الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة 74: المفعول المطلق
مدخل
…
المسألة 74: المفعول المطلق 1
معناه:
الفعل -بعد إدخاله في جملة- يدل على أمرين معًا؛ أحدهما: "المعنى المجرد"2، ويسمى:"الحدث"، والآخر:"الزمان"، ففي مثل: "رجع المجاهد؛ فأسرع الناس لاستقباله، وفرحوا بقدومه
…
نجد ثلاثة أفعال، هي: رجع - أسرع - فرح"، وكل فعل منها يدل بنفسه مباشرة؛ أي: من غير حاجة إلى كلمة أخرى، - على أمرين معًا.
أولهما: معنى محض نفهمه بالعقل؛ هو: الرجوع - الإسراع - الفرح
…
وهذا المعنى المجرد هو ما يسمى أيضًا: "الحدث".
وثانيهما: زمن وقع فيه ذلك المعنى المجرد "الحدث"، وانتهى قبل النطق بالفعل؛ فهو زمن قد فات، وانقضى قبل الكلام، وهذا الفعل يسمى:"الفعل الماضي".
ولو غيرنا صيغة الفعل؛ فقلنا: "يرجع المجاهد؛ فيسرع الناس لاستقباله، ويفرحون بقدومه" - لظل كل فعل بعد التغيير دالًا على الأمرين معًا؛ وهما: "المعنى المجرد، والزمن"، ولكن الزمن هنا صالح للحال والاستقبال، ويسمى الفعل في هذه الصورة الجديدة:"الفعل المضارع".
1 المطلق، أي: الذي ليس مقيدًا تقييد باقي المفاعيل بذكر شيء بعده، كحرف جر مع مجروره، أو غيره من القيود؛ كالمفعول به - المفعول لأجله - المفعول معه
…
ويقولون في سبب إطلاقه: إنه المفعول الحقيقي لفاعل الفعل؛ إذ لا يوجد من الفاعل إلا ذلك الحدث؛ نحو: قام المريض قيامًا؛ فالمريض قد أوجد القيام بنفسه، وأحدثه حقًا بعد أن لم يكن؛ بخلاف باقي المفعولات فإنه لم يوجدها، وإنما سميت باسمها باعتبار إلصاق الفعل بها، أو وقوعه لأجلها، أو معها، أو فيها؛ فلذلك لا تسمى مفعولًا إلا مقيدة بشيء بعدها.
هذا، وقد لازمته كلمة:"المطلق" حتى صارت قيدًا.
2 أي: العقلي المحض الذي لا يقع تحت إحدى الحواس؛ إذ لا كيان ولا وجود له إلا في العقل؛ فهو صورة عقلية بحتة؛ فلا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بغيره، ولا يدل على صاحبه الذي يقوم به، ولا على إفراد ولا تثنيه، ولا جمع، ولا تذكير، ولا تأنيث، هذا هو المراد من "التجريد البحت".
ولو غيرنا الصيغة مرة ثالثة فقلنا: "ارجع
…
أسرع
…
افرح
…
" – لدل الفعل في صورته الجديدة على الأمرين معًا؛ وهما: "المعنى المجرد، والزمن" لكن الزمن هنا مستقبل فقط، وينشأ ما يسمى: "فعل الأمر".
فالفعل المتصرف –بأنواعه الثلاثة السالفة– يدل على: "المعنى المجرد""الحديث"، والزمان1 معًا.
ولو أتينا بمصدر صريح 2 لتلك الأفعال – أو نظائرها – لوجدناه وحده يدل في جملته على أمر واحد معين، هو المعنى المجرد "أي: الحدث" فقط؛ كالمصدر وحده في مثل: الرجوع حسن – الإسراع نافع – الفرح كثير؛ فهو يدل على أحد الشيئين اللذين يدل عليهما معًا الفعل، ولا يدل على الثاني
…
وهذا معنى قولهم:
"المصدر الصريح3 يدل – في الغالب4 – على الحدث، ولا يدل على الزمان5.
