المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المسألة 89: حروف الجر ‌ ‌مدخل … المسألة 89: حروف الجر 1 يتناول الكلام عليها - النحو الوافي - جـ ٢

[عباس حسن]

الفصل: ‌ ‌المسألة 89: حروف الجر ‌ ‌مدخل … المسألة 89: حروف الجر 1 يتناول الكلام عليها

‌المسألة 89: حروف الجر

‌مدخل

المسألة 89: حروف الجر 1

يتناول الكلام عليها الأمور الآتية: "وأكثرها دقيق هام".

"عددها، وبيانها"، "عملها"، "تقسيمها من ناحية هذا العمل، والأصالة فيه، أو عدمها؛ وما يترتب على ذلك من التعلق بالعامل، وآثار التعلق

".

- "معاني كل حرف، ووجوه استعماله"، "حذف حرف الجر وحده مع إبقاء عمله، وحذفه مع مجروره"، "نيابة حرف جر عن آخر".

أ– فأما عددها وبيانها فالمشهور منها عشرون2؛ هي:

من – إلى - حتى – خلا – عدا – حاشا – في – عن – على – مذ – منذ – رب – اللام – كي – الواو – التاء – الكاف – الباء – لعل – متى.

ب– وأما عملها فهو جر آخر الاسم3 الذي يليها في الاختيار

1 يسميها بعض القدماء "حروف" الإضافة، لما يأتي في رقم2 من هامش ص 437"، وقد يطلقون عليها أحيانًا: "الظروف"؛ لأن "الظروف" يشمل "شبه الجملة" بنوعيه المعروفين؛ وهما: الظرف والجار مع مجروره، "انظر رقم1 من هامش ص243 حيث بيان المراجع"، وقد يطلق على كل واحد منهما: "شبه الوصف، أو شبه المشتق"؛ لسبب المبين في رقم3 من هامش ص373، ولما في هامش ص449.

2 لم ندخل في عدادها الحرف: "لولا" الداخل على ضمير غير مرفوع "عند من يقول بأنه حرف جر شبيه بالزائد، كما سيجيء في ص452، فما بعده مجرور لفظًا مرفوع محلًا، على أنه مبتدأ"؛ لأن من هذا تعقيدًا.

3 ليست حروف الجر وحدها هي السبب، أو العامل في جر الاسم؛ فأسباب جزء أو عوامله الأصلية ثلاثة.

"أولها": حروف الجر؛ فكل حرف منها لا بد له من اسم بعد يجره على الوجه المبين في هذا الباب.

"ثانيها": أن يكون الاسم مضافًا إليه، "ثالثها": أن يكون الاسم تابعًا لمتبوع مجرور: فالنعت، والعطف، والتوكيد، والبدل، مجرورة حتما إذا كان المتبوع مجرورًا.

بقي سببان آخران للجر؛ "أحدهما": الجر على "التوهم"، ومن صواب الرأي إهماله، وعدم الاعتداد به "كما قلنا في ص347 و535، وفي جـ1 ص 522 م 49 بعد أن أوضحناه، وتناولنا بالبيان في الموضعين، وفي جـ 3 م 93 ص8.

والآخر الجر على: "المجاورة" والواجب التشدد في إغفاله، وعدم الأخذ به مطلقًا، أما الداعي لاتخاذه =

ص: 431

مباشرة1، جرًا محتومًا2؛ ظاهرًا، أو مقدرًا، أو محليًا3، فالظاهر كالذي

= سببًا للجر عند القائلين به فوروده في أمثلة قليلة وبعضها خطأ، أو مشكوك في صحة نقله عن العرب قد اشتملت على جر الاسم من غير سبب ظاهر لجره، إلا مجاورته لاسم مجرور قبله مباشرة؛ منها: هذا "جحر ضب خرب"؛ بجر كلمة: "خرب" مع أنها صفة لكلمة: "جحر" ولا تصلح صفة لكلمة: "ضب"؛ لأن الضب لا يوصف بأنه خرب.

ومنها قول الشاعر القديم: "يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم

"؛ بجر كلمة: "كل" مع أنها توكيد لكلمة: "ذوي" المنصوبة؛ إذ لو كانت توكيدًا لكلمة: "الزوجات" لقال: كلهن، وقد تأول النحاة المثال الأول بأن أصله: هذا جحر ضب خرب الجحر منه، أو خرب جحره، ثم حذف ما حذف؛ وبقي ما بقي، واشتد الجدل في نوع المحذوف وصحته وعدم صحته، على الوجه المبين في المطولات، "ومنها الهمع ج2 ص55".

وقالوا في المثال الثاني: إنه خطأ أو ضرورة.

واتفق كثير من الأئمة على أن الجر بالمجاورة ضعيف، أو ضعيف جدًا، وعلى هذا لا يصح القياس عليه، وإنما يقتصر على الوارد فيه، المسموع عن العرب، كما جاء في خزانة الأدب للبغدادي ج2 ص324 بل جاء في كتاب:"مجمع البيان، لعلوم القرآن""ج3 ص335" ما نصه: "إن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزًا في كلام العرب". ا. هـ، وكما في "المحتسب" لابن جني ج2 ص297 ونصه:"إن الخفض بالجوار أي المجاورة في غاية الشذوذ". ا. هـ.

"وقد أعدنا ما سبق لأهميته في أول الجزء الثالث ص8".

1 مباشرة: أي: بغير أن يفصل بينهما فاصل في الاختيار، لكن يجوز الفصل أحيانًا بكلمة "كان" الزائدة التي سبق الكلام عليها في باب:"كان" ج1 م44، كما يجوز الفصل بين الجار ومجروره بلا النافية، مثل: حضرت بلا تأخر، وسررت من لا إهمال، والكوفيون يعتبرون "لا" في هذه الحالة اسمًا بمعنى:"غير" مجرورًا بحرف الجر الذي قبله وأن "لا"، مضاف، والكلمة التي تليه هي المضاف إليه، أما غير الكوفيين، فيعتبره حرفًا باقيًا على حرفيته لا يتأثر بالعوامل، وإنما هو زائد معترض بين الجار والمجرور، وأنه مع زيادته يؤدي معنى النفي، وتظهر آثار الجار على ما بعده؛ فيكون الاسم بعده مجرورًا بحرف الجر الزائد. "راجع، ج1 مبحث "لا".

أما في حالة الضرورة الشعرية فقد يجوز مع القبح الفصل بينهما بالظرف، أو بالجار مع مجروره، أو بالمفعول، كقول الشاعر:

إن عمرًا لا خير في اليوم عمرو

إن عمرًا مكثر الأحزان

وقول الآخر:

وإني لأطوي الكشح من دون ما انطوى

وأقطع بالخرق الهبوع المراجم

والأصل: وأقطع بالهبوع المراجم الخرق، "الهبوع: الجمل الذي يمشي مشية حمار الوحش، والمراجم: الذي يرجم الأرض بأخفافه ويروى: المزاحم بالزاي. والخرق: المكان الواسع الذي تصفر فيه الريح".

2 لا يجوز إلغاء عمله الجر.

3 الجر المحلى فرع من الإعراب المحلى المختص بالكلمات المبنية؛ كالضمائر، وكأثر أسماء =

ص: 432

في الأسماء المجرورة في قول الشاعر:

إني نظرت إلى الشعوب فلم أجد

كالجهل داء للشعوب، مبيدا

والمقدر كالذي في كلمة: "فتى" في قولهم: ما من فتى يستجيب لدواعي الغضب إلا كانت استجابته بلاء وخسرانًا.

والمحلى كالذي في قولهم: لا أتألم ممن يسعى بالوقيعة بين الناس قدر تألمي من الذين يعرفونه، وهم إلى ذلك يستجيبون لما يقول

هذا، ومن آثار حرف الجر أنه إذا دخل على "ما" الاستفهامية أوجب حذف ألفها في غير الوقف1؟ نحو قوله تعالى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؟ ونحو: لم التواني؟ وفيم الرضا بالهوان؟

أما في الوقف فيجب حذف الألف، والإتيان بهاء السكت، وهي من الحروف الساكنة التي تزاد في آخر الكلمة، نحو: عمه؟ لمه؟ فيمه؟

ج– وتنقسم هذه الحروف من ناحية الاسم الذي تجره إلى قسمين، قسم لا يجر إلا الأسماء الظاهرة، وهو: عشرة.

مذ – منذ – حتى – الكاف – الواو – رب2 – التاء – كي – لعل – متى.

= الإشارة والموصول

فيكون لفظ الكلمة مبينًا؛ لكنه في محل رفع، أو نصب، أو جر، على حسب ما يقتضيه العامل، ويختص كذلك بالجمل المحكية، وغيرها من الجمل الأخرى التي لها موقع إعرابي؛ كجملة النعت أو الحال

، كما يكون في المصادر المنسبكة، وهي في آخر الكلمة المجرورة بحرف جر زائد، أو شبيه بالزائد، كما سيأتي في هذا الباب.

