشتريت كتابك؟ أي: بكم من درهم2؟ . . .
5-
أن يكون حرف الجر مع مجروره واقعين في جواب سؤال، وهذا السؤال مشتمل على نظير لحرف الجر المحذوف؛ كأن يقال: في أي بلد قضيت الأمس؟ فيجاب: القاهرة، أي: في القاهرة.
6-
أن يكون حرف الجر واقعًا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف، بغير فاصل بين الحرفين، والمعطوف عليه مشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف؛ كقولهم:"ألا تفكر في تركيب جسمك لترى قدرة الله العجيبة، والسماوات؛ لترى ما يحير العقول، وخواص المادة؛ لترى الإبداع والإعجاز. . ." أي: في السماوات وفي خواص المادة؛. . . وقد حذف الحرف: "في"؛ لأنه مع مجروره معطوف بالواو بغير فاصل بينهما، والمعطوف عليه وهو:"تركيب" مشتمل على حرف جر قبله؛ مماثل للمحذوف3.
1 طبقًا للرأي الأرجح، وهو رأي سيبويه، ومن معه، "كما سبقت الإشارة لهذا في رقم 15 من ص 197"، وفي:"هـ" من ص 502.
2 هذا هو الراجح، وهناك رأي آخر يقول: إن "كم" الاستفهامية مضافة إلى تمييزها، أما تمييز "كم" الخبرية، فالمشهور أن المضاف إليه وهي المضاف، وقيل: إنه
مجرور بـ"من" محذوفة كما سيأتي في ج4 باب: "كم".
3 وليس من هذا النوع بيت ابن مالك في باب: "المعرب والمبني" وهو:
فارفع بضم، وانصبن فتحًا، وجر
…
كسرًا: كذكر الله عبده يسر
فأصل الكلام: ارفع بضم، وانصبن بفتح، وجر بكسر؛ فحذف حرف الجر وهو الباء ونصب الاسم المجرور به على ما يسمى:"نزع الخافض، وقد أوضحناه، لوجود فاصل ممنوع، "وقد سبق الكلام عليه في هذا الجزء، في باب: تعدية الفعل ولزومه، ص 159 وهامش ص 171، كما سبق الكلام على البيت السابق، وفي ج 1 ص 68 م 7"، وليس من الجائز في البيت أن يبقى الاسمان فتح، وكسر مجرورين بعد حذف حرف الجر كما كانا قبل حذفه.
7-
أن يكون حرف الجر واقعًا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف، والمعطوف عليه مشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف مع وجود "لا" فاصلة بين حرف العطف وحرف الجر المحذوف؛ نحو: ما للفتى سلاح إلا علمه النافع، ولا لفتاة إلا فنها العملي الملائم، أي: ولا للفتاة.
8-
أن يكون حرف الجر السابق ولكن الحرف الفاصل هو: "لو"؛ كقولهم: من تعود الاعتماد على غيره، ولو أهله، فقد استحق الخيبة والإخفاق، أي: ولو على أهله1. . .
9-
أن يكون حرف الجر واقعًا هو ومجروره في سؤال بالهمزة، وهذا السؤال ناشئ من كلام مشتمل على نظير للحرف المحذوف؛ كأن يقال: أعجبت بمحمود، فيسأل القائل: أمحمود النجار؟ أي: أبمحمود النجار؟.
10-
أن يكون حرف الجر ومجروره واقعين بعد "هلا" التي للتحضيض بشرط أن يكون التحضيض واردًا بعد كلام مشتمل على مثيل لحرف الجر المحذوف؛ كأن يقال: سأتصدق بدرهم، فيقال: هلا دينارٍ، أي: بدينارٍ، والمراد: هلا تتصدق بدينار.
11-
أن يكون حرف الجر هو: "لام التعليل" الداخلة على: "كي" المصدرية؛ نحو: يجيد الصانع صناعته كي يقبل الناس عليه، أي: لكي يقبل الناس عليه، بمعنى: لإقبالهم عليه.
12-
أن يكون حرف الجر داخلًا على المعطوف على خبر "ليس"، أو خبر "ما" الحجازية، بشرط أن يكون كل منهما صالحًا لدخول حرف الجر عليه2؛ نحو: لست مرجعًا فرصة ضاعت، ولا قادر على ردها، فكلمة "قادر" مجرورة؛ لأنها معطوفة على خبر ليس:"مرجعًا"، وهذا الخبر يجوز جره بالباء، فيقال: لست بمرجع، فكأنها موجودة توهمًا وتخيلًا، وعلى أساس هذا الجواز الموهوم عطفنا عليه بالجر؛ وهذا هو العطف الذي يسميه النحاة؛ "العطف على
1 والذي يوجب تقدير حرف الجر هنا اختصاص "لو" بالدخول على الجمل، لا على المفردات، والأصل: ولو كان الاعتماد على أهله.
2 بأن يكون خبرهما اسمًا، وأن يكون النفي المنصب عليه باقيًا، لم ينتقض بإلا
…
على الوجه الذي سبق في بابهما، ج 1 ص 452 المسألة: 49 وما بعدها.
التوهم"، وقد سبق1 إبداء الرأي فيه تفصيلًا، وأنه لا يصح الالتجاء إليه، ولا القياس على ما ورد منه.
13-
أن يكون حرف الجر مسبوقًا "بإن" الشرطية، وقبلهما كلام يشتمل على مثيل للحرف المحذوف، نحو: سلم على من تختاره، إن محمد، وإن علي؛ وإن حامد، التقدير: إن شئت فسلم على محمد، وإن شئت فسلم على علي، وإن شئت فسلم على حامد، وبالرغم من جواز هذا فالمحذوف فيه كثير، والمراد قد يخفى، فمن المستحسن عند محاكاته قدر الاستطاعة.
14-
أن يكون حرف الجر مسبوقًا بفاء الجزاء الواقعة في جواب شرط، قبله نظير لحرف الجر المحذوف؛ نحو: اعتزمت على رحلة طويلة؛ إن لم تكن طويلة فقصيرة، أي: فعلى رحلة قصيرة، ويقال في هذا الموضع ما قيل في سابقه من ترك القياس عليه قدر الاستطاعة، بالرغم من صحة القياس.
هذا، وجميع التأويلات والتقديرات السابقة جائزة وليست محتومة؛ بل إن الكثير منها يجوز فيه أوجه إعرابية أخرى؛ قد تكون أيسر، والمعنى عليها أوضح. واختيار هذه أو تلك متروك لمقدرة المتكلم والسامع، وخبرتهما بدرجات الكلام قوة، وضعفًا، وحسنًا، وقبحًا، مع التزام الصحة التزامًا دقيقًا، والبعد عن الخطأ في كل حالة، ومن الخير أن نترك ما فيه غموض وإلباس إلى ما لا خفاء فيه ولا إبهام؛ لأن اللغة ليست تعمية وإلغازًا، وإلا فقدت خاصتها، وعجزت عن أداء مهمتها، وهذا أساس يتحتم مراعاته عند استخدامها، وفي كل شأن من شؤونها.
تلك مواضع حذف حرف الجر حذفًا قياسيًا مطردًا مع إبقاء عمله، وهناك أمثلة مسموعة وقع الحذف فيها مخالفًا ما سبق، ولا شأن لنا بها؛ فهي مقصورة على السماع؛ لا يجوز محاكاتها، لعدم اطرادها2.
1 في ص 348 عند الكلام على "غير" الاستثنائية، وفي رقم3 من هامش ص 336 ج 1 ص 454 م 49.
2 وفيما سبق من حذف الجار، وإبقاء عمله ومشابهته "رب" في هذا، وفي أن حذفه قد يكون مطردًا أو غير مطرد، يقول ابن مالك:
وقد يجر بسوى: "رب" لدى
…
حذف، وبعضه يرى مطردًا
أي: أن حروفًا غير "رب" قد تجر الاسم بعدها مع حذفها، وأن بعض حالات الحذف والجر قد يكون مطردًا.
أما حذف الجار والمجرور معًا1 فجائز إذا لم يتعلق الغرض بذكرهما، بشرط وجود قرينة تعينهما، وتعين مكانهما، وتمنع اللبس، ومن الأمثلة قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} ، أي: لا تجزي فيه2. . .
1 أما حذف الجار وحده وإبقاء مجروره وما يترتب على ذلك من أحكام، فقد سبق تفصيل الكلام عليه في ص 159.
2 وفي المصباح المنير، مادة:"حجر" ما نصه:
"حجر عليه حجرًا من باب: قتل منعه التصرف؛ فهو محجور عليه: والفقهاء "يحذفون الصلة "أي: الجار مع مجروره" تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، ويقولون:"محجور"، وهو سائغ. ا. هـ.
ويقول في مادة: "ندب" ما نصه:
"ندبته إلى الأمر ندبًا من باب: قتل دعوته، والفاعل: نادب، والمفعول: مندوب، و"الأمر" مندوب إليه، والاسم: الندبة، مثل غرفة، ومنه: "المندوب" في الشرع، والأصل: المندوب إليه، لكن حذفت الصلة منه "يريد الجار مع مجروره" لفهم المعنى. ا. هـ، ومثل ما سبق قول النحاة: "الجملة المعترضة"، حين يفتحون الراء يريدون كما نصوا على هذا: "المعترض بها".
المسألة92:
و نيابة حرف جر عن آخر. . .1
يتردد بين النحاة: "أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض 1. . ."، فيتوهم من لا دراية له أن المراد هو:"جواز وضع حرف جر مكان آخر بغير ضابط، ولا توقف على اشتراك بينهما في تأدية معنى معين، ولا تشابه مقيد في الدلالة". وهذا ضرب من الفهم المتغلغل في الخطأ2؛ إذ يؤدي إلى إفساد المعاني، والقضاء على الغرض من اللغة.
أما حقيقة الأمر في نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، فتتلخص في مذهبين:
الأول:3 أنه ليس لحرف الجر إلا معنى واحد أصلي يؤديه على سبيل الحقيقية لا المجاز؛ فالحرف: "في" يؤدي معنى واحدًا حقيقيًا هو "الظرفية"، والحرف:"على" يؤدي معنى واحدًا حقيقيًا هو: "الاستعلاء"، والحرف:"من" يؤدي: "الابتداء"، والحرف:"إلى" يؤدي: "الانتهاء". . . و. . . وهكذا3. . . فإن أدى الحرف معنى آخر غير المعنى الواحد الأصلي الخاص به
1 و 1 وقد يعبرون عنها أحيانًا بقولهم: "بدل حرف جر من آخر"، كما في عبارة "المبرد" التي في رقم1 من هامش ص 540، والمراد من العبارتين وأشباههما هو: وضع حرف جر مكان آخر: أي: استبدال واحد بغيره من تلك الحروف.
2 جاء في "المغني" جـ2 الباب: السادس، في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين، والصواب خلافها، ما نصه في الأمر الثالث عشر:
"قولهم: ينوب بعض حروف الجر عن بعض، وهذا أيضًا مما يتداولونه ويستدلون به. . .، وتصحيحه يكون بإدخال: "قد" على قولهم: "ينوب"؛ وحينئذ يتعذر استدلالهم به؛ إذ كان موضع ادعوا فيه ذلك يقال لهم فيه: "لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة"، ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم، على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه، وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف: لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف". ا. هـ، وسيجيء الرأي البصري كاملًا مع غيره هنا.
3 و 3 وهو مذهب البصريين، وفيه يقول الهمع جـ2 الكتاب الثالث؛ باب حروف الجر، عند الكلام على الحرف "من" ما نصه:"تنبيه، علم مما حكى عن البصريين في هذه الأحرف من الاقتصار على معنى واحد لكل حرف أن مذهبهم أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عن بعض بقياس؛ كما أن أحرف الجزم كذلك. . . و. . .". ا. هـ، وأما الثاني فمذهب الكوفيين، والكلام عليه في ص 540 و 542.
وجب القول: بأنه يؤدي المعنى الآخر الجديد إما تأدية "مجازية""أي: من طريق المجاز1، لا الحقيقية"، وإما تأدية، "تضمينية"2 "أي: بتضمن الفعل، أو: العامل الذي يتعلق به حرف الجر الأصلي3 ومجروره، معنى فعل أو عامل آخر يتعدى بهذا الحرف"، فحرف الجر مقصور على تأدية معنى حقيقي واحد يختص به، ولا يؤدي غيره إلا من طريق "المجاز" في هذا الحرف، أو من طريق "التضمين" في العامل الذي يتعلق به الجار الأصلي3 مع مجروره.
فمن الأمثلة للمجاز: الحرف الأصلي "في"؛ فمعناه الحقيقي: "الظرفية""أي: الدلالة على أن شيئًا يحوي بين جوانبه شيئًا آخر. . . و. . . كما سبق4، فإذا قلنا: "الماء في الكوب"، فهمنا أن الكوب يحوي بين جوانبه الماء؛ فيكون الحرف "في" مستعلًا في تأدية معناه الحقيقي الأصيل، ولكن إذا قلنا: "غرد الطائر في الغصن. . ."، لم نفهم أن الغصن يحوي في داخله وبين جوانبه الطائر المغرد؛ لاستحالة هذا، وإنما نفهم أنه كان على الغصن وفوقه، لا بين ثناياه. فالحرف: "في" قد أدى معنى ليس بمعناه الحقيقي الأصيل، فالمعنى الجديد؛ وهو: "الفوقية"، أو"الاستعلاء" إنما يؤديه حرف آخر مختص بتأديته، هو: "على" فلو راعينا الاختصاص وحده لقلنا: غرد الطائر على الغصن، فالحرف: "في" قد أدى معنى ليس من اختصاصه، بل هو من اختصاص غيره، وهذه التأدية ليست على سبيل الحقيقية، وإنما هي على سبيل المجاز، واجتمع للحرف: "في" الشرطان اللذان لا بد من تحققهما لصحة استعمال المجاز5، فالظرفية بما تقتضيه من تمكن وثبات شبيهة بالاستعلاء الذي يقتضي التمكن والثبات أيضًا؛ فاستعملنا "الظرفية" مكان الحرف لدال على "الاستعلاء"؛
1 وفي هذه الحالة يجب أن يتحقق للمجاز ركناه الأساسيان؛ وهما؛ العلاقة، والقرينة، انظر معناهما في رقم5 من هذا الهامش. . .
2 سبق شرح "التضمين" في هذا الجزء ص168 من باب: تعدية الفعل ولزومه"، ولأهميته سجلنا له بحثًا خاصًا مستقلًا آخر هذا الجزء ص 564، وبعدها رأيي الخاص في: "التضمين".
3 و 3 وملحقه.
4 الكلام عليه في ص 507.
5 هما: "العلاقة أي: الصلة بين المعنى المنقول منه والمعنى المنقول إليه"، "والقرينة التي تصرف الذهن عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي الجديد".
تبعًا لذلك، وكل هذا على سبيل "الاستعارة"؛ وهي نوع من المجاز، والقرينة الدالة على أنه مجاز "أي: على أن الحرف: "في" مستعمل في غير معناه الأصلي" وجود الفعل: "غرد"؛ إذ لا يقع التغريد في داخل الغصن؛ وإنما يكون فوقه، فهذه القرينة هي المانعة من إرادة المعنى الأصلي.
ومن الأمثلة: للمجاز أيضًا: "على": فهو حرف جر يقتصر عند أصحاب هذا الرأي على معنى حقيقي واحد؛ هو: "الاستعلاء"، فإذا قلنا:"الكتاب على المكتب"، فهمنا هذا المعنى الحقيقي الدال على أن شيئًا معينًا فوق آخر، فالحرف مستعمل في معناه الأصيل، لكن إذا قلنا:"اشكر المحسن على إحسانه"، لم تفهم الاستعلاء الحقيقي، ولم يرد على خاطرنا أن الشكر قد حل واستقر فوق الإحسان؛ لاستحالة هذا، وإنما الذي يخطر ببالنا هو أن المراد:"اشكر المحسن لإحسانه"؛ فالحرف: "على" قد جاء في مكان: "اللام" التي معناها: "السببية"، أو"التعليل"، فأفاد ما تفيد اللام، ولكن إفادته على سبيل "الاستعارة" وهي نوع من المجاز؛ ذلك أن لام التعليل تفيد التمكن والاتصال القوي بين السبب والمسبب، أو بين العلة والمعلول؛ والاستعلاء يشبهها في أنه يفيد التمكن والاتصال بين الشيئين؛ فهذا التشابه صح استعمال الاستعلاء مجازًا، مكان السببية والتعليل، وتبع ذلك استعمال الحرف الدال على الاستعلاء مكان الحرف الدال على السببية، والقرينة الدالة على أن الحرف:"على" مستعمل في غير حقيقته وجود الفعل: "شكر" إذ لا يستقر الشكر فوق الإحسان، ولا يوضع فوقه وضعًا حقيقيًا، لاستحالة هذا، كما سبق.
ومثل ما سبق يقال في بقية حروف الجر يؤدي الواحد منها معنيين أو أكثر.
أما أمثلة التضمين1 في العامل فمنها قول بعض الأدباء: "نأيت من صحبة فلان بعد أن سقاني بمر فعاله"، والأصل: "نأيت عن صحبة فلان، بعد أن
1 بعض الأمثلة السابقة صالح "للتضمين في الفعل مع بقاء حرف الجر على معناه الحقيقي"، وكذا نظائرها.
سقاني من مر فعاله"، ولكنه ضمن الفعل: "نأي" الذي لا يتعدى هنا بالحرف "من" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "بعد، أو:"ضجر"؛ فالمراد: بعدت، أو: ضجرت من صحبة فلان، كما ضمن الفعل:"سقى" الذي لا يتعدى هنا "بالباء" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "آذى"، أو"تناول" فالمراد:"آذاني" أو: "تناولني" بمر فعاله، وكذلك:"شربت بماء عذب"؛ فإن الفعل "شرب" قد ضمن معنى الفعل: "روي" فالأصل: رويت، وهكذا بقية حروف الجر.
والمذهب الثاني1: أن قصر حرف الجر على معنى حقيقي واحد، تعسف وتحكم لا مسوغ له، فما الحرف إلا كلمة، كسائر الكلمات الاسمية والفعلية، وهذه الكلمات الاسمية والفعلية تؤدي الواحدة منها عدة معان حقيقية2، لا مجازية، ولا يتوقف العقل في فهم دلالتها الحقيقية فهمًا سريعًا، فما الداعي لإخراج الحرف من أمر يدخل فيه غيره من الكلمات الأخرى، ولإبعاده عما يجري على نظائره من باقي الأقسام؟
إنه نظيرها؛ فإذا اشتهر معناه اللغوي الحقيقي، وشاعت دلالته، بحيث يفهمها السامع بغير غموض، كان المعنى حقيقيًا لا مجازيًا، وكانت هذه الدلالة أصيلة لا علاقة لها بالمجاز، ولا بالتضمين ولا بغيرهما، فالأساس الذي يعتمد عليه هذا المذهب في الحكم على معنى الحرف بالحقيقية هو شهرة المعنى اللغوي الأصلي المراد وشيوعه،
1 وهو مذهب الكوفيين، كما يصرح كثير من النحاة والحق أنه ليس مقصورًا عليهم؛ بل يشاركهم فيه بعض أئمة النحاة من غيرهم؛ كالمبرد وهو بصري، فقد جاء في كتابه الكامل "جـ 3 ص 46 طبعة مطبعة الفتوح، عند شرحه لبيت أبي النجم الذي صدره: "سبي الحماة، وابهتى عليها". . . "وقد سبق البيت لمناسبة أخرى في هامش ص 476"، ما نصه:
"حروف الخفض، يريد: حروف الجر، يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى، في بعض المواضع؛ قال الله عز وجل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: على، وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: بأمر الله:. . .، وقال العامري: "إذا رضيت علي بنو قشير. .." أي: عني، وهذا كثير جدًا". ا. هـ.
ففي تلك الأمثلة ونظائرها أبدل حرف جر من آخر بمعناه، أي حل في مكانه.
2 والمراد هنا ما يشمل: "الحقيقة، اللغوية الأصلية، والحقيقة العرفية".
بحيث يتبادر ويتضح سريعًا عند السامع؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقيقة، وإن من يسمع قول القائل:"كانت في الصحراء، ونفد ما معي من الماء، وكدت أموت من الظمأ، حتى صادفت بئرًا شربت من مائها العذب ما حفظ حياتي التي تعرضت للخطر من يومين. . ."، سيدرك سريعًا معنى الحرف:"من" وقد تكرر في هذا الكلام بمعان لغوية مختلفة: أولها: بيان الجنس، وثانيها: السببية، وثالثها: البعضية، ورابعها: الابتداء. . . و. . .
