الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة 61:
ب- الأحكام الأربعة الخاصة بالأفعال القلبية المتصرفة (1) .
عرفنا (2) أن الأفعال القلبية متصرفة، إلا فعلين؛ هما:"تعَلَّمْ"(3) بمعنى "اعلَمْ"، و"هَبْ" بمعنى:"ظُنَّ"؛ نحو: تعلمْ داءَ الصمت خيراً من داء الكلام. وهبْ كلامَك محموداً؛ فتَخَيرْ له أنسب الأوقات.
والفعل القلبيُّ المتَصرف قد يكون له الماضي، والمضارع، والأمر، والمصدر واسم الفاعل، واسم المفعول، وبقية المشتقات المعروفة، لكن الناسخ الذي يعمل في هذا الباب هو الماضي وما جاء بعده مما صرّحْناه باسمه هنا، دون بقية المشتقات المعروفة (4) التي اكتفينا بالإشارة الموجزة إليها، ولم نصرح بأسمائها. وبديهٌ أن النواسخ المتصرفة التي سردنا أسماءها - متساوية في العمل؛ لا فرق بين ماض وغيره، ولا بين فعل واسم مما سردناه (5) . أما الناسخ الجامد فيعمل وهو على صورته
(1) هذا البحث هو الذي سبقت الإشارة إليه في ص24 عند بيان ما تنفرد به الأفعال القلبية من خمسة أمور سبق منها واحد -في ص24- قبل هذه الأربعة الآتية.
(2)
في رقم 1 من هامش ص4 وفي رقم 6 من هامشي ص6، 8.
(3)
على الرأي ال قائل بأنه جامد. وهو الرأي الشائع الذي يحسن الاقتصار عليه (كما سبق في رقم 6 من هامش ص6 ورقم 1 من هامش ص19) . أما على الرأي القائل بأنه متصرف فيجري عليه ما يجري على الأفعال القلبية المتصرفة.
(4)
أوضحنا -في رقم 1 و2 من هامش ص4- معنى المتصرف وقسميه، وبيان المشتقات المختلفة، والعامل منها وغير العامل، وما العامل، وما يعمل في غير هذا الباب ولكنه لا يصلح للعمل هنا، وأسباب ذلك
…
(5)
ومن الأمثلة، الفعل:"علم"، وما يتصرف له؛ نحو: علم العاقل الحياةَ جهاداً -يعلم العاقل الحياةَ جهاداً- اعلمْ الحياةَ جهاداً، فمارسه - عِلْم العاقل الحياةَ جهاداً دافع له إلى الصبر والدأب- العاقل عالمُ الحياة جهاداً- أمعلوم الحياةُ جهاداً. (الحياة: هي المفعول الأول؛ لكنه صار نائب فاعل لاسم المفعول من نائب فاعل حتما. لا فاعل) .
اسما ظاهراً، أو ضميراً. غير أن الضمير لا بد أن يكون للغائب دائماً، ولهذا قالوا في مثل: أنا صائم.. ومثل أنا مخلص..، إن فاعل اسم الفاعل ضمير مستر تقديره:"هو". على تأويل: أنا رجل صائم
…
=
القائمة، لا يفارقها، ولا يَدْخُل عليها تغيير.
وتختص الأفعال القلبية المتصرفة، هي وما تتصرف له مما ذكرنا اسمع صريحاً بأحكام تنفرد بها؛ فلا يدخل -في الأغلب- حكم منها على المشتقات القلبية التي لا تعمل هنا (1) ، ولا على الأفعال القلبية الجامدة، ولا على أفعال التحويل وما يتصرف منها. وأشهر تلك الأحكام أربعة (2) .
الحكم الأول -التعليق:
ومعناه: "منع الناسخ من العمل الظاهر في لفظ المفعولين معاً، أو لفظ أحدهما، دون منعه من العمل في المحلّ"(3) . فهو في الظاهر ليس عاملاً النصب، ولكنه في التقدير عامل. وهذا ما يعبر عنه النحاة بأنه:
"إبطال العمل لفظاً، لا محلاً". سواء أكان أثر الإبطال واقعاً على المفعولين معاً، أم على أحدهما.
هذا المنع والإبطال واجب إلا في صورة واحدة (4) . وسببه أمر واحد، هو: وجود لفظ له الصدارة (5) يَلِي الناسخ؛ فيفصل بينه وبين المفعولين معاً،
=أنا رجل مخلص
…
فالضمير المستتر تقديره: "هو" للغائب، وعائد على محذوف؛ ليكون عائداً على الغائب؛ إذ لا يصح أن يعود إلا عليه. فمن الخطأ إرجاعه إلى متكلم أو مخاطب.
(راجع الخضري ج1 "باب ظن" عند الكلام على بيت ابن مالك: "وخص بالتعليق والإلغاء
…
".
- وستجيء الإشارة لهذا في باب اسم الفاعل ج3 ص191 م102 كما سبق البيان في ج1 م19 ص243 من الطبعة الثالثة، عند الكلام على اختلاف نوع الضمير مع مرجعه) .
والظاهر أن هذا الحكم ليس مقصوراً على اسم الفاعل وحده، بل يشاركه فيه كل مشتق يتحمل ضميراً مستتراً؛ فيجب أن يكون الضمير المستتر للغائب، ويعود على غائب دائماً.
(1)
وهي المشتقات التي لم نصرح فيما سبق باسمها. إلا التعليق بالاستفهام فإنه عام شامل، وسيجيء الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص32 أما البيان المفصل ففي 36.
(2)
وهي غير الحكم المشترك: "ا" الذي يدخل النواسخ القلبية المتصرفة والجامدة، وغيرها.
وقد سبق بيانه في ص24.
(3)
تفصيل الكلام على الإعراب المحلي في ج1 م6 في الزيادة والتفصيل التي في آخر: "المعرب والمبني" -كما أشرنا-
(4)
جائزة، وتجيء في رقم 4 من هامش ص30.
(5)
تردد هذا في المراجع النحوية المختلفة ومنها: حاشية الصبان على الأشموني، في هذا الموضع=
أو أحدهما، ويَحُول بينه وبين العمل الظاهر، ويسمى هذا اللفظ الفاصل:"بالمانع" ويقع بعده جملة (1) -في الغالب-؛ ففي مثل: علمت البلاغة إيجازاً، ورأيت الإطالة عجزاً. نجد:"عَلِم" قد نصب مفعولين مباشرة. وكذلك الفعل؛ "رأى" -لم يَنصب كل من الفعلين شيئاً في الظاهر، بسبب وجود "لام الابتداء" التي فصلت بين كل فعل ناسخ ومفعوليه- وهي من ألفاظ التعليق، أي: من الموانع -، ولكن هذا الفعل يَنْصِب المحلّ؛ فنقول عند الإعراب:"البلاغة": مبتدأ- "إيجازٌ": خبره. والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب؛ سدّت مَسدّ مفعولي "عَلم"(وهذه الجملة هي التي تَلِي -في الغالب- اللفظ المانع من العمل) .
وكذلك نقول: "الإطالةُ": مبتدأ -"عجزٌ": خبره. والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب؛ سدّت مسد مفعولَيْ: "رأى". فقد وقع التعليق بسبب وجود المانع من العمل، ووقع بعد المانع جملة محلها النصب؛ لتسدّ مسد المفعولين.
أما في مثل: علمت البلاغةَ لَهِي الإيجازُ، ورأيت الإطالةَ لَهِيَ العجزُ، فاللفظ المانع من العمل -وهو لام الابتداء- قد وقع في المثالين بعد المفعول به الأول، ووقع بعد المانع جملة سدت مَسَدّ المفعول به الثاني الذي لا يظهر في الكلام، وحلَّت محله وحده. فعند الإعراب يَحْتَفظ المفعول به الأول باسمه وبإعرابه؛ (مفعولاً به أول، منصوباً)(2) . وتعرب الجملة التي بعد المانع إعرابها التفصيلي، ويزاد عليه:"أنها في محل نصب؛ سدّت مسد المفعول به الثانين (3) الذي وقع عليه التعليق".
=من الباب حيث يتكلم على أدوات "التعليق"، ومنها:"كم" بنوعيها؛ فقال ما نصه: ("كل ما له الصدر يُعلق") اهـ.