وما سبق مبني على الرأي القائل: إنه الإعراب المحلي نوع يختلف عن الإعراب التقديري، "وقد عرض لهما الصبان في الجزء الثاني من حاشيته، أول باب الفاعل، عند الكلام على حكمه: "الرفع"، وأوضحنا هذا مفصلًا في المكان المناسب من الجزء الأول؛ باب: "المعرب والمبني"

ص 80 م 6 و282 م 23.

1 ويقول ابن جني في كتابه: "المحتسب" ج2 ص347 في قراءة من قرأ

قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} بإثبات الألف في غير الوقف أو الضرورة ما نصه: "هذا أضعف اللغتين؛ أعني إثبات الألف في "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر"، وروينا عن قطرب لحسان:

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرغ في رماد

ا. هـ.

2 ومن القليل الذي لا يقاس عليه جزء الضمير، وسيجيء البيان في ص 523.

ص: 433

وقسم يجر الأسماء الظاهرة والمضمرة؛ وهو: العشرة الأخرى1، وسيأتي الكلام على معنى كل حرف من القسمين، وعمله.

وتنقسم من ناحية الأصالة وعدمها إلى ثلاثة أقسام، حروف أصلية وما قد يشبهها2، ويلحق بها أحيانًا وحروف زائدة3، وحروف شبيهة بالزائدة.

القسم الأول: الحرف الأصلي وشبهه2، وهو الذي يؤدي معنى فرعيًا جديدًا في الجملة، ويوصل بين العامل والاسم المجرور4؛ فله مهمتان يؤديهما معًا، وفيما يلي إيضاحهما:

أ– فأما من ناحية إفادته معنى فرعيًا جديدًا لا يوجد إلا بوجوده فيتجلى في مثل: "حضر المسافر"؛ فإن هذه الجملة مفيدة، ولكنها بالرغم من إفادتها

1 في بيان حروف الجر، والمختص منها بالظاهر دون غيره، يقل ابن مالك:

هاك حروف الجر، وهي: من، إلى

حتى، خلا، حاشًا، عدا، في، عن، على

مذ منذ، رب، اللام، كي، واو، وتا

والكاف، واليا، ولعل، ومتى

بالظاهر اخصص منذ، مذ، وحتى

والكاف، والواو، ورب، والتا

وقد اقتصر على سبعة أحرف تجر الظاهر، وترك ثلاثة؛ هي: كي، لعل، متى. ويقول أيضًا:

واخصص بمذ، ومنذ وقتًا، وبرب

منكرًا والتاء لله، ورب

وما رووا من نحو: ربه فتى

نزر، كذا كها، ونحوه أتى

أي: أن الكاف قد تجر المضمر شذوذًا.

2و2 بيان "الشبيه" موضح في رقم2 من هامش الصفحة التالية.

3 في الجزء الأول "م 5 ص66 و70" بيان مفيد عن المراد من اللفظ الزائد، سواء أكان حرفًا أم غير حرف، وأنه لا يصح اعتبار اللفظ "سواء أكان حرفًا أم غير حرف" زائدًا إن أمكن اعتباره أصليًا؛ لأن اعتبار الأصالة، مقدم على اعتبار الزيادة.

4 وهذا التوصيل هو ما يسمى: "التعلق" إلا الحرف: "على" إذا كان معناه الإضراب؛ فإنه يصح ألا يتعلق بعامل؛ كما سيجيء في ص512.

ص: 434

تبعث في النفس عدة أسئلة، يكون منها: أحضر المسافر من القرية أم من المدينة؟ أحضر من بلد أجنبي، أم غير أجنبي؟ أحضر في سيارة، أم في طيارة، أم في باخرة، أم في قطار؟ أحضر إلى بيته، أم إلى مقر

عمله؟

و

و

ففي هذه الجملة المفيدة نقص معنوي فرعي فإذا قلنا: "حضر المسافر من القرية"، وأتينا بحرف الجر الأصلي "من"، وبعده مجرورة فإن بعض النقص يزول، ويحل محله معنى فرعي جديد، بسبب وجود "من"، فإنها بينت أن ابتداء المجيء هو:"القرية "، ولم يوجد هذا المعنى إلا بوجود "من"؛ فهي لبيان:"الابتداء" وقد ظهر هذا المعنى الفرعي الجديد على المجرور بها1.

وإذا قلنا: "حضر المسافر من القرية إلى مقر عمله"، فإن نقصًا آخر معنويًا يزول، ويحل محله معنى فرعي جديد، هو:"الانتهاء"؛ بسبب وجود "إلى"، فقد دلت على أن نهاية السفر هي مقر العمل، ولولا وجود:"إلى" ما فهم هذا المعنى الفرعي الجديد، فهي لبيان الانتهاء، وقد ظهر على المجرور بها.

ولو قلنا: "حضر المسافر من القرية إلى مقر عمله في سيارة" لزال نقص معنوي آخر، وحل محله معنى فرعي جديد؛ هو:"الظرفية" بسبب وجود حرف الجر الأصلي "في" الذي يدل على أن المسافر كان خلال حضوره في سيارة تحويه كما يحوي الظرف المظروف، أي: كما يحوي الوعاء الشيء الذي يوضع فيه، وهكذا بقية حروف الجر الأصلية كلها وكذا الشبيهة بالأصلية2، فإن كل حروف من النوعين لا بد أن يحمل معه للجملة المفيدة معنى فرعيًا جديدًا من المعاني3

1 طبقًا للبيان الخاص بمعنى الحرف، والغرض منه، "وقد تقدم في جـ1 م5 ص62".

2 حرف الجر الشبيه بالأصلي هو: "لا الجر الزائدة" غير محضة: لأنها تجيء لتقوية عاملها الضعيف، ومن الممكن الاستغناء عنها: فإذا لوحظ أنها تفيد عاملها " التقوية" كان هذا معنى جديدًا جلبته معها، وأفادته عاملها؛ فيجب تعلقها مع مجرورها به، وإن لوحظ أنه يجوز حذفها فلا تتأثر الجملة بحذفها كانت زائدة زيادة غير محضة؛ لأن الحرف الزائد زيادة محضة لا يفيد شيئًا إلا توكيد معنى الجملة كلها، لا بعضها وسيجيء البيان عند الكلام على لام الجر الزائدة المحضة التي للتقوية ص475 وفيها المناقشة المفيدة التي قد تنتهي بالقارئ إلى رفض هذه التسمية المقصورة على نوع معين من أنواع اللام.

3 لكل حرف من حروف الجر الأصلية أو الشبيهة بالأصلية، عدة معان، ولكل معنى مقام يناسبه، وسياق يقتضيه، "وسيجيء في ص455 تفصيل هذا" لكن أيكون للحرف الواحد معنى واحدًا أم يكون له معان متعددة؟ وهل ينوب بعض حروف الجر عن بعض؟ الإجابة عن هذا في ص455.

ص: 435

التي يختص بتأديتها، ولا يتكشف هذا المعنى الجديد إلا بعد وضع الحرف مع مجروره في الجملة المفيدة، وعندئذ يتكشف ويتحقق مدلوله على الاسم المجرور به كما سبق1.

أما وجود الحرف وحده أو مع مجروره بغير وضعها في جملة، فلا يفيد شيئًا.

هذا من ناحية إفادته معنى فرعيًا جديدًا لم يكن له وجود قبل مجيئه.

ب– وأما من ناحية وصله بين عامله والاسم المجرور وهو ما يسمى: "التعلق بالعامل"2، فالنحاة يقولون: إن الداعي القوي لاستخدام حرف الجر الأصلي مع مجروره، هو الاستفادة بما يجلبه للجملة من معنى فرعي جديد، وهذا المعنى الفرعي الجديد ليس مستقلًا بنفسه، وإنما هو تكملة فرعية لمعنى فعل أو شبهه في تلك الجملة، ويوضحون هذا بما يشبه الكلام السابق، ففي مثل: حضر المسافر من القرية نجد الجار مع مجروره قد أكملا بعض النقص البادئ في معنى الفعل: "حضر"؛ فلولاهما لتواردت علينا الأسئلة السالفة، لكن بمجيئهما انحسم الأمر. فلهذا يقال: الجار والمجرور متعلق بالفعل: "حضر"، أي: مستمسك ومرتبط به ارتباطًا معنويًا كما يرتبط الجزء بكله، أو الفرع بأصله؛ لأن المجرور يكمل معنى هذا الفعل، بشرط أن يوصله به حرف الجر الأصلي3، أو ما ألحق به.

1 وقد أسهبنا القول في إيضاح معنى الحرف مطلقًا، وأن معناه لا يعرف من لفظه فقط؛ وإنما يعرف بعد وضعه في جملة، وأن هذا المعنى يظهر على ما بعده

و

كل هذا في ج1 ص62 م5.

2 وهذا التعلق مقصور على حرف الجر الأصلي وشبهه، دون الزائد وشبهه كما أسلفنا، وكما يجيء في ص453.

3 إلا الحرف "على" الذي للإضراب في مثل قول الشاعر:

فتى تم فيه ما يسر صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا

كما سيجيء في ص512 و1 من هامش ص451 أما التفصيل والأمثلة ففي رقم8 ص510.