كذلك من يسمع قول القائل: "إني بصير في الغناء: يستهويني، ويملك مشاعري إذا كان لحنه شجيًا، وعبارته رصينة؛ كالأبيات التي مطلعها:
رب ورقاء هتوف في الضحا
…
ذات شجو صدحت في فنن
....................................
…
فإن المعاني اللغوية المقصودة من الحرف: "في" ستبتدر إلى ذهنه، فالأول: للإلصاق، والثاني: للظرفية، والثالث: للاستعلاء، وكل واحد من المعاني السالفة يقفز إلى الذهن سريعًا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته، وهذا علامة الحقيقة1، كما سبق.
فإذا كان المعنى المراد هو من الشيوع، والوضوح وسرعة الورود على الخاطر بالصورة التي ذكرناها، ففيم المجاز أو التضمين أو غيرهما؟ إن المجاز أو التضمين أو نحوهما يقبلان، بل يتحتمان حين لا يبتدر المغني المراد إلى الذهن، ولا يسارع الذهن إلى التقاطه؛ بسبب عدم شيوعه شيوعًا يجعله واضحًا جليًا، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تكفي لكشف دلالته في يسر وجلاء، أما إذا شاع واشتهر وتكشف للذهن سريعًا، فإن هذا يكون علامة الحقيقية1 كما قلنا فلا داعي للعدول عنها، ولا عن قبولها براحة واطمئنان2.
وهذا رأي نفيس أشار بالأخذ به والاقتصار عليه كثير من المحققين3.
1و 1 سواء أكانت حقيقة لغوية أصلية أم عرفية، كما سبق، في رقم2 من هامش الصفحة المتقدمة.
2 انظر الزيادة والتفصيل في الصفحة التالية.
3 كصاحبي: المغني، والتصريح، وكالصبان، والخضري في باب:"حروف الجر" عند الكلام على الحرف: "من" وشرح بيت ابن مالك الي أوله:
"بعض، وبين، وابتدئ في الأمكنة. . ."
فقد وصفوا المذهب الثاني وهو المذهب "الكوفي" بأنه أقل تكلفًا وتعسفًا. ويشاركهم فيه صاحب "الهمع طبقًا للبيان الذي سبق في رقم3 من هامش ص 537، وكما في ص540".
وفي الأخذ به تيسير، ووضوح، وابتعاد عما يكون في المجاز، ومنه الاستعارة أحيانًا من تعقيد والتواء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
لا شك أن المذهب الثاني1 نفيس كما سبق؛ فمن الأنسب الاكتفاء به؛ لأنه عملي سهل، بغير إساءة لغوية، وبعيد من الالتجاء إلى المجاز، والتأويل، ونحوهما من غير داع؛ فلا غرابة في أن يؤدي الحرف الواحد عدة معان مختلفة، وكلها حقيقي2 كما قلنا، ولا غرابة أيضًا في اشتراك عدد من الحروف في تأدية معنى واحد؛ لأن هذا كثير في اللغة، ويسمى: المشترك اللفظي3.
1 وهو الذي اشتهر بنسبته للكوفيين مع أن لهم فيه شركاء آخرين كما أسلفنا في رقم1 من هامش ص 540.
2 سواء أكانت الحقيقة لغوية أم عرفية كما سبق في رقم2 من هامش ص 540.
3 الحق أنه لا سبيل للحكم على معنى من معاني المشترك اللفظي بأنه "مجازي"، أو أن في عامله "تضمينًا"؛ لأن هذا يقتضينا أن نعرف المعنى الأصلي الذي وضع له اللفظ أولًا، واستعمل فيه، ثم انتقل منه بعد ذلك إلى غيره من طريق "المجاز أو التضمين"، أي: أنه لا بد من معرفة أقدم المعنيين في الاستعمال؛ ليكون هذا الأقدم هو الأصلي، ويكون المتأخر عنه وهو الحادث مجازًا أو تضمينًا، وهذا أمر لم يتحقق حتى اليوم في أكثر المعاني التي يؤديها كل حرف من حروف الجر، وهي معان مرددة في أفصح الكلام العربي قرآنًا وغير قرآن، ولا سبيل للحكم القاطع بأن معنى معينًا منها أسبق في الاستعمال في معنى آخر، وإذا لا سبيل للحكم الوثيق بأن واحدًا من تلك المعاني هو وحده الحقيقي، وأن ما عداه هو "المجازي أو التضميني"، بل إن هذا يلاحظ في كل معنى مجازي آخر يجري في غير الحرف، ولا يقال: إن المعنى الحسي أسبق في الغالب وجودًا من العقل المحض؛ لا يقال هذا؛ لأنه لا يصدق على حالات متعددة، وفوق هذا أيضًا يكاد يكون الحك بالأسبقية مستحيلًا إذا كان المدلولان عقليين معًا "أي: غير حسيين".
وقد رأى أحد المستشرقين ضرورة وضع معجم خاص يوضح أقدمية الكلمات في استعمالها، وتاريخ ميلادها؛ ليمكن القطع بعد هذا بالمعاني الحقيقية والمجازية وتجرد لهذه المهمة، ولكن منيته عاجلته في أول مراحل العمل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهناك سبب آخر يؤيد أصحاب هذا المذهب الثاني؛ هو أن الباحثين متفقون على أن المجاز إذا اشتهر معناه في زمن ما، وشاع بين الناطقين به، انتقل هذا المجاز إلى نوع جديد آخر يسمى:"الحقيقة العرفية"، "ولها بحث مستفيض في مكانها من أبواب علم البلاغة"، ومن أشهر أحكامها: أنها في أصلها مجاز قائم على ركنين أساسيين: علاقة بين "المشبه والمشبه به"، و"قرينة"، تمنع من إرادة المعنى الأصلي، فإذا اشتهر المجاز في عصر أي عصر1، وشاع استعماله مع وضوح المراد منه، تناسى الناس أصله، واختفى ركناه، واستغني عنهما وعن اسمه، ودخل في عداد نوع جديد يخالفه، يسمى:"الحقيقة العرفية" فلو سلمنا أن حرف الجر لا يؤدي إلا معنى واحدًا أصليًا، وأن ما زاد عليه ليس بأصلي، لكان بعد اشتهاره وشيوعه في المعنى الجديد داخلًا في الحقيقة العرفية، وهي ليست بمجاز في صورتها الحالية الواقعة، لا في الصورة السابقة، المتروكة نهائيًا، المنسية كأن لم تكن.
1 ولو كان من غير عصور الاحتجاج.
بحث مستقل في "مذ" و"منذ" من الوجهتين اللفظية، والمعنوية 1:
قال الباحث:
طالما أنعمت النظر في هاتين الكلمتين، ورجعت إلى ما دونه فيهما النحاة واللغويون، فكنت أجد أحيانًا عنتًا ومشقة في استخلاص حكم، أو تلخيص خلاف، أو دفع إشكال، ذلك بأن هذه المادة مبعثرة في الكتب قديمها وحديثها؛ فما في هذا ليس في ذاك، مع كثرة الآراء واشتداد الخلاف، وتباين التفسيرات والشروح.
فما زلت في مراجعة وبحث، حتى اجتمع لي من ذلك فصل صالح، حاولت أن أذلل فيه ما استصعب، وأن أشرح ما خفي، بالموازنة والترجيح.
ولا أدعي أني أحطت بالموضوع جميعه؛ فهذا ما لا سبيل إليه في وجيز كهذا. ولكنني أرجو أن أكون قد عبدت الطريق، ومهدت السبيل للباحثين والمستفيدين، فأقول:
أ- يقع مذ ومنذ2 اسمين:
1 هذا بحث واف، سبق في ص 299 و 520 أن وعدنا بتسجيله آخر هذا الجزء؛ لعظيم أثره لدى المتخصصين، وليكون لكبار الطلاب تدريبًا على البحث، والتحقيق، والتمحيص، وقد جمع أكثر المفرق من مسائل "مذ ومنذ" وأحكامهما، وتميز بآراء صائبة استقل بها صاحبه، وإن كان بعضها مختلطًا، أو مفتقرًا لمزيد تحقيق، أو قوة استدلال تحمل على الإقناع، وقد نقلناه كاملًا بشروحه وهوامشه، وربما أبدينا تعليقًا على بعضها عن الجزء الثالث من مجلة المجمع اللغوي القاهري، "ص 354 وما بعدها" حيث سجلته لعضو جليل من أعضاء المجمع السابقين، هو: الأستاذ أحمد العوامري، رحمة الله عليه.
2 قال في الهمع: وكسر ميمها لغة. ا. هـ، وفي الخضري؛ والراجح أن أصل "مذ":"منذ"، حذفت النون تخفيفًا؛ بدليل ضمها لملاقاة ساكن، كمذ اليوم. ولولا هذا لكسرت في أصل التخلص، وبعضهم بضمها بلا ساكن أصيلًا. ا. هـ.
1-
إن كان ما بعدها اسمًا مرفوعًا، معرفة، أو نكرة معدودة لفظًا، أو معنى كما سيأتي.
2-
أو كان ما بعدها فعلًا ماضيًا1.
3-
أو كان ما بعدها جملة اسمية.
فالحالة الأولى "وفيها الأسماء المرفوعة نكرة معدودة"، نحو: ما رأيته مذ أو منذ يومان، أو عشرة أيام، أو خمسة عشر يومًا، أو عشرون يومًا، أو مائة يوم، أو ألف يوم، أو ألفا يوم، أو سنة، أو شهر أو يوم2.
ومثال المعرفة ما رأيته مذ أو منذ يوم الجمعة.
فمذ أو منذ اسم مبتدأ3، والخبر واجب التأخير معهما، وجوز بعضهم أن يكونا خبرين لما بعدهما.
1 فلا يجوز: مذ يقوم؛ لأن عاملهما لا يكون إلا ماضيًا، فلا يجتمع مع المستقبل. ا. هـ، صبان.
2 على أن يكون اليوم هو الفلكي المقسم ساعات، لا الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها، كما سنفصله.
3 قال الخضري عند قول ابن عقيل: "فمذ اسم مبتدأ إلخ" ما يأتي: وسوغه كونها معرفة في المعنى؛ لأنها إن كان الزمان ماضيًا، كما في المثال الأول "وهو قول ابن عقيل: ما رأيته مذ يوم الجمعة"، فمعناها: أول مدة عدم الرؤية كذا، وإن كان حاضرًا، كما في المثال الثاني "وهو قول ابن عقيل: ما رأيته مذ شهرنا، "وهو ما خالف فيه أكثر العرب، كما سيمر بك"، أو كان معدودًا كما رأيته:"مذ يومان"، فمعناه نفي المدة، أي: مدة عام الرؤية شهرنا، أو يومان. ا. هـ.
وفي تأويل خبريتهما كلام كثير وتكلف لا يعنينا وفي الصحاح: ويصلح أن يكونا اسمين، فترفع ما بعدهما على التاريخ، أو على التوقيت، فتقول في التاريخ: ما رأيته مذ يوم الجمعة، أي: أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة، وتقول في التوقيت: ما رأيته مذ سنة، أي: أمد ذلك سنة، ولا تقع ها هنا إلا نكرة؛ لأنك لا تقول: مذ سنة كذا. ا. هـ.
وقوله: "ولا تقع ههنا إلا نكرة"، يريد بقوله:"ههنا" حالة إرادة التوقيت؛ لأنك لو قلت مثلًا: "مذ أو منذ عشرين للهجرة"، فمعناه ما قرر الجوهري: أمد ذلك سنة عشرين للهجرة، وهو لغو.
أقول: ولا أرى ما يمنع أن ندخل نحو هذا المثال في باب "التاريخ"، فيكون معنى "ما حصل كذا مذ أو منذ عشرين للهجرة، مثلًا": أول انقطاع الحصول سنة عشرين للهجرة.
ولم يفرق "القاموس" بين التاريخ والتوقيت، فقال: أرخ الكتاب، وأرخه، وآرخه: وقته. ا. هـ، وفي شرحه للزبيدي: وقال الصولي: تاريخ كل شيء غايته ووقته الذي ينتهي إليه، ومنه قيل: فلان تاريخ قومه، أي: إليه ينتهي شرفهم، ورياستهم. ا. هـ.
وقال في المصباح: "الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما، وكل شيء قدرت له حينًا فقد وقته توقيتًا. ا. هـ.
فعلى تعريف الصولي للتاريخ، وتعريف المصباح للتوقيت يتضح المقام في التفرقة بينهما.
والحالة الثانية، نحو: ركب أخي مذ أو منذ حضرت السيارة، فمذ أو منذ اسم منصوب المحل على الظرفية، والعامل فيه "ركب"، وهو مضاف إلى الجملة بعده، وهذا هو المشهور، وقيل: هما مبتدآن1.
والحالة الثالثة نحو:
فما زلت أبغي الخير مذ أنا يافع
…
وليدًا وكهلًا حيث شبت، وأمردا
فمذ هنا ظرف لمضمون ما قبله، ومضاف إلى الجملة بعده، على المشهور.
ب- وتقعان حرفين2.
1-
بمعنى: "من" الابتدائية، إن كان المجرور ماضيًا معرفة؛ نحو: ما قابلت صديقي مذ أو منذ يوم الأربعاء، أي: من يوم الأربعاء3.
2-
بمعنى: "في"، إن كان المجرور حاضرًا معرفة، نحو ما قرأت مذ أو منذ اليوم، أو عامنا، أو شهرنا، أو أسبوعنا أو منذ هذا الأسبوع أو هذا الشهر، أو هذه السنة، مثلًا ولا يجوز في الحاضر بعدها إلا الجر عند أكثر العرب.
1 وكذا قيل في الحالة الثالثة الآتية أيضًا: قال الخضري: والجملة بعدهما خبر، بتقدير زمن مضاف إليها "أي: إلى الجملة"، والتقدير في: "جئت مذ دعا" وقت المجيء هو زمن دعائه، وفي البيت المار، "فما زلت أبغي الخير إلخ": أول وقت طلبي الخير هو وقت كوني يافعًا: فجملة مذ إلخ مستأنفة كما مر. ا. هـ.
2 قال في الهمع: ومذ ومنذ لا يجران إلا الظاهر من اسم الزمان أو المصدر. . . وأجاز المبرد أن يجرا مضمر الزمان؛ نحو: يوم الخميس ما رأيته منذه، أو مذه. ورد بأن العرب لم تقله. ا. هـ.
وكونهما حرفين في هذه الأحوال الثلاثة هو مذهب الجمهور، وقيل: هما ظرفان في موضع نصيب بالفعل قبلهما ورد هذا المذهب بما لا محل له هنا.
3 قال في الهمع: ويجوز وقوع المصدر بعدهما، نحو: ما رأيته مذ قوم زيد، بالرفع والجر، وهو على تقدير حذف زمان، أي: مذ زمن قدوم زيد، ويجوز وقوع "أن" وصلتها بعدهما، نحو: ما رأيته مذ أن الله خلقني، فيحكم على موضعها بما حكم به للفظ المصدر، من رفع أو جر، وهو على تقدير زمان أيضًا. ا. هـ، قال الشاطبي: أما إن كسرت "أي: إن" فالاسمية متعينة. ا. هـ.
"وقد سبقت الإشارة لهذا في رقم4 من هامش ص519 وفي ص521".
3-
بمعنى: "من وإلى" معًا، فيدخلان على الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه، ويشترط حينئذ.
أولًا: أن يكون الزمان نكرة، معدودًا لفظًا؛ كمذ يومين.
ثانيًا: أو أن يكون معدودًا معنى: كمذ شهر.
لأنهما لا يجران المبهم، أي: ما عملت كذا من ابتداء هذه المدة إلى انتهائها، وعما عملت كذا من ابتداء شهر إلى انتهائه.
والمراد بالمبهم هنا: الوقت النكرة غير المعدودة لفظًا أو معنى، نحو:"برهة" ولا ينافيه قول زهير بن أبي سلمى:
لمن الديار بقنة الحجر
…
أقوين مذ جحج ومذ دهر1
لأن الدهر متعدد في المعنى2.
ويأتون بهذا البيت أيضًا شاهدًا على قلة الجر بعد "مذ" في الماضي، أما "منذ" فما بعده يترجح جره في الماضي3.
1 المراد بالحجر: حجر ثمود، وقوله: أقوين، أي: خلون.
2 نقلنا هذا التعليل عن الصبان؛ وهو أيضًا في غيره من كتب المتقدمين.
3 ما قاله الباحث هنا في تعريف: "الظرف المبهم" لا يشمل أنواعًا كثيرة نص عليها النحاة في تعريفهم الدقيق، الذي عرضناه في رقم2 من هامش ص252، وبه تزول بعض الشبهات التي اعترضت الباحث.
تنبيهات وإيضاحات:
أ- قد رأيت في الأحوال الثلاث التي يقع فيها مذ ومنذ حرفين.
1-
أن المجرور وقت1.
2-
وأن هذا الوقت متصرف2.
1 ما يسأل به عن الوقت كالوقت، بشرط أن يكون مما يستعمل ظرفًا، فتقول: مذ كم؟ ومنذ متى؟ ومنذ أي وقت؟ ولا تقول: منذ ما؛ لأن "ما" لا تكون ظرفًا. ا. هـ، صبان.
أي: فتقول مثلًا: "ا" منذ كم يومًا ركبت البحر؟ كما يجوز أن تقول: منذ كم ركبت البحر، بحذف التمييز للعلم به، وفي حالة ذكر التمييز هنا يجوز نصبه وجره بمن مضمرة، وقال في الهمع عند الكلام على وقوع الاسم مجرورًا بعدهما ما يلي:"والجمهور على أنهما حينئذ حرف جر، لإيصالهما الفعل إلى "كم" كما يوصل حرف الجر، تقول: منذ كم سرت، كما تقول: بكم اشتريت". ا. هـ.
وتقول: "2" منذ متى نمت؟ "3" منذ أي وقت طار أخوك؟
وتقول في الإجابة عن "1": ركبت منذ أو منذ ليلتين وعن "2": نمت منذ أو مذ مساء اليوم الماضي وعن "3": طار أخي منذ أو مذ طلوع الفجر، مثلًا.
ومعنى الإجابة الأولى: ركبت من ابتداء الليلتين إلى انتهائهما ومعنى الإجابة الثانية: نمت من مساء اليوم الماضي، بوضع "من" الابتدائية في مكان مذ أو منذ ومعنى الإجابة الثالثة: طار أخي منذ زمن طلوع الفجر، على تقدير "زمن" مضاف إلى المصدر، فمنذ أو مذ، بمعنى "من" الابتدائية هنا أيضًا، ويجوز في هذا المثال رفع "طلوع"، ويكون المعنى حينئذ: أول طيرانه وقت طلوع الفجر.
وقد جازت هذه الإجابات الثلاث في الإثبات؛ لأن العامل متطاول فيها جميعًا، وسيمر بك معنى "التطول" والتمثيل له.
2 فلا تقول: ما رأيته منذ سحر، تريد سحر يوم بعينه، وقال ابن عقيل:. . . نحو: سحر إذا أردته من يوم بعينه، فإن لم ترده من يوم بعينه فهو متصرف، كقوله تعالى:{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} . ا. هـ، فقال الخضري:"قوله نحو سحر": مثال لما لزم الظرفية قط فلا يخرج عنها أصلًا، إذا كان معينًا. واعتراضه "يقصد العلامة الصبان" بأنه متصرف، بدليل:"نجيناهم بسحر" فيه نظر ظاهر؛ لأن هذا غير معين، كما هو صريح الشرح، والكلام في المعين. ا. هـ.
وفي اللسان:. . . ولقيته سحرًا، بلا تنوين ولقيته بالسحر الأعلى "أي: في أعلى السحرين، وهما سحر مع الصبح وسحر قبله. ا. هـ، من الأساس". . . ولقيته سحر يا هذا، إذا أردت به سحر ليلتك لم تصرفه؛ لأنه معدول عن الألف واللام، وهو معرفة، وقد غلب عليه التعريف بغير إضافة ولا ألف ولام. . .