والمصدر الصريح أصل المشتقات – في الرأي الشائع6 – ويصلح لأنواع الإعراب المختلفة؛ فيكون مبتدأ، وخبرًا، وفاعلًا، ومفعولًا به
…
و
…
و
1 وهذا هو الغالب؛ لأن هناك أفعالًا لا تدل – في الرأي الأرجح – على الزمان؛ كنعم وبئس في المدح والذم، وكالأفعال التي في التعريفات العلمية، وغيرها – مما أوضحناه وفصلناه – فيما يتعلق بمعنى الفعل، وأقسامه، والزمان، وغيره، بالجزء الأول م 4 ص 29.
2 أي: غير مؤول، وإذا أطلق المصدر كان المراد: الصريح.
3 لأن المؤول يدل على زمن معين، "على الوجه الذي بسطناه في مكانه من الجزء الأول، م 29 ص 302".
4 لأن المصدر الصريح قد يدل مع الحدث على: "المرة، أو الهيئة"، وإيضاح هذا وتفصيله في موضعه الخاص من بابهما "ج 3 م 100".
5 وإلى هذا أشار ابن مالك بقوله:
المصدر اسم ما سوى الزمان من
…
مدلولي الفعل، كأمن، من أمن-1
يقول في تعريف المصدر: إنه اسم يطلق على شيء غير الزمان من المدلولين اللذين يدل عليهما الفعل، ولما كان المدلولان هما:"الحدث، والزمان"، وقد صرح بأنه يدل على غير الزمان – اتجهت الدلالة بعد ذلك إلى المعنى المجرد وحده، ومثل للمصدر بكلمة:"أمن" وقال عنه: نه من الفعل الماضي: "أمن"، يريد بذلك: أن معنى هذا المصدر هو بعض مما يحويه الفعل "أمن" إذ الأمن يدل على المعنى المجرد الذي هو أحد شيئين يدل عليهما الفعل: أمن.
6 راجع هذا الرأي في ج 3 باب: "أبنية المصادر"، م 98 وفي م 99 باب:"إعمال المصدر، واسمه".
.. و
…
وقد يكون منصوبًا في جملته باعتباره مصدرًا صريحًا جاء لغرض معنوي خاص؛ كتأكيد معنى عامله المشارك له في المادة اللفظية، "أو غير هذا مما سيجيء هنا" مثل: حطم التمساح السفينة تحطيمًا، وفي هذه الحالة الخاصة وأشبهها يسمى:"مفعولًا مطلقًا"1، ويقال في إعرابه: إنه منصوب على المصدرية، أو: منصوب؛ لأنه مفعول مطلق.
وإذا كان منصوبًا على هذه الصورة الخاصة، فناصبه قد يكون مصدرًا آخر من لفظه ومعناه معًا، أو من معناه فقط، وقد يكون فعلًا2 من مادته ومعناه معًا، أو من معناه فقط، وقد يكون الناصب له وصفًا متصرفًا يعمل عمل فعله – إلا أفعل التفضيل؛ كقولهم:"إن الترفع عن الناس ترفعًا أساسه الغطرسة، يدفع بصاحبه إلى الشقاء دفعًا لا يستطيع منه خلاصًا"، وقولهم:"المخلص لنفسه إخلاص العقلاء يصدها عن الغي؛ فيسعد، والمعجب بهما إعجاب الحمقى يطلق لها العنان فيهلك"
…
3.
فالمصدر: "ترفعًا" – قد نصب بمصدر مثله؛ هو: ترفع.
والمصدر: "دفعًا" – قد نصب بالفعل المضارع قبله؛ وهو: يدفع.
والمصادر: "إخلاص
…
" قد نصب باسم الفاعل قبله؛ وهو: المخلص.
1 سيجيء تعريفه في رقم 1 من هامش ص 210.
2 بشرط أن يكون متصرفًا، وتامًا، وغير ملغي عن العمل، فخرج الفعل الجامد؛ كفعل التعجب، والناقص مثل: كان، والملغي، مثل "ظن" عند إلغائها بالطريقة السابقة – في ص 38.