وهناك "اللام" الجارة الأصلية والزائدة ففي النوعين من ناحية تعلق كل منهما، وعدم تعلقه تفصيلات تترتب عليها أحكام اكتفينا بالإشارة إليها في رقم1 من هامش ص472، ورقم4 من هامش ص439 اعتمادًا على بسطها في بابها الأنسب، وهو باب:"الاستغاثة"، "ج4 م133 ص78".

ص: 436

والنحاة يسمون هذا الفعل1"عاملًا".

ويقولون أيضًا: إن حرف الجر الأصلي وما ألحق به بمثابة قنطرة توصل المعنى من العامل إلى الاسم المجرور، أو بمثابة رابطة تربط بينهما؛ ولا يستطيع العامل أن يوصل أثره إلى ذلك الاسم إلا بمعونة حرف الجر الأصلي أو ما ألحق به؛ فهو وسيط، أو وسيلة للاتصال بينهما2، ومن أجل هذا كان حرف الجر الأصلي وملحقه مؤديًا معنى فرعيًا، وهو في الوقت نفسه أداة من أدوات تعدية الفعل اللازم لمفعول به معنى "أي: حكمًا"، وهذه الأداة تتغير وتتنوع طبقًا للمعنى الذي يراد منها أن تؤديه.

مثال آخر: "قعد الرجل"

فهذه جملة مفيدة؛ لكن أقعد في البيت، أم في السفينة، أم في الحقل

؟ فمعنى الفعل: "قعد" في الجملة السالفة محتاج إلى تكملة فرعية تدعو للإتيان بالجار الأصلي مع مجروره؛ فإذا قلنا: قعد الرجل في السفينة

انكشف المعنى الكامل للفعل: "قعد" بسبب اتصاله بالسفينة، وكان هذا الاتصال بمساعدة حرف الجر الأصلي، إذ ليس من الممكن أن نقول: قعد الرجل السفينة؛ بإيقاع المعنى على السفينة مباشرة بغير حرف الجر؛ لأن الاستعمال العربي الصحيح يأبى ذلك؛ برغم شدة احتياج العامل وهو هنا الفعل: "قعد" إلى كلمة: "السفينة" ليقع عليها أثره المعنوي، لكنه عاجز عن أن يوصله إليها بنفسه؛ فجاء حرف الجر الأصلي وسيطًا للجمع بينهما، ومعينًا على تذليل تلك الصعوبة، ووصل بين معنى الفعل

1 وكذا ما يشبهه من العوامل الأخرى الآتية في ص439.

2 ولهذا يسميها بعض النحاة: "حروف الإضافة"، كما أشرنا في رقم1 من هامش ص431؛ لأنها إذا كانت أصلية "كما جاء في بعض المطولات، ومنها "المفصل" جـ2 ص117 تضيف أي تحمل وتنقل إلى الأسماء المجرورة بها معاني الأفعال وشبهها، من كل ما يقع عليه التعلق يشبه الجملة. ولو لم يوجد الحرف الأصلي ما تحققت الفائدة الفرعية التكميلية، ولا صح الأسلوب بعد حذف الجار وحده، وإبقاء مجروره السابق وهذا في غير المواضع القليلة التي يصح فيها حذفه، ويظل ملحوظًا بالرغم من حذفه، ومعتبرًا كالمذكور بخلاف غير الأصلي، فإنه حذفه وحده لا يفسد الأسلوب، وفائدته إما جديدة مستقلة، لا يقصد منها أن تتمم نقصًا في غيرها؛ وهذا هو: "الشبيه بالزائد"، وإما مؤكدة لمعناه؛ وهذا هو "الزائد"، كما سيجيء في ص450 و452.

لهذا كان ما يسمونه "التعلق بالعامل" مقصورًا على حرف الجر الأصلي مع مجروره، وكذلك ما ألحق به

ص: 437

والاسم المجرور بعده، فهو بحق أداة اتصال بينهما؛ ولذا يعد وسيلة من وسائل تعدية الفعل اللازم إلى مفعول به تقديرًا، زيادة على ما يجلبه معه من معنى فرعي.

وكما سبق لا بد أن يتنوع هذا الحرف، ويتغير على حسب الغرض المعنوي المقصود1.

مثال ثالث: نام الوليد، فمعنى الفعل:"نام" معروف، ولكنه معنى يشوبه بعض النقص الفرعي؛ إذ لا يدل مثلًا على المكان الذي وقع فيه النوم، فالعامل؛ " وهو هنا الفعل: نام" بحاجة إلى إتمام المعنى بذكر المكان الذي وقع فيه أثره، فهل نقول: نام الوليد السرير؟ لا نستطيع ذلك؛ لأن الأساليب العربية السليمة تأباه، فالفعل عاجز عن إيصال معناه المباشر إلى تلك الكلمة، فنلجأ إلى الوسيط المساعد؛ وهو حرف الجر الأصلي، وشبهه ليوصل بين الاثنين، ويعدي الفعل اللازم إلى مفعول به معنى، "حكمًا"؛ فنقول: نام الوليد في السرير، ومثل هذا يقال في الفعلين: "دها"، و"ذم" من قول الشاعر:

ومن دعا الناس إلى ذمه2

ذموه بالحق وبالباطل

وهكذا

من كل ما سبق نفهم أن حرف الجر الأصلي3 مع مجروره إنما يقومان بمهمة مشتركة ومزدوجة، كانت السبب القوي في مجيئهما؛ وهي: إتمام معنى عاملها، واستكمال بعض نقصه4 بما يجلبانه معهما من معنى فرعي جديد؛ وأحدهما وهو حرف الجر الأصلي3 يقوم بمنزلة الوسيط الذي يصل بين العامل والاسم المجرور،

1 فيجب اختيار حرف الجر الذي يؤدي المعنى المراد، ولا يصح اختيار حرف لا يؤديه "راجع البيان الهام في ص161، وفي رقم4 من هامشها، ثم ما يتصل بهذا في ص537"، ومن ثم تنوعت حروف الجر بتنوع المعاني في قول الشاعر:

انتخب للقريض لفظًا رقيقًا

كنسيم الرياض في الأسحار

فإذا اللفظ رق شف عن المعنى

فأبداه مثل ضوء النهار

مثل ما شفت الزجاجة جسمًا

فاختفى لونها بلون العقار

2 بأن يفعل ما يستدعي أن يذموه بسببه.

3 و 3 وكذا ما ألحق به.

4 لتجلية هذه المسألة أيضًا والسبب في وجوب التعلق، ولو بالمحذوف تراجع ص245، وما بعدها ففيها ما يتصل بوضوعنا ويفيد.

ص: 438

فيحمل معنى الأول إلى الثاني، ويجعل عامله اللازم متعديًا حكمًا وتقديرًا، ويعبر النحاة عن كل هذا تعبيرًا اصطلاحيًا؛ هو:"أن الجار الأصلي وشبهه مع مجروره متعلقان بالعامل، حتمًا1"، فالمراد من تعلقهما حتمًا به هو: وجوب اتصالهما وارتباطهما به؛ لتكملة معناه الفرعي على الوجه الذي سلف.

كما نفهم أيضًا ما يقولونه من: أن الاسم المجرور بالحرف الأصلي وشبه وهو بمنزلة "المفعول به" لذلك العامل؛ لوقوع معنى العامل عليه؛ كما يقع على "المفعول به" الحقيقي؛ فكلا الاسمين يقع عليه معنى عامله، وكلاهما يتمم معنى العامل، "المتعلق به"، إلا أن المفعول به الحقيقي منصوب، ويصل إليه معنى ذلك العامل مباشرة أي: بغير وسيط أما الاسم الآخر، فمجرور بحرف الجر الأصلي، ولا يصل إليه معنى عامله "وهو المتعلق به" إلا بوسيط، ولا يصح تسميته مفعولًا به حقيقيًا، بالرغم من أنه بمنزلته2، كما لا يصح إعرابه فاعلًا، ولا مفعولًا به، ولا مبتدأ، ولا بدلًا3 ولا غير ذلك

، وإنما يقتصر في إعرابه على أنه "اسم مجرور بالحرف"، وكفى4

أنواع العامل "أي: المتعلق به"، ومواضع ذكره وحذفه:

ليس من اللازم أن يكون العامل "أي: المتعلق به" فعلًا؛ فقد يكون فعلًا مطلقًا5، وقد يكون شيئًا آخر يشبهه؛ كاسم الفعل في مثل: نزال في

1 إلا الحرف الأصلي: "على" إذا كان معناه الإضراب، فإنه يصح ألا يتعلق، وكذلك اللام الجارة الأصلية في بعض الآراء كما أشرنا في رقم3 من هامش ص 436 و2 من هامش ص444، ويجيء البيان والتفصيل والأمثلة في رقم 8 من ص510.

2 إذا كان بمنزلة المفعول به حكمًا ومعنى، فهل يجوز في توابعه النصب؟

الإجابة الصحيحة: لا، "راجع "ب" من ص125 ثم رقم3 من هامش ص151 ثم ص161".