وإذا نكر "سحر" صرفته كما قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أجراه، "أي: صرفه"؛ لأنه نكرة، كقولك: نجيناهم بليل، قال: فإذا ألقت العرب
منه الباء لم يجروه، فقالوا: فعلت هذا سحر يا فتى. . . وقال الزجاج، وهو قول سيبويه: سحر: إذا كان نكرة؛ يراد سحر من الأسحار، وانصرف، تقول. . . أتيت زيدًا سحرًا من الأسحار، فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته سحر يا هذا. . . وتقول: سر على فرسك سحر يا فتى. ا. هـ.
بقي "سحر" المنصرف"، فهل يجوز أن تقول: ما رأيته مذ أو منذ سحر؟ والجواب: لا؛ لأنهما لا يجران المبهم، كما مر بك.
3-
وأنه معين لا مبهم، وقد فسرنا معنى الإبهام آنفًا.
4-
وأنه ماضي أو حاضر، لا مستقبل، لما تقدم.
ب- وقد رأيت في عاملها في هذه الأحوال الثلاث:
1-
أنه فعل ماض.
2 وأنه منفي يصح تكرره.
وقد يأتي مثبتًا بشرط أن يكون متطاولًا، نحو: سرت منذ يوم الخميس، والمراد بالتطاول: أن يكون في طبيعة الحدث معنى الاستمرار كالسير، فإن من شأنه التطاول، وكالنوم، والمشي، والكلام؛ وهكذا. . . وتوفية للمقام، نذكر عبارة الخضري في هذا الموضوع، قال:
"شرط عاملهما كونه ماضيًا، إما منفيًا يصح تكرره، كما رأيته منذ يوم الجمعة، أو مثبتًا متطاولًا، كسرت منذ يوم الخميس، بخلاف: قتلته، أو ما قتلته منذ كذا، فإذا قلت: ما قتلت منذ كذا، بلا هاء، صح؛ لأن القتل المتعلق بمعين لا يكرر، بخلاف غيره، ما لم يتجوز بالقتل عن الضرب، فتدبر". ا. هـ.
فقوله: "بخلاف: قتلته. . . إلخ"، كأن تقول مثلًا: قتلته، أو ما قتلته مذ أو منذ يوم الجمعة، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى "من" الابتدائية وكأن تقول: مثلًا: قتلته، أو ما قتله مذ أو منذ سنتين، مثلًا، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى من وإلى معًا، فكل هذا غير جائز.
أقول: فهبنا قلنا مثلًا: قتلته مذ أو منذ يومنا، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى "في"، فعلى مقتضى إطلاق كلامهم لا يجوز مثل هذا، لبقاء السبب، وهو: عدم تطاول العامل في حالات الإثبات، ولكني أرى أنه سائغ، إذ ما الذي يمنعنا أن نقول مثلًا: قتلته اليوم، أو في هذا اليوم الحاضر؟
وواضح أنه يجوز لك أن تقول أيضًا: ما قتلت مذ أو منذ يومنا، وما قتلته
مذ أو منذ يومنا، فكلامهم في "التطاول" و"صحة التكرر" مجمل يفتقر إلى تفصيل وتوضيح1.
هذا، ولم أجد فيما لدي من المراجع مثالًا للحدث غير المتطاول إلا "القتل".
وإني مورد أمثلة له فيما يلي للإيضاح، لا للحصر فأقول:
أولًا: أو مضى، أو ومضى وفسر الزمخشري الإيماض بأنه لمع خفي، قال: وشمت ومضة برق كنبضة عرق. ا. هـ.
فالإيماض غير متطاول كالقتل؛ لأنه عبارة عن لمع خاطف كرجع البصر، أو نبضة العرق، فلا يصح أن نقول مثلًا: ومض البرق مذ أو منذ يوم الخميس، أي: من يوم الخميس، كما لا يجوز أن نقول مثلًا: أو مضى البرق مذ أو منذ ليلتين: من ابتدائهما إلى انتهائهما2.
ولكن يصح أن نقول مثلًا: أو مضى البرق مذ أو منذ ليلتنا، أي: في ليلتنا كما صح أن تقول مثلًا: قتلته مذ أو منذ يومنا، كما قررته آنفًا، كما يصح أن تقول مثلًا: ما أومض البرق مذ أو منذ يوم الجمعة، أي: من يوم الجمعة، وما أومض البرق منذ أو مذ ليلتنا، أي: ليلتنا، وما أومض البرق مذ أو منذ ليلتين؛ لأن الحدث هنا يصح تكرره.
ثانيًا: شرق، أي: بدا وظهر، فيقال: شرقت الشمس، إذا بدت من المشرق. وكذا القمر، أو النجم، فالشروق غير متطاول؛ لأنه مجرد الظهور، وهو ملامسة الأفق، وهو لا يستغرق من الوقت إلا ما لا يكاد يذكر، فلا يقال مثلًا في الإثبات: شرقت الشمس مذ أو منذ ساعتين، أي: من ابتدائهما إلى انتهائهما. كما أوضحنا مثل هذا من قبل، كما لا يصح أن يقال في النفي مثلًا:
1 ردًا على الباحث أقول: إن التطاول متحقق في المثال الأخير المنفي؛ فكلامهم واضح، وهو الصحيح وتؤيده النصوص المسموعة الدالة على أنهما بمعنى:"في". بشرط التكرر، أو التطاول، لا مجرد "في".
2 قد فسر ابن الأعرابي الوميض بأن يومض إيماضة ضعيفة، ثم يختفي، ثم يومض. . . فهذا التكرر المتعاقب قد ينزل منزلة الفعل المتطاول فيما يظهر لي، فيصح أن تقول مثلًا: أومض البرق مذ أو منذ يوم الخميس، أي استمر هذا منه، على هذا التفسير.
ما شرقت الشمس مذ أو منذ دقيقتين1؛ لأن شروق الشمس لا يمكن تكرره في أثناء دقيقتين بالنسبة لأفق واحد، وكذا يقال في سائر الكواكب؛ لأنهما كلها بحسبان، فهب نجمًا بعينه يتم دورته في ثلاث سنين مثلًا، فإنه لا يجوز أن يقال: ما شرق هذا النجم منذ أو منذ ثلاث سنين؛ لأنه لا يمكن أن يتكرر شروقه في هذه المدة، ويجوز أن يقال: ما شرق نجم مذ أو منذ ساعتنا، وذلك؛ لأنه شروق متعلق بغير معين، فيجوز تكرره.
ولا تقول: شرق هذا النجم، أو نجم مذ أو منذ السبت، ولكنك تقول في الإثبات، على ما استظهرت آنفًا: شرق هذا النجم، أو نجم، مذ أو منذ ساعتنا أو ليلتنا، مثلًا.
ثالثًا: سنح قال في الأساس: من المجاز: سنح له رأي، أي عرض له. ا. هـ، وفي المصباح: وسنح لي رأي في كذا: ظهر، وسنح الخاطر به: جاد. ا. هـ.
فأنت ترى أن عروض الرأي حدث غير متطاول؛ لأنه طروء فاجئ، فإذا حصلت الفكرة فقد انقطع السنوح، وذلك لا يستغرق إلا وقتًا يسيرًا؛ لا يمكن أن يوصف بالتطاول، فلا نقول مثلًا: سنحت لي فكرة كذا مذ أو منذ يوم الخميس، أي: من يوم الخميس، ولا: سنحت لي فكرة كذا منذ ساعتين. ولكنك تقول، على ما استظهرت آنفًا: سنحت لي فكرة كذا منذ يومنا، أو مذ هذه الساعة، أو الدقيقة، مثلًا.
وتقول أيضًا، مثلًا: ما سنحت لي فهذه الفكرة مذ أو منذ ساعتين؛ لأن سنوح فكرة بعينها يمكن تكرره في أثناء ساعتين، ولكن لا يمكن أن تقول: ما سنحت لي فكرة مذ أو منذ ساعتين، مثلًا: أم ومذ أو منذ يومنا، لاستحالة مثل هذا عادة، في حال الإنسان الطبيعية.
فقد رأيت في الأفعال الثلاثة المتقدمة، وما فرعنا عليها من الأمثلة أنها ليست كلها سواء2، فقد يجوز في استعمال أحدها مع مذ أو منذ لا يجوز في الآخر. فالمسألة إذًا راجعة لمعنى الفعل الخاص عند استعماله مع مذ أو منذ، في الإثبات
1 هذا وما حمل عليه مما ينفرد به الباحث مفتقر لتأييد.
2 في كلام الباحث ما يحتاج إلى التمحيص.
أو النفي، وما قد يلابسه من تطاول أو تكرر أو عدمهما.
ج- ما اشترط في مجرور مذ ومنذ وفي عاملهما، يشترط في حالة رفع ما بعدهما.
د- لا تدخل "من" على مذ أو منذ، ولا يصح العكس أيضًا.
وقد وقعت "إلى" بعدهما، حيث لا مانع من وقوعها1، فقد جاء في اللسان:"قال سيبويه: أما "مذ" فيكون ابتداء غاية الأيام والأحيان، كما كانت "من" فيما ذكرت لك، ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها، وذلك قولك: ما لقيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم، ومذ عدوة إلى الساعة، وما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه، فجعلت اليوم أول غايتك، وأجريت في بابها كما جرت "من" حيث قلت: من مكان كذا إلى مكان كذا، وتقول: ما رأيته مذ يومين، فجعلته 2غاية، كما قلت أخذته من ذلك المكان، فجعلته2 غاية: ولم ترد منتهى، هذا كله كلام سيبويه". ا. هـ، عبارة اللسان.
فقد وضع سيبويه "إلى" بعد "مذ"، ولم أر ذلك في أمثلة غيره من النحويين فيما بين يدي من المراجع، أما في كلام البلغاء فكثير، ففي كتاب "الأوراق" للصولي، في أخبار الراضي بالله: وكان "الراضي" يقول: أنا مذ3 حبسني القاهر عليل إلى وقتي هذا. ا. هـ، وفي البخلاء للجاحظ: أعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها. . . ا. هـ، إلى غير ذلك.
وقول سيبويه: "ما رأيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم" مذ فيه بمعنى "من"، وقوله:"ما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه"، مذ فيه بمعنى "من" الابتدائية أيضًا؛ لأن عدم اللقاء وقع في الماضي واتصل بالحال، كما يجوز أن تقول، فيما أرى:
1 احترازًا من نحو: ما عملت كذا مذ أو منذ لحظتنا، فإنه لا يجوز أن تقع "إلى" هنا بعدها، كما هو ظاهر.
2 انظر المراد من الغاية في ص 553، وأنه ابتداء الغاية. . .
3 يلاحظ أن "مذ" في هذا المثال الذي أورده الباحث، ليست حرف جر، أي: ليست مما نحن فيه، ولم يوضح الباحث المراد الدقيق من "الغاية"، وقد سبق أن عرضنا لمعناها وأنه يختلف كما في رقم1 من هامش ص460، وفي رقم2 من هامش ص 468. . . و. . .
ما حدث كذا من اليوم إلى هذه الساعة1.
وقوله: "وتقول: ما رأيته مذ يومين. . . إلخ"، يريد قوله:"فجعلته غاية"، أي جعلت معنى:"مذ يومين" ابتداء الغاية لانقطاع الرؤية، وقوله:"ولم ترد منتهى"، يريد أنك أردت ابتداء الغاية وحدها، ولم تتعرض للمنتهي، ولكنا رأينا فيما سقناه آنفًا لمعنى هذا المثال أنه يتضمن ابتداء الغاية ومنتهاها.
وقوله: "ومذ غدوة إلى الساعة"، "مذ" فيه بمعنى "من"، فيجب أن يكون ما بعدها معرفة، فيتعين أن تكون "غدوة" هنا من يوم بعينه، ولإيضاح المقام تورد ما جاء في اللسان قال:
الغدوة: بالضم البكرة، ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، وغدوة من يوم بعينه غير مجراه2، علم للوقت. . . وفي التهذيب: وغدوة معرفة لا تصرف. قال النحويون: إنها لا تنون، ولا يدخل فيها الألف واللام. . . ويقال: أتيته غدوة، غير مصروفة؛ لأنها معرفة؛ مثل: سحر، إلا أنها من الظروف المتمكنة. تقول: سير على فرسك غدوة وغدوة وغدوة وغدوة، فما نون من هذه فهو نكرة، وما لم ينون فهو معرفة، والجمع غدًا3. ا. هـ. ونحوه في الصحاح.
وإذا رجعنا إلى عبارة اللسان هذه نجده يقول: "
…
لأنها "أي: غدوة" معرفة، مثل سحر، إلا أنها من الظروف المتمكنة"4
…
1 سبق أن "مذ ومنذ" يقعان حرفين بمعنى "في" إن كان المجرور "معرفة" حاضرًا، وقد مثل النحاة بنحو: ما رأيته مذ أو منذ يومنا، أو اليوم، فقد يتوهم من مثال سيبويه هذا أن "منذ" فيه بمعنى:"في"؛ لأن "أل" فيه تفيد الحضور. ولكن سيبويه لما أتى "بإلى" بعد "مذ" صار المعنى عليه: انقطع لقائي له من ابتداء هذا اليوم، واستمر هذا الانقطاع إلى وقت المتكلم، فالمضي في المثال واقع أما إذا قلتك ما لقيته مذ اليوم، أو يومنا، أو هذا اليوم، مثلًا، ولم تزد، فقد اعتبرت اليوم بأجمعه وقتًا حاضرًا، فتكون "مذ" بمعنى "في"، هذا ما ظهر لي. ا. هـ، تعليق الباحث.
2 يعني أنها ممنوعة من الصرف، وهو تعبير قديم للنحويين، ولهذا الكلام صلة وثيقة بما قيل عنها في ص260.
3 قال في اللسان، والغداة كالغدوة، وجمعها غدوات. . . ويقال: آتيك غداة غد، والجمع الغدوات، مثل قطاة وقطوات. ا. هـ.
4 راجع ما يتصل بالكلام على: "سحر" في ص262.
فيلخص مما مر من الكلام على "غدوة وسحر" أنهما يجتمعان في الامتناع من الصرف، إذ أريدا من يوم بعينه، فأما "سحر"؛ فلأنه معدول عن الألف واللام. وأما غدوة فللعلمية والتأنيث، كما يجتمعان في أنهما كليهما من الظروف المتصرفة إذا لم يرادا من يوم بعينه.
ويفترقان في أن "سحر غير متصرف إذا أريد من يوم بعينه، فلا يرفع على الابتداء أو الخبر مثلًا، كأن تقول: سحر جميل، أو هذا سحر ولكنك تقول مثلًا: بين أسحار الأسبوع الماضي سحر جميل، بخلاف: غدوة، فإنها متصرفة، ولو أريدت من يوم بعينه، فتقول مثلًا: غدوة جميلة، كما تقول: كان بين غدا هذا الأسبوع غدوة جميلة.
وقال الأشموني: "الظرف المتصرف منه منصرف نحو. . . ومنه غير منصرف، وهو غدوة وبكرة، علمين لهذين الوقتين"، فقال الصبان:"قوله علمين لهذين الوقتين"، أي: علمين جنسيين، بمعنى أن الواضع وضعهما علمين جنسيين لهذين الوقتين، أعم من أن يكونا من يوم بعينه أولًا. ا. هـ.
وإنما أطلنا القول في "غدوة" و"سحر"، وأكثرنا من الأمثلة فيهما، لما يغشاهما من الإجمال والإبهام في كلام اللغويين والنحويين، حتى إن العلامة الصبان على جلال قدره أشكل عليه الأمر في "سحر"، وإليك البيان.
فقد قال الأشموني: والظرف غير المتصرف، منه منصرف وغير منصرف. فالمنصرف نحو: سحر، وليل، و. . . غير مقصود، بها كلها التعيين. ا. هـ.
فقال الصبان: فيه أن سحرًا. . . متصرفة، ومن خروج سحر عن الظرفية وشبهها قوله تعالى:{نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} ، فكيف جعلها من غير المتصرف. ا. هـ.
وقد مر بك رد العلامة الخضري عليه، "فراجعه في رقم2 من هامش ص548".
هـ- قد تقدم1 أنهم جوزوا أن يقال مثلًا: ما قابلته مذ أو منذ دهر، أو شهر، على أن يكون مذ أو منذ بمعنى من وإلى معًا؛ لأن الدهر والشهر في حكم المعدود.
1 في ص 547.
فيظهر على هذا أنه يجوز أن يقال أيضًا: ما قابلته مذ أو منذ زمن؛ لأن الدهر من معانيه الزمن، فقد جاء في المصباح: الدهر يطلق على الأبد، وقيل: هو الزمان قل أو كثر، وقال الأزهري: والدهر عند العرب يطلق على الزمان، وعلى الفصل من فصول السنة، وأقل من ذلك. ا. هـ.
ولكن بعض العلماء يعدون "الزمن" أو"الزمان" من المبهم، فقد جاء في حاشية العلامة الخضري على ابن عقيل ما يأتي؛ وشرط الزمان المجرور بهما كونه متعينًا لا مبهمًا، كمنذ زمن. ا. هـ، ولكن جاء في الأشموني أن "بعضهم يقول: مذ 1 زمن طويل"، فلعله يعتبر الوصف نوعًا من التعيين.
وكما يقال: مذ أو منذ دهر، يقال أيضًا: مذ أو منذ أدهر، أو دهور2، ومذ أو منذ أزمن، أو أزمان، أو أزمنة قال:"وربع عفت آياته منذ أزمان"3.
وكذا يقال: مذ أو منذ حقب، أو حقوب، أو حقب، أو حقب4 أو حقاب، أو أحقاب إلى غير ذلك من كل متعدد لفظًا، أو ما هو في حكم المتعدد.
وليت شعري هل قال العرب مثلا: مذ أو منذ دهرين، أو زمنين، أو حقبين كما جمعوا، فقالوا: أحقاب وأزمان، مثلًا؟ الظاهر أنهم لم يقولون ذلك، اكتفاء بالجمع عند المبالغة، على أن تثنيته لا مانع منها صناعة.
و يظهر أن ابن هشام لا يشترط التعريف في مجرور "مذ" و"منذ"، إذا كانا بمعنى "من"، فيقول في التوضيح:"ومعنى مذ ومنذ ابتداء الغاية، إن كان الزمان ماضيًا، كقوله: "أقوين مذ حجج ومذ ذهر"، وقوله:
"وربع عفت آياته منذ أزمان"، فأقره شارحه الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري، فقال بعد "أقوين إلخ": من حجج، وقال بعد:"وربع إلخ": أي: من أزمان".
1 بضم "مذ" في بعض اللغات، وإن لم يقع ساكن بعدها.
2 قال في اللسان: وجمع الدهر أدهر، ودهور.
3 قال الصبان: وقوله: "منذ أزمان"، قال قاسم: لعل هذا من العدد فيكون بمعنى "من" و"إلى" معًا. ا. هـ.
4 قال في اللسان: والحقب الدهر، والأحقاب الدهور، وقوله تعالى:{أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} : معناه سنة، وقيل: معناه سنين. ا. هـ.
وقد رأيت فيما ذكرناه آنفًا أن مذ ومنذ، إذا كان بمعنى "من"، كان مجرورهما معرفة، فقد قال ابن عقيل:"وإن وقع ما بعدهما مجرورًا فهما حرفًا جر بمعنى "من"، إن كان المجرور ماضيًا"، فقال العلامة الخضري:"قوله بمعنى من"، أي: البيانية1 هذا إذا كان المجرور معرفة كمثاله، فإن كان نكرة فهما بمعنى "من" و "إلى" معًا، ولا تكون النكرة إلا معدودة لفظًا، كمذ يومين، أو معنى، كمذ شهر، لما مر من أنهما لا يجران المبهم. ا. هـ، ونحو ذلك في الأشموني، قال:. . . ثم إن كان ذلك "في مضي فكمن هما" في المعنى، نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة. ا. هـ.
ويتضح من ذلك أن في الموضوع مذهبين: أحدهما يشترط تعريف مجرور مذ ومنذ إذا كان بمعنى "من"، مع مضي الزمن، والثاني لا يشترط غير مضي الزمن 2.
ز قال العلامة الشيخ ياسين بن زين الدين العليمي الحمصي في حاشيته على شرح التوضيح، عند قول المتن:"أحدهما أن يدخلا على اسم مرفوع، نحو: ما رأيته مذ يومان"، ما يأتي:
"قوله: مذ يومان"، قال الزرقاني: قال الرضي: قال الأخفش: لا تقول: ما رأيته مذ يومان وقد رأيته أمس ويجوز أن يقال: ما رأيته مذ يومان، وقد رأيته أول من أمس أما إذا كان وقت التكلم آخر اليوم فلا شك فيه؛ لأنه يكون قد تكمل لانتفاء الرؤية يومان. . . قال: ويجوز أن يقال في يوم الاثنين مثلًا: ما رأيته منذ يومان: وقد رأيته يوم الجمعة ولا تعتد بيوم الإخبار ولا يوم الانقطاع، قال: ويجوز أن تقول: ما رأيته منذ يومان، وأنت لم تره منذ عشرة أيام، قال: لأنك تكون قد أخبرت عن بعض ما مضى أقول وعلى ما بينا، وهو أن منذ لا بد فيه من معنى الابتداء في جميع مواقعه، لا يجوز ذلك3".