(1)
إلا إن كان المانع هو أحد المفعولين بحسب أصله: نحو؛ علمت من أنت، أو وقع المصدر المؤول ساداً مسد المفعولين، أو ثانيهما وحده.
(2)
ستجيء حالة يجوز فيها رفعه -في رقم4 من هامش ص30-.
(3)
إذا سدت جملة مسد المفعول الثاني -أو مسد غيره مما يكون مفرداً لا جملة- فهي مفرد في=
نعلم مما تقدم أن أثر التعليق في منع العمل لفظي ظاهريّ فقط، لا حقيقيّ، محليّ، وأن سببه الوحيد وجود فاصل لفظي له الصدارة، يسمى:"المانع"؛ يفصل بين الناسخ ومفعوليه معاً، أو أحدهما (1) ، وبعد "المانع" جملة (2) تسدّ مسدّ المفعولين معاً، أو أحدهما على حسب التركيب
…
ولما كان أثر التعليق مقصوراً على ظاهر الألفاظ دون محلها كان اختفاء النصب عن المفعولين معاً أو أحدهما، هو اختلفا شكليّ محض؛ لا حقيقيّ محليّ -كما قدمنا- ولهذا يصح في التوابع (كالعطف
…
) مراعاة الناحية الشكلية الظاهرة، أو مراعاة الناحية المحلية؛ فنقول: علمت لَلبلاغةُ إيجازٌ والفصاحةُ اختصارٌ- ورأيت لَلإطالةُ عجزٌ والحشوُ عيبٌ؛ برفع المعطوف، تبعاً للفظ المعطوف عليه، وحركته الظاهرة (3) . أو نقول: علمت لَلبلاغة إيجازٌ، والفصاحةَ اختصاراً -ورأيت لَلإطالةُ عجزٌ والحشوَ عيباً؛ بنصب المعطوف؛ تبعاً للحكم المحليّ في المعطوف عليه. فمراعاة إحدى الناحيتين جائزة (3) .
أما سبب التعليق في هذه الأمثلة وأشباهها، فيرتكز في الأمر الواحد الذي
=المعنى؛ ففي مثل: أظن محمداً أبوه قائم، تعرف الجملة -"أبوه قائم"- مبتدأ وخبر، في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني؛ فهي مفرد في المعنى؛ لأن المعنى: أظن محمداً قائم الأب. وقد نص النحاة على هذا، وتضمنته كتبهم، = (ومنها: الصبان في الجزء الأول عند الكلام على علامات الأسماء، وأوضحنا هذا وبسطنا الكلام على الإعراب المحلي في الموضع الذي أشرنا إليه في رقم 1 من هامش ص25) .
(1)
فلابد من تقدم الناسخ على "المانع"، ولابد من تقدم "المانع" على المفعولين معاً، أو على الثاني فقط؛ إذ ليس من اللازم -كما كان عرفنا- أن يقع أثر التعليق. على المفعولين معاً، فقد يقع على الثاني وحده، ويبقى الأول منصوباً كما قبل التعليق. أما وقعه على الأول دون الثاني فغير ممكن؛ لأن أداة التعليق التي تفصل بين الناسخ ومفعوله الأول ستكون فاصلة كذلك بين الناسخ ومفعوله الثاني في الوقت نفسه.
(2)
إلا في الحالة التي سبق استثناؤها في رقم 4 من هامش ص27. وتجيء في رقم 4 ص30..
(3)
يجب عند العطف بالنصب على محل الجملة التي عُلق عنها الناسخ -أن يكون المعطوف إما جملة اسمية في الأصل؛ كالأمثلة السابقة؛ فيعطف كل جزء من جزأيها على ما يقابله، في الجملة المتبوعة.
وإما مفرداً فيه معنى الجملة؛ نحو: علمت لمحمودٌ "أديبٌ" و"غيرَ" ذلك من أموره. فلا يصح: علمت ولمحمودٌ أديب" وحامداً، ولا: علمت لمحمود "أديبٌ" وشاعراً -إلا على تأويل وتقدير محذوف في كل صورة، أما كلمة "غير" في المثال السالف فإنها منصوبة جوازاً؛ لأنها بمنزلة الجملة كما قلنا-. فهي معطوفة بالنصب على محل الجملة الاسمية التي هي المعطوف عليها؛ فلفظ "غير" -وهو مفرد- قد=
ذكارناه، وهو: وجود فاصل لفظيّ بعد الناسخ؛ يفصل بينه وبين مفعوليه أو أحدهما، بشرط أن يكون هذا الفاصل اللفظي من الألفاظ التي لها الصدارة (1) في جملتها، مثل: لام الابتداء، وأدوات الاستفهام (2)، وغيرها من كل ما له الصدارة في جملته (3) . وبعبارة أخرى:
(يحدُث التعليق بكل لفظ له الصدارة إذا فصل بين الناسخ ومفعوليه معاً، أو توسط بين المفعولين) .
وإليك مثالاً آخر للمانع يفصل بين الناسخ ومفعوليه معاً، أو يَفصل بين الناسخ ومفعوليه الثاني فقط:
أعلَمُ، أمحمودٌ حاضرٌ أم غائبٌ؟ أعلَمُ محموداً، أحاضر هو أم غائب؟
فمتى وقع بعد الناسخ مانع بإحدى الصورتين السالفتين مَنع العمل الظاهر حتماً، دون العمل التقديريّ (المحليّ) كما رأينا، وأوجب التعليق (4) .
وأشهر الموانع الألفاظ الآتية التي لها الصدارة، وكل واحد منها يوجب (4) التعليق:
=ساغ عطفه على محل الجملة؛ لأنه بمعناها؛ إذ معناه: علمت لمحمودٌ "أديبٌ" ومحموداً غيرَ ذلك، أي متصفاً بغير ذلك. (أي: علمت محموداً متصفاً بغير ذلك) .
- راجع ج3 ص478 م121 باب العطف. وعطف المفرد على الجملة، والعكس-.
(1)
تقدم الناسخ على "المانع" واجب. وهو مع تقدمه لا يعمل النصب في "المانع"، ولا فيما بعده، إذ لو عمل فيه أو فيما بعده النصب لفقد المانع صدارته في جملته، وصار حشواً لا يصلح سبباً للتعليق؛ ووقوعه حشواً مع بقاء أثره غير جائز.
(2)
انظر ما يختص بالاستفهام في ص36.
(3)
انظر رقم 5 من هامش ص27.
(4 و4) إلا في حالة يكون فيها جائزاً، وستجيء هنا. وعند إعراب المثال الأول الوارد هنا نقول:"محمود حاضر"، مبتدأ وخبر. وجملتها في محل نصب سدت مسد مفعولي:"أعلم". وفي المثال الثاني نقول: "محموداً"، مفعول أول. "حاضر": خبر مقدم، "هو": مبتدأ مؤخر، والجملة منهما في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني وحده. ومن المثالين يتضح أن الجملة الواقعة بعد "المانع" وجوباً قد تسد مسد المفعولين معاً أو مسد الثاني عند وجود الأول منصوباً لفظاً.
أما الحالة التي يكون فيها التعليق جائزاً -لا واجباً- فحين تكون أداة التعليق مسلطة على الثاني وحده (كأن يكون المفعول الثاني قد صدر -في الغالب- بكلمة استفهام، أو مضافاً إليها وقد سبقها المفعول الأول، في الصورتين؛ نحو: علمت الأديب من هو؟ وظننت الشاعر أخو من هو؟) ففي هاتين الصورتين يجوز نصب الكلمة السابقة التي هي المقعول الأول؟ لأن الناسخ سلط عليها من غير مانع، =
(أ) لام الاربتداء، كالأمثلة السالفة.
(ب) لام القسم: نحو: علمت لَيُحَاسَبَنَّ (1) المرء على عمله.
(ج) حرف من حروف النفي الثلاثة (2) : (ما - إنْ - لا) دون غيرها من
=ويجوز رفعها؛ لأنها هي وما بعدها الاستفهام شيء واحد في المعنى؛ فكأنها واقعة بعد الاستفهام فلا يؤثر فيها الناسخ. فالتعليق جائز هنا.