3 وفي ناصب المصدر يقول ابن مالك:
بمثله: أو فعل، أو وصف نصب
…
وكونه أصلا لهذين انتخب-2
بين في هذا البيت حكم المصدر، وأنه قد ينصب بمصدر مثله، أو يفعل، أو يوصف، وانتخب كونه أصلًا للفعل والوصف؛ أي: وقع الاختيار والتفضيل على الرأي القائل بهذا، ثم بين أقسام المصدر بحسب فائدته المعنوية؛ فقال:
توكيدًا، أو نوعًا يبين، أو عدد
…
كسرت سيرتين؛ سير ذي رشد-3
أي: أن المصدر قد يفيد التوكيد، أو يبين النوع، أو يبين العدد، وساق مثالًا يجمع الأقسام الثلاثة؛ فإن:"سيرتين" هي لبيان العدد مع التوكيد أيضًا، و"سير ذي رشد" لبيان النوع مع التوكيد أيضًا، وترك القسم الرابع النائب عن عامله، وسيجيء في ص 219.
والمصدر: "إعجاب" – قد نصب باسم المفعول قبله؛ هو: المعجب.
وكقولهم: الفرح فرحًا مسرفًا، كالحزين حزنًا مفرطًا؛ كلاهما مسيء لنفسه، بعيد عن الحكمة والسداد.
فالمصدر: "فرحًا" – منصوب بالصفة المشبهة قبله وهي: "الفرح".
وكذلك المصدر: "حزنًا" – فإنه منصوب بالصفة المشبهة قبله، وهي:"الحزين"1.
تقسيم المصدر بحسب فائدته المعنوية:
أ- قد يكون الغرض من المصدر المنصوب أمرًا واحدًا؛ هو: أن يؤكد – توكيدًا لفظيًا – معنى عامله المذكور قبله2، ويقويه، ويقرره؛ "أي: يبعد عنه الشك واحتمال المجاز"، ويتحقق هذا الغرض بالمصدر المنصوب المبهم3، نحو: بلع الحوت الرجل بلعا – طارت السمكة في الجو طيرانًا.
ب– وقد يكون الغرض من المصدر المنصوب أمرين معًا – فهما متلازمان: توكيد معنى عاملة المذكور، وبيان نوعه4، ويكون بيان النوع هو
1 والصفة المشبهة تنصب المصدر في الرأي الأنسب: لأن فيه تيسيرًا – كما سيجيء في بابها ج 3 م 105.
"ملاحظة": قد يكون العامل في المنادى هو العامل في نصب المصدر، ومن الأمثلة قول الشاعر:
يا هند دعوة صب هائم دنف
…
مني بوصل، وإلا مات أو كربا
"راجع الهمع ج 1 ص 173، وستجيء لهذا إشارة في ج 4 باب النداء، م 127 ص 6".
2 في ص 211و 212 الكلام على تقدم عامله عليه.
3 و4 المصدر المبهم هو الذي يقتصر على معناه المجرد دون أن تجيء له زيادة معنوية من ناحية أخرى؛ كإضافة أو وصف، أو عدد، أو "أل" التي للعهد.
والمصدر المختص: ما يؤدي معناه المجرد مع زيادة أخرى تجيء لمعناه من خارج لفظه؛ كالتي تجيء له بسبب إضافته، أو وصفه، أو "أل العهدية" في أوله، أو
…
وفي هذا يقول الخضري في المبين للنوع ما نصه:
"يقع مبينًا للنوع لكونه مضافًا، أو موصوفًا؛ كما مثله الناظم بقوله: سرت سيرتين سير ذي رشد – أو محلي، بأل العهدية؛ كسرت السير، أي: المعهود بينك وبين مخاطبك، فهو ثلاثة أقسام، ويسمى: "المختص" أيضًا؛ لاختصاصه بما ذكر، والتحقيق أن المعدود مختص أيضًا لتحديده بالعدد المخصوص؛ لذا جعل في التسهيل المفعول المطلق قسمين، "مبهم" وهو المؤكد، =
الأهم1؛ نحو: نظرت للعالم نظر الإعجاب والتقدير، وأثنيت عليه ثناء مستطابًا. وقوله تعالى:{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} ، وليس من الممكن بيان النوع2 وحده من غير توكيده لمعنى العامل.