1 قال العلامة الصبان عند قول ابن مالك: "وإن يجرا في مضي فكمن" ما يأتي: "قوله: فكمن"، أي: الابتدائية. ا. هـ، وهو أولى وأظهر من تسمية الخضري إياها بالبيانية.
2 اللهم إلا إذا كان ابن هشام يريد النص على ابتداء الغاية عند مضي الزمن، فسكت عن "إلى"، فلا منافاة على هذا بين قوله هذا وقول سائر النحاة.
3 يظهر أن اسم الإشارة راجع إلى ما مثل به، ابتداء من قوله:"ويجوز أن تقول في يوم الاثنين مثلًا. . ." إلى قوله: "ما مضي"، وذلك؛ لأن عدم الاعتداد بيوم الانقطاع، ينافي معنى الابتداء الذي يفيده مذ ومنذ، وكذا يقال في المثال الثاني.
وقال: "إنهم يقولون: منذ اليوم ولا يقولون: منذ الشهر؛ ولا: منذ السنة. ويقولون: منذ العام، قال: وهو على غير القياس قال: ولا يقال: منذ يوم، استغناء بقولهم: منذ أمس، ولا يقولون: منذ الساعة، لقصرها فإن كان جميع ما قاله مستندًا إلى السماع فبها ونعمت، وإلا فالقياس جواز الجميع، والقصر ليس بمانع؛ لأنه جوز: "منذ أقل من ساعة". ا. هـ. المراد من كلام الشيخ ياسين.
أقول: قد أسلفنا القول في امتناع أن يقال مثلًا: ما رأيته مذ أو منذ يوم، لا لتلك العلة التي نقلها ياسين عن الأخفش، بل؛ لأن منذ ومذ لا يجران إلا النكرة المعدودة، أو التي في حكم المعدودة، إذا كانا بمعنى من وإلى معًا.
وقوله: "ولا يقولون: منذ الساعة، لقصرها"، هذا هو أحد معانيها، وهو الوقت القليل، فقد جاء في اللسان: والساعة الوقت الحاضر. . . والساعة في الأصل تطلق بمعنيين: أحدهما أن تكون عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءًا، هي مجموع اليوم والليلة، والثاني أن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل. يقال: جلست عندك ساعة من النهار، أي وقتًا قليلًا منه. ا. هـ.
فإذا قلت مثلًا، على القول بالجواز: طال العصفور مذ أو منذ الساعة، فمعنى مذ أو منذ هنا:"في"، أي: طار في هذا الوقت الحاضر، وهذا واضح، كما قال ياسين، والقصر ليس بمانع.
وأما ما قاله ياسين من أنه جوز أن يقال: منذ أقل ساعة، فمعناه: منذ وقت أقل من ساعة، فنذ فيه بمعنى "من""على رأي ابن هشام ومن تابعه، كما قررنا في "و"، فتقول مثلًا: حضر فلان مذ أو منذ أقل من ساعة، أي: من زمن وجيز.
بقي المعنى الثاني للساعة، وهي أنها جزء من أربعة وعشرين جزءًا هي مجموع اليوم والليلة، فهذه الساعة محدودة؛ لأنها مقسمة أيضًا أقسامًا متساوية؛ هي الدقائق الفلكية، والقصر الذي هو علة المنع فيما قال الأخفش، منتف فيها
فتقول مثلًا: ما كتبت مذ أو منذ الساعة، أي: في هذا الوقت المقدر بستين دقيقة، كما تقول مثلًا: كتبت مذ أو منذ الساعة، وفي الإثبات؛ لأن الفعل متطاول هذا ما نستظهره.
ح- وهناك موضوع له شبه واتصال بما قررنا في الفقرة السابقة، ذلك أن ما قلنا آنفًا: إن "يومًا" من المبهم؛ فلا يجوز: مذ أو منذ يوم، فهذا ما مثل به النحاة، ففي الصبان عند قول الأشموني:"فإن كان المجرور بها نكرة. . . إلخ ما يأتي: "قوله نكرة"، أي معدودة، إذ لا يجوز: منذ يوم". ا. هـ، والظاهر أن النحاة لم يدخلوا "اليوم" في باب ما هو في حكم المعدود، وألحقوه بالمبهم، لاختلاف اللغويين في معناه، فمنها أنه من طلوع الشمس إلى غروبها، ومنها أنه مطلق الزمان، إلى غير ذلك.
وأما المعنى الآخر الذي نقلناه عن اللسان فيما تقدم، فقد حدث في الحضارة الإسلامية، وهو في حكم المعدود، ذلك أن تقول مثلًا: ما كلمته مذ أو منذ يوم، كما لك أن تقول: مذ أو منذ ليلة، لهذا الاعتبار، كما قالوا: مذ أو منذ شهر، أو سنة.
وكذلك يقال في الساعة والدقيقة الفلكيتين، فنقول مثلًا: قرأ القارئ مذ أو منذ ساعة، ما قرأ منذ أو مذ ساعة، وكلمني صديقي مذ أو منذ دقيقة، قياسًا سائغًا لا غبار عليه.
وقد خطر لي وأنا أكتب هذان لفظ: هنيهة أو هنية، ففي المصباح: الهن خفيف النون كناية عن كل اسم جنس، والأنثى: هنة؛ ولامها محذوفة، ففي لغة هي هاء؛ فيصغر على: هنيهة، ومنه يقال: سكت هنيهة أي: ساعة لطيفة، وفي لغة هي: واو، فيصغر في المؤنث على: هنية، وجمعها "أي: هنة" هنوات، وربما جمعت على هنات، على لفظها، مثل: عدات وفي المذكر: هني. ا. هـ.
وإنما تعرضت لهذه الكلمة، لكثرة دورانها على الألسن والأقلام في مختلف شؤون الحياة، فهي ليست من المعدود لفظًا أو حكمًا، ولا يمكن ضبطها بقياس.
ومثل هنيهة أو هنية: "لحظة"، للزمان اليسير، ففي الأساس: وفعل ذلك في لحظة. ا. هـ، وفي شرح القاموس: ومما يستدرك عليه: اللحظة المرة من اللحظ ويقولون: جلست عنده لحظة، أي: كلحظة العين1، ويصغرونه لحيظة، والجمع لحظات. ا. هـ.
وهذه الكلمة أيضًا شائعة جدًا، وحكمها حكم الهنيهة أو الهنية، لما قررنا من انبهامها، وأنها ليست من المعدود ولا ما هو في حكمه، وهل ثنوا هنيهة أو هنية "للوقت اليسير"، ولحظة، فقالوا مثلًا: جلس هنيهتين أو هنيتين؟ لعلهم لم يفعلوا؛ لأنه لا معنى لقولك مثلا: جلست وقتين لطيفين2.
ولو أنهم فعلوا لجاز؛ نحو قولك: جلست مذ أو منذ لحظتين أو هنيهتين، كما تقرر آنفًا.
وهل جمعوا هنيهة أو هنية "للوقت اليسير"، فقالوا مثلًا: جلس هنيهات، أو هنيات؟ الغالب أنهم لم يفعلوا، على ما وصل إليه اطلاعي، ولو أنهم فعلوا لجاز أن تقول مثلًا: جلست أو ما جلست عنده مذ أو منذ هنيهات.
أما اللحظة فلعلهم لم يثنوها، والغالب أنهم جمعوها.
على أن تثنية كل أولئك وجمعه جائز صناعة فلا كلام في هذا3.
ط- وقد كنت أرجع في أثناء كتابة هذه العجالة إلى شرح الإمام موفق الدين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي المتوفى سنة643 هـ، لمفصل الزمخشري، ورجعت أيضًا إلى شرح كتاب سيبويه للإمام أبي سعيد الحسن
1 أي: فهو من باب نيابة المصدر عن الزمن، جلست عنده مقدار لحظة عين.
2 إلا إذا قلت مثلًا: جلست هنيهتين، عند محمد هنيهة، وعند علي هنيهة وكذا يقال في الجمع، وفي لحظة إذا استعملنا مثناها وجمعها هذا الاستعمال.
3 هناك أسماء أخرى كثيرة مبهمة تدل على الزمان بذاتها، أو بالنيابة عن المصدر: فحكمها ما قررنا.
ومن ذلك وهو شائع وقت، وبرهة، وعهد، فيغلط الناس ويقولون: مذ أو منذ برهة، أو عهد أو وقت، اللهم إلا إذا قالوا: مذ أو منذ عهد طويل، أو برهة طويلًا مثلًا، فقد يجوز أن يلحق ذلك بما هو في حكم المعدود، "راجع تعليقنا على كلام الأشموني في ص555 آخر "هـ"، وليس لي في ذلك جزم، فليحرر.
ابن عبد الله بن المرزبان السيرافي المتوفى سنة 368هـ، فوجدت فيهما تعليقات طريقة تتصل بموضوع هذا البحث، آثرت أن أتحف القارئ بنتف منهما، ليرى كيف كان يكتب هذا الإمامان، ولتكمل بها الفائدة.
قال الإمام ابن يعيش:
1-
وأما الفرق بينهما "أي: "مذ ومنذ" الحرفيتين والاسميتين" من جهة المعنى، فإن "مذ" إذا كانت حرفًا دلت على أن المعنى الكائن فيما دخلت عليه، لا فيها نفسها، نحو قولك: زيد عندنا مذ شهر؛ على اعتقاد أنها حرف، وخفض ما بعدها، فالشهر هو الذي حصل فيه الاستقرار في ذلك المكان، بدلالة مذ على ذلك.
وأما إذا كانت اسمًا ورفعت ما بعدها، دلت على المعنى الكائن في نفسها، نحو قولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فالرؤية متضمنة "مذ" وهو الوقت الذي حصلت فيه الرؤية، وهو يوم الجمعة، كأنك قلت: الوقت الذي حصلت1 فيه الرؤية يوم الجمعة. ا. هـ.
وقال:
2-
والصواب ما ذهب إليه البصريون من أن ارتفاعه بأنه خبر والمبتدأ منذ ومذ، فإذا قلت: ما رأيته منذ يومان، كأنك قلت: ما رأيته مذ ذلك يومان. فهما جملتان، على ما تقدم، وإنما قلنا: إن "مذ" في موضع مرفوع بالابتداء؛ لأنه مقدر بالأمد، والأمد لو ظهر لم يكن إلا مرفوعًا بالابتداء، فكذلك ما كان في معناه". ا. هـ.
وقال:
3-
وله "أي: مذ أو منذ" في الرفع معنيان: تعريف ابتداء المدة، من غير تعرض إلى الانتهاء، والآخر تعريف المدة كلها.
1 هذا نقل الباحث، فهل حصلت الرؤية؟
فإذا وقع الاسم بعدهما معرفة، نحو قولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة. . .، ونحوه، وكان المقصود به ابتداء غاية الزمان الذي انقطعت فيه الرؤية وتعريفه. والانتهاء مسكوت عنه، كأنك قلت: وإلى الآن، ويكون في تقدير جواب "متى".
وإذا وقع بعده نكرة، نحو: ما رأيته منذ يومان، ونحو ذلك، كان المراد منه انتظام المدة كلها، من أولها إلى آخرها، وانقطاع الرؤية فيها كلها.
فإن خفضت ما بعدهما، معرفة كان أو نكرة، كان المراد الزمان الحاضر، ولم تكن الرؤية قد وقعت في شيء منه. ا. هـ.
ويظهر أن أبا البقاء أراد بالمعرفة في قوله: "فإن خفضت ما بعدها. . . إلخ" نحو يومنا أو اليوم، في قولك مثلًا: ما رأيته مذ أو منذ يومنا، أو اليوم.
ولم يرد نحو قولك: ما رأيته مذ أو منذ يوم الأربعاء1، أي: من يوم الأربعاء، كما تقدم، وذلك؛ لأن أبا البقاء يرفع "يوم" فيه وجوبًا، بدليل قوله آنفًا في فقرة 3:"فإذا وقع الاسم بعدها معرفة، نحو قولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة. . . إلخ".
أما الدلالة على الزمن الحاضر في حال جر مذ ومنذ للنكرة، فقد سلف لك أنك إذا قلت مثلًا: ما كلمته مذ أو منذ شهرين "مما هو معدود"، أو شهر "مما هو في حكم المعدود"، كان المعنى أن الحدث انتفى من ابتداء هذه المدة إلى انتهائها، فأنت إذا تقول مثلًا: ما كلمته مذ أو منذ شهر، تتكلم في نهاية الشهر، أي: ما وقع الكلام في هذا الشهر الحاضر، من أوله إلى آخره.
هذا شرح الفقرة الأخيرة من كلام أبي البقاء، كما قدرت أن أوجهها.
وقال الإمام السيرافي:
1-
اعلم أن منذ ومذ جميعًا في معنى واحد، وهما يكونان اسمين وحرفين، غير أن الغالب على منذ أن تكون حرفًا، وعلى مذ أن تكون اسمًا. ا. هـ.
1 قد سبق أن نحو هذا المثال يجوز فيما بعد مذ أو منذ فيه الرفع أو الجر.
2-
. . . تقول: ما رأيته منذ يوم الجمعة، وما رأيته منذ اليوم، وإذا قلت: ما رأيته منذ يوم الجمعة: كان معناه: انقطعت رؤيتي له من يوم الجمعة، فكان يوم الجمعة لإبداء غاية انقطاع الرؤية، فمحل ذلك من الزمان كمحل "من" في المكان، إذا قلت: ما سرت من بغداد، أي: ما ابتدأت السير من هذا المكان. فكذلك: ما وقعت رؤيتي عليه من هذا الزمان. ا. هـ.
3-
. . . وتقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة، وما رأيته مذ السبت. . . فإن قال قائل: فما حكم "مذ" في هذا الوجه، وتقديرها؟ قيل له: حكمها أن تكون اسمًا، وتقديرها أن تكون مبتدأة، ويكون ما بعدها خبرها، كأنك قلت: ما رأيته، مدة ذلك يوم السبت، فيكون على كلامين. . . وذلك أنك إذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فإنما معناه: انقطاع رؤيتي له ابتداؤه يوم الجمعة، وانتهاؤه الساعة، فتضمنت "من" معنى الابتداء والانتهاء.
وإذا قلت ما رأيته مذ اليوم، فليس فيه إلا معنى ابتداء الغاية وانقطاعها، وهو "في" معنى، وانخفض ما بعدها. ا. هـ.
4-
. . . وذلك أنك إذا قلت: لم أره مذ يومان، أو مذ شهران، أو نحو ذلك: مما يكون جوابًا لكم، فتقديره: لم أره وقتًا ما، ثم فسرت ذلك فقلت: أمد ذلك شهران، أو مدة ذلك شهران، فقولك مذ شهران جملة ثانية هي تفسير للوقت المبهم في الجملة الأولى، فهذا أحد تقديري مذ إذا رفعت ما بعدها.
والتقدير الآخر أن تقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة فيكون تقديره: فقدت رؤيته وقتًا ما، أوله يوم الجمعة فمذ في هذين الوجهين بمنزلة اسم مضاف: إما على تقدير: أمد ذلك، أو أول ذلك. ا. هـ.
5-
تكميل:
وفي المخصص: قال سيبويه: سألت الخليل رحمه الله عن قولهم؛ مذ عام أول1، ومذ عام أول، فقال: أول: ههنا صفة، وهو أول من عامك، ولكن ألزموه ههنا الحذف استخفافًا، فجعلوا هذا الحرف بمنزلة "أفضل منك" قال: وسألته رحمه الله عن قول العرب، وهو قليل: مذ عام أول، فقال: جعلوه ظرفًا في هذا الموضع، وكأنه قال: مذ عام قبل عامك. ا. هـ.
قال الباحث:
إلى هنا وقف القلم، وفي النفس شوق إلى المزيد، وتطلع إلى الاستيفاء، ولعلي أكون قد وفقت إلى ما أردت من توضيح وتسهيل، والله تعالى المستعان.
1 انظر ما يتصل بكلمة: "أول" في ص 286، وكذا في جـ 3 م 95 ص 130 حيث الإيضاح المفيد.
بحث التضمين 1:
أقوال العلماء في التضمين:
قال أبو البقاء في كتابه "الكليات": التضمين: هو إشراب معنى فعل ففعل، ليعامل معاملته، وبعبارة أخرى: هو أن يحمل اللفظ معنى غير الذي يستحقه بغير آلة ظاهرة.
ثم قال: قال بعضهم: التضمين هو أن يستعمل اللفظ في معناه الأصلي، وهو المقصود أصالة، لكن قصد تبعية معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ، أو يقدر له لفظ آخر، فلا يكون التضمين من باب الكناية، ولا من باب الإضمار، بل من قبيل الحقيقة التي "فيها" قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة.
وقال بعضهم: التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه لمعناه، وهو نوع من المجاز، ولا اختصاص للتضمين بالفعل، بل يجري في الاسم أيضًا، قال التفتازاني في تفسير قوله تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} : لا يجوز تعلقه بلفظه: الله، لكونه اسمًا لا صفة، بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي
1 هذا هو البحث الثاني الذي سبق أن وعدنا في رقم1 من هامش ص170 بتسجيله هنا، لعظيم أثره عند المتخصصين، وليكون صورة مرشدة من مسالك البحث العقلي الدقيق أمام كبار الطلاب، بالرغم من تشعبه الخيالي بغير سداد، وكثرة الخلاف الجامح فيه والوهم، كثرة معيبة تكشف عن نوع عنيف مرهق من البحوث الجدلية القديمة المقيمة، وقد نقلناه كاملًا من محاضر جلسات المجمع اللغوي القاهري في دور انعقاده الأول "ص209، وما بعدها" حيث سجلته تلك المحاضر، بقلم عضو جليل من أعضاء المجمع، هو الأستاذ حسين والي، رحمة الله عليه، وقد ألقاه على الأعضاء قبل تسجيله، ونقلناه معه بعض مناقشات قصيرة دارت بشأنه بين الأعضاء عرضه على المجمع اللغوي؛ لأهمية ذلك كله، وأردفناه ببحث لعضو مجمعي آخر، ألقاه في الجلسة نفسها ثم ختمنا برأي لنا خاص موجز، في هامش الصفحة الأخيرة: ص594 يتضمن التعليق على البحثين.
ويلاحظ ما سبقت الإشارة إليه "في رقم1 من هامش ص 170 باختصار في باب: "تعدي الفعل، ولزومه"، وهو أن "الصبان" عرض للتضمين جـ2 كما عرض له "ياسين" في الجزء الثاني من حاشيته على التصريحِ، باب: "حروف الجر" عرضًا محمودًا، في نحو: أربع صفحات.
ضمنه اسم الله، كما في قولك، هو حاتم من طيئ، على تضمين معنى: الجواد.
وجريانه في الحرف ظاهر في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، فإن "ما" تتضمن معنى "إن" الشرطية، ولذلك جزم الفعل.
وكل من المعنيين مقصود لذاته في التضمين، إلا أن القصد إلى أحدهما وهو المذكور بذكر متعلقه يكون تبعا للآخر وهو المذكور بلفظه، وهذه التبعية في الإرادة من الكلام، فلا ينافي كونه مقصودًا لذاته في المقام، وبه يفارق التضمين الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن كلا من المعنيين في صورة الجمع مراد من الكلام لذاته، مقصود في المقام أصالة، ولذلك اختلف في صحته مع الاتفاق في صحة التضمين.
والتضمين سماعي لا قياسي1 وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله فإنه يكون أولى، وكذا الحذف والإيصال، لكنهما لشيوعهما صار كالقياس، حتى كثير للعلماء التصرف والقول بهما فيما لا سماع فيه، ونظيره ما ذكره الفقهاء من أن ما ثبت على خلاف القياس إذا ما كان مشهورًا يكون كالثابت بالقياس في جواز القياس عليه.