3 يستثنى من هذا الحكم صورة خاصة يصح فيها عند فريق من النحاة إعراب الاسم المجرور بالحرف "بدلًا"؛ طبقًا للبيان التفصيلي في باب "البدل" ج3 ص 538 م123.

4 "ملاحظة": ما المراد الدقيق مما نقرؤه في بعض المراجع اللغوية، وغيرها، أن فعلًا معينًا لازمًا، يردفونه تصريحًا أو تمثيلًا؛ بأنه يتعدى بحرف جر معين؟ الجواب في رقم4 من هامش ص161.

5 أي: بغير تقيد بنوع الفعل، فيشمل الفعل الجامد، والمتصرف، والتام، والناقص، وغير ذلك

إلا الفعل: "ليس"، ففي التعلق به خلاف.

ص: 439

الباخرة، بمعنى: انزل في الباخرة، وحيهل على داعي المروءة، بمعنى: أقبل على داعي المروءة، وكالمصدر الصريح1 في قولهم: السكوت عن السفيه جواب، والإعراض عنه عقاب

ومثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من أقوى الدعائم لإصلاح المجتمع، وكالمشتق الذي يعمل عمل الفعل؛ نحو: أنا محب لعملي، فرح به، مرتاح لرفاقي فيه، وقول الشاعر:

يموت المداوي للنفوس ولا يرى

لما فيه من داء النفوس مداويًا

وكذلك2 المشتق الذي لا يعمل3؛ كاسم الزمان، واسم المكان

و

نحو: انقضى مسعاك لتأييد الحق، وعرفنا مدخلك إلى أعوانه.

وقد يكون العامل لفظًا غير مشتق، ولكنه في حكم المؤول به "أي: يؤدي معنى المشتق"؛ مثل: "أنت عمر من قضائك"، فالجار مع مجروره متعلقان بكلمة: "عمر" الجامدة؛ لأنها مؤولة بالمشتق؛ فهي هنا بمعنى: عادل، ومثل قولهم: "قراءة كلام السفهاء علقم على ألسنتنا"، فالجار والمجرور متعلقان "بعلقم" الجامدة؛ لأنها هنا بمعنى: صعب، أو شاق، أو مؤلم، أو: مر

والمشهور: أن حرف الجر الأصلي مع مجروره لا يتعلقان بأحرف المعاني، ولكن

1 وهو يشمل المصدر الدال على المرة، أو الهيئة، كما يشمل المصدر الميمي، والصناعي.

2 ومن أمثلة الفعل والمشتق الذي يشبهه قول الشاعر:

انظر إلى ورق الغصون فإنها

مشحونة بأدلة التوحيد

وقول الآخر:

ترفق أيها المولى عليهم

فإن الرفق بالجاني عتاب

3 هذا هو الراجح؛ لأن المشتق غير العامل لا يخلو من رائحة الفعل.

راجع حاشيتي: الخضري والصبان، أول باب:"إعمال اسم الفاعل" عند قول ابن مالك:

..............................

إن كان عن مضيه بمعزل

حيث علق الجار والمجرور: "عن مضيه" بكلمة: "معزل" التي اسم مكان، "وستجيء الإشارة هذا في ج3 ص243 م2-1 باب: اسم الفاعل، وفي ص 321 م 107".

ص: 440

هذا المشهور مخالف لما نقلناه عن بعض المحققين1.

وقد يخلو الكلام من ذكر العامل2؛ لأنه:

أ– إما محذوف جوازًا لوضوحه؛ بسبب اشتهاره في الاستعمال قبل الحذف وأمن اللبس بعد الحذف، أو بسبب وجود دليل يدل عليه؛ فمثال الأول:"بأبي" في قول المتنبي:

بأبي من وددته فافترقنا

وقضى الله بعد ذاك اجتماعا

وقول الآخر:

بنفسي تلك الأرض؛ ما أطيب الربا!!

وما أحسن المصطاف3 والمتربعا4!!

يريد: أفدي بأبي، أفدي بنفسي، ومثال الثاني: أزورك في مساء الخميس أما أخوك ففي مساء الجمعة، أي: فأزوره في مساء الجمعة.

ب– وإما محذوف وجوبًا إذا كان هذا العامل2 دالًا على مجرد الكون العام، أي: الوجود المطلق؛ وذلك في مسائل؛ أشهرها سبعة:

1– أن يقع صفة، نحو؛ هذه رسالة في يد صديق عزيز.

2– أو: حالًا؛ نحو: نظرات الرسالة في يد صديق عزيز.

3– أو: صلة، نحو: استمتعت بالأزهار التي في الحديقة.

4– أو: خبرًا لمبتدأ أو لناسخ، كقول الشاعر:

جسمي معي، غير أن الروح عندكمو

فالجسم في غربة، والروح في وطن

فليعجب الناس مني؛ أن لي بدنًا

لا روح فيه، ولى روح بلا بدن

1 راجع إيضاح هذا وتفصيله الكامل في باب: "الظرف" رقم4 من هامش ص245 م78.

"2و2" وهو: المتعلق به، وقد يكون تعلق شبه الجملة بالإسناد "أي: بالنسبة الواقعة بين ركني الجملة، وهذا إذا لم نتوصل إلى فعل أو شبهه مما يصح التعلق به، كقول ابن مالك في باب الاستثناء خاصا بالأداتين "خلا وعدا": "وحيث جرا فهما حرفان

"، فالظرف "حيث" متعلق بالنسبة المأخوذة من قوله: "فهما حرفان" أي: تثبت حرفيتهما حيث جرا، "وقد سبق تفصيل وإيضاح لهذا في هامش ص357، وتسمية بالعامل المعنوي ص245".

3 المكان المختار لقضاء فصل الصيف فيه.

4 المكان المختار لقضاء فصل الربيع فيه.

ص: 441

5– أو: أن يلتزم العرب حذفه في أسلوب معين؛ كقولهم لمن تزوج: "بالرفاء 1والبنين"، أي: تزوجت

فلا يجوز في مثل هذا الأسلوب ذكر العامل؛ لأنه أسلوب جرى مجرى الأمثال، والأمثال لا تغير.

6– أو يكون حرف الجر هو "الواو" أو"التاء" المستعملتين في القسم، نحو: والله لا أبتدئ بالأذى، وقول الشاعر:

فوالله لا يبدي لساني حاجة

إلى أحد حتى أغيب في القبر

تالله لأصنعن المعروف، التقدير: أقسم والله، أقسم بالله.

7– أو: أن يرفع الجار مع مجروره الاسم الظاهر عند من يقول بذلك2؛ بشرط اعتمادها على استفهام، أو نفي؛ نحو: أفي الله شك؟: ما في الله شك.

وإذا كان العامل محذوفًا جاز تقديره فعلًا، "مثل: استقر – حصل – وجد – كان بمعنى: وجد

و

" وجاز تقديره وصفًا يشبهه؛ "مثل: مستقر – حاصل – كائن

"، إلا في القسم والصلة لغير "أل" الموصولة؛ فيجب تقديره فيهما فعلًا؛ لأن جملتي القسم والصلة لغير "أل"، لا تكونان هنا إلا جملتين فعليتين3، ولن يتحقق هذا إلا بتعلق شبه الجملة بفعل محذوف، لا بغيره.

وقد سبق أن أوضحنا جواز القول تيسيرًا بأن الجار والمجرور إذا وقعا صفة، أو صلة، أو خبرًا، أو حالًا، هما الصفة، أو الصلة، أو الخبر، أو الحال، من غير نظر للعامل، ولا اعتباره واحدًا من تلك الأشياء4.

ولما كانت العلاقة بين العامل "المتعلق به"، والجار مع مجروره على ما ذكرنا من الارتباط المعنوي الوثيق وجب أن ننتبه عند التعليق؛ فنميز العامل الذي يحتاج إلى الجار مع المجرور لتكملة معناه، من غيره الذي لا يحتاج؛ فنخص الأول بتعلقهما به، ونعطيه ما يناسبه، دون سواه من العوامل التي لا يصح التعلق بها؛ إما

1 الرفاء "بكسر الراء المشددة" هو: التوافق، والالتئام، وعدم الشقاق.

2 وهو رأي يحسن اليوم إغفاله قدر الاستطاعة، لما يوقع فيه من بلبلة.

3 كما في هامش ص447 وما بعدها.

4 سبق هذا في ص248، وفي جـ 1 ص272، 346، وسيجيء في رقم 3 من هامش ص445 و447 كلام هام في هذا.

ص: 442

بسبب الاكتفاء بمعنى العامل دون احتياج إلى الجار مع مجروره، وإما بسبب فساد المعنى المراد من العامل إذا تعلقا به.