(1)
يقولون في مثل هذا: إن اللام داخلة على جواب القسم المقدر. وأصل الجملة: "علمت - أقسم والله - ليحاسبن المرء على عمله". فجواب القسم -وهو جملة: "يحاسبن المرء"- مع جملة القسم المقدرة وهي: (أقسم×) في محل نصب سدّاً معاً مسد المفعولين. أي: أن مجموع الجملتين هو الذي سد مسد المفعولين، وأنه في محل نصب. وما يترتب على هذا الإعراب من عدم وقوع أداة التعليق في صدر جملتها يدفعونه بأن وقوعها في الصدارة ليس واجباً مطرداً؛ وإنما هو الغالب. وبفرض أنه واجب حتماً فالمقصود بالقسم وجملته هو تأكيد جملة جوابه؛ فهما معاً كالشيء الواحد؛ فإذا تقدمت أداة التعليق على جواب القسم وحده فكأنها في الوقت نفسه قد تقدمت على جملة القسم واحتلت مكان الصدارة اللازم لها؛ فلا تعتبر متخلية عنه. فوجودها في صدر الثانية يعد بمنزلة التصدر في الأولى.
لكن سيترتب على قولهم هذا محظور آخر؛ هو: وقوع جملة جواب القسم في محل نصب، والشائع أنها لا محل لها من الإعراب. وقد أجابوا: بأنها لا محل لها باعتبارها: "جواب قسم"- ولا مانع أن يكون لها محل باعتبار آخر؛ هو: "التعليق" ومعنى هذا أن جملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب إذا لم يوجد عامل يحتاج إليها حتماً؛ فإنوجد عامل يحتاج إليها حتماً كانت معمولة له.
وقيل إن "العلم" في المثال السالف منصب على مضمون جملة الجواب فقط، بدون نظر إلى أنها جواب قسم؛ فجملة الجواب وحدها على هذا الاعتبار في محل نصب سدت مسد المفعولين. (راجع الصبان ج2 عند الكلام على أدوات التعليق) .
وفي هذا الرأي راحة وتيسير؛ لأنه واقعي؛ لا يلتفت إلى الجملة القسمية المستترة، ولا يتناسى أن جواب القسم هنا ليس مجلوباً للقسم: وإنما الغرض الأساسي الأول هو إيفاء الناسخ ما يريده، ولا ضرر في أن يستفيد القسم منه بعد ذلك.
(وسيجيء الكلام على جملة القسم وجوابه في باب: حروف الجر (ص500 وفي ص506 النص الخاص بأن جملة جواب القسم قد يكون لها محل إعرابي مع جملة القسم) .
(2)
سواء أكان واحد منها ناسخاً أم مهملاً، فالأولان قد يعملان عمل "ليس"، والأخير قد يعمل عمل "إنّ" أو:"ليس" فالثلاثة مع الإعمال أو الإهمال صالحة لأن تكون أداة تعليق. ولا داعي لاشتراط بعضهم القسم قبل كل أداة من الثلاثة؛ لأن هذا الاشتراط -فوق ما فيه من تضييق- لا سند له من النصوص الفصيحة الكثيرة، فالوارد منها يدعو إلى إغفاله. ويزيد التمسك بإغفاله قوة ما يقوله أصحابه من أن القَسم قبل هذه الأدوات الثلاثة يجب تقديره إن لم يكن ظاهراً في الجملة؛ مثل:"علمت ما محمد جبان" إذ يقدرونه: علمت والله ما محمد جبان. فما الحاجة إلى التقدير والتأويل بغير داع، ولا سيما التأويل القائم على مجرد التخيل المذكور؟ وإنه لتخيل مستطاع في كل صورة خالية من القسم، =
أدوات النفى الأخرى. فمثال "ما" النافية: علمت ما التهوّر شجاعة. ومثال "إنْ" النافية: زعمت إنْ الصفحُ الجميلُ ضارٌّ (أي: ما الصفح الجميل ضارّ) ومثال "لا" النافية: ألفيتُ لا الإفراطُ محمودٌ ولا التفريط (1) .
(د) الاستفهام (2) ؛ وله صور ثلاث: أن يكون أحد المفعولين اسم استفهام
=فتصير به صحيحة إلا أنه يدفعنا إلى الدخول في الجدل المرهق الذي مر في المسألة السابقة -في رقم 1 من هامش الصفحة الماضية- الخاصة بجواب القسم ومحله من الإعراب، كما سيفتح علينا أبواباً أخرى للاعتراض والجدل، نحن في غنى عنها، ولا حاجة للبيان اللغوي الناصع بها.
وزيادة في البيان نقول: إن اشتراط القسم مقصور عند جمهرة النحاة على: "لا - إن"- النافيتين، ولا يكاد يوجد خلاف في صدارة "ما" النافية غير الزائدة؛ عاملة وغير عاملة. فقد جاء في الجزء الأول من "المغني" عند الكلام على "لا" ما نصه:
(تنبيه - اعتراض لا" بين الجار والمجرور في محو: غضبت من لا شيء، وبين الناصب والمنصوب في نحو قوله تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"
…
وبين الجازم والمجزوم في نحو: إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض
…
" وتقدم معمول ما بعدها عليها في نحو قوله تعالى: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها
…
"- دليل على أنها ليس لها الصدر. بخلاف "ما"
…
"اللهم إلا أن تقع في جواب القسم فإن الحروف التي يتلقى بها القسم كلها لها الصدر. ولهذا قال سيبويه في قوله: "آليت حَسب العراق الدخر أطعمه
…
" أن التقدير: على حب العراق، فحذف الخافض، ونصب ما بعده، بوصول الفعل إليه، ولم يجعله من باب: "زيداً ضربته"؛ لأن التقدير "لا أطعمه" وهذه الجملة جواب: لآليت؛ فإن معناه: حلفت. وقيل: لها الصدر مطلقاً، وقيل "لا" مطلقاً. والصواب الأول) اهـ.
وإنما قال سيبويه ذلك لأن "لا" هنا لها الصدارة؛ لوقوعها في جواب القسم؛ فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولا يفسر عاملاً أيضاً
…
وقال الأشموني عند سرد الأدوات التي لها الصدارة، ويحدث التعليق بسببها ما نصه: (التزم التعليق عن العمل في اللفظ إذا وقع الفعل قبل شيء له الصدر؛ كما إذا وقع قبل "ما" النافية؛ نحو قوله تعالى "لقد علمت ما هؤلاء ينطقون" وقيل "إنْ - ولا" النافيتين في جواب ق سم ملفوظ أو مقدر
…
) اهـ.
وقد استدرك الصبان فقال ما نصه:
(قوله في جواب قسم..، قيل الصحيح أنه ليس بقيد. لكن في "المغني" ما يظهر به وجه التقييد؛ حيث نقل فيه أن الذي اعتمد سيبويه أن "لا" النافية إنما يكون لها الصدارة حيث وقعت في صدر جواب القسم. وقال في محل آخر:"لا" النافية في جواب القسم لها الصدر؛ لحلولها محل ذوات الصدر؛ كلام الابتداء و"ما" النافية.. اهـ و"إن" مثل: "لا" اهـ كلام الصبان.
(1)
الإفراط: المبالغة في إعداد الشيء حتى يتجاوز حدوده المحمودة. والتفريط: الإهمال فيه. فهما نقيضان.
(2)
لأن الاستفهام له الصدارة، فلا يعمل ما قبله فيه، إلا إن كان ما قبله حرف جر؛ نحو: ممن علمت الخبر؟. - بم جئت؟ - عن يتساءلون؟ - على أي حال كنت؟..=
نحو: علمت أيُّهم بطلٌ؟ أو يكون مضافاً إلى اسم استفهام؛ نحو: علمت صاحبُ أيِّهم البطلُ؟ أو يكون قد دخلت عليه أداة استفهام؛ نحو: علمت أعليٌّ مسافرٌ أم مقيمٌ؟ وأعلمُ على الشتاء أنسبُ للعمل من الصيف (1) ؟ وقولهم لظريف: لا ندري أجِدُّك أبلغُ وألطف، أم هزلُك أحبُّ وأظرف؟.