وجاز تضمين اللازم المتعدي مثل: سفة نفسه"، فإنه متضمن لأهلك:
وفائدة التضمين هي أن تؤدي كلمة مؤدي كلمتين، فالكلمتان مقصودتان معًا قصدًا وتبعًا، فتارة يجعل المذكور أصلًا والمحذوف حالًا، كما قيل في قوله تعالى:{َلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، وتارة بالعكس، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ، أي: يعترفون به مؤمنين.
ومن تضمين لفظ معنى آخر قوله تعالى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، أي: لا تفتهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، أي:
1 هذا رأي من عدة آراء متعارضة يجيء تفصيلها، واستخلاص حكم نهائي بعدها.
لا تضموها آكلين، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، أي: من ينضاف في نصرتي إلى الله، {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ، أي: أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوه} ، أي: فلن تحرموه، فعدي إلى اثنين، {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، أي: لا تنووه، فعدي بنفسه لا بعلي، {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} ، أي: لا يصغون، فعدى بإلي، وأصله يتعدى بنفسه، ونحو:"سمع الله لمن حمده"، أي: استجاب، فعدي باللام، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، أي: يميز.
ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يكاد يحاط به.
ومن تضمين لفظ لفظًا آخر قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} إذ الأصل: أمن؟ حذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما في "هل"، فإن الأصل أهل1؟ فإذا أدخلت حرف الجر فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك؛ كأنك تقول: أعلى من تنزل الشياطين؟ كقولك: أعلى زيد مررت، وهذا تضمين لفظ لفظًا آخر1.
لقد ذكر أو البقاء عن بعض العلماء أن التضمين ليس من باب الكناية، ولا من باب الإضمار، بل من باب الحقيقة، إذا قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة.
ويؤخذ من هذا أنه لا بد من المناسبة، وإنما يعرف المناسبة أهل العربية الذين لهم دراية بالعربية وأسرارها.
وذكر عن بعضهم أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره، لتضمنه معناه، وهو نوع من المجاز.
وقال: التضمين سماعي لا قياسي، وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله، فإنه يكون أولى.
وذكر أمثلة لتضمين لفظ معنى لفظ آخر، ثم قال:"ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يكاد يحاط به".
1و1 هنا غموض في العبارة التي سجلها البحث.
ويؤخذ من هذا التضمين قياسي.
وقال ابن هشام في المغني: قد يشربون لفظَا لفظ فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك:"تضمينًا"، وفائدته: أن تؤدي كلمة مؤدي كلمتين، قال الزمخشري ألا ترى كيف رجع معنى:{وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك، مجاوزتين إلى غيرهم، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، أي: ولا تضموها آكلين لها؟
قال الدسوقي: قوله يشربون لفظًا معنى لفظ، هذا ظاهر في تغاير المعنيين، فلا يشمل نحو:"وقد أحسن بي"، أي: لطف، فإن اللطف والإحسان واحد.
فالأولى أن التضمين إلحاق مادة بأخرى لتضمنها معناها ولو في الجملة، أعني باتحاد أو تناسب، قوله:"أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين": ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها، ألا ترى أن ألا ترى أن الفعل من قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم} ضمن معنى: يمتنعون من نسائهم بالحلف، وليس حقيقة الإيلاء إلا الحلف، فاستعماله في الامتناع من وطء المرأة إنما هو بطريق المجاز، من باب إطلاق السبب على المسبب؛ فقد أطلق فعل الإيلاء مرادًا به ذالك المعنيان جميعًا، وذلك جمع بين الحقيقة، والمجاز بلا شك، وهو، أي: الجمع المذكور إنما يتأتي على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة، أما على طريقة البيانيين من اشتراط كونها مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، فقيل: إن التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.
وقدر "السعد" العامل مع بقاء الفعل مستعملًا في معناه الحقيقي، فالفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي، مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، فقولنا: أحمد إليك فلانًا، معناه: أحمده منهيًا إليك حمده. ويقلب كفيه على كذا: أي نادمًا على كذا، فمعنى الفعل المتروك وهو المضمن معتبر على أنه قيد لمعنى الفعل المذكور.
وزعم بعضهم أن التضمين بالمعنى الذي ذكره "السعد"، وهو جعل وصف الفعل المتروك حالًا من فاعل المذكور يسمى تضمينًا بيانيًا، وأنه مقابل للنحوي 1.
وقيل: إن التضمين من باب المجاز، ويعتبر المعنى الحقيقي قيدًا، وهذا هو الذي اعتبره الزمخشري، فعلى مذهب السعد يقال: ولا تأكلوا أموالهم ضاميها إلى أموالكم، وعلى مذهب الزمخشري نقول: ولا تضموها إليها آكلين.
وقيل: التضمين من الكناية، أي لفظ أريد به لازم معناه.
فالأقوال خمسة، وانظر ما بيان صفحة الأخير منها، تأمل. ا. هـ، تقرير الدردير.
وقال الأمير: قوله: "وفائدته إلخ" ظاهر في الجمع بين الحقيقية والمجاز، وقيل: مجاز فقط، وقيل: حقيقة ملوحة بغيرها.
وقدر "السعد" العامل، فزعم بعضهم أن تضمين بياني مقابل للنحوي.
قول ابن هشام "قد يشربون لفظًا معنى لفظ" لا يخفى أن "قد" في عرف المصنفين للتقليل كما سيأتي، وعلى ذلك يكون التضمين قليلًا، ولكنه سيذكر في آخر الموضوع عن ابن جني أنه كثير، حتى قال الدسوقي: هذا ربما يؤيد القول بأن التضمين قياسي.
وقد أشار الدسوقي إلى أن ابن هشام: "وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين" ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها، والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة، أما على قول البيانيين يشترط أن تكون القرينة مانعة، فقيل: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها، وقدر السعد العامل مع بقاء الفعل مستعملًا في معناه الحقيقي إلخ ما تقدم.
وقيل: التضمين من باب المجاز، وقيل: من باب الكناية، وسيأتي شرح المذاهب في ذلك.
1 في ص582 وما بعدها بيان النوعين.
وذكر ياسين على التصريح أن التضمين سماعي كما هو المختار1.
ثم قال: واعلم أن كلام المصنف في المغني في تقريره التضمين في مواضع يقتضي أن أحد اللفظين مستعمل في معنى الآخر؛ لأنه قال في {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} ، أي: فلن تحرموه، وفي:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي: لا تنووا. وحينئذ فمعنى قوله: "إنه إشراب لفظ معنى آخر". . .، أن اللفظ مستعمل في معنى الآخر فقط، فإن هذا هو الموافق لذلك التقرير، وإن احتمل أنه مستعمل في معناه ومعنى الآخر.
وقول ابن جني في الخصائص: "إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفين2 موقع الآخر، إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد، مع ما هو بمعناه" صريح في أنه مستعمل في معنى الآخر فقط.
وعلى هذا فالتضمين مجاز مرسل؛ لأنه استعمال اللفظ في غير معناه لعلاقة بينهما وقرينة، كما سيتضح ذلك، وهذا أحد أقوال فيه.
وقيل: إن فيه جمعًا بين الحقيقة والمجاز، لدلالة المذكور على معناه بنفسه، وعلى معنى المحذوف بالقرينة.
وهذا إنما يقول به من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ظاهر قول المغني "إن فائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين"، فظاهر تعريفه مخالف لما ذكره من فائدته، فليتنبه لذلك.
وعلى هذا القول جرى سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فقال في كتاب "مجاز القرآن":
"الفصل الثاني والأربعون في مجاز التضمين، وهو أن يضمن اسم معنى اسم لإفادة معنى اسمين، فتعديه تعديته في بضع المواضع، كقوله: "حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق"، فيضمن: "حقيق" معنى: "حريص"، ليفيد أنه محقوق
1 ورد هذا النص في أول الجزء الثاني، باب "حروف الجر" في الفصل الذي عنوانه: ذكر معاني الحروف الجارة.
2 المراد: اللفظين مطلقًا، وليس المراد الحرف المقابل للاسم والفعل.
بقول الحق، وحريص عليه، ويضمن فعل معنى فعل، فتعديه أيضًا تعديته في بعض المواضع كقول الشاعر:"قد قتل الله زيادًا عني"، ضمن: قتل، معنى: صرف، لإفادة أنه صرفه حكمًا بالقتل، دون ما عداه من الأسباب، فأفاد معنى القتل والصرف جميعًا". ا. هـ، المقصود منه.
وفيه تصريح بأن التضمين يجري في الأسماء بل صدر به.
وقول المغني " إشراب لفظ" يشملها.
فاقتصار "السعد" و"السيد" على بيانه في الأفعال، جار مجرى التمثيل لا التقييد، ودعوى أصالته في الأفعال مجردة عن الدليل.
وقيل: إن المذكور مستعمل في حقيقته، لم يشرب معنى غيره، وعليه جرى صاحب الكشاف، وعجيب للمصنف في المغني حيث نقل كلامه بعد تعريف التضمين بما مر، فأوهم أنه يرى بما يقتضيه ذلك التعريف فتفطن له، وقال السعد في تقرير كلام الكشاف، وبيان أنه لا يرى أن من التضمين مجازًا، ولا الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإنه مع استعماله في المذكور يدل على المحذوف ما نصه:
حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه، ثم قال: إن الفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، نحو: أحمد إليك فلانًا، معناه أحمده منهيًا إليك حمده.
وقد يعكس، كما يقال في:{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، يعترفون به مؤمنين.
وفي قوله: "مع فعل آخر" حذف مضاف أي مع حذف فعل.
فإن قلت: المناسبة إنما هي بين الفعل المحذوف ومتعلقه المذكور لا بين الفعلين، قلت: لا بد من المناسبة بينهما، لا يقال: ضربت إليك زيدًا، أي: منهيًا إليك ضربه؛ ولا تكفي القرينة.
واعترض عليه بأن في كلامه تناقضًا؛ لأن قوله: "مع فعل آخر يناسبه" غير ملائم لقوله: "مع حذف حال"، فإن الثاني يدل على أن المحذوف اسم هو حال، لا فعل، بخلاف الأول.
وأجيب بأن في كلامه تغليبًا وإطلاقًا للفعل عليه وعلى الاسم، أو أراد بالفعل معناه اللغوي، وكذا في قوله:"أن يقصد بالفعل"، ولا يخفي سقوطه على هذا الكلام وبعده عن المرام.
وذلك أن الداعي للسعد على ما قاله، الفرار من الجميع بين الحقيقية والمجاز. والأصل تضمين الفعل لمثله، فالملاحظة في تضمين المذكور مثله، وأشير بالحال عند بيان المعنى إلى ذلك التضمن ولو قدر نفس الفعل، كان من الحذف المجرد، ولم يكن المحذوف في تضمن المذكور، وأيضًا في تقديره تكثير للحذف.
وبهذا يظهر أنه من قال: لا تنحصر طرق التضمين فيما قال، وأن منها العطف، نحو:{الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، أي: الرفث والإفضاء إلى نساءكم، فقد غفل عن الباعث على هذا القول، على أنه لم يدع أحد الحضر، وقال السيد: ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف بدل عليه ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلًا في الكلام والمحذوف قيدًا فيه، على أنه حال، كما في قوله:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، كأنه قال:"لتكبروا الله حامدين على ما هداكم" وتارة يعكس، فيجعل المحذوف أصلًا والمذكور مفعولًا، كقوله: أحمد إليك فلانًا" كأنك قلت أنهي إليك حمده، أو حالًا كما يدل عليه قوله، "يعني الكشاف"، عند الكلام على قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} ، أي: يعترفون به، فإنه لا بد من تقدير الحال، أي: يعترفون به مؤمنين، إذ لو لم يقدر لكان مجازًا عن الاعتراف لا تضمينًا، وقوله: على "أنه حال"، وقوله: "والمذكور مفعولًا" بمعنى أن المذكور يدل على ذلك كما يفيده قول السعد مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر.
والظاهر أن السيد يوافقه على ذلك؛ لأنه لم يشر للرد عليه، كما هو دأبه عند مخالفته.
فاندفع قول بعضهم: إن في جعله المذكور مفعولًا للمحذوف نظرًا ظاهرًا؛ لأن الفعل والجملة لا يقع واحد منهما مفعولًا لغير القول والفعل المعلق.
فالصواب كون جملة: "أحمد" حالًا من فاعل: أنهى، والمعنى أنهى حمده إليك حال كوني حامدًا له، ويرد عليه أنه إن أراد أن جملة:"أحمد"
حال في التركيب ففاسد أوفى المعنى، فالذي وقع فيه حالًا إنما هو اسم الفاعل المحذوف بدلالة الفعل المذكور عليه، كما يشهد به قوله حال كوني حامدًا، وقد ذكر السعد أن هذا التركيب مما حذف فيه الحال، والظاهر أن السيد لم يقصد الرد عليه، وإنما أراد بيان وجه آخر، ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد.
ومن العجيب أن بعضهم بعد ذكر كلام السعد والسيد قال: إنه لا ينحصر فيما قال السيد بل له طرق أخرى منها: أن يكون مفعولًا، كما في قولهم: أحمد إليك الله، أي: أنهى حمده إليك.
ومن العجب أيضًا قوله في الجواب عن كلام البعض المتقدم، إن هذا من السبك بلا سابك كباب التسوية؛ وأنت قد عرفت أن هذا حذف كما نص عليه السعد لا سبك.
هذا، وقد اتفق هذان المحققان السعد والسيد، على أن في "أحمد إليك زيدًا" تضمينًا.
ووقع للمولى أبي السعود في أول تفسيره الفرق بين الحمد والمدح، بأن الحمد يشعر بتوجيه النعت بالجميل إلى المنعوت بخلاف المدح، وأنه يرشد إلى ذلك اختلافهما في كيفية التعلق بالمفعول في حمدته ومدحته، فإن تعلق الثاني تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها، والأول مبني على معنى الإنهاء كما في قولك كلمته، فإنه معرب عما تفيده لام التبليغ في قولك: قلت له.
ولا يخفى أن هذا مخالف لكلام القوم، ولا يثبت بشهادة من معقول أو منقول.
فمن العجائب نقل شيخنا الدنوشري له في رسالة التضمين، وقوله: وهو كلام حسن ربما يؤخذ منه أن الإنهاء من مفهوم الحمد، فتعلق إلى به بالنظر لذلك، فلا حاجة إلى اإدعاء التضمين فيه، فليتأمل ذلك. ا. هـ.
فإن أراد بكونه حسنًا حسن تراكيبه، فلا شك في ذلك، وإن أراد حسنه من جهة المعنى فلم يظهر، فإنه وإن أطال الكلام كما يعلم بالوقوف عليه، لم يأت فيه ببيان المرام.
بقي هنا أمران؛ الأول: ما أشار إليه السعد والسيد من أخذ الحال من المحذوف أو المذكور، لا شك أنهما وجهان متغايران عند من له في التحقيق يدان، وإنما الكلام في أنهما: هو يستويان دائمًا أو يترجح أحدهما في بعض الأحيان؟.
والذي يقتضيه النظر وإليه يشير كلامهم، رجحان أحدهما على الآخر بحسب المقام، بل تعيينه كما لا يخفى على من له بالقواعد إلمام، فيترجح أخذها من المحذوف في:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، وإن جرى السيد على خلافه كما مر، فقد قال صاحب الكشاف: المعنى لتكبروا الله حامدين، ولم يقل لتحمدوا الله مكبرين، قال بعضهم: لأن الحمد إنما يستحق ويطلب لما فيه من التعظيم، وكما في حديث:"أن تؤمن بالقضاء. . ."، فالمعنى: أن تؤمن معترضًا بالقضاء؛ لا أن تعترف بالقضاء مؤمنًا؛ لأن "أن" والفعل يسبك بمصدر معروف، وهو لا يقع حالًا كما قال الرضي في الكلام على أن "إن" تكسر وجوبًا إذا وقعت حالًا، وإن كان لا يخلو عن نظر؛ لعدم وجوب كون المصدر المسبوك معرفة كما يأتي، ولما يدلان عليه من اسم الفاعل حكمهما، وفي بعضها يترجح أخذها من المذكور كما إذا ضمن العلم معنى القسم، نحو: علم الله لأفعلن، فالمعنى: أقسم بالله عالمًا لأفعلن لا عكسه؛ لأن "أقسم" جملة إنشائية لا تقع حالًا إلا بتأويل، واسم الفاعل الواقع حالًا قائم مقامها فيعطى حكمها، ونحو:"فأماته الله مائة عام"؛ لأن التقدير: ألبثه الله مائة عام مماتًا، لا أماته الله مائة عام ملبثًا؛ لأنه يلزم منه ألا تكون الحال مقارنة بل مقدرة، والأصل كونها مقارنة.
وأما ما توهمه بعضهم من أنه صلة المتروك تدل على أن المقصود أصالة، فمردود بأنها إنما تدل على كونه مرادًا في الجملة؛ إذ لولاها لم يكن مرادًا أصلًا، بل إن الصلة لا يلزم أن تكون للمتروك كما دل عليه كلام البيضاوي في تفسير:{إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} ، فإنه فسر "انتبذت" باعتزلت، وذكر أنه متضمن معنى: أتت، و"مكانًا" ظرف أو مفعول، ولا شك أن قوله:"من أهلها"، حينئذ متعلق "بانتبذت" الذي بمعنى: اعتزلت، لا بأتت.
ومما يتفطن له أن المراد بالصلة ما له دلالة على التضمين؛ لارتباطه بالمحذوف
الذي في ضمن المذكور، فيشمل ما إذا ضمن اللازم معنى المتعدي، فإن التعدية حينئذ قرينة التضمين لا ذكر الصلة.
وأما إذا ضمن فعل متعد لواحد معنى متعد لاثنين وبالعكس، كتضمن العلم معنى القسم كما مر، فإن القرينة إنما هو الجواب.
الثاني: هل الخلاف في كون التضمين سماعيًا أو قياسيًا، مبني على الخلاف في أنه حقيقة أو مجاز إلى غير ذلك مما فيه من المذاهب؟ وهل ذلك في المجاز مبني على كون المجاز سماعيًا أو لا؟
والذي يخطر بالبال أنه على القول بأنه حقيقة لا تتوقف على سماع، واشتراط المناسبة بين اللفظين لا يقتضي ذلك كما لا يخفي، وأنه يلزم من كون مطلق المجاز قياسيًا قياسية هذا المجاز الخاص، خلافًا لبعضهم.
قال في التلويح: المعتبر في المجاز وجود العلاقة المعلوم اعتبار نوعها في استعمال العرب، فلا يتشرط اعتبارها بشخصها، حتى يلزم في آحاد المجاز أن ينقل بأعيانها عن أهل اللغة، وذلك لإجماعهم على اختراع الاستعارات العربية البديعة التي لم تسمع بأعيانها من أهل اللغة، وهي من طرق البلاغة وشعبها التي بها ترتفع طبقة الكلام، فلو لم يصح لما كان كذلك، ولهذا لم يدونوا المجاز تدوينهم الحقائق، وتمسك المخالف بأنه لو جاز التجوز بمجرد وجود العلاقة لجاز:"نخلة" لطويل، غير إنسان، للمشابهة، و"شبكة" للصيد، للمجاورة، و"أب"، لابن، للسببية، واللازم باطل اتفاقًا.
وأجيب بمنع الملازمة، فإن العلاقة مقتضية للصحة، والتخلف عن المقتضي ليس بقادح، لجواز أن يكون لمانع مخصوص، فإن عدم المانع ليس جزءًا من المقتضى.
وذهب المصنف رحمه الله إلى أنه لم يجز نحو "نخلة" لطويل غير إنسان، لانتفاء شرط الاستعارة، وهو المشابهة في أخص الأوصاف، أي: فيما له مزيد اختصاص بالمشبه به، كالشجاعة للأسد.
فإن قيل: الطول للنخلة كذلك، قلنا: لعل الجامع ليس مجرد الطول، بل مع فروع وأغصان في أعاليها، وطراوة وتمايل فيها.
ولا شك أن على القول بأن التضمين مجاز، فهو لغوي علاقته تدور على المناسبة، وهي مع أنها ليست مما نصوا عليه في العلاقات أمر مشترك بين أفراده، لكن الذكي يرجعها في كل موضع إلى ما يليق به، مما هو من العلاقات المعتبرة، وبذلك يمتاز بعض الأفراد عن بعض آخر، والتخلف في بعض الأفراد إن فرض لا يضر، كما علمت.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام، وقل من حققه مع إطالته الكلام.
فتمم الكلام على بقية الأقوال، تقدم ثلاثة.