جـ– وقد يكون الغرض منه أمرين متلازمين أيضًا؛ هما: توكيد معنى عامله
= "ومختص"، وهو قسمان: معدود، ونوعي
…
ثم قال ما نصه: إن النوعي إن كان مضافًا كان من باب النيابة على التحقيق – طبقًا للبيان الذي في رقم 2 من هامش هذه الصفحة – وأما "ذو أل"، فالظاهر أنه قد يكون كذلك؛ كما إذا قصدت تشبيه سيرك الآن يسير سابق معهود للمخاطب سواء أكان منك أو من غيرك، وقد يكون أصليًا؛ كأن قصدت الإخبار عن ذلك السير المعهود الذي وقع منك بعينه استحضارًا لصورته. ا. هـ كلام الخضري.
والبلاغة تقتضي أن يكون استعمال المصدر المبهم مقصورًا على الحالة التي يكون فيها معنى عامله موضع غرابة أو شك؛ فيزيل المصدر المبهم تلك الغرابة، وهذا الشك؛ كالأمثلة التي عرضناها، فليس من البلاغة أن يقال: قعدت قعودا - أكلت أكلا
…
وأشباه هذا، ما دام الفعل:"قعد" أو": "أكل"، ليس موضع غرابة أو شك، نعم التعبير صحيح لغويًا، ولكنه ركيك بلاغيًا، أما مثل: طارت السمكة طيرانًا، فالبلاغة ترضي عن مجيء المصدر المبهم؛ لغرابة معنى عامله، وتشكك السامع في صحته
…
وهكذا.
وتوكيد المصدر لعامله هو من نوع التوكيد اللفظي – الذي سيجيء في الجزء الثالث م 116 ص 434 –، فيؤكد نفس عامله إن كان مصدرًا مثله، ويؤكد صدر عامله الذي ليس بمصدر ليتحد المؤكد والمؤكد معًا في نوع الصيغة؛ "تطبيقًا لشرط التوكيد اللفظي، ومنه التوكيد بالمصدر الذي نحن فيه"، فمعنى قولك: عبرت النهر عبرًا – أوجدت عبرًا عبرًا، وهذا رأي المحققين، ولكن سيترتب على الأخذ برأيهم حذف المؤكد في التوكيد اللفظي، وهذا الحذف – عند أكثرهم – ينافي الغرض من التوكيد اللفظي، وفوق هذا عامله الحقيقي محذوف أيضًا؛ ففي الكلام حذف كثير.
هل يجاب بأن المؤكد مع حذفه ملاحظة يدل عليه اللفظ المذكور الذي يشاركه في الاشتقاق، وهو:"عبرت" فهو محذوف كالمذكور؟
1 يدخل في هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة على الهيئة، "وسيجيء الكلام عليه في ج 3 م 100".
2 يقولون بحق: إن المصدر النوعي كان مضافًا فالأصح اعتباره نائب مصدر؛ لاستحالة أن يفعل الإنسان فعل غيره؛ وإنما يفعل فعله الصادر منه؛ فالأصل في مثل: سرت سير ذي رشد؛ هو: سرت سيرًا مثل سير ذي رشد؛ فحذف المصدر، ثم صفته، وأنيب المضاف إليه منابه، ولولا ذلك لكان المعنى: أن سير ذي الرشد قد سرته هو نفسه؛ وهذا فاسد، إذ كيف أسير السير المنسوب لذي الرشد؟ كيف يكون ذو الرشد هو الذي ساره وأوجده في حين أقول: أنا الذي سرته وأوجدته؟ ففي الكلام تناقض وفساد لا يزيلهما إلا اعتبار النوعي المضاف نائب مصدر، وهذا كلام دقيق، ويتجه إليه غرض المعربين، وإن لم يتقيدوا به في إعرابهم الشائع المقبول أيضًا؛ تيسيرًا وتخفيفًا، "راجع رقم 1 هامش ص 216".