(هـ) الألفاظ الأخرى التي لها الصدارة في جملتها؛ مثل "كم"(2) . الخبرية؛ في نحو: دريْت كم كتاب اشتريته. ومثل: "إنّ" وأخواتها، ما عدا "أنّ" مفتوحة الهمزة؛ فليس لها الصدارة؛ نحو: علمت إنك لمُنصف (3) ،
=أو كان ما قبله مضافاً واسم الاستفهام مضاف إليه، نحو: صديق من أنت؟
…
)
وجدير بالتنويه أن التعليق بالاستفهام عامٌّ ليس مقصوراً على أفعال هذا الباب القلبية -كما أشرنا في رقم: 1 من هامش ص27؛ وسيجيء البيان في ص36-.
(1)
عرض بعض النحاة لهذه الصورة الثلاث بشيء من التفصيل، فقال: إن الاستفهام قد يكون بالحرف؛ نحو قوله تعالى: "وإن أدري أقريب أم بعد ما توعدون". أو بالاسم الواقع مبتدأ مباشرة، نحو: ستعلم أيُّ الرأيين أفضل؟ أو يكون المبتدأ مضافاً إلى اسم الاستفهام؛ نحو: علمت أبو منْ صالح. أو يكون اسم الاستفهام خبراً؛ نحو علمت متى السّفر. أو يكون الخبر مضافاً إلى اسم الاستفهام نحو: علمت صباح أي يوم قدومك. أو يكون اسم الاستفهام فضلة؛ نحو: علمت أيّ كتاب تقرأ.
وقول الشاعر:
حُشَاشَة نفسٍ ودّعتْ يومَ ودّعوا
…
فلم أدرِ أَيَّ الظاعنَيْنِ أُشَيَّعُ
ومما سلف يتبين أن الاستفهام قد يكون حرفاً فاصلاً بين العامل والجملة، وقد يكون اسماً فضلة، وقد يكون اسماً عمدة، سواء أكان العمدة مبتدأ مباشرة للاستفهام، أم خبراً مباشرة كذلك. وسواء أكان العمدة مبتدأ مضافاً والاستفهام هو المضاف إليه أم خبراً مضافاً والاستفهام هو المضاف إليه.
(2)
"كم" نوعان: "استفهامية"؛ وهي: اسم يسأل به عن عدد شيء. وتحتاج لتمييز منصوب في الغالب؛ نحو: كم درهماً تبرعت به؟ وتدخل في أدوات التعليق الاستفهامية. "وخبرية"؛ وهي: اسم يدل على كثرة الشيء ووفرته، ولها تمييز مجرور في الغالب؛ نحو: كم ظالمٍ أهلكه الله بظلمه.
و"كم" بنوعيها لها باب خاص في الجزء الرابع يضم أحكامها المختلفة (2425 م168) .
(3)
في هذا المثال يصح أن تكون أداة التعليق هي: "إنّ"، أو "لام الابتداء"؛ فكلاهما له الصدارة؛ فيصلح للتعليق. ولا يقال:"لام الابتداء فيه ليس بعدها جملة". ففي هذا القول إغفال لما قرروه من أن موضعها الأصيل هو أول الجملة. فلما شغلته "إنّ" -ولها الصدارة أيضاً- تخلت عنه اللام، وتأخرت إلى الخبر؛ منعاً إلى الخبر؛ منعاً للتعارض. على أن هذا من التعليلات المصنوعة التي لا خير في ترديدها. وحسبنا أن نهتدي إلى ما في الكلام المأثور من تعليق، سببه "إن" أو "لام=
ونحو: لا أدرى لعل الله يريد بكم خيراً. والأغلب الفصيح في: "لعل" هذه أن تكون أداة تعليق للفعل: "أدْرِي" المبدوء بالهمزة، أو بحرف آخر من حروف المضارعة (نَدْري - تَدْري - يدرِي (1)
…
) .
ومثل: أدوات الشرط الجازمة وغير الجازمة في نحو: لا أعلم إن كان الغد ملائماً للسفر أو غير ملائم. ونحو أحْسَب لو ائتلف العامل وصاحب العمل لَسَعِدا.
***
فيما يلي أمثلة تزيد التعليق وضوحاً (2) ، وتبيّن موضع "المانع"، وأن موضعه بعد الناسخ حتماً ويليه المفعولان، أو بعد الناسخ مع توسط هذا المانع بين المفعولين:
=الابتداء"، أو: هما معاً؛ فكل هذا صحيح ومريح.
وما يقال في لام الابتداء الداخلة على خبر "إن" يقال في لام الابتداء الداخلة على اسم "إنّ" المتأخر، أو على معمول خبرها؛ نحو:"حسبت إن في الصحراء لمناجم، وعلمت إن المناجم لكنوزاً ممتلئةٌ". ويجب كسر همزة "إن" في الأمثلة السابقة وأشباهها من كل جملة تجمع بين "إن" و"لام الابتداء". كما سبق في مواضع كسرها. وسبب ذلك في رأيهم: أن "لام الابتداء" تصيب الفعل القلبي بالتعليق، وهذا التعليق يقتضي أن تقع بعده في الغالب جملة -كما سبق في ص28-. فلما وقعت "إن" في صدر هذه الجملة كسرت وجوباً. فلام الابتداء كانت السبب في التعليق، وفي كسر همزة "إنّ".
فإذا لم توجد "لام الابتداء" فلن يكون هناك داع للتعليق، ولا لكسر همزة "إن" فتفتح.
لكن أيتفق هذا مع إدخالهم "إن" في عداد الأدوات التي لها الصدارة، وتحدث التعليق؟ لا. ومن أجله قال بعض النحاة بحق: يجوز كسر همزة "إن" وفتحها في المثال السابق عند خلوه من لام الابتداء.
فمن اختار الكسر لسبب عنده فله اختياره. ولكن يحب مع الكسر تعليق الفعل القلبي، لما سبق تقريره من اعتبار "إن" مكسورة الهمزة في عداد أدوات التعليق. ومن اختار الفتح لسبب آخر فله اختياره، ولا يصح تعليق الفعل القلبي في هذه الحالة؛ لعدم وجود أداة التعليق؛ إذ ليست "أن" مفتوحة الهمزة من أدواته. (راجع ج1 ص488 م51) .
وراجع الصبان ج2 باب ظن وأخواتها عند الكلام على أدوات التعليق.
(1)
ومن الأمثلة قول الشاعر:
ولا تحْرم المرء الكريم فإنه
…
أخوك ولا تدري لعلك سائله
(2)
من الممكن البدء بهذه الأمثلة، وتفهمها قبل الدخول في تعريق التعليق وما يتصل به.
جدول
الجملة وفيها الناسخ بغير تعليق............... الجملة بعد تعليق الناسخ............... السبب
_________
علمت التواضعَ غيرَ الضعة........... علمت للتواضعُ غيرُ الضعة....... الفصل بلام الابتداء بين الناسخ ومعموليه معاً.
ألفيت العظمةَ غيرَ التعاظم........... ألفيت للعظمةُ غير التعاظم......... الفصل بلام الابتداء بين الناسخ ومعموليه معاً.
عددت (1) التجارِبَ خيرَ معلم....... عددت والله التجارب خيرُ معلم...... الفصل بالقسم بين الناسخ ومعموليه معاً.
جعلت اتباعَ الهوى شرَّ البلايا..... جعلت ما اتباعُ الهوى إلا شرُّ البلايا.... الفصل بأداة النفي "ما" بين الناسخ ومعموليه معاً.
_________
وجدت الشرقَ مسترّاً مجده. ............... وجدت الشرق لهو مستردٌّ مجده.......... وقوع لام الابتداء قبل المفعول الثاني
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحده جعل أثر التعليق ينصب عليه
أرى التقصيرَ في العمل إساءةً للوطن....أرى التقصير في العمل والله هو إساءةٌ للوطن.... وقوع لام الابتداء قبل المفعول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الثاني وحده جعل أثر التعليق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ينصب عليه
أحسب خلفَ الوعد إهانةً لصاحبه......... أحسب خلف الوعد ليهينن صاحبه.................. كذلك لام القسم.
دريت إكرامَ الجار مؤدباً لطيب الإقامة..... دريت إكرامَ الجار لا يؤدي إلا لطيب الإقامة...... وكذلك حرف النفي: "لا"
_________
ففي الأمثلة الأربعة الأولى وقع المانع (الفاصل) بعد الناسخ وقبل المفعولين مباشرة، فلا نقول في إعرابهما إنهما مفعولان؛ وإنما نقول هما -في الأمثلة المعروضة- مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب سدّ مسدّ المفعولين.