والرابع: وهو الذي ارتضاه السيد، أن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ويقدر له لفظ آخر، فلا يكون من الكناية ولا الإضمار، بل من الحقيقة التي قصد منها معنى آخر يناسبها ويتبعها في الإرادة، وحينئذ يكون واضحًا بلا تكلف.
وهذه مبني على أن اللفظ يدل على المعنى، ولا يكون حقيقة، ولا مجازًا، ولا كناية، والسيد جوزه ومثله بمستتبعات التراكيب، وذلك أن الكلام قد يستفاد من عرضه معنى ليس دالًا عليه بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة، كما يفيد قولك:"آذيتني فستعرف" التهديد، "وإن زيدًا قائم" إنكار المخاطب.
و"السعد" وغيره جعلوا ذلك كناية.
والمراد من التبعية في قوله: "لكن قصد بتبعيته" التبعية في اللفظ، كما يصرح به قوله في حواشي المطول في بحث الاستعارة عند الكلام في قوله:
"أسد علي وفي الحروب نعامة" لا ينافي تعلق الجار به إذا لوحظ مع ذلك المعنى ما هو لازم له، ومفهوم منه؛ من الجراءة والصولة.
والفرق بين هذا الوجه والتضمين، أن في التضمين لا بد أن يكون المعنى المقصود من اللفظ تبعًا مقصودًا في المقام أصالة، وبه يفارق التضمين الكناية، وفي هذا الوجه لا يكون المعنى الملحوظ تبعًا مقصدًا في المقام أصلًا، كيف والمقام مقام التشبيه بالأسد على وجه المبالغة، وذلك يغني عن القصد إلى وصف الجراءة، والصولة مرة أخرى.
وبذلك يندفع قول ابن كمال باشا في رسالة التضمين: إن قيد: "يتبعه في الإرادة" يخرج المعنى الآخر عن حد الأصالة في القصد، والأمر في التضمين ليس كذلك، بل قد تكون العناية إليه أوفر، ومن العجب أنه نقل كلام حاشية المطول في تلك الرسالة.
وأما الاعتراض على ما قاله "السيد" بأنه: كيف يعمل اللفظ باعتبار معنى لا يدل عليه، فلا يرد؛ لأن اللفظ دال عليه، لكنه لم يستعمل فيه.
والخامس: أن المعنيين مرادان على طريق الكناية، فيراد المعنى الأصلي توصلا إلى المقصود، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.
قال السيد: وفيه ضعف؛ لأن المعنى المكنى به قد لا يقصد، وفي التضمين يجب القصد إلى كل من المضمن والمضمن فيه. ا. هـ.
ولا يخفى أن "قد" علم القلة في عرف المصنفين، وجعلها المناطقة سور الجزئية. فمن الغريب قول بعضهم: إن أراد أنه لا يقصد أصلًا فممنوع؛ لتصريحهم بخلافه، وإن أراد التقليل أو التكثير لم يثبت المطلوب؛ لأن عدم إرادته في بعض المواضع لا ينافي إرادته في بعض الآخر.
وحاصل ما أشار إليه السيد: أن الكناية في بعض الأحيان لا يقصد منها المعنى الأصلي، ولو كان التضمين منها لاستعمل استعمالها في وقت ما.
ويجاب كما قال العصام: بأنه قد يجب في بعض الكناية شيء لا يجب في جنسها، ولذلك سمي باسم خاص. ا. هـ.
فإن قيل: إذا شرط في التضمين وجوب إرادة المعنيين، نافي الكناية؛ لأن المشروط فيها جواز إرادته.
أجيب: بأن المراد بالجواز الإمكان العام المقيد بجانب الموجود، لإخراج المجاز، لا الجواز بمعنى الإمكان الخاص؛ لظهور أن عدم إرادة الموضوع له لا مدخل له في خروج المجاز، حتى لو وجب إرادته خرج أيضًا، وأورد بعضهم على قول السيد: إن التضمين يجب فيه القصد إلى المعنيين، أنه ممنوع، وادعى أنه وارد على طريق الكناية، قال: ألا ترى أن معنى الإيمان جعلته في الأمان، وبعد
تضمينه بمعنى التصديق لا يقصد معناه الأصلي، وأرأيتك بمعنى أخبرني. "ا. هـ"، وهو باطل، لما أنه مفوت فائدة التضمين من أداء كلمة مؤدى كلمتين، وجعل:"أرأيتك" بمعنى: أخبرني من التضمين: غير ظاهر.
والسادس: أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز كما بيناه في رسالتنا.
وذكر بعضهم في التضمين قولًا آخر لو صح كان "سابعًا"، وهو: أن دلالته غير حقيقية؛ ولا تجوز في اللفظ، وإنما التجوز في إفضائه إلى المفعول، وفي النسبة غير التامة، ونقل ذلك عن ابن جني، وقال: ألا ترى أنهم حملوا النقيض على نقيضه، فعدوه بما يتعدى به، كما عدوا:"أسر" بالباء، حملًا: على "جهر" و"فضل" بعن حملا على "نقص"، ولا مجاز فيه قطعًا بمجرد تغيير صلته، وإنما هو تصرف في النسبة الناقصة. ا. هـ.
وهذا القول مخالف لما نص عليه ابن جني في الخصائص، وقد تقدم كلامه فيها. ومن العجب أن هذا الناقل نقل كلامه في الخصائص، واستدل به المذهب في التضمين جعله مغايرًا لهذا، وحمل النقيض على النقيض ليس من التضمين، ولا قريب منه ليقرب به، ولهذا قابله بعضهم به، فإنه قال في المغني في بحث "على" وقد تكلم على قوله:"إذا رضيت على بنو قشير" يحتمل أن يكون "رضي" ضمن معنى: "عطف"، وقال الكسائي: حمل على نقيضه وهو سخط. ا. هـ. سأل الله تعالى الرضا بغير سخط، بفضله وكرمه.
وبقي قول آخر: إن ثبت كان "ثامنًا"، واختاره المولى ابن كمال باشا حيث قال: وبالجملة لا بد في التضمين من إرادة معنيين من لفظ على وجه يكون كل منهما بعض المراد، وبه يفارق الكناية، فإن أحد المعنيين تمام المراد، والآخر وسيلة إليه، لا يكون مقصودًا أصالة، وبما قررناه اندفع ما قيل، والفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي، فلا دلالة له على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر، فلا دلالة على المعنى الحقيقي، وإن كان فيهما لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يمكن أن يقال ههنا ما يقال في الجمع بين المعنيين في صورة التغليب؛ لأن كلا من المعنيين ههنا مراد بخصوصه. ا. هـ، المقصود منه.
ولا يخفى أنه لم يظهر الدفاع الجمع بين الحقيقة والمجاز في التضمين، لما
اعترف به من أن كلا من المعنيين مراد بخصوصه، ثم قال: إن التضمين على المعنى الذي قررناه، لا اشتباه بينه وبين المجاز المرسل؛ لأنه مشروط يتعذر المعنى الحقيقي، وهو فيه متعذر، نعم يلزم اندراجه تحت مطلق المجاز، وبين أن الحق أنه ركن مستقل من أركان البيان، كالكناية أو المجاز المرسل، وأنه فيه مندوحة عن تكلف الجمع بين الحقيقية والمجاز، وفي قوله:"إن المعنى الحقيقي في التضمين غير متعذر"، نظر؛ لأنه متعذر بواسطة القرينة كما عرف مما مر، ولا بد من المصير إلى المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن القرينة في المجاز إنما تمنع من إرادة الحقيقية فقط، فاحفظه، فإنه مما يقع فيه الغلط.
ثم إنه علم من كلامه أن في المذهب الذي اختاره السلامة من الجمع بين الحقيقة والمجاز اللازم على بعض الأقوال، وهو القول الثاني المتقدم، كما عرفت تحقيقه مما مر، فدعوى أن شبهة الجمع في التضمين مطلقًا واهية، دعوى باطلة، ولم يرد بذلك على السيد، كما لا يخفى على من راجع كلامه، وإن كلام السيد لا يتوهم فيه ذلك الجمع، فمن قال: إنه اعترض عليه بذلك فقد افترى.
في كلام ياسين ثمانية أقوال في التضمين:
الأول: أنه مجاز مرسل؛ لأن اللفظ استعمل في غير معناه لعلاقة وقرينة.
الثاني: أن فيه جمعًا بين الحقيقة والمجاز لدلالة المذكور على معناه بنفسه، وعلى معنى المحذوف بالقرينة.
الثالث: أن الفعل المذكور مستعمل في حقيقته لم يشرب معنى غيره، "كما جرى عليه صاحب الكشاف"، ولكن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب، بمعونة القرينة اللفظية، كما ذكر السعد.
وقال السيد: "ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته"، وفيما مثل به جعل المحذوف أصلًا، والمذكور مفعلًا و"كأحمد إليك فلانًا"، أي: أنهى إليك حمده، بمعنى أن المذكور يدل على ذلك كما يدل على الحال، وقد أراد السيد بيان وجه آخر، ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد.
الرابع: أن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، ولكن قصد بتبعيته معنى آخر، فلا يكون من الكناية ولا الإضمار.
الخامس: أن المعنيين مرادان على طريق الكناية، فيراد المعنى الأصلي، توصلًا إلى المقصود، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.
السادس: أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز.
السابع: أن دلالته غير حقيقية، ولا تجوز في اللفظ، وإنما التجوز في إفضائه إلى المعمول، وفي النسبة غير التامة، ونقل ذلك عن ابن جني، وقال: ألا ترى أنهم حملوا النقيض، على نقيضه، فعدوه بما يتعدى به، كما عدوا:"أسر" بالباء حملًا على: "جهر"، "وفضل" بعن حملًا على:"نقص".
وقد علق هذا القول على الصحة.
الثامن: أنه لا بد في التضمين من إرادة معنيين في لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد، وبذلك يفارق الكناية، فإن أحد المعنيين تمام المراد، والآخر وسيلة إليه لا يكون مقصودًا أصالة"، "وهذا اختيار ابن كمال باشا"، وقد علق هذا القول على الثبوت.
وقال السيوطي في الأشياء، والنظائر: قال الزمخشري في شأنهم: يضمنون الفعل معنى فعل آخر؛ فيجرونه مجراه، ويستعملونه استعماله، مع إرادة معنى المتضمن. قال: والغرض في التضمين إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى. ألا ترى كيف رجع معنى:{وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، أي: ولا تضموها إليها آكلين. ا. هـ.
قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في حاشية الكشاف: فإن قيل: الفعل المذكور إن كان مستعملًا في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي، وإن كان فيهما جميعًا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
قلنا: هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة
القرينة اللفظية؛ فمعنى يقلب كفيه على كذا: نادمًا على كذا، ولا بد من اعتبار الحال، وإلا كان مجازًا لا تضمينًا، وكذا قوله:"يؤمنون بالغيب" تقديره: معترفين بالغيب. ا. هـ.
وقال ابن يعيش: الظرف منتصب على تقدير "في"، وليس متضمنًا معناها حتى يجب بناؤه لذلك، كما وجب بناء نحو:"من وكم " في الاستفهام، وإنما "في" محذوفة من اللفظ لضرب من التخفيف، فهي في حكم المنطوق به، ألا ترى أنه يجوز ظهور "في" معه، نحو قمت اليوم وقمت في اليوم، ولا يجوز ظهور الهمزة من "من وكم" في الاستفهام، فلا يقال: أمن؟ ولا أكم؟ وذلك من قبل أن "من وكم" لما تضمنا معنى الهمزة صارًا كالمشتملين عليها، فظهور الهمزة حينئذ كالتكرار، وليس كذلك الظرف، فإن الظرفية فيه مفهومة من تقدير "في"، ولذلك يصح ظهورها.
ثم ذكر أن ابن جني قال في التضمين: "ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئًا كثيرًا لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابًا ضخمًا، وقد عرفت طريقه، فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأنس به، فإنه فصل من العربية لطيف حسن".
وقال ابن هشام في تذكرته: زعم قوم من المتأخرين منهم خطاب الماردي أنه قد يجوز تضمين الفعل المتعدي لواحد معنى: "صير" ويكون من باب: "ظن"، فأجاز: حفرت وسط الدار بئرًا؛ أي: صيرت، قال: وليس "بئرًا" تمييزًا، إذ لا يصلح لمن، وكذا أجاز: بنيت الدار مسجدًا، وقطعت الثوب قميصًا. وقطعت الجلد نعلًا، وصبغت الثوب أبيض إلخ. . .
قال: والحق أن التضمين لا ينقاس، وقال ابن هشام في المغني: قد يشربون لفظًا معنى لفظ فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك: تضمينًا، وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين، ثم ذكر لذلك عدة أمثلة منها قوله تعالى:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ضمن معنى تحرموه، فعدي إلى اثنين لا إلى واحد، ومنها:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ضمن معنى: تنووه، فعدي بنفسه لا بعلى، وقوله:{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} ضمن معنى "يصغون"، فعدي بإلى، وأصله أن
يتعدى بنفسه، ومثل: سمع الله لمن حمده، ضمن معنى: استجاب، فعدي باللام، ومثل:"والله يعلم المفسد من المصلح"، ضمن معنى: يميز، فجيء بمن.
وذكر ابن هشام في موضع آخر: من المغني: أن التضمين لا ينقاس، وكذا ذكر أبو حيان، ثم قال السيوطي:
"قاعدة": المتضمن معنى شيء لا يلزم أن يجري مجراه في كل شيء، ومن ثم جاز دخول الفاء في خبر المبتدأ المتضمن معنى الشرط، نحو الذي يأتيني فله درهم. وكل رجل يأتيني فله درهم، وامتنع في الاختيار جزمه عند البصريين، ولم يجيزوا: الذي يأتيني أحسن إليه، أو: كل من يأتيني أحسن إليه، بالجزم، إلا في الضرورة، وأجار الكوفيون جزمه في الكلام تشبيهًا بجواب الشرط، ووافقهم ابن مالك، قال أبو حبان: ولم يسمع من كلام العرب الجزم في ذلك إلا في الشعر. ا. هـ.
قال ابن هشام في المغني: وهو كثير، قال أبو الفتح في كتاب التمام: أحسب لو جمع ما جاء منه، لجاء منه كتاب يكون مئين أوراقًا. ا. هـ.
قال الدسوقي: قوله: وهو أي التضمين كثير، وقوله: قال أبو الفتح: دليل لقوله وهو كثير، "قوله: قال أبو الفتح إلخ"، هذا ربما يؤيد القول بأن التضمين قياسي، وقيل: البياني فقط، وظاهر أنه ليس كل حذف مقيسًا، وكذا المجاز إذا ترتب عليه حكم زائد. ا. هـ.
وقال ابن هشام في أوائل الباب الخامس من المغني: وفائدة التضمين أن يدل بكلمة واحدة على معنى كلمتين، يدلك على ذلك أسماء الشروط والاستفهام.
قال الأمير: قوله: "على معنى كلمتين" ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز، وسبق الخلاف في ذلك، قال ابن جني: لو جمعت تضمينات العرب ملأت مجلدات، فظاهره القول بأنه قياسي، قوله: أسماء الشروط مثلًا "من" معناها العاقل، وتدل مع ذلك على معنى إن، والهمزة. ا. هـ.
وقال ابن هشام في معاني الباء من المغني: "الثالث عشر" الغاية، نحو:"وقد أحسن بي"، أي: إلي، وقيل: ضمن أحسن معنى: لطف. ا. هـ.
قال الأمير: ظاهره كقولهم: التضمين إشراب الكلمة معنى آخر، وأنه مجاز،
أو حقيقة ملوحة، أو جمع بينهما؛ يقتضي مغايرة المعنيين، ولا يظهر في الإنسان واللطف، فالأولى أن التضمين إلحاق كلمة بأخرى لاتحاد المعنى أو تناسبه، ويأتي الكلام فيه، وهل هو قياسي أو البياني1؛ لأنه مجرد حذف لدليل إن قلنا بمغايرته للنحوي. ا. هـ.
وقال الملوي على السلم: "وذللت فيه صعاب المشكلات على طرف الثمام".
فقال: الصبان: "الثمام" بضم المثلثة: نبت ضعيف يشد به فرج السقوف، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف: أي: ووضعتها، فهو من باب حذف الواو مع ما عطفته لعدم اللبس، أو:"بذللت"، على تضمينه معنى "وضعت" تضمينًا نحويًا، وقد نقل أبو حيان في ارتشافه عن الأكثرين أن ينقاس، فهو في باب الجمع بين الحقيقة والمجاز.
أو بحار محذوفة من فاعل ذللت، أي: واضعًا لها، أو من مفعوله: أي: موضوعة، فعلى هذين التضمين بياني، وهو مقيس. ا. هـ.
وقال الصبان على الأشموني: إن التضمين النحوي إشراب كلمة معنى أخرى، بحيث تؤدي المعنيين، والتضمين البياني تقدير حال تناسب الحرف، وتمنع كون التضمين النحوي ظاهرًا عن البياني، للخلاف في كون النحوي قياسيًا: وإن كان الأكثرون على أنه قياسي، كما في ارتشاف أبي حيان دون البياني فاعرفه. ا. هـ، أي: فلا خلاف في كونه قياسيًا، كما أشار إليه قبل بقوله:"وهو مقيس".
وقال صاحب التصريح في آخر الكلام في المفعول معه: "واختلف في التضمين: أهو قياسي أم سماعي، والأكثرون على أنه قياسي، وضابطه أن يكون الأول والثاني يجتمعان في معنى عام، قاله المرادي في تلخيصه. ا. هـ"، وكلامه في النحوي، وقال ياسين على القطر في أن "التضمين إشراب لفظ معنى لفظ آخر" هو أحد أقوال خمسة في التضمين، والمختار منها عند المحققين أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، مع حذف حال مأخوذ من اللفظ الآخر، بمعونة القرينة اللفظة، فمعنى "يقلب كفية على كذا": أي: نادمًا على كذا، وقد
1 سبق المراد من البياني في ص568.
يعكس كما في: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، أي: يعترفون به مؤمنين، وبهذا يتوقع أن اللفظ المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الآخر، وإن كان في معنى الآخر فلا دلالة على المعنى الحقيقي، وإن كان فيهما لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
لقد ذكرنا طائفة من أقوال العلماء في التضمين، وذكرنا القول بأنه سماعي، والقول بأنه قياسي، ورأيناه قوة في القول بأنه قياسي، ونقلنا فيما تقدم أن التضمين ركن من أركان البيان، فإن ذهبنا إلى القول بأنه قياسي، قلنا: إنما يستعمله العارف بدقائق العربية وأسرارها على نحو ما ورد، وإنك لتجد كثيرًا في عبارات المؤلفين فيها التضمين، فمن ذلك عبارة الملوي السابقة، ومن ذلك قول ابن مالك "وأستعين الله في ألفية"، فقد جوز الأشموني أنه ضمن أستعين معنى: أستخير، ونحوه مما يتعدى بفي.
ذكرنا القول بأن التضمين سماعي، ومعناه أن يحفظ ولا يقاس عليه، وذكرنا قول القائلين: إن التضمين النحوي قياسي عند الأكثرين، وأن التضمين البياني قياسي بإجماع النحويين، وقد ذكر ابن جني في الخصائص أنه لو نقل ما جمع من التضمين عن العرب لبلغ مئين أوراقًا.
والتضمين مبحث ذو شأن في اللغة العربية، وللعلماء في تخريجه طرق مختلفة فقال بعضهم: إنه حقيقة، قال بعضهم: إنه مجاز، وقال آخرون: إنه كناية، وقال بعضهم: إنه جمع بين الحقيقة والمجاز على طريقة الأصوليين؛ لأن العلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الأصلي
…
فإذا قررنا التضمين قياسي، فقد جرينا على قول له قوة، وإذا قلنا: إنه سماعي، فقد يعترض علينا من يقول: إن علماء اللغة من يرى أنه قياسي، فلماذا تضيقون على الناس، وما جئتم إلا لتسهلوا اللغة عليهم؟
فنحن نثبت القولين بالقياس وبالسماع، ولكنا نرجع قياسيته، والقول بجواز استعماله للعارفين بدقائق العربية وأسرارها، ولا يصح أن نحظره عليهم؛ لأنه داخل في الحقيقة، أو المجاز، أو: الكناية، والبلغاء يستعملونه في كلامهم بلا حرج،
فكيف نسد باب التضمين في اللغة، وهو يرجع إلى أصول ثابتة فيها؟.