بيان ذلك: أن الكلام قد يشتمل على عدة أفعال أو غيرها مما يشبهها، فيتوهم من لا فطنة له أن التعلق بكل واحد منها جائز؛ فيسارع إلى التعليق غير متثبت من حاجة العامل لهذا التعليق، في استكمال المعنى أو عدم حاجته، وغير ملتفت إلى ما يترتب عليه من فساد المعنى أو عدم فساده؛ كما يتضح من الأمثلة التالية:

"جلست أقرأ في كتاب تاريخي"

فلو تعلق الجار والمجرور: "في كتاب" بالفعل: "جلس" لكان المعنى: جلست في كتاب

، وهذا واضح الفساد، لكن يستقيم لمعنى لو تعلقا بالفعل:"أقرأ"، فيكون: أقرأ في كتاب تاريخي

"قاس الطبيب حرارة المريض، وكتبها، بمقياس الحرارة"، فلو تعلق الجار والمجرور بالفعل:"كتب" لكان المعنى: كتب الطبيب حرارة المريض بمقياس الحرارة. وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يحصل، وإنما يصح المعنى بتعلقهما بالفعل:"قاس"؛ إذ كان الأصل: قاس الطبيب بمقياس الحرارة حرارة المريض، وهذا معنى سليم.

ويقول الرصافي:

جهلت كجهل الناس حكمة خالق

كل الخلق طرًا بالتعاسة حاكم

وغاية جهدي أنني قد علمته

حكيمًا، تعالى عن ركوب المظالم

فلو تعلق الجار والمجرور: "على الخلق" بالفعل: "جهل" لأدى هذا التعلق إلى فساد شنيع في المعنى؛ إذ يكون التركيب: جهلت على الخلق جميعًا أي: تكبرت عليهم، وأسأت إليهم، وهذا غير المراد، وكذلك لو تعلقا بالمصدر:"جهل" أو: "حكمة"

، أما لو تلعقا بالوصف المشتق:"حاكم" فإن المعنى يستقيم، ويتحقق به المراد، إذ يكون التركيب

حاكم على الخلق طرا بالنعاسة

، ومثل هذا يقال في الجار والمجرور:"بالتعاسة".

ويقول الشاعر:

عداتك منك في وجل وخوف

يريدون المعاقل والحصونا

فلو تعلق الجار ومجروره "منك" بكلمة: "عداة"1 لفسد المعنى، بخلاف

1 جمع: عاد، بمعنى ظالم، "فهو عامل مشتق".

ص: 443

تعلقهما بكلمة: "وجل" فإن المعنى معه يكون: غداتك في وجل منك

وهو معنى مستقيم.

ومن الأمثلة السالفة يتبين أن متعلقهما قد يكون متأخرًا عنهما، أو متقدمًا عليهما؛ فليس من اللازم أن يتقدم عليها العامل الذي يتعلقان به، وقد اجتمع الأمران في قول الشاعر:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهمو

لم يبن ملك على جهل وإقلال

وفي قول الآخر:

لئن لم أقم فيكم خطيبًا فإنني

بسيفي إذا جد الوغى لخطيب

فالمراد: يبني الناس ملكهم بالعلم والمال

لم يبن الناس ملكهم على جهل وإقلال لئن لم أقم فيكم خطيبًا، فإنني لخطيب بسيفي1

فالواجب يقتضي في كل الأحوال أن نبحث لحرف الجر الأصلي2 مع مجروره عن "العامل" المناسب لهما، ولا سيما إذا تعددت حروف الجر ومجروراتها، وتعددت معها الأفعال وأشباهها3، وأن نميزه ونستخلصه من غير المناسب؛ ولا نتأثر في اختياره بقربه من الجار والمجرور، أو بعده عنهما، أو تقدمه عليهما أو تأخره، أو ذكره، أو حذفه4، وإنما نتأثر بشيء واحد؛ هو

1 وكذلك في قول الشاعر:

الغني في يد اللئيم قبيح

مثل قبح الكريم في الإملاق

وقول الآخر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

2 وشبهه، إلا الحرف الأصلي اللام، وكذا:"على" الذي للإضراب، فكلاهما يصح ألا يتعلق، "كما سبق في رقم3 من هامش436 ورقم1 من هامش 339 طبقًا للبيان الآتي في رقم8 من ص510".

3 الكثير ألا يتعلق حرفان للجر بعامل واحد إذا كانا بمعنى واحد كالذي في مثل: مررت بالوالد بالأخ؛ حتى لقد منع بعض النحاة هذا التعليق: منعًا باتًا.

أما عند اختلاف معنى الحرفين فيجوز تعلقهما بعامل واحد؛ نحو: كتبت بالقلم بالصحيفة، والحق أن المنع القاطع المطلق مخالف لظاهر كلام الزمخشري في قوله تعالى:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ، فإنه يفيد الجواز مع كون معنى الحرفين:"من" الأولى والثانية واحدًا؛ ذلك؛ لأن الحرف الثاني إنما يتعلق بالفعل بعد تقييده بالأول، والأول إنما تعلق به في حال الإطلاق.

"راجع شرح التصريح وحاشية ياسين ج2 باب الحال عند الكلام على الحال مع صاحبها".

4 وقد اجتمع الذكر والحذف في قولهم: "من أشار على أخيه بشيء يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه" أي: موجودة في غيره.

ص: 444

ما يكون بين العامل وبينهما من ارتباط معنوي يحتم اتصالهما به بطريقة تعلقهما به مع ملاحظة الرأي المشهور؛ وهو: أن شبه الجملة بنوعيه لا يتقدم على عامله المؤكد بالنون1.

وفي هذه الحالة التي يتمم فيها الجار والمجرور المعنى مع عاملهما يسميان "شبه الجملة2 التام"، فإن لم يكمل بهما المعنى "وقد يكون ذلك لعدم اختيار "المتعلق به" المناسب سميًا:"شبه الجملة الناقص"، نحو: محمد عنك، الشمس حتى اليوم، النهر بك

و

فهذه تراكيب فاسدة، بخلاف: محمد في البيت، الشمس على خط الاستواء، النهر لنا3.

1 انظر البيان في 3 من هامش ص101.

2 شبه الجملة قسمان: الظرف، والجار مع مجروره، وفي باب الصلة خاصة يعتبر الوصف الواقع صلة "أل" بمنزلة شبه الجملة، "وقد تقدم إيضاح هذا في الجزء الأول عند الكلام على أنواع الصلة، وسيجيء في الهامش بعد هذا مباشرة بيان العلامة التي تميز شبه الجملة التام المفيد مما ليس تامًا ولا مفيدًا".

3 من المستحسن أن نلخص ما سبق متناثرًا "هنا في ص245 وما بعدها، وج 1 في بابي "الموصول"، و"المبتدأ والخبر" خاصًا يشبه الجملة؛ من ناحية التعلق، ووجوب حذف العامل أو جوازه، وشبه الجملة اللغو والمستقر

و

وما يصحب كل هذا من أحكام هامة، وإنما نعيده بمناسبة للكلام على حروف الجر؛ لأن الجار مع مجروره أحد الشرطين اللذين يسميان:"بشبه الجملة"، والشطر الآخر هو:"الظرف"، ويطلقه بعض القدماء على الشطرين ويزاد عليهما صلة "أل" خاصة "كما سبق في رقم 2"، فأنسب مكان لتسجيل كل ما يختص بشبه الجملة هو:" باب الظرف"، و"باب حروف الجر"، وإلى هذين البابين قبل غيرهما يتجه نظر الباحث في "شبه الجملة": حيث يجب أن يتجمع ويتركز في كل باب ما يناسبه من أحوال شبه الجملة، وأحكامه، دون الاعتماد على المتفرق في الأبواب الأخرى، لمناسبات طارئة.

الأصل المتفق عليه بين النحاة أن العامل في الظرف، وفي الجار مع مجروره يقع بنفسه في مواقع إعرابية مختلفة؛ منها: الصلة، والصفة، والخبر، والحال

و

، فهل يقع شبه الجملة نفسه في تلك المواقع الإعرابية بدلًا من عامله، ويحل محله؟

لا مانع من هذا في رأي حسن لفريق من قدامى النحاة، بشرط أن يكون العامل في شبه الجملة بنوعيه محذوفًا، وبشرط أن يكون كل منهما مفيدًا بعد حذف العامل الذي يتعلقان به مع ملاحظة أن الذي يتعلق من أنواع الجار مع مجروره هو حرف الجر الأصلي مع مجروره وشبه الأصلي، دون حرف الجر الزائد وشبهه مع مجرورهما، وأوضح علامة تدل على وجود الفائدة المطلوبة من الظرف ومن الجار مع مجروره هو أن يفهم متعلقهما المحذوف بمجرد ذكرهما، ويتحقق هذا في صورتين:

الأولى: أن يكون هذا المتعلق المحذوف شيئًا يدل على مجرد الوجود العام، أي: الوجود المطلق دون زيادة معنى آخر، وهذا يسمى:"الاستقرار العام" أو: "الكون العام" ومعناهما: مجرد الوجود؛

ص: 445

ملاحظة:

المشهور أن شبه الجملة التام بنوعيه "الظرف، والجار مع مجروره" إذا وقع

= ففي نحو: "تكلم الذي عندك" أي: الموجود عندك لا يفيد الظرف: "عند" شيئًا أكثر من الدلالة على وجود الشخص وجودًا مطلقًا من غير زيادة شيء آخر على هذا الوجود؛ كالأكل، او الشرب، أو القراءة، أو سواها

وهذا هو "الوجود العام"، أو:"الاستقرار العام" أو: "الكون العام" كما قلنا، ولا يحتاج في فهمه إلى قرينة، أو غيرها، وكذلك نحو:"سكت الذي في الحجرة" أي: الموجود في الحجرة وجودًا مطلقًا غير مقيد بزيادة شيء آخر؛ كالنوم، أو الضحك، أو المشي، وكذلك غيرهما من الأمثلة.