وفي الأمثلة الأربعة الأخيرة وقع الناسخ في صدر جملته، ثم ولِيَه المفعول به الأول. أما المفعول به الثاني فغير ظاهر في الكلام بعد أن حلت محله جملة جديدة.
وفي مثل هذه الحالة يبقى المفعول به الأول محتفظاً باسمه وبعلامة إعرابه، فيعرب مفعولاً به أول، وتعرب الجملة التي (2) بعده إعراب الجملة المستقلة، ويزاد على إعرابها أنها في محل نصب، تسدّ مسدّ المفعول به الثاني
…
_________
(1)
أيقنت.
(ن2) قد تكون الجملة فعلية، وقد تكون اسمية؛ فالحكم عليها بأنها جملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، أو جملة فعلية مكونة من فعل ومرفوعه
…
موقوف على نوعها المعروض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- زيادة وتفصيل:
(أ) تقدم (1) أن الفعل القلبي الناصب لمفعولين يصيبه التعليق إذا وُجدت إحدى أدوات التعليق، ومنها:"الاستفهام".
والتعليق بالاستفهام ليس مقصوراً على الأفعال القلبية المتصرفة الخاصة بها الباب -كما أشرنا من قبل (1) -، وإنما يصيبها غيره، طبقاً للبيان الآتي:
1-
الفعل القلبي الناصب لمفعول به واحد؛ مثل: نسى - عرف
…
ومنه قول الشاعر:
ومن أنتمو؟ إنا نسينا من انتمو
…
وريحكموا من أي ريح الأعاصر
2-
الفعل القلبي اللازم، مثل: تفكَّر؛ كقوله تعالى: "أولم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة؟ "؛ فالتعليق هنا عن الجار والمجرور (2) ؛ لأن المجرور بالحرف بمنزل المفعول به (3) .
2-
ما ليس قَلبيّاً، وينطبق على أفعال كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر؛ مثل: نظر - أبصر - سأل - استنبأ-
…
و..، ومن الأمثلة قوله تعالى:(فَلْيَنظُرْ أَيُّها أزكَى طعاماً)، وقوله تعالى:(فستُبصر ويُبصرون؛ بأيِّكم المفتون؟)، وقول تعالى:(يَسألون: أيَّانَ يومُ الدين؟)، وقوله تعالى: (ويستنبئونكَ: أحَقٌّ هُو؟
…
) ، فهذه الأفعال ونَظائرها قد يصيبها التعليق بأداة الاستفهام، ولهذا يوقف في الآية الأولى على قوله:(يتفكروا) ، والكلام بعدها مستأنف، وهو:(ما بصاحبكم من جنة؟) ، وما الستفهامية بمعنى النفي، إذ المراد: أي شيء بصاحبكم من الجنون؟ ليس به شيء منه (4) .
(1 و1) وفي رقم 1 من هامش ص27 وفي "د" من ص32.
(2)
انظر "ج" الآتية.
(3)
كما سيجيء في ص159.
(4)
ما نوع "ما" في الآية؟ يقول الصبان إن بعض النحاة يراها على حسب الظاهر نافية؛ ويكون الوقف على قوله: "أولم يتفكروا
…
" فما بعده استئناف. ويراها آخرون: "استفهامية" بمعنى "النفي" - أيْ: أيّ بصاحبكم من الجنون؟ أي: ليس به شيء منه
…
".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(ب) عرفنا (1) أن التعليق لا يكون في الأفعال القلبية الجامدة، ولا في بعض النواسخ الأخرى؛ كأفعال التحويل
…
و
…
فما المراد من هذا؟ أيراد أن ألفاظ التعليق لا تقع بعد تلك الأفعال الجامدة ولا بعد تلك النواسخ؛ فلا يحدث التعليق؟ أم يراد أن هذه الألفاظ مع وقوعها بعدها لا تقوى على منعها من العمل الظاهري فكأنها غير موجودة؟ يرتضي النحاة الرأي الأول. والاقتصار عليه حسن.
(ج) سبق (2) أن الجملة بعد أداة التعليق تسدّ مسدّ المفعولين إن كان الناسخ إليهما، ولم يَنصب المفعول به الأول مباشرة، فإن نصبه سدت مسدّ الثاني فقط
…
فإن كان الفعل ليس ناسخاً ولا يتعدى لمفعولين، ووقعت بعده جملة مسبوقة بأداة التعليق -فإن كان يتعدى بحرف جر، فالجملة في محل نصب بإسقاط الجار؛ نحو: فكرت أصحيح هذا أم غير صحيح؟ أي: فكرت في ذلك (3) . وإن كان الفعل يتعدى بنفسه إلى واحد غير مذكور سدت مسدّه؛ نحو: عرفت البارع أبو مَنْ هو؟ فقيل الجملة بدل كل من كل، على تقدير مضاف؛ أي: عرفت شأن البارع، وقيل بدل اشتمال من غير حاجة إلى تقدير، أو هي مفعول ثان لعرفت بعد تضمينه معنى:"علمت". والرأيان الأخيران أوضح وأيسر استعمالاً، ولكل منهما مزية قد يتطلبها المقام، ويقتضيها المعنى.
(د) إذا كانت "رأى" حُلُمِيَّة لم يدخل عليها التعليق (4) .
***
(1) في ص27.
(2)
في ص28 وما بعدها.
(3)
سبقت إشارة لهذا ولإعراب آخر في رقم2 من هامش ص18.
(4)
كما سيجيء في "ج" من ص42.
الحكم الثاني - الإلغاء:
وهو: "منع الناسخ من نصب المفعولين معاً، لفظاً ومحلا، منعاً جائزاً، -في الأغلب- لا واجباً) . أو هو: "إبطال عمله في المفعولين معاً لفظاً ومحلاًّ، على سبيل الجواز لا الوجوب". ولا يصح أن يقع المنع على أحد المفعولين دون الآخر.
وسببه: إمَّا توسط الناسخ بين مفعوليه مباشرة بغير فاصل آخر بعده يوجب التعليق (1) ، وإما تأخره عنهما. فإذا تحقق السبب جاز -في الأغلب (2) - الإعمال أو الإهمال، وإن لم يتحقق وجب الإعمال. فللناسخ ثلاث حالات من ناحية موقعه في الجملة، وأثر ذلك:
الأولى: أن يتقدم على المفعولين. وفي هذه الحالة يجب إعماله -عند عدم المانع-؛ فينصبهما مفعولين به، نحو: رأيت النزاهةً وسيلةً لتكريم صاحبها.
الثانية: أن يتوسط بين مفعوليه مباشرة. وفي هذه الحالة يجوز -في الأغلب (2) - إعماله؛ فينصبهما مفعولين (3) به؛ نحو: النزاهةَ - رأيت - وسيلةً لتكريم صاحبها. ويجوز إهماله (4) ؛ فلا يعمل النصْبَ فيهما معاً، ولا في أحدهما؛
(1) إذ يجب التعليق لوجود سببه، ويجوز في صورة واحدة - وبيانها في رقم 4 من هامش ص30-.
(2 و2) إلا في مسائل ستذكر في رقم 3 من هامش الصفحة الآتية. ثم انظر رقم 1 من هامش ص40.
(3)
في حالة توسط العامل بين مفعوليه يجوز أن يكون المفعول الثاني هو المتقدم عليه، ويجوز في حالة - تقدم هذا المفعول الثاني أن يكون جملة، أو شبه جملة، أو مفرداً، وهي الأنواع الثلاثة التي ينقسم إليها -كما سبق في:"ا" من ص24- ومن الأمثلة لتقدمه وهو جملة ما نقلوه من نحو:
(شجاك - أظن - رَبع الظاعنين
…
) فكلمة "ربع" يجوز ضبطها بالنصب مفعولاً أول للفعل: "أظن". والجملة الفعلية "شجاك"(أي: أحزنك) في محل نصب تسد مسد المفعول الثاني. ويصح في كلمة: ربع" الرفع على أنها فاعل للفعل: "شجا" ويكون الفعل "أظن" مهملا. ويجوز أيضاً رفع كلمة: "ربع" على أنها خبر للكلمة: "شجا" المبتدأ، ومعناها: "حزن" ولا تكون في هذه الصورة فعلا، ويكون الفعل: "أظن" متوسطاً بينهما، مهملا.