وأقول بعد هذا: لا بد من قيود نضبط بها استعمال التضمين، وقد رأى بعض الزملاء أن يقصر التضمين على الشعر، وفي هذا قصر للحقيقة، أو للمجاز، أو للكناية؛ وهي الأصول التي يخرج عليها التضمين على فن من الكلام دون آخر، وهذه الأمور الثلاثة تقع في الشعر والنثر بلا قيد ولا شرط.
على أن الشعر من أكثر فنون القول ذيوعًا، والناس يحفظون الشعر ويجرون على أساليبه في الكتابة والخطابة، فإن أجزنا التضمين في الشعر وحده، وقعنا في الأمر الذي نفر منه، ونحن هنا نقرر الحقائق العلمية، ونرجع منها ما يستحق الترجيح تحقيقًا لأغراضنا.
انتهى البحث.
حضرة رئيس الجلسة: يتفضل الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين بتلاوة بحثه في التضمين1.
حضر العضو المحترم الأستاذ الخضر حسين: للتضمين غرض هو الإيجاز. وللتضمين قرينة، هي تعدي الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه، أو تعديته بنفسه وهو يتعدي بالحرف، وللتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين، وكثرة وروده في الكلام المنثور والمظلوم تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية، متى حافظ على شرطه؛ وهو؛ مراعاة المناسبة.
فإذا لم توجد بين الفعلين العلاقة المعتبرة في صحة المجاز كان التضمين باطلًا. فإذا وجدت العلاقة بين الفعلين ولم يلاحظها المتكلم، بل استعمل فعل:"أذاع" مثلًا متعديًا بحرف الباء على ظن أنه يتعدى بهذا الحرف لم يكن كلامه من قبيل التضمين، بل كان كلامه غير صحيح عربية.
فالكلام الذي يشتمل على فعل عدي بحرف وهو يتعدى بنفسه، أو عدي بحرف وهو يتعدى بغيره، يأتي على وجهين:
1 وهو البحث الثاني في الموضوع نفسه قد استمع له الأعضاء في الجلسة ذاتها بعد الأول، كما أشرنا في هامش ص564.
الوجه الأول: ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به، حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين، ومثل هذا نصفه بالخطأ، والخروج عن العربية، ولو صدر من العارف بفنون البيان.
الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها حمل على وجه التضمين الصحيح، كما قال سعد الدين التفتازاني:"فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم"، والتشمير لا يتعدى بإلى، فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى:"الميل" الذي هو سبب التشمير عن ساق الجد.
فإن صدر مثل هذا من عامي أو شبيه بعامي1، أي: ممن يدلك حالة على أنه لم يبين كلامه على مراعاة فعل آخر مناسب للفعل الملفوظ، كان لك أن تحكم عليه بالخطأ، فلا جناح عليك أن تحكم على قول العامة مثلًا أرجو الله قضاء حاجتي، باللحن والخروج عن قانون اللغة الفصحى؛ لأن فعل الرجاء لا يتعدى إلى مفعولين، وليس لك أن تخرجه على باب التضمين، كأن تجعل "أرجو" مشربًا معنى "أسأل" بناء على أن بين الرجاء، والسؤال علاقة السببية والمسببة، فإن هذا الوجه لم ينظر إليه أولئك الذين استعملوا فعل "أرجو" متعديًا إلى المفعولين.
ومن هنا نعلم أن من يخطئ العامة في أفعال متعدية بنفسها، وهم يعدونها بالحروف، مصيب في تخطئته، إذا لم يقصدوا لإشراف هذه الأفعال معاني أخرى تناسبها، حتى يخرج كلامهم على باب التضمين.
وليس معنى هذا أن التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره، وإنما أريد أن العارف بوجوه استعمال الألفاظ، لا نبادر إلى تخطئته، متى وجدنا لكلامه مخرجًا من التضمين الصحيح، أما غيره كالتلاميذ، ومن يتعاطى الكتابة من غير
1 تكرر هذا الكلام من الباحث وغيره، والنفس لا ترتاح إليه: لجواز أن يكون العامي بل غير اللغوي، مطلقًا مقلدًا اللغوي، بقصد، أو بغير قصد في هذا الاستعمال، كالشأن في كثير من أمور اللغة، وإنما الذي ترتاح له النفس ويجب أن يتجه إليه الحكم، ويقتصر عليه دائمًا هو أن هذا التعبير أو ذاك صحيح لغويًا أو غير صحيح.
أن يستوفي وسائلها، فإن قام الشاهد على أنه نحا نحو التضمين، كما إذا اعترضت عليه في استعمال الفعل المتعدي بنفسه متعديًا بحرف، فأجاب بأنه قصد التضمين وبين الوجه، فوجدته قد أصاب الرمية؛ فقد اعتصم منك بهذا الجواب المقبول، ولم يبق لاعتراضك عليه من سبيل.
وإن قام شاهد على أن المتكلم لم يقصد التضمين، وإنما تكلم على جهالة بوجه استعمال الفعل، كان قضاؤك عليه بالخطأ قضاء لا مراد له، فمصحح ما يكتبه التلاميذ ونحوهم، يجب عليه أن يرد الأفعال إلى أصولها، ولا يتخذ من التضمين وجهًا لترك العبارة بحالها، والكاتب لا يعرف هذا الوجه، أو لم يلاحظه عند الاستعمال1.
فللتضمين صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدي الفعل بنفسه أو تعديه بالحرف، وصلة بعلم البيان من جهة التصريف في معنى الفعل، وعدم الوقوف به عند حد ما وضع له، ومن هذه الناحية لم يكن كبقية قواعد علم النحو، قد يستوي في العمل بها خاصة الناس وعامتهم.
حضرة العضو المحترم الأستاذ الشيخ أحمد علي الإسكندري: رجعت إلى أقوال العلماء بعد المناقشة التي دارت أمس، فوجدت أن القائلين بسماعية التضمين إنما يخشون أن يحدث في اللغة فساد واضطراب في معاني الأفعال إذا أباحوه للناس، مع أنهم يسلمون أن ما ورد من التضمين كثير يجمع في مئين أوراقًا.
وقد شرط القائلون بقياسية التضمين شرطين وهما:
1-
وجود المناسبة.
2-
وجود القرينة.
ثم تأملت في وظيفة علوم البلاغة وخاصة علم المعاني، فوجدت أن موضوعه إن هو إلا بيان الذوق المعبر عنه عندهم "بمقتضى الحال"، وكذلك رأيت الشرطين اللذين اشترطهما العلماء قديمًا للتضمين غير كافيين، فرأيت أن نضيف إليهما قيدًا ثالثًا، هو "موافقة العبارة التي فيها التضمين للذوق العربي"، وذلك ما تنشده علوم البلاغة.
1 هذا الرأي يحتاج إلى قوة تأييد وإقناع، فهو على حالة غير مقبول، انظر هامش الصفحة السالفة.
ثم قلت: هل للذوق حد؟ ففطنت إلى وجوب تقييد الذوق بالبلاغي، وهو الذي وضعت علوم البلاغة العربية لتحديد ضوابطه.
وبعد ذلك رأيت أن ألخص مناقشات اللجنة والمجمع ومذكرتي1 التي قدمتها في القرار الآتي:
"التضمين: أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير، مؤدى فعل آخر أو ما في معناه، فيعطي حكمه في التعدية واللزوم، ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي بشروط ثلاثة.
الأول: تحقق المناسبة بين الفعلين.
الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
الثالث: ملاءمة التضمين للذوق البلاغي العربي".
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: التضمين سواء أخرج على الحقيقة أم على المجاز أم على الجمع بين الحقيقة والمجاز، لا يستعمله إلا البلغاء العارفون بأسرار اللغة، وإذا لا يستعمله العامة إلا إذا جارينا من يقول: إن العامة لا يزال عندهم بقية من الذوق العربي والبلاغة.
وأرى أن نأخذ الرأي أولًا على أن التضمين قياسي، ثم نأخذ الرأي على الشروط التي نشترطها لإباحته.
حضرة العضو المحترم الدكتور منصور فهمي: أريد أن أعرف ما فائدة "التضمين" الذي نبحث فيه هذا البحث الطويل، إن كل ما فهمته من كلام فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين أن فائدته الإيجاز، أي: أن تؤدي الكلمة معنى كلمتين، وفي اللائحة التي وضعناها نص يوجهنا إلى العمل لتيسير اللغة على الناس، والذي يريد أن ييسر اللغة على الناس لا يكلفهم العمل الشاق الطويل لمعرفة كلمات تؤدي الواحدة منها معنى كلمتين، ولعل هذه الكلمات لا تزيد على مائتي كلمة، فلا أجد الفائدة كبيرة بتقسيم الناس إلى خاصة وعامة، وطفل وبالغ، وبليغ له
1 طبعت مذكرة حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد الإسكندري في التضمين ملحقة بمحضر هذه الجلسة.
ذوق العرب البلاغي، وآخر ليس له هذا الذوق؛ لأنه لم يدرس العربية العلوم التي تفيد الذوق على رأي الأستاذ الإسكندري، قالوا: إن القانون الرياضي، والقانون الطبيعي أولى القوانين بالاحترام؛ لأنه لا يتخلف، والعلوم المختلفة الآن نتيجة اتجاه الرياضيات والطبيعيات، فيحاول أصحابها أن يجعلوا قوانينها كقوانين الرياضيات في الدقة، والضبط وعدم الاستثناء.
وأريد أن نرقى باللغة العربية إلى مضاف العلوم ذات القوانين الثابتة التي يقل فيها الشذوذ والاستثناء.
الغرض من علمنا المحافظة على اللغة وتيسيرها، فهل تتحكم في "تطور" اللغة وذوقها من أجل مئتي كلمة لطبقة خاصة، هذا عمل على ما أرى ليس من خدمة اللغة التي نسعى لخدمتها، نحن الآن نقرر الواقع الذي تقرر منذ أزمان طويلة، فنقول: إن التضمين قياسي أو سماعي، وكنت أظن أن المجمع يدرس الواقع، ويسموا فوقه، فيقرر ما من شأنه أن يحقق حاجات الرقي الحاضر.
قد يكون المثل الأعلى للبلاغة العربية ما يراه بعض الأعضاء في علوم البلاغة وبعض نماذج معروفة، والذي يخيل إلي أن التقدم لا ينبغي أن يقيد بمثل أعلى واحد، فإذا كان تقدم اللغة ينتهي عند معرفة ما قررته علوم البلاغة، فليس هذا عندي تقدمًا، واللغة تتطور مع العصور، وكل هذا يبيح لي ألا ألتزم أمرًا إلا بمقدار، وأرى أن هذا القرار لا يوصلني إلى غايتي.
كل اللغات "تتطور"، فلماذا نريد أن نقف بلغتنا؟ ولو أن كاتب فرنسيًا أو إيطاليًا اليوم أراد أن يرجع إلى أساليب القرن الخامس عشر مثلًا، تشبهًا بكاتب قديم، لقيل: إنه متحذلق، ونحن كأولئك، فلماذا نتعمل ونجهد أنفسنا ونقول بالتضمين؟
والذي أراه أن نقر الماضي على أنه تاريخ، وتتقدم نحو خطوة أخرى، فتقرر أشياء جديدة لا تنافي تاريخ اللغة، وهي مع ذلك تفي بحاجات العصر الحاضر.
وأنا لا أزال على رأيي، فلا أقبل التضمين إلا إذا اضطرني إليه الشعر أو السجع؛ وفي غير ذلك تجري الأفعال في معانيها الأصلية.
حضرة العضو المحترم الدكتور فارس نمر: أرى أن كل واحد منها ينظر إلى المسألة من "زاوية" غير التي ينظر منها الآخر، على حد تعبير الرياضيين، وأرجو أن تسمحوا لي أن أورد بعض أمثلة خبرتها بنفسي.
فعندما كنت أدرس الحروف واستعمالها، عرفت أن "متى" تكون بمعنى "من" كما في قول الشاعر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت
…
متى لجج خضر لهن نئيج
فأردت أن أبين لأستاذي أني حفظت هذا الشاهد، وأريد القياس عليه في كتابتي، فكتبت له هذه العبارة:"إن صديقي ينتظرني فخرجت متى منزلي إلى السوق"، فأنكر علي قولي، فقلت: إنه على حد قول القائل: أخرجها متى كمه، أي: من كمه، فحار أستاذي، ولم يدر أيمنعني من استعمال الحرف أم يوافقني عليه؟
والذي أريده من الأستاذ الشيخ الخضر حسين أن يجيبني: هل يوافق على أن نستعمل مثل هذه العبارات في العصر الحاضر؟
أنا أجل علماء اللغة، وأحترم ما قالوه، ولا أنازع في قياسية التضمين أو سماعيته، وإنما أريد أن نسهل اللغة على الناس عامة، فنتخير اللغة السهلة الصريحة، ونضع أساسًا، ونحكم حكمًا يلائم هذا العصر، ونسهل على علمائنا وكتابنا الكتابة والتأليف، ليكون المجمع ثقة ومرجعًا للناس.
حضرة العضو المحترم الأب أنستاس الكرملي: أوافق على ما قال الدكتور منصور فهمي، والدكتور نمر، وفي ذكر الشواهد وغيرها تطويل، وقد اختصرت قرار المجتمع ووضعته في الصيغة الآتية:
"يعمل بالتضمين بنوع عام لوروده في كثير من الآيات القرآنية، وفي الشعر القديم والمخضرم والإسلامي، بشرط ألا يقع في التضمين لبس في التعبير، ولا إخلال بالمعنى".
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندري: كلام الأب المحترم يفيد قياسية التضمين، وشرط عدم اللبس هو ما ذكرناه، ونحن ما اخترنا البحث في التضمين إلا لنسهل على الناس الكتابة والكلام؛ لأنه إذا اتسع مجال القول،
كان في ذلك رخصة وتيسير، وما قصدنا إلى هذا البحث إلا؛ لأن بعض المتحذلقين من النقاد يأخذون على بعض الشعراء، والكتاب مآخذ ترجع إلى تعدية الأفعال بحروف لا تتعدى بها، ويردون استدلالهم إلى المعاجم دون القواعد اللغوية والنحوية، فإذا قلنا بترجيح قياسية التضمين، فإنما نقصد بهذا توجيه مثل هؤلاء النقاد إلى أشياء غابت عنهم، ونيسر في الوقت ذاته على الكتاب والشعراء مجال القول والكتابة، فنزيد الثروة اللغوية بتعدد أساليب التعبير وصوره، وإني أقرر أن عمل المجمع لا يقف عند ذكر الآراء المختلفة ونصوص العلماء، وإنما يذكرها ليوازن بينها ويرجع رأيًا على رأي، إذا رأى أن في هذا الترجيح فائدة، والمجمع بقرار الجديد، متى كان موافقًا للذوق البلاغي والقواعد الصحيحة، ولا ينبغي أن يكون ذوق العامة حجة على أهل اللغة، وقياس لغتنا على اللغات الأوروبية قياس مع الفارق، وفائدة التضمين لا تقتصر على مائة كلمة أو مائتين، وإنما هو باب واسع يتعلق بجميع الأفعال في اللغة العربية، ولكننا لا نبيح التضمين على إطلاقه؛ لأن هذا يجر إلى الفوضى والفساد في اللغة، ولهذا نشترط له شروطًا خاصة.
حضر العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: إذا قلنا: إن التضمين قياسي، فقد وافقنا القدماء، وإذا قلنا: إنه سماعي فقد وافقناهم في ذلك أيضًا، أما إذا قلنا: إنه قياسي بشرط أنه يسيغه الذوق؛ فهذا تلفيق بين المذهبين، ونحن كمجمع، ينبغي ألا نرجع المسألة إلى الذوق؛ لأن ذلك رد إلى مجهول، فلا بد إذًا أن نضع ضوابط وأمثلة نقدمها للجمهور ليحتذيها.
حضرة العضو المحترم الأستاذ نلينو: استفدت كثيرًا من المناقشة في هذا الباب. وعلى الرغم من أني أستحسن قرار الإسكندري بقيوده التي وضعها، فإني أرى أن فتح باب التضمين في عصرنا يجر إلى كثير من الخطأ؛ لأننا لا نستطيع أن نميز الخاصة من العامة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف: "قدم اقتراحًا مكتوبًا طلب فيه أن توضع أمثلة للتضمين ليحتذيها الناس".
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: قال بعض حضرات الأعضاء:
ما أتت به اللجنة من الكلام في التضمين معروف، والمجمع ألف لجنته للبحث في التضمين، وكتابة تقرير فيه، فبحثت اللجنة، وكتبت التقرير، وذكرت آراء العلماء؛ ووجدت أن القول بقياسيته أقوى من القول بسماعيته، ثم رفعت عملها إلى المجمع وهو صاحب الرأي فيه: فلا لوم علينا في نقل كلام القدماء.
أما ما قاله حضرة الدكتور منصور فهمي من أن فائدة التضمين الإيجاز، وهو فائدة يسيرة، فلا نقره عليه؛ لأن الإيجاز مقصد من مقاصد البلغاء: وأصل من أصول الأساليب اللغوية.
وأما القول بأن التضمين بفتح باب الخطأ والفساد في اللغة، فهذا صحيح، ولكن علاج هذا أن يتعلم الناس قواعد لغتهم التي تعصمهم من الوقوع في الخطأ، فكما أن إغفال الاشتقاق والتصريف يجر إلى الخطأ فيهما، كذلك يجر إهمال قواعد التضمين، وضوابطه إلى الخطأ في الأسلوب، فإذا ثابرنا على تعليم قواعد اللغة في المدارس مثلًا، انتشرت الأساليب الصحيحة وذاعت، وفتح باب التضمين يسهل اللغة على الناس، أما القول بسماعيته فهو التضييق والحجر. وإذا قلنا بهذا فربما جاء زمان يقول فيه الناس كان باب التضمين مفتوحًا بالقياس، فسده مجمع اللغة العربية، وأنه لا بد من سبب اضطره إلى هذا، فإذا قرأ الناس ما جاء في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية من التضمين، توهموا أو ظنوا أن فيها شيئًا حمل المجمع على حظر التضمين على الناس.
وأما قول حضرة الدكتور منصور: إن فائدة التضمين محصورة في مائتي كلمة، فهذه مبالغة؛ لأننا على أي وجه خرجناه فقد خرجنا على ما هو قياسي: من حقيقة أو مجاز، أو كناية، وهذه أمور مقيسة لا تحصر.
والقول بقصره على الشعر والسجع مع أن شأنهما الشيوع يوقعنا فيما نريد الفرار منه.
واللجنة قد أدت عملها، وهو البحث في مسألة التضمين، وبقي الكلام في اتقاء الخطأ الذي يقع فيه العامة، فإذا رأى المجمع أن اتقاء ذلك يكون بقصر استعمال التضمين على العارفين باللغة ودقائقها، فإني أوافق عليه، وإذا رأى المجمع أن يرجئ بت الكلام في التضمين، فله ما يرى.
حضرة رئيس الجلسة: لا بد أن نقر فيه اليوم قرارًا.
حضرة العضو المحترم الأستاذ فيشر: أنا مواقف على ما قال الدكتور منصور فهمي والأب الكرملي، وقولهما بالتقريب هو قول فقهاء اللغة الأوربيين العصريين في حياة اللسان وتقدمه وترقيه، حسن عندهم ما يرد في الأشعار المشهورة، وفي كتب الأدب الحسنة وما يسمع من ناس كثيرين، والسماع عندهم أولى من القياس.
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: أرى أن أضيف في آخر القرار الذي اقترحته العبارة الآتية: "ويوصي المجمع ألا تستعمل هذه الرخصة في كتابة المبتدئين، ولا في الكتابة العلمية".
حضرة العضو المحترم محمد كرد علي "بك": لا أرى، وقد ضبطت اللغة وقررت قواعدها وأصول بلاغتها، أن نقر شيئًا جديدًا في التضمين؛ لأني أخشى أن يفتح الباب لكل كاتب أو شاعر أن يخترع أمورًا وتعابير تزيدنا اضطرابًا، ولا يقرها القدماء الذين عرفوا ضوابط اللغة برمتها، وعللوا في هذه المسألة مسألة التضمين التي نحن بصددها، فقال قوم بقياسيتها وآخرون بسماعيتها إلخ، وإذا كان لا بد من التعرض لهذه المسألة التي قتلها زملائي بحثا كاد يخرجنا عن الغرض الذي نتوخاه إذا كان لا بد من التعرض لهذه المسألة، فأرى إجراء تعديل خفيف في صورة القرار الذي اقترحه الأستاذ الإسكندري، أو نسكت الآن عن هذه المسالة وهو الأولى، ونصرف جهدنا إلى العمليات لنخرج أولًا للأمة ألفاظًا، وتعابير تشتد الحاجة إليها من ألفاظ العلوم والفنون، وبذلك تكون قد قمنا بالجزء العلمي من واجب المجمع.