ولأن هذا الكون العام واضح "ومفهوم" بداهة طبقًا للبيان الهام الذي سبق في ص 246 وجب حذفه في مسائل؛ منها ما ذكرناه، وهو: أن يقع صلة، أو صلة، أو خبرًا، أو حالًا

؛ إذ لا داعي للإضافة بذكره من غير حاجة إليه.

الثانية: أن يكون متعلقهما أمرًا خاصًا محذوفًا جوازًا لوجود ما يدل عليه. ويظهر المتعلق الخاص في المثالين السابقين بأن نقول: تكلم الذي وقف عندك، وسكت الذي نام في الحجرة، فكلمة:"وقف" أو: "نام" تؤدي معنى خاصًا هو: الوقوف، أو: النوم، ولا يمكن فهمه إلا بذكر كلمته في الجملة، والتصريح بها، فليس هو مجرد حضور الشخص، ووجود المطلقين؛ وإنما هو الوجود والحضور المقيدين بالوقوف أو بالنوم، ولهذا لا يصح حذف المتعلق الخاص إلا بدليل يدل عليه وعندئذ يجوز حذفه؛ مثل: قعد صالح في البيت ومحمود في الحديقة؛ فقول: بل صالح الذي في الحديقة، تريد: بل صالح الذي قعد في الحديقة: فإن حذف المتعلق الخاص بغير دليل كان الظرف والحال مع مجروره غير تأمين؛ فلا يصلحان للصلة، ولا لغيرها مما سبق؛ مثل: هذا الذي أمامك، أو: منك، تريد هذا الذي غضب أمامك، أو: غضب منك، ومثل: غاب الذي اليوم

أو: الذي بك، تريد: غاب الذي حضر اليوم، والذي استعان بك. فالمتعلق العام المطلق قد زيد عليه هنا ما جعله خاصًا مقيدًا، فلا يصح حذفه إلا بقرينة.

وظرف المكان هو الذي يكون متعلقه في الصلة كونًا عامًا واجب الحذف، أو كونًا خاصًا واجب الذكر إلا عند وجود قرينة؛ فيجوز معها حذفه أو ذكره. أما ظرف الزمان فلا يكون متعلقه إلا خاصًا؛ فلا يجوز حذفه إلا بقرينة، وبشرط أن يكون الزمن قريبًا من زمن الكلام، نحو: نزلنا المنزل الذي البارحة، أو: أمس، أو آنفًا، فإن كان زمن الظرف بعيدًا من زمن الإخبار بمقدار أسبوع مثلًا، لم يحذف العامل؛ فلا تقول يوم الأربعاء: نزلنا المنزل الذي يوم الخميس أو يوم الجمعة.

ولم أطله على تحديد النحاة للزمن القريب أو البعيد؛ ولكن قد يفهم من أمثلتهم أن القريب هو ما يتجاوز يومين، وأن البعيد ما زاد عليهما، وربما كان عدم التحديد مقصودًا منه ترك الأمر للمتكلم والسامع.

وشبه الجملة بنوعيه يسمى: "مستقرًا""بفتح القاف، والمراد: مستقر فيه" حين يقع متعلقه "كونًا عامًا" يفهم بدون ذكره، ويسمى:"لغوًا" حين يقع متعلقه "كونًا" مذكورًا أو محذوفًا لقرينة تدل عليه، وإنما سمي "مستقرًا" لأمرين سبقت الإشارة إليهما في ص246 و250؛ لاستقرار معنى عامله فيه؛ أي: فهمه منه؛ ولأن حين يصير خبرًا مثلًا ينتقل إليه الضمير من عامله المحذوف، ويستقر فيه، وبسبب هذين الأمرين استحق عامله الحذف وجوبًا، وسمي "اللغو" لغوًا؛ لأن وجوده ضئيل =

ص: 446

بعد نكرة محضة وجب إعراب متعلقه "عامله" نعتا، وإذا وقع بعد معرفة محضة.

= الأثر مع وجود عامله: إذ لا يستقر فيه معنى عامله، ولا يتحمل ضميره. وفي هذه الحالة يكون العامل الملفوظ به في الجملة هو الخبر، أو الصفة، أو الصلة، أو الحال

أو

، ويجب ذكره، ولا يجوز حذفه إلا لقرينة، ولو حذف لوجودها لكان مع حذفه أيضًا هو الخبر أو الصفة، أو الصفة، أو الحال

فلا يصح في رأي الكثرة في حالتي ذكر الكون الخاص، أو حذفه أن يكون الظرف أو الجار مع مجروره خبرًا، أو نعتًا، أو واحدًا مما سبق، وهذا نوع من التشدد لا داعي له، إذ لا مانع هنا أن نعرب شبه الجملة بنوعيه هو الخبر، أو الصفة، أو الصلة، أو الحال، أو غيرها، وذلك عندما يحذف جوازًا عامله المعروف؛ لأن هذا الإعراب جائز في شبه الجملة الذي حذف عامله العام وجوبًا كما سيجيء، فلم لا يجوز هنا؟

ويتضح مما سبق أن شبه الجملة بنوعيه لا بد أن يدل في أصله على: "الوجود المطلق"، ثم يمتاز اللغو بدلالته فوق هذا على معنى خاص؛ كالمشي، أو الحركة

وغيرهما مما يزاد عليه فيجعله خاصًا مقيدًا، بعد أن كان عامًا مطلقًا. ويتضح أيضًا أن الكون العام واجب الحذف مع شبه الجملة؛ إذ لا فائدة من ذكره؛ ولا خفاء، ولا لبس بحذفه، ولانتقال الضمير منه إلى شبه الجملة، وأن الكون الخاص يجب ذكره حتمًا؛ لعدم وجود ما يدل عليه عند حذفه، فإن وجدت قرينة تدل عليه وتعينه صح حذفه مثل: الفارس فوق الحصان، أي: راكب فوق الحصان، ومن لي بفلان؟ أي: من يتكفل لي بفلان؟ والبحتري من الشعراء؛ أي: معدود منهم، ومثل قوله تعالى في القصاص:{الْحُرُّ بِالْحُر} ، على تقدير: الحر مقتول بالحر؛ لأن تقدير الكون العام في الأمثلة السابقة لا يؤدي المعنى المراد، والمتعلق الخاص المحذوف لوجود قرينة تدل عليه هو الذي يعرب عندهم كما سبق خبرًا، أو صفة، أو صلة، أو حالًا

لا شبه الجملة. وبالرغم من حذفه فإنه لا يخرج شبه الجملة في رأيهم عن اعتباره: "لغوًا" ولا يتنافى مع ما هو ثابت له من أنه: "كون خاص"، فالمعول عليهم عندهم في الحكم باللغو راجع إلى خصوص الكون، وأنه ليس بعام؛ سواء أذكر الكون الخاص أم حذفه لقرينة، وفي الحكم بالاستقرار إلى عموم

الكون، وأنه ليس بخاص.

وينتقلون بعد هذا إلى تقسيمات وتفريعات شاقة، وأدلة جدلية مرهقة في إثبات ذلك الأقسام والفروع، وفي المفاضلة بين أن يكون المتعلق المحذوف فعلًا أو اسمًا؛ وغير هذا مما لا حاجة إليه اليوم، ولا ضرر من إهماله، بل الخير في إهماله، ولا الاقتصار عند حذف العامل على إعراب الظرف، والجار مع مجروره هو: الخبر، أو الصفة، أو الصلة، أو الحال

وهو رأي لبعض السابقين، ولا داعي التشدد في البحث عن نوع العامل المحذوف مع عدم الحاجة إليه، ولا للتمسك بأنه هو الخبر، أو الصفة

أو

، ولا خير في ركوب الشطط لإظهار آثاره. لأن المعنى جل كامل بدونه، إن ذلك التشدد هو صورة من الجانب المعيب في نظرية العامل النافعة الجميلة، ولم الإعنات وفي استطاعتنا التخفيف والتيسير بغير إفساد؟

وقد دعا لهذا بعض القدامى كما أشرنا، وكما ورد في كثر من المراجع الكبيرة، كالمفصل وغيره، يقول صاحب المفصل "ج1 ص 90" عند الكلام على أقسام الخبر ما نصه:

"اعلم أنك لما حذفت الخبر الذي هو: "استقر" أو: "مستقر"، وأقمت الظرف مقامه. =

ص: 447

وجب إعرابه حالا، أما إذا وقع بعد نكرة غير محضة، أو معرفة محضة فيجوز

= على ما ذكرنا صار الظرف هو الخبر، والمعاملة معه "يريد أن الآثار اللفظية والمعنوية في الجملة قد انتقلت إليه"، وهو مغاير المبتدأ في المعنى، ونقلت الضمير الذي كان في الاستقرار إلى الظرف، وصار مرتفعًا به؛ كما كان مرتفعًا بالاستقرار؛ ثم حذفت الاستقرار، وصار أصلًا مرفوضًا لا يجوز إظهاره؛ للاستغناه عنه بالظرف، وقد صرح ابن جني بجواز إظهاره، والقول عندي أنه بعد حذف الخبر الذي هو الاستقرار، ونقل الضمير إلى الظرف لا يجوز إظهار ذلك المحذوف؛ لأنه قد صار أصلًا مرفوضًا، فإن ذكرته أولًا وقلت: زيد استقر عندك لم يمنع منه مانع.