(4)
وفي هذه الصورة تكون جملة: "رأيت"، معترضة، لا محل لها من الإعراب.
وإنما يرتفعان باعتبارهما جملة اسمية: (مبتدأ وخبراً)، ونحو: النزاعةُ - رأيت - وسيلةٌ لتكريم صاحبها.
الثالثة: أن يتأخر عن مفعوليه؛ والحكم هنا كالحكم في الحالة السابقة؛ فيجوز إعماله فينصب المفعولين؛ نحو: النزاهةَ وسيلةً لتكريم صاحبها - رأيت.
ويجوز إهماله فلا يعمل النصب (1) ويرتفع الاسمان باعتبارهما جملة اسمية، مركبة من مبتدأ وخبره؛ نحو: النزاهةُ وسيلةٌ لتكريم صاحبها - رأيت.
مما تقدم ندرك أوجع الفرق بين التعليق والإلغاء؛ وأهمها:
(أ) أن التعليق واجب (2) عند وجود سببه. أما الإلغاء فجائز - في الأغلب (3) - عند وجود سببه.
(1) والجملة من الفعل وفاعله استئنافية، كما كانت قبل التأخر عن المفعول ين.
(2)
إلا في الحالة التي يكون فيها جائزاً، (وقد سبق بيانها في رقم 4 من هامش ص30) .
(3)
الإلغاء جائز في أغلب الأحوال. لكن هناك بعض حالات أخرى يجب فيها الإعمال فقط، أو الإهمال فقط. فيجب الإعمال إذا كان الناسخ منفياً، سواء أكان متأخراً عن المفعولين، أم متوسطاً بينهما، نحو:"مطراً نازلاً لم أظن". أو: "مطراً لم أظن نازلاً"؛ لأنه لا يجوز أن يبني الكلام على المبتدأ والخبر ثم نأتي بالظن المنفي، إذ إلغاء الفعل المنفي -في الصورتين- قد يوهم أن ما سوى الفعل مثبت.
مع أن نفي الفعل يعم الجملة كلها، ويتجه في المعنى إلى المفعولين المنصوبين عند تقدمهما، أو تأخر أحدهما. فلمنع هذا الاحتمال والوهم يجب الإعمال؛ مبالغة في الاحتراس؛ كما يقولون.
وهذا التعليل -دون الحكم- لا ترتاح له النفس إلا إن أيدته النصوص الفصيحة التي لم يعرضوها فيما وقع في يدي من المراجع.
ويجب الإهمال إذا كان العامل مصدراً؛ نحو: (المطر قليل - ظني غالب) ؛ لأن المصدر المتأخر لا يعمل -غالباً- في شيء متقدم عليه، فلا يصح تقديم مفعوله عليه أو مفعوليه (عند كثير من النحاة ويخالفهم آخرون، كما سيجيء في باب، ج3) .
وكذلك يجب الإهمال إذا كان في المفعول المتقدم لام ابتداء، أو غيرها من ألفاظ التعليق؛ نحو: لَخالدٌ مكافح ظننت؛ لأن لام الابتداء وألفاظ التعليق تقدم الناسخ. ولا قيمة لهذا الخلاف في التسمية؛ لأن الأثر واحد -إلا في التوابع كما سيجيء في "د"- لا يتغير باختلاف الرأيين؛ فكلاهما يوجب الإهمال، وهذا حسبنا.
وكذلك يجب الإهمال إذا وقع الناسخ بين اسم إن وخبرها؛ مثل: إن التردد - حسبت - مضيعة.
أو بين "سوف" وما دخلت عليه؛ نحو: سوف - إخال - أكافح الشر. أو بين معطوف ومعطوف عليه؛ نحو: دعاك الخير - أحسب - والبر.
(ب) أن أثر التعليق يصيب المفعولين معاً أو أحدهما. أما الإلغاء فيصيبهما معاً.
(ج) ان أثر التعليق لفظي ظاهري، لا يمتد إلى الحقيقة والمحل. وأثر الإلغاء لفظيّ ومحليّ معاً.
(د) أن التعليق يجوز في توابعه مراعاة ناحيته اللفظية الظاهرية، أو مراعاة ناحيته المحلية. والإلغاء لا يجوز في توابعه إلا مراعاة الناحية الواحدة التي هو عليها؛ وهي الناحية الظاهرة المحضة.
(هـ) أن التعليق لابد فيه من تقدم الناسخ على معموليه؛ ومن وجود فاصل بعده له الصدارة.
أما الإلغاء فلا بد فيه من توسط (1) الناسخ بينهما، أو تأخره عنهما؛
(1) يذكر النحاة بعض أمثلة يستدلون بها على أن الإلغاء قد يقع والفعل الناسخ متقدم على مفعوليه، وليس متوسطاً ولا متأخراً. ثم يؤولون تلك الأمثلة تأويلاً يخرجها من حكم الإلغاء، ويدخلها في أحكام أخرى مطردة تنطبق عليها بعد ذلك التأويل. وهذا تكلف مردود، وتصنع يجب البعد عنه، منعاً للفوضى في التعبير، والخلط في الأصول العامة. وفي تلك الأمثلة قول الشاعر:
أَرجو وآملُ أن تدْنو مودتها
…
وما إِخالُ لدينا منكِ تنويلُ
فالفعل: "إخال" قد ألغى؛ فلم ينصب المفعولين: "لدى" و"تنويل" مع أنه مقدم عليها، ومع تقدمه فكلمة "لدى" ظرف، خبر متقدم، وكلمة:"تنويل" مبتدأ مؤخر. أي: أنه لم ينصبهما؛ بدليل رفع الثانية. فما السبب في الإلغاء؟ لا سبب. لهذا ينتحلون ما يجعل الأسلوب صحيحاً. فيتخيلون وجود "ضمير شأن" مستتر بعد الفعل: "إخال"؛ فالتقدير: "إخاله. فيكون ضمير الشأن المستتر هو المفعول به الأول، وتكون الجملة الاسمية بعده: (لدينا تنويل) في محل نصب، تسد مسد المفعول الثاني، إذ يصح في الأفعال القلبية -كما سبق، في "أ" ص24- أن يكون مفعولها الثاني جملة أو غيرها.
وبهذا التأويل الخيالي لا يوجد في الكلام ناسخ متقدم لم يعمل. أي: لا يوجد في الكلام إلغاء، ولا مخالفة للقاعدة التي توجب عمل الناسخ المتقدم..، فلم هذا؟ ما فائدته؟ إن واقع الأمر صريح في مخالفة التعبير للقاعدة. والسبب هو الضرورة الشعرية، أو المسايرة للغة ضعيفة، أو ما إلى ذلك مما يخالف اللغة الشائعة في البيان الرفيع الذي يدعونا لهجر تلك التأويلات، والفرار منها؛ حرصاً على سلامة اللغة، وإيثاراً للراحة من غير ضرر، والاقتصار في القياس على ما لا ضعف فيه، ولا شذوذ، ولا تأويل
…
ومن الأمثلة أيضاً قول الشاعر:
كذاك أُدِّبتُ حتى صار من خُلُقي
…
أَني وجدتُ مِلاكُ الشيمة الأَدبُ=
وليس في حاجة بعد هذا إلى فاصل، أو غيره (1) .
=ففي البيت فعل قلبي (هو: وجد) لم ينصب المفعولين: مع أنه متقدم. فلماذا أصابه الإلغاء مع تقدمه؟ ويجيبون بمثل الإجابة السابقة؛ فيتأولون. ويتخيلون وجود "ضمير شأن" مستتر بعد ذلك الفعل، ويعربون هذا الضمير مفعوله الأول، والجملة الاسمية:"ملاك الشيمة الأدب" في محل نصب سدت مسد المفعول به الثاني. أو: يقول: إن الفعل أصابه "التعليق" بسبب وقوع لام ابتداء مقدرة بعده، واصل الكلام كما يتخيلون:"أني وجدت لملاك الشيمة الأدب"
…
وفي هذا ما في سابقه مما يوجب عدم الأخذ بمثل هذا التخيل، والتأويل، واتقاء ضرره بالاقتصار على ما لا حاجة فيه إلى تصيد وتحايل.