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: قال بعض حضرات الأعضاء: إن التضمين لا يقبل منه إلا ما يستسيغه الذوق البلاغي، فبماذا تحدون الذوق البلاغي؟
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: وضعت كلمة الذوق البلاغي العربي، اتقاء لحذلقة بعض الناس، مثل كتاب:"البرازيل" وغيرها ممن خرجوا على قواعد اللغة وأساليبها، حتى صار كلامهم يشبه الرطانة، فإذا جاءنا واحد من هؤلاء، وقال: إن هذا ذوقي الخاص، قلنا له: إنك تخالف الذوق العربي الذي لا يزال ثابتًا بحكم الفطرة والسليقة في البلاد العربية، والذي يجري عن قواعد اللغة والبلاغة ولا ينفر منها.
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: أنكتفي بعبارة الذوق البلاغي، ويكون هذا مرجعنا عند الاختلاف، أم نأتي بأمثلة ضوابط؟
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: نريد ألا يزد الأمر إلى الذوق، بل نستخرج ضوابط بعد درس أمثلة.
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: المتقدمون لم يدونوا قواعدهم إلا بعد الاستقصاء، ولا نريد أن نبحث في أصول القواعد من جديد، فكل هذا قد فرغ منه العلماء قبلنا بأكثر من ألف سنة.
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: المجمع مكلف تقديم تراكيب صحيحة لتتبع، وتراكيب فاسدة لتجتنب، ورجع الناس إلى الذوق لا معنى له وكأننا لم نعمل شيئًا، وابن جني وغيره لم يكلفوا تقديم تراكيب للأمة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ علي الجارم: هل ترى أن يقال: الذوق العربي.
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: الذوق العربي يختلف.
حضرة رئيس الجلسة: أتريد أن تحذف كلمة "الذوق"؟
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: لا، ولكنني أريد أن نضع ضوابط لنحدد ما الذوق؟.
حضرة العضو المحترم الدكتور فارس نمر: التضمين صحيح، وموضوعه عربي، ولكن المجمع يجب أن يقدم الحقيقة على اتباع التضمين إلا حيث تكون ضرورة.
حضرت العضو المحترم الدكتور منصور فهمي: نقول: "ويوصي المجمع ألا يستعمل التضمين في الكتابة العامة".
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: أوافق على هذا، والأصل ألا تخرج عن الحقيقة إلا لنكتة بلاغية.
حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد العوامري "بك" أقترح أن يقال: "ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي".
فوافق أكثر الأعضاء على هذا.
وأمر رئيس الجلسة أن يقرأ نص القرار النهائي، وهو:
القرار:
"التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدى فعل آخر أو في معناه، فيعطى حكمه في التعدية واللزوم".
ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي، بشروط ثلاثة:
الأول: تحقق المناسبة بين الفعلين.
الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي.
ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي".
فوافق أكثر حضرات الأعضاء على هذا النص1.
1 الذي ألاحظه في هذا القرار أن شروط "التضمين" المذكورة هي الشروط البلاغية المعروفة في المجاز، حتى الشرط الثالث، فقد نص عليه القدامى لإبعاد المجاز عن القبح، وإلى المجاز ترتاح النفس أكثر من غيره، وهو رأي كثير من أئمة القدماء، فلم العناء، والكد، والجدل العنيف بين المذاهب المتعددة التي تضمنها البحثان المجمعيان؟ وشيء آخر أهم من اعتباره مجازًا، هو أن تلك المذاهب على تشعبها وعنفها لم تستطع أن تثبت في جلاء ويقين، أن اللفظ الوارد قديمًا الذي جرى فيه "التضمين" ليس حقيقة لغوية أصيلة، وأنه تضمن حقًا معى لفظ آخر، فأدى "التضمين" إلى تعدية الأول أو لزومه من طريق العدوى الناشئة من الاتصال والمناسبة بينهما، نعم لم تستطع نفي الحقيقة الأصيلة عنه، وإثبات ما يسمونه:"التضمين"؛ لأن تلك التعدية أو ذاك اللزوم الحادثين من العدوى لا يصلحان دليلًا مقنعًا على وقوع "التضمين": لأنها عدوى وهمية، إذ قد يكون اللفظ الذي دخله التضمين في وهمهم هو في أصله لازم أو متعد من غير علاقة له بلفظ آخر تؤثر فيه.
لقد ورد إلينا اللفظ لازمًا أو متعديًا في كلام قديم كثير يحتج به، فما الدليل القوي على أن تعديته، أو لزومه ليست أصيلة من أول أمرها، وليست مجازًا، وإنما جاءت من الطريق الذي يسمونه:"التضمين"؟ ليس في كلامهم مقنع فيما أرى بل أن اللفظ اللازم أو المتعدي إذا ورد مسموعًا بإحدى هاتين الحالتين في كلام قليل، ولكنه صحيح فصيح كان وروده هذا أصيلًا في الحقيقة اللغوية، ولا يخرجه عن أنه معنى حقيقي كثرة وروده في كلام آخر مسموع يشيع فيه معنى مغاير؛ لأن الحكم على اللفظ بالخروج عن معناه الحقيقي ليس راجعًا إلى قلة استعماله في صورة، وكثرة استعماله في صورة أخرى، وإنما يرجع إلى وجود دليل على أن أحد الاستعاملين أسبق وجودًا عند العرب وأقدم ميلادًا، فالأسبق وحده هو الحقيقي، وأنهم يريدون منه معنى محدودًا دون غيره، ولا اعتبار لغير "الأسبقية" هنا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
= ثم ما هذا الذوق العربي الذي يريده المجمع؟ وكيف يحدد؟ ولم يقتصر "التضمين" على الفعل دون ما يشبه، كما جاء في الشرط الأول الذي أقره المجمع وارتضاه؟ اللهم إلا إذا كان يريد الفعل وما يشبهه، كما يفهم من سياق البحث.
وبعد: فما زالت أدلة "التضمين" واهية، منهارة إن صح تسميتها أدلة"! ! ولم أجد في الآراء السالفة كلها، ولا في أمهات المراجع التي صادفتها ما يزيل الضعف، والرأي الأقوى في جانب الذين يمنعونه ممن عرضنا أسماءهم فيما سبق، أو لم نعرض: ومن هؤلاء الشهاب الخفاجي في "طراز المجالس" ص 219 حيث يصرح بأنه سماعي، وكالدماميني في كتابه: "نزول الغيث" ص 56 حيث يقرر أن تضمين فعل معنى آخر يأباه كثير من النحاة، وكأبي حيان فيما نقله السيوطي في "الهمع" ج 1 ص 149 مصرحًا بقوله: "التضمين لا ينقاس" وغير هؤلاء كثير، بل إن الذين يقصرونه على السماع لم يستطيعوا إثبات أنه ليس بحقيقة، وليس بمجاز، ولا بشيء مركب منهما، وإنما هو نوع جديد اسمه: "التضمين" لم يستطيعوا ذلك؛ لأن العرب الفصحاء نطقوا بالفعل أو بما يشبهه متعديًا بنفسه مباشرة، أو غير متعد إلا بمعونة حرف جر معين؛ فكيف يسوغ لقائل بعد هذا أن يقول: إن هذا الفعل لم يتعد إلى معموله إلا من طريق التضمين، بحجة أن هذا الفعل لا يعرف فيه التعدي إلا بهذه الوسيلة!؟ كيف يقول هذا محتجًا به مع أن الناطق بالفعل المتعدي وشبهه هو القرآن الكريم، أو العبي الفصيح الذي يحتج بكلامه من غير خلاف في الاحتجاج؟
ما الدليل على أن الفعل وشبهه متعد أو غير متعد من طريق "التضمين" وحده، ونحن نراه متعديًا بواسطة حرف الجر، أو بغير واسطة، ولا دليل معنا على أسبقية أحد الفعلين في الوجود والتعدي وعدمه؟
والحق إن إثبات التضمين أمر لا تطمئن له نفس المتحري المتحرر، ولا سيما إذا عرفنا أن كل فعل، أو شبهه لا يكاد يؤدي معناه مع "التعدية" دون أن يكون هناك فعل آخر، أو شبهة له معنى يؤديه مع "اللزوم"، وبين هذين المعنيين ما يسمونه؛ "المناسبة، أو الإشراب"، والعكس صحيح كذلك إذ لا يكاد فعل أو: شبهه يؤدي معناه مع "اللزوم" دون أن يكون هناك فعل آخر أو شبهه له معنى يؤديه مع "التعدية"، وبين المعنيين "المناسبة أو الإشراب"، والنتيجة الحتمية لكل ذلك أنه لا يوجد فعل أو شبهه مقصور على "التعدية"، ولا آخر مقصور على "اللزوم"، وهذه غاية الفوضى والإساءة اللغوية التي تحمل في ثناياها فساد المعاني.
وبالرغم من تلك المعارك الجدلية لا أرى الأمر في التضمين يخرج عن إحدى حالتين، وفي غيرهما الفساد اللغوي، والاضطراب الهدام:
الأولى: أن الألفاظ التي وصفت بالتضمين إن كانت قديمة في استعمالها منذ عصور الاستشهاد، والاحتجاج اللغوي فإن استعمالها دليل على أصالة معناها الحقيقي، ما دمنا لم نعرف يقينًا لها معنى سابقًا تركته إلى المعنى الجديد.
الثانية: أن العصور المتأخرة عن عصور الاستشهاد، والاحتجاج غير محتاجة إلى "التضمين" لاستغنائها عنه بالمجاز والكناية، وغيرهما من أنواع البيان المختلفة التي تتسع لكثير من الأغراض والمعاني الدقيقة البليغة.
بحث نفيس لابن جني 1، عنوانه:"باب في اللغة المأخوذة قياسًا":
هذا موضع كأن في ظاهره تعجرفًا، وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلًا عن صدور الأشباح، وهو أكثر من أن أحصيه في هذا الموضع لك، لكني أنبهك على كثير من ذلك، لتكثر التعجب ممن تعجب منه، أو يستبعد الأخذ به.
وذلك أنك لا تجد مختصرًا من العربية إلا وهذا المعنى منه في عدة مواضع، ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع: إن ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على: أفعل؛ ككلب وأكلب، وكعب وأكعب، وفرخ وأفرخ. . .، وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره في القلة على أفعال: نحو جبل وأجبال، وعنق وأعناق، وإبل وآبال، وعجز وأعجاز، وربع وأرباع، وضلع وأضلاع، وكبد وأكباد، وقفل وأقفال، وحمل وأحمال و. . .؛ فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده، أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره؟ ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة، بل سمعته منفردًا أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره؟ لا بل كنت تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه، وذلك كأنه يحتاج إلى تكسير:"الرجز" الذي هو العذاب، فكنت قائلًا لا محالة "أرجاز"؛ قياسًا على:"أحمال"، وإن لم تسمع "أراجازًا" في هذا المعنى، وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر، من قولهم:"وظيف عجر"2 لقلت: "أعجار"؛ قياسًا على يقظ3 وأيقاظ، وإن لم تسمع "أعجازًا"، وكذلك لو احتجت إلى تكسير:"شيع"، بأن توقعه على
1 من كناية: "الخصائص"، جـ 1 ص 439.
2 الوظيف: الجزء الدقيق من ساق الإبل والخيل، وغيرها، والعجر هنا: الصلب.
3 جاء في القاموس: اليقظة محركة نقيض النوم، وقد يقظ مثل: كرم، وفرح يقاظة، ويقظًا محركة، وقد استيقظ. . . ورجل يقظ على وزن: ندس، وكتف والندس: بفتح النون، مع سكون الدال، أو ضمها، أو كسرها الرجل السريع الاستماع للصوت الخفي.
النوع، لقلت "أشياع"، وإن لم تسمع ذلك، لكنك سمعت:"نطع وأنطاع" و "ضلع وأضلاع"، وكذلك لو احتجت إلى تكسير:"دمثر"1 لقلت: "دمثر"؛ قياسًا على: "سبطر وسباطر".
وكذلك قولهم: إن كان الماضي على "فعل"، فالمضارع منه على يفعل: فلو أنك على هذا سمعت ماضيًا على فعل، لقلت في مضارعه يفعل، وإن لم تسمع ذلك، كأن يسمع سامع ضؤل، ولا يسمع مضارعه؛ فإنه يقول فيه يضؤل، وإن لم يسمع ذلك، ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه؛ لأنه لو كان محتاجًا إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون، وعمل بها المتأخرون معنى يفاد، ولا غرض ينتحيه الاعتماد، لكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات، وأسماء الفاعلين، والمفعولين، والمصادر، وأسماء الأزمنة، والأمكنة، والأحادي والثنائي، والجموع والتكابير، والتصاغير2، ولما أقنعهم أن يقولوا: إذا كان الماضي كذا وجب أن يكون المضارع كذا، واسم فاعله كذا، واسم مفعوله كذا، واسم مكانه كذا، واسم زمانه كذا؛ ولا قالوا: إذا كان المكبر كذا فتصغيره كذا، وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا دون أن يستوفوا كل شيء من ذلك، فيوردوه لفظًا منصوصًا معينًا، لا مقيسًا ولا مستنبطًا كغيره من اللغة؛ التي لا تؤخذ قياسًا ولا تنبيهًا؛ نحو: دار، وباب، وبستان، وحجر، وضبع، وثعلب، وخزز، لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فبوجدوه ضربين: أحدهما: ما لا بد من تقبله كهيئته لا بوصية فيه، ولا تنبيه عليه؛ نحو: حجر، ودار، وما تقدم.
ومنه: ما وجدوه يتدارك بالقياس، وتخف الكلفة في عمله على الناس، فقننوه وفصلوه، إذا قدروا على تدراكه من هذا الوجه القريب، المغني عن المذهب الحزن3 البعيد، وعلى ذلك قدم الناس في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات، ثم أتبعوه ما لا بد له من السماع والروايات، فقالوا: المقصور من حالة كذا، ومن صفته كذا؛ والممدود من أمره كذا، ومن سببه كذا، وقالوا:
1 الجمل الكثير اللحم.
2 أي: كان واجبًا عليهم أن ينصوا على كل كلمة من هذه الجزئيات إذا كانت القواعد لا تغني، كما قد يتوهم بعض الغافلين.
3 الصلب الصعب من الأرض؛ كالحجارة والصخور.
ومن المؤنث الذي فيه علامات التأنيث كذا، وأوصافه كذا، ثم لما أنجزوا ذلك قالوا: ومن المؤنث الذي روى رواية كذا وكذا، فهذا في الوضوح على ما لا خفاء به.
فلما رأى القوم كثيرًا من اللغة مقيسًا منقادًا وسموه بمواسمه، وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز، ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بد من إيراده، ونص ألفاظه ألتزموا وألزموا كلفته؛ إذ لم يجدوا منها بدًا، ولا عنها مصرفًا.
ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تتسدرك بالأدلة وقياسًا، لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به، ونبهنا عليه، كما قبلنا، ممن نحن له متبعون، وعلى مثله وأضاعه حاذون، فأما هجنة الطبع، وكدورة الفكر، وجمود النفس وخيس1 الخاطر، وضيق المضطرب، فنحمد الله على أن حماناه، ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه، ويستعملنا به فيما يدني منه، ويوجب الزلفة لديه، بمنه". ا. هـ.
هذا البحث النفيس لابن جني يذكرنا بماله من آراء جليلة أخرى، تتصل منها بموضوعنا قوله2:
"حكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي، أظنه قال: يقال: درهمت الخبازى، أي: صارت كالدرهم، فاشتق من الدرهم، وهو اسم أعجمي.
وحكى أبو زيد: رجل مدرهم، ولم يقولوا منه:"درهم" إلا أنه إذا جاء اسم المفعول، فالفعل نفسه حاصل في الكف3، ولهذا أشباه. . .". ا. هـ.
1 الخيس: الخطأ، أو الضلال.
2 في كتابة: "الخصائص" ج1 ص362 باب: "أن ما قيس على كلام العرب، فهو من كلام العرب".
3 يريد: أنه ميسور، كأنه في يد من يريده، لا يتعب في البحث عنه، ولا في معرفة أنه مسموع، أو غير مسموع، بل يستعمله من غير تردد ولا رجوع إلى مراجع لغوية.
ثم قال بعد ذلك1:
"ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع؛ فإذا حذا إنسان على مثلهم، وأم مذهبهم، لم يجب أن يورد في ذلك سماعًا، ولا أن يرويه رواية. . .".
وكذلك قوله2: "إذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع، قال لي أبو علي بالشام: إذا صحت الصفة فالفعل في الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان في المصدر أجدر؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة؛ ألا ترى أن في الصفة نحو: مررت بإبل مائة، وبرجل أبي عشرة أهله. . .". ا. هـ.
صحة الاشتقاق من الجامد.
جاء في ص69 من الكتاب المجمعي الصادر في سنة 1969 مشتملًا على القرارات المجمعية الصادرة من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين، ما نصه تحت عنوان:"الاشتقاق من أسماء الأعيان، دون تقييد بالضرورة" بناء على رأي لجنة الأصول بمجمع اللغة العربية، وهو:
"قرر المجمع من قبل إجازة الاشتقاق من أسماء الأعيان للضرورة في لغة العلوم كما أقر قواعد الاشتقاق من الجامد".
واللجنة تأسيسًا على أن ما اشتقه العرب من أسماء الأعيان كثير كثرة ظاهرة، وأن ما ورد من أمثلته في البحث الذي احتج به المجمع لإجازة الاشتقاق يربي على المائتين ترى التوسع في هذه الإجازة؛ يجعل الاشتقاق من أسماء الأعيان جائز من غير تقييد بالضرورة". ا. هـ.
وقد وافق المجمع ومؤتمره العام على رأي اللجنة، وصدر قرار موافقتهما في الجلسة الثامنة من مؤتمر الدورة الرابعة والثلاثين سنة 1968.
أما قواعد الاشتقاق المشار إليها، في القرار السالف، فقد ورد بيانها في الكتاب المجمعي الذي تقدم ذكره، ففي ص 64 النص الآتي تحت عنوان:
1 في ص367 من الفصل نفسه.
2 جـ1 ص127 باب: "تعارض السماع والقياس"
…
1-
إذا أريد اشتقاق فعل لازم من الاسم العربي الجامد، الثلاثي مجردة ومزيدة، فالباب فيه:"نصر" ويعدى إذا أريد تعديته بإحدى وسائل التعدية؛ كالهمزة، والتضعيف، "مثل: قطنت الأرض تقطن، كثر قطنها، وقطنتها: زرعتها قطنًا".
2-
أما إذا أريد اشتقاق فعل ثلاثي متعد فالباب فيه: "ضرب": "مثل قطنت الأرض، أقطنها، زرعتها قطنًا".
3-
وفي كلتا الحالتين يستأنس بما ورد في المعجمات من مشتقات للأسماء العربية الجامدة؛ لتحديد صيغة الفعل.
4-
ويشتق الفعل من الاسم العربي الجامد غير الثلاثي على وزن: "فعلل" متعديًا، وعلى وزن "تفعلل" لازمًا.
5-
وإذا كان الاسم رباعي الأصول أو رباعيًا مزيدًا فيه؛ مثل: درهم وكبريت اشتق منه على وزن: "فعلل" بعد حذف الزائد من المزيد؛ فيقال: درهم الزهر وكبرت، أي صار كالدرهم والكبريت.
6-
وإذا كان الاسم خماسيًا مثل: "سفرجل" اشتق منه على وزن "فعلل" بعد حذف خامسه، فيقال:"سفرج النبت" بمعنى: صار كالسفرجل.
7-
تؤخذ المشتقات الأخرى من هذه الأفعال على حسب القياس الصرفي.
ثانيًا- في الاسم الجامد المعرب:
8-
يشتق الفعل من الاسم الجامد المعرف الثلاثي على وزن: "فعل" بالتشديد متعديًا، ولازمه:"تفعل".
9-
ويشتق الفعل من الاسم الجامد المعرب غير الثلاثي على وزن: "فعلل" ولازمه: "تفعلل. . .".