واعلم أنك إذا قلت: "زيد عندك" فعندك ظرف منصوب بالاستقرار المحذوف؛ سواء أكان فعلًا: أم اسمًا، وفيه ضمير مرفوع، والظرف وذلك الضمير في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، وإذا قلت: زيد في الدار، أو: من الكرام، فالجار والمجرور في موضع نصب بالاستقرار على حد انتصاب، "عندك" إذا قلت: زيد عندك، ثم الجار والمجرور والضمير المنتقل في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ

ا. هـ.

وهو يشير بقوله: "الجار والمجرور في موضع نصب بالاستقرار

" إلى ما هو معروف في الاصطلاح النحوي من أن المجرور بحرف جر أصلي، وشبهه هو "مفعول به" في المعنى، وحرف الجر أداة لتوصيل أثر الفعل إليه "كما شرحنا أول الباب، ص 439، وفيما سبقه من ص 151 و 159 و

".

وعلى هذا يكون ما يدور على الألسنة اليوم عند الإعراب من أن الظرف، أو الجار مع مجروره هو الصلة، أو الصفة، أو الخبر، أو الحال

أمرًا سائغًا مقبولًا، ورأيًا لبعض القدامى يحمل طابع التيسير والاختصار.

فإن وقع أحدهما في تلك المواضع فقد يتعلق بشيء مذكور يصلح للتعلق، كالفعل ونحوه

وقد يتعلق بفعل محذوف أو بمشتق، أو غيره مما يصح التعلق به، ولا يتحتم أن يكون المحذوف فعلًا إلا حين يقع صلة، لغير "أل"؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة "والوصف المشتق مع مرفوعه ليس جملة، ولا يكون صلة لغير "أل"، كما عرفنا في باب الموصول، وكذلك يتحتم أن يكون فعلًا في حالة القسم الذي حذفه عامله؛ لأن جملة القسم أيضًا لا بد أن تكون فعلية كما سبق في ص442.

ومما تجدر ملاحظته أن شبه الجملة بنوعيه "الظرف، والجار الأصلي مع مجروره" إذا تعلق بفعل مؤكد بالنون لم يجز أن يتقدم على هذا الفعل في الرأي المشهور دون الرأي الآخر طبقًا للبيان الذي سبق في رقم3 هامش ص101، وأشرنا إليه في أول ص445.

وإذا أخذنا بهذا الرأي السهل اليسير كانت تسمية الظرف والجار مع مجروره "شبه جملة" إنما هي من قبيل الإبقاء على التسمية القديمة، ومراعاة أصلها السابق، أو: لأن كلا من الظرف والجار مع مجروره ليس مفردًا في الحقيقة، بل هو مركب؛ إذ يحمل معه الضمير المستتر الذي انتقل إليه من العامل المحذوف على الوجه الذي بسطناه.

أما التسمية القديمة وأصلها السابق فقد أوضحناهما من قبل بما ملخصه:

أن الظرف أو الجار مع المجرور ليس هو الخبر، ولا الصفة، ولا الصلة، ولا الحال، و

=

ص: 448

إعرابه في كل صورة من الصورتين، حالًا، أو نعتًا، لكن يقول بعض المحققين: إن متعلق شبه الجملة يصلح أن يكون حالًا أو نعتًا في جميع الصور؛ سواء أكانت النكرة والمعرفة محضتين أم غير محضتين، ما عدا صورة واحدة يتعين أن يكون شبه الجملة فيها نعتًا، هي: أن تكون النكرة محضة، ورأيه حسن، وقد سبق إيضاحه التام وتفصيله1.

وحروف الجر السابقة كلها أصلية خالصة، إلا أربعة؛ هي:"من"، و"الباء" و"اللام" و"الكاف"، فهذه الأربعة تستعمل أصلية حينًا، وزائدة حينًا آخر، وإلا "لعل" و"رب"؛ فإنهما حرف جر شبيهان بالزائد، وكذا:"لولا" في رأي أشرنا إليه من قبل2، ومن النحاة من يجعل: خلا، وعدا،

= و

في رأي جمهرتهم، وإنما الخبر وغيره في الحقيقة لفظ آخر محذوف يتعلق به الظرف والجار الأصلي مع مجروره؛ إذ لا مهمة لشبه الجملة إلا إتمام المعنى في غيره، لهذا لا بد لنوعيه أن يتعلقا بفعل أو بما يشبهه؛ ليتم بهما المعنى للأسباب الموضحة في أول هذا الباب وفي باب الظرف، والمحذوف قد يكون فعلًا فقط أما فاله الضمير فقد تكره واستقر في شبه الجملة، وقد يكون في غير الصلة والقسم شيئًا آخر، فإن لم يوجد في الكلام ما يصلح أن يقع عاملًا يتعلق به الظرف أو الجار الأصلي مع مجروره كما في مثل: الغزال في الحديقة، فأين العامل؟ فلما كان التعلق واجبًا وكان شبه الجملة غير صالح لأن يكون هو المبتدأ في المعنى كالشأن في الخبر، وكان العامل غير موجود؛ وجب تقديره محذوفًا؛ إما فعلًا مع فاعله "أي: جملة فعلية، مثل: استقر، أو: ثبت، أو: حصل، أو كان، بمعنى: وجد، "وهي التامة"

وإما اسما مشتقا، مثل:"مستقر"، أو:"كائن" المشتقة من "كان" التامة، وإما اسما آخر يصلح عاملا، وإما بالنسبة "أي: الإسناد طبقا لما هو مشروح في رقم2 من هامش ص441"، فليس الخبر أو غيره

عندهم هو الظرف نفسه، أو الجار مع مجروره مباشرة؛ إنما الخبر هو المحذوف، ويتعلق به كل واحد من هذين، ولما كان كل منهما صالحًا لأن يتعلق بالفعل

المحذوف، ويدل عليه وعلى فاعله بغير خفاء ولا لبس كان شبه الجملة بمنزلة النائب عنهما، والقائم مقامهما، والفعل مع فاعله جملة، فما ناب عنها قام مقامها شبه بها، لذلك أسموه:"شبه الجملة".

وأصحاب هذا الرأي يقولون: إن الضمير الذي كان فاعلًا للعامل المحذوف قد انتقل بعد ذلك كله إلى شبه الجملة، أي: بعد أن تمت المشابهة، وبسبب انتقال الضمير إلى شبه الجملة، وصحة تعلقه بالمشتق سموه:"شبه الوصف" أيضًا كما سبق في رقم3 من هامش ص373، وفي رقم1 من هامش ص382.

وقد أوضحنا سبب تعلق الظرف، وطريقته وما يتصل بهذا في بابه من هذا الجزء ص245 وما بعدها وكذا في جـ1 م35 ص431 كما أوضحنا هنا في هذا الباب أمرهما مع الجار والمجرور.

1 في جـ1 ص192 و194 حيث البيان الكامل.

2 رقم2 من هامش ص431 م89 وتفصيل هذا في الجزء الأول عند الكلام على: "الحرف" ص43 وما بعدها م5.

ص: 449

وحاشا، من حروف الجر الشبيهة بالزائدة، لكن لا داعي للعدول عن اعتبارها حروفًا أصلية؛ كما سبق1 في باب الاستثناء وسيجيء تفصيل الكلام عن معاني حروف الجر، وعملها يالموضع الخاص بهذا من الباب2.

القسم الثاني: حرف الجر الزائد3 زيادة محضة4، وهو الذي لا يجلب معنى جديدًا، وإنما يؤكد ويقوي المعنى العام في الجملة كلها، فشأنه شأن كل الحروف الزائدة؛ يفيد الواحد منها توكيد المعنى العام للجملة كالذي يفيده تكرار تلك الجملة كلها، سواء أكان المعنى العام إيجابًا أم سلبًا، ولهذا لا يحتاج إلى شيء يتعلق به، ولا يتأثر المعنى الأصلي بحذفه، نحو: كفى بالله شهيدًا، بمعنى: يكفي الله شهيدًا؛ فقد جاءت "الباء" الزائدة لتفيد تقوية المعنى الموجب وتأكيده؛ فكأنما تكررت الجملة كلها لتوكيد إثباته وإيجابه، ومثل: ليس من خالق إلا الله أي: ليس خالق إلا الله، فأتينا بالحرف الزائد:"من": لتأكيد ما تدل عليه الجملة كلها من المعنى المنفي، وتقوية ما تتضمنه من السلب، ولو حذفا الحرف الزائد في المثالين ما تأثر المعنى بحذفه5.