المذكور مع بيان1 عدده، ويكون الثاني هو الأهم، ولا يتحقق الثاني وحده بغير توكيده معنى العامل؛ نحو: قرأت الكتاب قراءتين وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات.
د– وقد يكون الغرض منه الأمور الثلاثة مجتمعة2؛ نحو: قرأت الكتاب قراءتين نافعتين – وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات طويلات.
ولا بد من اعتبار المصدر مختصًا في هذه الحالات الثلاث الأخيرة: "ب – ج – د"؛ لأن المصدر المبهم مقصور على التوكيد المحض؛ لا يزيد عليه شيئًا، فإذا دل مع التوكيد على بيان النوع، أو بيان العدد، أو عليهما معًا – وجب اعتباره مصدرًا مختصًا3.
ومما تقدم نعلم أن فائدة المصدر المعنوية قد تقتصر على التوكيد وحده، ولكنها لا تقتصر على بيان النوع وحده، ولا بيان العدد وحده، ولا على هذين الآخيرين معًا؛ إذ لا بد من إفادة التوكيد في كل حالة من هذه الحالات الثلاث، ومن ثم قسم بعض النحاة المصدر قسمين؛ "مبهمًا"؛ ويراد به: المؤكد لمعنى عامله المذكور، و"مختصًا"؛ ويراد به المؤكد أيضًا مع زيادة بيان النوع، أو زيادة بيان العدد، أو بيانهما معًا.
وقسمه بعض آخر ثلاثة أقسام؛ هي: المؤكد لعامله المذكور، والمؤكد المبين لنوعه، والمؤكد المبين لعدده، وسكت عن المؤكد المبين للنوع والعدد معًا؛ لأنه مركب من الأخيرين؛ فهو مفهوم ومقبول بداهة، ونتيجة التقسيم واحدة4.
1 ويدخل في هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة على المرة، وهو – في الغالب – لا يعمل، كسائر المصادر العددية.
"وسنشير لهذا في رقم 4 من هامش ص 211، وكما في ص 212، أما تفصيل الكلام عليه، ففي بابه الخاص من ج 3 م 100".
2 هي: توكيد المعنى، وبيان النوع، وبيان العدد.
3 انظر رقم 3 من هامش ص 207 – حيث البيان.
4 وهناك قسم آخر – سيجيء في ص 220 – هو المصدر النائب عن عامله المحذوف، وهو مستقل بنفسه في رأي حسن؛ ولذا يقول المحققون: إن أقسام المصدر أربع، والأخذ بهذا الرأي أنفع؛ لأنه يذلل صعوبات لا يمكن تذليلها إلا بالتأويل والتقدير والتكلف من غير داع، ومن أمثلة هذا: أن المصدر المؤكد لعامله لا يجوز في الغالب حذف عامله – كما سيجيء في ص 211 و 219 وفي رقم 2 من هامش ص 220 – ولا أن يعمل، مع أن هناك أنواعًا من المصادر قد تؤكد عاملها، وتعمل عمله مع وجوب حذفه؛ كالمصدر النائب عن عامله المحذوف؛ فهذا تناقض يمنعه أن يكون هذا قسمًا مستقلًا.
أمثلة لما سبق:
أمثلة للتوكيد وحده: كلم الله موسى تكليمًا – غزا العلم الكواكب غزوًا – نزل الطيارون فوق سطح القمر نزولًا، ومشوا عليه مشيًا، صافح الفيل صاحبه مصافحة.
أمثلة للتوكيد مع بيان النوع: ترنم المغني ترنم البلبل – رسم الخبير رسمًا بديعًا – أجاد المطرب إجادة الموسيقى.
أمثلة للتوكيد مع بيان العدد: قرأت رسالة الأديب قراءة واحدة، وقرأها أخي قراءتين، وقرأها غيرنا ثلاث قراءات.
أمثلة للتوكيد مع بيان الأمرين: ترنمت ترنيمي البلبل والمغني الساحرين – رحلت لبلاد الشام ثلاث رحلات جميلات.