(1)
فيما سبق يقول ابن مالك بإيجازه المعروف:
وخُصَّ بالتَّعْلِيقِ وَالإِلْغاءِ ما
…
مِنْ قَبْل: "هَبْ" والأَمْرُ: "هَبْ" قَدْ أُلْزِما
كَذَا: "تَعَلَّمْ". ولِغَيْرِ الماضِ مِنْ
…
سِوَاهُمَا اجْعَلْ كُلَّ مَا لَهُ زُكِنْ.
("خص": فعل أمر. ويصح أن يكون فعلا ماضياً مبنياً للمجهول. "الأمر": مبتدأ مرفوع. "هب": مبتدأ ثان. "ألزم" فعل ماض للمجهول، ونائب فاعله ضمير مستتر تقديره: هو، يعود على "هب" والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو: "الأمر". والرابط محذوف، والتقدير: أُلزمه، أي: أُلزِم صورة الأمر وصيغته. والألف التي في آخر: "ألزما: زائدة لأجل الشعر، وتسمى: "ألف الإطلاق". أي: الألف الناشئة من إطلاق الصوت بالفتحة، ومدّه بها حتى ينشأ من المد: "ألف". "زكن": علم) .
ومعنى البيتين: التعليق والإلغاء مختصان ببعض الأفعال التي سبقت أول الباب دون بعض. ولم يبين الأفعال المقصودة، مكتفياً بأن قال: إنها الأفعال التي ورد ذكرها قبل: "هبْ" و"تعلمْ" في الأبيات الثلاثة الأولى من الباب. وبالرجوع إليها يتبين أنها الأفعال القلبية المتصرفة، دون فعلين منها أخرجهما صراحة؛ هما:"هبْ" بمعنى: "ظُنّ"، وتعلَّمْ بمعنى:"اعلمْ"، -ويزاد عليهما أفعال التحويل أيضاً- ثم قال:
إذا كان الناسخ هنا غير ماض فإنه يعمل عمل الماضي، ويدخل عليه من الأحكام ما يدخل على الماضي. ولم يذكر تفصيل شيء من هذا المجمل. ثم انتقل بعد ذلك إلى الكلام على بعض أحكام التعليق والإلغاء؛ فقال:
وجَوَّزِ الإِلْغاءَ لَا فِي الاِبْتِدَا
…
وانْوِ ضَمِيرَ الشَّانِ أَوْ لَامَ ابْتِدا:
فِي مُوهِمٍ إِلْغَاءَ مَا تَقَدَّمَا
…
والْتَزِم التَّعْلِيقَ قَبْلَ: نَفْي "مَا"
و"إنْ"، و"لا""لَامُ ابتِدَاءٍ"، أَوْ قَسَمْ
…
كَذَا، و"الاِسْتِفْهَامُ" ذَا لَهُ انْحَتَمْ
يريد: أن الإلغاء أمر جائز؛ لا واجب، وأنه لا يقع حين يكون الناسخ في ابتداء جملته، أي: متقدماً على مفعوليه. فإذا كان في ابندائها لم يصح إلغاء عمله -أما إذا لم يكن فيب ابتدائها- بأن وقع بين المفعولين أو بعدهما فإن الإلغاء والإعمال جائزان -في الأغلب- ثم أشار بتقدير "ضمير للشأن"، أو تقدير "لام ابتداء" إذا وردت أمثلة قديمة توهم أن الناسخ المتقدم قد ألفى عمله. وقد شرحنا هذا وأبدينا الرأي فيه. ثم سرد بعض الموانع التي تكون سبباً في التعليق؛ فعرض منهما ثلاثة أدوات للنفي (ما - إنْ - لا) وعرض ثلاثة تغايرها؛ هي: لام الابتداء - القسم - الاستفهام. وقال في الاستفهام: انحتم له ذا".
"لِعِلْمِ" عِرْفَانٍ، وَ"ظَنِّ" تُهَمَهْ
…
تَعْدِيةٌ لِوَاحِدٍ مْلْتَزَمَهْ=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
(أ) إذا تقدم الناسخ على مفعوليه فلن يخرجه من حكم هذا التقدم -في الرأي الأصح- أن يسبقه معمول آخر له، أو لأحدهما؛ نحو: متى علمت الضيفَ قادماً؟ باعتبار: "متى" ظرفاً للناسخ، أو لمفعوله الثاني.
وكذلك لن يخرجه من حكم التقدم أن يسبقه شيء آخر ليس معمولاً له، ولا لأحدهما، مثل: إني علمت الحذرَ واقياً الضرر.
(ب) يختلف النحاة في بيان الأفضل عند توسط العامل أو تأخيره. ولهم في هذا جدل طويل، لا يعنينا منه إلا أن الأنسب هو تساوي الإلغاء والإعمال عند توسط العامل. أما عند تأخره فالأمران جائزان ولكن الإلغاء أعلى، لشيوعه في الأساليب البليغة المأثورة.
وإذا توسط الناسخ أو تأخر وكان مؤكداً بمصدر فإن الإلغاء يَقْبُح؛ نحو: الكتابَ -زعمت زعماً- خيرَ صديق؛ لأن التوكيد دليل الاهتمام بالعامل، والإلغاء دليل على عدم الاهتمام به؛ فيقع بينهما شبه التخالف والتنافي. فإن أكَّد الناسخ بضمير يعود على مصدره المفهوم في الكلام بقرينة، أو باسم إشارة يعود على ذلك المصدر -كان الإلغاء ضعيفاً أيضاً؛ نحو: السفينةَ - ظننتُه - قصراً.
أي: ظننت الظن -و: السفينةَ ظننت - ذاك - قصراً. أي ذاك الظن
…
(ج) رأي الحُلُمية لا يصيبها الإلغاء، وقد سبق (1) أنها لا يصيبها تعليق.
***
=وَلِرَأَى الرُّؤْيَا، انْم مَا لِعَلِمَا
…
طَالِبَ مَفْعُولَيْنِ مِنْ قَبلُ انْتَمَى
وقد سبق شرح هذين البيتين في مناسبة قريبة -ص14 و15- بما ملخصه: أن "عَلِم" إذا كان منسوباً للعرفان (بأن كان معناه: "عرف" الذي مصدره: "العرفان") . وأيضاً: "ظن" إذا كان مصدره "الظن" المنسوب للتهمة (بأن يكون الفعل: "ظن" بمعنى: "اتَهم". ومصدره: "الظن" بمعنى الاتهام؛ ومنه التهمة) -فإن كل فعل منهما يتعدى لمفعول واحد لزوماً؛ أي: حتماً.
ما دام معناه ما سبق. ثم قال: إن الفعل "رأى" المنسوب للرؤيا (بأن كان مصدره "الرؤيا" المنامية) ينصب مفعولين.
(1)
في "د" من ص37.
الحكم الثالث- الاستغناء عن المفعولين بالمصدر المؤول:
يجوز أن يَسُدّ المصدر المؤول من ("أنّ" الناسخة (1) وما دخلت عليه، أو:
"أنْ" المصدرية الناصبة وما دخلت عليه من جملة فعلية - مسدّ المفعولين،
ويغني عنهما (2) . ويجب أن يراعى فى معنى المصدر بعد تأويله أن يكون مثبتاً أو
ِمنفيّاًَ على حسب ما كان عليه المعنى قبل التأويل.
فمن أمثلة المثبت ما جاء فى خطبة لقائد مشهور: (عَلِمْنا أن السيفَ ينفع حيث
لا ينفع الكلام، ورأينا أنّ كلمة القَوِيّ مسموعة، فن زعم أنْ يفوز وهو
ِضعيف فقد أخطأ، ومن ظن أن يَسْلمَ بالاستسلام فقد قضى على نفسه
…
) .