ولا فرق في إفادة التأكيد بين أن يكون الحرف الزائد في أول الجملة، أو في وسطها، أو في آخرها؛ نحو: بحسبك الأدب، كفى بالله شهيدًا، الأدب بحسبك

وقد تكون زيادة الحرف واجبة لا غنى عنها كزيادة "باء الجر" بعد صيغة "أفعل" للتعجب القياسي؛ نحو: أكرم بالعرب6.

1 في رقم 4 من هامش ص355.

2 ص455 وما بعدها.

3 أشرنا في رقم3 من هامش ص434 إلى الموضع الذي يشتمل على بيان المراد من "اللفظ الزائد" سواء أكان اللفظ حرفًا أم غير حرف، وأن ذلك الموضع هو: ج1 م5 ص66 و70.

4 هناك "اللام الجارة" قد تكون زيادتها لتقوية عاملها، فتكون زيادتها شبيهة بالمحضة "كما سبق في رقم2 من هامش ص435، ويجيء البيان في ص475".

5 ومن أمثلة زيادتها لتقوية المعنى المنفي قول الشاعر:

ولست براض عن حياة ذليلة

ولا بد للأحرار من موطن حر

6 بشرط دخولها على اسم صريح، لا مؤول من أن وأن وصلتهما كما سيجيء عند الكلام على "الباء" في حروف الجر رقم14 من ص494، وانظر رقم1 هامش ص163، ثم رقم4 من هامش ص532 للأهمية.

ص: 450

وإنما لم يتعلق الجار الزائد مع مجروره بعامل؛ لأن التعلق والزيادة متعارضان؛ إذ الداعي للتعلق هو الارتباط المعنوي بين عامل عاجز، ناقص المعنى، واسم يكمل هذا النقص، ولا يصل إليه أثر ذلك العامل إلا بمساعدة حرف جر أصلي وشبهه أما الزائد، فلا يدخل الكلام ليعين على الإكمال، والإيصال الأثر من العامل العاجز إلى الاسم المجرور، وإنما يدخل الكلام لتأكيد معناه القائم، وتقويته كله، لا للربط.

طريقة إعراب المجرور بالحرف الزائد:

لا بد من أمرين معًا في الاسم المجرور بالحرف الزائد؛ أن يكون مجرورًا في اللفظ، وأن يكون مع ذلك في محل رفع، أو نصب، أو جر؛ على حسب مقتضيات العوامل، فله إعراب لفظي، معه آخر محلي، ففي مثل، "كفى بالله شهيدًا" تعرب "الباء" حرف جر زائدًا "الله" مجرور بها، في محل رفع؛ لأنه فاعل، إذ الأصل: كفى الله

وفي مثل: "بحسبك الأدب"، "الباء": حرف جر زائد، "حسب" مجرور بها، في محل رفع؛ لأنها تصلح مبتدأ؛ إذ الأصل: حسبك الأدب

وهكذا، فحرف الجر الأصلي والزائد يشتركان في أمر واحد، هو: أن كل منهما لا بد أن يجر الاسم بعده، ويختلفان في ثلاثة أمور:

1– في أن الحرف الأصلي لا بد أن يأتي بمعنى فرعي جديد لم يكن في الجملة قبل مجيئه، أما الحرف الزائد فلا يأتي بمعنى جديد، وإنما يؤكد ويقوي المعنى العام الذي تتضمنه الجملة كلها قبل مجيئه.

2– والحرف الأصلي مع مجروره لا بد أن يتعلقا1 بعامل محتاج إليهما في تكلمة معناه وإيصال أثره إلى الاسم المجرور، أما الحرف الزائد ومجروره فلا يتعلقان.

3-

والحرف الأصلي يجر الاسم بعده لفظًا دون أن يكون لهذا الاسم محل آخر من الإعراب2، وتوابعه مجرورة اللفظ مثله، ولا محل لها، أما الزائد فلا بد

1 إلا الحرف: "علي" الذي للإضراب، وكذا اللام الأصلية في بعض الآراء "انظر البيان في ص436 ورقم3 من هامشها".

2 أي: أنه ليس له إعراب محلي.

ص: 451

أن يجر الاسم لفظًا، وأن يكون له مع ذلك محل من الإعراب، وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فيه أمران؛ إما الجر مراعاة للفظ المتبوع، وإما حركة أخرى يراعى فيها محل المتبوع لا لفظه؛ ففي مثل:"كفى بالله القادر شهيدًا" يصح في كلمة: "القادر" الجر تبعًا للفظ "الله" المجرور لفظًا، ويجو الرفع تبعًا لمحله باعتباره فاعلًا، ومثل هذا يجري في سائر التوابع؛ حيث يجمع في التابع الإعراب اللفظي مع الإعراب المحلي.

وأشهر حروف الجر الزائدة هو الأربعة السالفة "من – الباء – اللام – الكاف

"، وسيأتي معنى كل وعمله في المكان الخاص بذلك1.

القسم الثالث: حرف الجر الشبيه بالزائد، وهو الذي يجر الاسم بعده لفظًا فقط، ويكون له مع ذلك محل من الإعراب2 فهو كالزائد في هذا، ويفيد الجملة معنى جديدًا مستقلًا، لا معنى فرعيًا مكملًا لمعنى موجود، ولهذا لا يصح حذفه؛ إذ لو حذفناه لفقدت الجملة المعنى الجديد المستقبل الذي جلبه معه، ولكنه لا يحتاج مع مجروره لشيء يتعلق به؛ لأن هذا الحرف الشبيه بالزائد لا يستخدم وسيلة للربط بين عامل عاجز ناقص المعنى، واسم آخر يتمم معناه.

ومن أمثلته: رب، لعل"، وكذا "لولا"، عند فريق من النحاة"، نحو: رب غريب شهم كان أنفع من قريب، رب صديق أمين كان أوفى من شقيق، فقد جر الحرف: رب، الاسم بعده في اللفظ، وأفاد الجملة معنى جديدًا مستقلًا هو: التقليل، ولم يكن هذا المعنى موجودًا.

وسيجيء فصيل الكلام على هذا الحرف من ناحية معناه وعمله، وكل ما يتصل به في موضعه الخاص3.

1 ص455 وما بعدها.

2 سبقت الإشارة "في هامش ص355 و452" إلى أن الأفضل إهمال الرأي الذي يدخل: "خلا وعدا وحاشا" في حروف الجر الشبيهة بالزائدة، لما فيه من تضييق وتعقيد لا داعي لهما، فاعتبارها حروف جر أصلية أيسر وأوضح.

3 انظر الكلام على: "رب" ص522 وما بعدها، وفي ص524 رأي آخر يجعل الحرف "رب" من حروف الجر التي تتعلق بعامل.

ص: 452

طريقة إعراب الاسم المجرور بحرف الجر الشبيه بالزائد:

حرف الجر الشبيه بالزائد يجر الاسم بعده لفظًا فقط، ويكون لهذا الاسم محل من الإعراب؛ فهو في هذا شبيه بالحرف الزائد كما أسلفنا ففي المثالين السابقين: تعرب "رب" حرف جر شبيه بالزائد، وكلمة:"غريب" أو: "صديق" مجرورة بها في محل رفع؛ لأنها مبتدأ، وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز الجر مراعاة للفظ المتبوع، وجاز ضبطه بحركة تناسب محله، ففي المثالين السابقين نقول: رب غريب شهم كان أنفع من قريب، رب صديق مهذب كان أوفى من شيق؛ بجر كلمتي:"شهم" و"مهذب" مراعاة للفظ المنعوت، أو رفعهما مراعاة لمحله.

مما سبق نعلم أن الشبيه بالزائد يشبه الأصلي في أمرين؛ هما: جر الاسم بعده، وإفادة الجملة معنى جديدًا مستقلًا؛ فلم يجئ ليتمم معنى عامله.

ويخالفه في أمرين؛ هما: عدم تعلقه هو ومجروره بعامل، وأن لمجروره محلًا من الإعراب فوق إعرابه اللفظي بالجر.

وأن الشبيه بالزائد يشارك الزائد في أمور ثلاثة: هي، جر الاسم لفظًا واستحقاق هذا الاسم للإعراب المحلي فوق إعرابه اللفظي بالجر، وعدم حاجة الجار مع مجروره إلى متعلق.

ويخالفه في أمر واحد؛ هو: إتيانه بمعنى جديد مستقل كما أسلفنا أما الزائد، فلا جديد في المعنى معه، وإنما يستخدم لتأكيد معنى الجملة كلها.

ص: 453

تلك هي الأنواع الثلاثة من حروف الجر، وتتلخص أوجه المشابهة والمخالفة بين هذه الأنواع الثلاثة فيما يأتي:

1 أما الذي زيادته غير محضة، فإيضاحه في رقم2 من هامش ص435، وكذلك في رقم10 من ص475 حيث الكلام على "لام الجر" الزائدة للتوكيد، أي: للتقوية.

ص: 454