العلاقة بين المصدر والمفعول المطلق:
النحاة يسمون المصدر المنصوب الدال بنفسه على قسم مما سبق: "المفعول المطلق"1.
فالمفعول المطلق تسمية يراد منها: المصدر المنصوب المبهم، أو المختص"، وقد يراد منها: "النائب عن ذلك المصدر"، فهي تسمية صالحة لكل واحد منهما، تنطبق عليه، كما سنعرف2.
1 يقول ابن هشام في تعريف المفعول المطلق: "إنه اسم يؤكد عامله، أو يبين نوعه، أو عدده، وليس خبرًا عن مبتدأ "كقولنا: علمك علم نافع" ولا حالًا "نحو: ولى مدبرًا". ا. هـ.
لا داعي لقوله: "ليس خبرًا عن مبتدأ"؛ لأن هذا الخبر مرفوع وعمدة، كما أن خبر النواسخ عمدة، ولا لقوله:"ليس حالًا"؛ لأن الحال مشتق – في الغالب – أمال المفعول المطلق فليس مرفوعًا ولا عمدة، وليس بمشتق في الغالب هذا، والحال في المثال مؤكدة لعاملها.
2 سنعلم مما سيجيء في ص 213 أن هناك أشياء تنوب عن المصدر الأصيل عند حذفه؛ فتعرب مفعولًا مطلقًا، أو نائب مصدر، ولا تعرب مصدرًا، وعلى هذا قد يكون المصدر مفعولًا مطلقًا كالأمثلة السابقة، وقد يكون المصدر غير المفعول المطلق؛ وذلك إذا كان المصدر مرفوعًا، أو مجرورًا أو كان منصوبًا لا يبين توكيدًا، ولا نوعًا، ولا عددًا، نحو: القتل أشنع الجرائم، والفتنة أشد من القتل، إن القتل أشنع الجرائم، وقد يكون المفعول المطلق غير مصدر؛ كالأشياء التي أشرنا إليها؛ وهي التي تنوب عن المصدر عند حذفه، فالمصدر والمفعول المطلق يجتمعان معًا في بضع الحالات فقط، وينفرد كل منهما بحالات لا يوجد فيها الآخر.
"وهذا يسمى عند المناطقة، بالعموم الوجهي بين شيئين؛ فيجتمعان معًا في جهة معينة، وينفرد كل منهما في جهة أخرى تجعله أعم، وأشمل، وأكثر أفرادًا من نظيره
…
".
حكم المصدر 1:
1– إذا كان المصدر مؤكدًا لعامله المذكور في الجملة تأكيدًا محضًا2، فإنه لا يرفع فاعلًا3، ولا ينصب مفعولًا به – إلا إن كان مؤكدًا نائبا عن فعله المحذوف4.
كما لا يجوز –في الرأي الشائع– تثنيته، ولا جمعه، ما دام المراد منه في كل حالة هو المعنى المجرد، دون تقييده بشيء يزيد عليه، "أي: ما دام المصدر مبهمًا"؛ فلا يقال: صفحت عن المخطئ صفحين، ولا وعدتك وعودًا، إلا إن كان المصدر المبهم مختومًا بالتاء؛ مثل التلاوة؛ فيقال: التلاوتان، والتلاوات.
وسبب امتناع التثنية والجمع أن المصدر المؤكد به معنى الجنس5 لا الأفراد؛ فهو يدل بنفسه على القليل والكثير، فيستغنى بهذه الدلالة عن الدلالة العددية في المفرد، والتثنية، والجمع؛ لأن دلالته تتضمنها: ومثل المصدر المؤكد ما ينوب عنه.
ولا يجوز أيضًا –في الغالب– حذف عامل المصدر المؤكد ولا تأخيره؛ عن معموله المصدر؛ لأن المصدر جاء لتقوية معنى عامله، وتقريره بإزالة الشك عنه، وإثبات أنه معنى حقيقي، لا مجازي، والحذف مناف للتقوية والتقرير، كما أن التأخير ينافي الاهتمام6، لكن هناك مواضع بحذف فيها عامل المصدر المؤكد وجوبًا بشرط إنابة المصدر عنه، وستجيء 7.