وتقدير المصادر المؤولة (3) : (علمنا نفعَ السيف
…
-رأينا سماعَ كلمة القويّ-
من عم فوّزه
…
- من ظنّ سلامته
…
) فَكل مصدر من المصادر التى نشأت من
التأويل سدّ مسدّ المفعولين المطلوبين للفعل القلبي الذي قبله. فالمصدر "نفَعْ"،
أغْني عن مفعولى الفعل "عَلمَ ". والمصدر: "سماع"، أغنى عن مفعولى الفعل:
"رأى". والمصدر: "فوز"، أغنى عن مفعولى الفعل:"زعم" والمصدر:
سلامة" أغنى عن مفعولى الفعل "ظن" (4)
…
ويقاس على هذا أشباهه (5)
(1) سواء أكانت مشددة النون أم مخففة.
(2)
سبق (فى رقم 6 و4 و6 من هامش 6 و7 و8 وفي1 من هامش ص 19) أن هذا كثير في
الفعلين "زعم" و"تعلم" بمعنى، "اعلمْ". قليل في:"هبْ" بمعنى: ظُنّ. وأن المصدر المؤول
سد مسد المفعولين معاً طبقاً للرأى المختار هناك، وفي رقم 4 من هامش ص11.
(3)
سبق (في ج1 ص299 م29 من هذا الكتاب، باب: الموصول) إيضاً شامل لطريقة صوغ المصدر المؤول بصوره المختلفة، وبيان الدافع لاستعمال الحرف المصدري، وصلته، دون الالتجاء إلى المصدر الصريح ابتداء.
(4)
وكذلك المصدر المؤول بعد فعل الأمر الذي في آخر الآية الكريمة: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. واعلموا أن الله شديد العقاب) .
(5)
يكون الفعل القلبي في الأمثلة السابقة وأشباهها عاملاً في لفظ المصدر المتصيد (أي، المستخرج) من "أنّ" و"أنْ" وصلتهما، وليس عاملاً في الجملة التي دخلت عليها "أنْ" أو "أنّ" إذ لو كان عاملاً في الجملة نفسها لوجب تعليق الفعل عن العمل، بسبب الفاصل (طبقاً لما عرفناه في "التعليق") ولوجب أيضاً كسر همزة "إن" لوقوعها في صدر جملة جديدة. فالذي حل محل المفعولين هو المصدر المؤول وهو مفرد. وكل هذا بشرط خلو خبر "إن" من لام الابتداء؛ لأن وجودها يوجب كسر همزة "إن" ويوجب " التعليق
(راجع رقم 3 من هامش ص33 ورقم 4 ةمن هامش ص48. وكذلك ج1 ص489 م51) .
من مثل قول الشاعر (1) :
توَد عدوى ثم تَزعُم أنني
…
صديقك؛ إن الرأي عنك لعازب
فالمصدر المؤول من "أنّ مع معموليها" يسدّ مسدّ مفعولي الفعل: "تزعمُ" ومن أمثلة المعنى المنفي قول الشاعر:
الله يعلم أني لم أقل كَذبا
…
والحق عند جميع الناس مقبول
وتأويل المصدر مع زيادة ما يدل على النفي هو: "الله يعلم عدم كذب قولي".
- وقد سبق (2) تفصيل الكلام على طريقة صوغ المصدر المؤول.
الحكم الرابع (3) - جواز وقوع فعلها ومفعولها الأول ضميرين معينين:
وذلك بأن يكونا ضميرين متصلين، متحدين في المعنى (4)، مختلفين في النوع؛ نحو: عَلِمتُني راغباً في مودة الأصدقاء، ورَأيتُني حريصاً عليها.
فالتاء والياء في المثالين ضميران. متصلان، ومدلولهما شيء واحد؛ فهما للمتكلم، مع اختلف نوعهما: فالتاء ضمير رفع فاعل، والياء ضمير نصب، مفعول به.
ونحو: علِمتَك زاهداً في الشهرة الزائفة، وحسِبْتَك نافراً من أسابها. فالتاء والكاف في المثالين ضميران، متصلان، ومعناهما واحد؛ لأن مدلولهما هو المخاطب، مع اختلاف نوعهما كذلك؛ فالتاء ضمير رفع فاعل، والكاف ضمير نصب، مفعول به (5) .
(1) وقول الآخر:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خِلت أنني
…
دُعيتُ فلم أكسَل، ولم أتبلّدِ
(2)
سبق في (ج1 ص299 م29 من هذا الكتاب، باب: الموصول) .
(3)
انظر تكملته الهامة في الزيادة والتفصيل.
(4)
بأن يكون مدلولهما واحداً (أي: أن صاحب كل منهما هو صاحب الآخر، فكلاهما يدل على ما يدل عليه الثاني) .
(5)
ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}
فالفعل: "رأى" فاعله ضمير مستتر، تقديره:"هو" -والضمير المستتر نوع من المتصل- ومفعوله الأول: "الهاء" -فقد وقع الفاعل والمفعول هنا ضميرين، متصلين، متحدين في المعنى؛ لأن مدلولهما واحد؛ هو: الغائب، مع اختلاف نوعهما، فالضمير المستتر:"هو" ضمير رفع، فاعل والضمير "الهاء" المذكور ضمير نصب، مفعول به.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيادة وتفصيل:
الحكم الرابع غير خاص بالأفعال القلبية وحدها؛ فهناك بعض أفعال أخرى تشاركها فيه؛ مِثل: "رأى" البصرية والحلُمية، وهو كثير فيهما، ومثل:"وجَد"(بمعنى: لَقِيّ) ، وفَقَد. وعَدِم. وهو قليل في هذه الثلاثة، ولكنه قياسي في الخمسة، وفي غيرها مما نصّت عليه المراجع؛ وليس عامّاً في الأفعال؛ نحو: اسْتيقظتُ فرأيتُني منفرداً --أخذني النوم فرأيتُني جالساً في حفل أدبيّ-. ساءلت نفسي في غمرة الحوادث: أين أنا؟ ثم وجَدْتُني (أي: لقيتُ نفسي، وعرفتُ مكانها) -فقدتُني إن جنحت إلى خيانة، أو عدمتني. ولا يجوز هذا في غير ما سبق إلا ما له سند لغوي يؤيده. فلا يصح: كرمتُني، ولا سمعتُني، ولا قرأتُني، وأشباهها مما لم يرد في المراجع. إلا إن كان أحد الضميرين منفصلاً، فيجوز في جميع الأفعال، نحو: ما لمستُ إلا إياي- ما راقبتُ إلا إياي (1) .
ويمتنع في باب: "ظن وأخواتها"، وفي جميع الأفعال الأخرى -اتحاد الفاعل والمفعول اتحاداً معنويّاً إن كان الفاعل ضميراً، متصلاً، مستتراً، مفسَّراً بالمفعول به، فلا يصح محمداً ظَن قائماً- ولا عليا نَظر؛ بمعنى: محمداً ظنَّ نفسه..، وعليّاً نظر نفسه
…
لأن مفسر الضمير هنا: (أي مرجعه) هو المفعول به. فإن كان الضمير الفاعل منفصلاً بارزاً صَحّ؛ فيقال: ما ظن محمداً قائماً إلا هو. وما نظر عليّاًَ إلا وهو
…
(1)"ملاحظة": المفهوم من كلام النحاة أنهم يمنعون ما سبق من اجتماع الفاعل والمفعول به إذا كان ضميرين، متصلين، متحدين معنى -بأن يكونا لمتكلم واحد، أو لمخاطب واحد- مختلفين نوعاً، ولا فرق في هذا بين المفعول به الحقيقي، والمفعول به التقديري، وهو الذي يتعدى إليه العامل بحرف جر، إذا المجرور في هذه الصورة مفعول به تقديراً، فيمتنع عندهم أن يقال:"أَحضرتني، أو أَحضرتُ بي" إذا كان الضميران للمتكلم. كما يمتنع أن يقال: أَوثقتك، وأوثقتَ بك إذا كان الضميران لمخاطب واحد.
لكن يعترض رأيهم في المفعول التقديري آيات كريمة متعددة، منها قوله تعالى: (وهزّي إليك بجذع النخلة
…
) وقوله تعالى: (واضمم إليك جناحك
…
) قوله تعالى: (أَمسك عليك زوجك) ولا عبرة بما يقوله "الصبان" نقلا عن "المغني" من أن الآيات مؤولة على تقدير حذف مضاف، وكلمة التأويل أن توافق الآيات رأيهم، مع أن الواجب أن يغيروا رأيهم ليوافق أفصح كلام عرفوه؛ فلا عليها من اتباعه، ومن شاء فليتأوله.