1 أفرد النحاة لإعمال المصدر بابًا خاصًا بهذا العنوان، يشمل شروط إعماله، مختلف أحكامه، "وسيجيء في ج 3 ص 201 م 99".
2 أي: مجردًا من كل زيادة أخرى تنضم إلى التوكيد؛ كالزيادة الدالة على النوع أو على العدد، أو عليهما.
3 لأنه نوع من التوكيد اللفظي – كما أشرنا في رقم 3 من هامش ص 207 – والتوكيد اللفظي لا يكون عاملًا ولا معمولًا، إلا فيما نص عليه البيان المدون هنا، وفي بابه الخاص "ج3".
4 هذه الحالة الفريدة التي يعمل فيها المصدر المؤكد عمل فعله، وستجيء مواضع نيابته عنه في ص 221 م 76، أما المبين – بنوعيه – فلا يعمل في الغالب، كما سنذكره.
5 المراد: الجنس الإفرادي، وهو ما يصدق على القليل والكثير، مثل: ماء – هواء – ضوء "راجع ج 1 ص 15 م 1".
6 هذا تعليل النحاة، أما التعليل الأنسب فهو "المحاكاة" للوارد عن فصحاء العرب.
7 في ص 221 م 76.
2-
أما المصدر المبين للنوع – إذا اختلفت أنواعه – أو المبين للعدد، فيجوز تثنيتهما وجمعهما جمعًا مناسبًا1 وتقدمهما على العامل، وهما في حالة الإفراد أو التثنية أو الجمع، ولا يعملان شيئًا – في الغالب 2؛ فليس لهما فاعل ولا مفعول
…
؛ فمثال تثنية الأول وجمعه: سلكت مع الناس سلوكي العاقل؛ الشدة حينًا، والملاينة حينًا آخر – سرت سير الخلفاء الراشدين؛ أي: سلكت مع الناس نوعين من السلوك، وسرت معهم أنواعًا من السير، "وليس المراد ببيان عدد مرات السلوك، وأنه كان مرتين، ولا بيان مرات السير، وأنه كان متعددًا3، وإنما المراد بيان اختلاف الأنواع في كل حالة، بغير نظر للعدد3.
ومثال الثاني: خطرت في الحديقة عشر خطوات، ودرت في جوانبها أربع دورات4.
1 المراد بالجمع المناسب هنا: ما تحققت شروط صحته؛ ذلك أن الجمع ثلاثة أنواع؛ "جمع مذكر – جمع مؤنث سالم – جمع تكسير"، ولكل جمع من الثلاثة شروط خاصة به، لا بد من تحققها في مفرده قبل جمعه قياسيًا، وتلك الشروط تختلف باختلاف المفرد لكل نوع.
2 وقد يعمل المبين للنوع أحيانًا، كأن يكون مضافًا لفاعله، ناصبًا مفعوله أو غير ناصب؛ تألمت من إيذاء القوي الضعيف – حزنت حزن المريض، وهذا العمل – على قلته – قياسي، "كما سيجيء لبيان في ج 3 م 99".
3و 3 لأن دلالة المصدر على العدد هي من اختصاص القسم التالي العددي، وليست من القسم النوعي.
4 وإلى هذا يشير ابن مالك ببيت ذكره متأخرًا عن هذا المكان المناسب له – وسيجيء في هامش ص 218:
وما لتوكيد فوحد أبدًا
…
وثن، واجمع غيره، وأفردا
أي: أن المصدر الدال على التوكيد يجب توحديه؛ أي: إفراده فلا يترك الإفراد إلى التثنية أو إلى الجمع، أما غيره فثنه إن شئت، أو اجمعه جمعًا مناسبًا، أو أفرده، أي: اجعله مفردًا، وقد أوضحنا في الصحة الآتية أن النائب عن المصدر المؤكد، أو: المبين، يجري على حكمه.