الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنه. وكذلك المتواضع لله ولعباده يرفعه الله درجات ; فإن الله ذكر الرفعة في قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]
فمن أجل ثمرات العلم والإيمان: التواضع، فإنه الانقياد الكامل للحق، والخضوع لأمر الله ورسوله، امتثالا للأمر، واجتنابا للنهي، مع التواضع لعباد الله، وخفض الجناح لهم، ومراعاة الصغير والكبير، والشريف، والوضيع، وضد ذلك التكبر ; فهو غمط الحق، واحتقار الناس.
وهذه الثلاث المذكورات في هذا الحديث: مقدمات صفات المحسنين، فهذا محسن في ماله، ودفع حاجة المحتاجين، وهذا محسن بالعفو عن جنايات المسيئين، وهذا محسن إليهم بحلمه وتواضعه، وحسن خلقه مع الناس أجمعين، وهؤلاء قد وسعوا الناس بأخلاقهم وإحسانهم ورفعهم الله فصار لهم المحل الأشرف بين العباد، مع ما يدخر الله لهم من الثواب.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «وما تواضع أحد لله» تنبيه على حسن القصد والإخلاص لله في تواضعه، لأن كثيرا من الناس قد يظهر التواضع للأغنياء ليصيب من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مطلوبه، وقد يظهر التواضع رياء وسمعة، وكل هذه أغراض فاسدة، لا ينفع العبد إلا التواضع لله تقربا إليه، وطلبا لثوابه، وإحسانا إلى الخلق، فكمال الإحسان وروحه الإخلاص لله.
[حديث كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إلا الصوم
. . .]
الحديث الخامس والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إلا الصوم (فضله) ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ
فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امرؤ صائم» متفق عليه.
ما أعظم هذا الحديث، فإنه ذكر الأعمال عموما، ثم الصيام (وفضله وآدابه) خصوصا، وذكر فضله وخواصه، وثوابه العاجل والآجل، وبيان حكمته، والمقصود منه، وما ينبغي فيه من الآداب الفاضلة، كلها احتوى عليها هذا الحديث، فبين هذا الأصل الجامع.
وأن جميع الأعمال الصالحة - من أقوال وأفعال، ظاهرة أو باطنة، سواء تعلقت بحق الله، أو بحقوق العباد - مضاعفة من عشر إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وهذا من أعظم ما يدل على سعة فضل الله، وإحسانه على عباده المؤمنين، إذ جعل جناياتهم ومخالفاتهم الواحدة بجزاء واحد، ومغفرة الله تعالى فوق ذلك.
وأما الحسنة، فأقل التضعيف أن الواحدة بعشر، وقد تزيد على ذلك بأسباب، منها: قوة إيمان العامل، وكمال إخلاصه، فكلما قوي الإيمان والإخلاص تضاعف ثواب العمل.
ومنها: أن يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة في الجهاد والعلم، والمشاريع الدينية العامة، وكالعمل الذي قوي بحسنه وقوته ودفعه المعارضات كما ذكره صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الغار، وقصة البغيّ التي سقت الكلب، فشكر الله لها وغفر لها، ومثل العمل الذي يثمر أعمالا أخر: ويقتدي به غيره، أو يشاركه فيه مشارك، وكدفع الضرورات العظيمة، وحصول المبرات الكبيرة، وكالمضاعفة لفضل الزمان أو المكان، أو العامل عند الله.
فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل.
واستثنى في هذا الحديث الصيام، وأضافه إليه، وأنه الذي يجزي به بمحض فضله وكرمه، من غير مقابلة للعمل بالتضعيف المذكور الذي تشترك فيه الأعمال، وهذا شيء لا يمكن التعبير عنه، بل يجازيهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وفي الحديث كالتنبيه على حكمة هذا التخصيص، وأن الصائم لما ترك محبوبات النفس التي طبعت على محبتها، وتقديمها على غيرها، وأنها من الأمور الضرورية، فقدم الصائم عليها محبة ربه، فتركها لله في حالة لا يطلع عليها إلا الله، وصارت محبته لله مقدمة وقاهرة لكل محبة نفسية، وطلب رضاه وثوابه مقدما على تحصيل الأغراض النفسية، فلهذا اختصه الله لنفسه، وجعل ثواب الصائم عنده، فما ظنك بأجر وجزاء تكفل به الرحمن الرحيم الكريم المنان، الذي عمت مواهبه جميع الموجودات، وخص أولياءه منها بالحظ الأوفر، والنصيب الأكمل، وقدر لهم من الأسباب والألطاف التي ينالون بها ما عنده على أمور لا تخطر له بالبال، ولا تدور في الخيال؟ فما ظنك أن يفعل الله بهؤلاء الصائمين المخلصين؟
وهنا يقف القلم، ويسيح قلب الصائم فرحا وطربا بعمل اختصه الله لنفسه، وجعل جزاءه من فضله المحض، وإحسانه الصرف، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ودل الحديث على أن الصيام الكامل هو الذي يدع العبد فيه شيئين: المفطرات الحسية، من طعام وشراب ونكاح وتوابعها، والمنقصات العملية، فلا يرفث
ولا يصخب، ولا يعمل عملا محرما، ولا يتكلم بكلام محرم، بل يجتنب جميع المعاصي، وجميع المخاصمات والمنازعات المحدثة للشحناء، ولهذا قال:«فلا يرفث» أي: لا يتكلم بكلام قبيح «ولا يصخب» بالكلام المحدث للفتن والمخاصمات، كما قال في الحديث الآخر:«من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» .
فمن حقق الأمرين: ترك المفطرات، وترك المنهيات، تم له أجر الصائمين، ومن لم يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم أرشد الصائم إذا عرض له أحد يريد مخاصمته ومشاتمته أن يقول له بلسانه: «إني صائم» .
وفائدة ذلك: أن يريد كأنه يقول: اعلم أنه ليس بي عجز عن مقابلتك على ما تقول، ولكني صائم، أحترم صيامي وأراعي كماله، وأمر الله ورسوله، واعلم أن الصيام يدعوني إلى ترك المقابلة، ويحثني على الصبر، فما عملته أنا خير وأعلى مما عملته معي أيها المخاصم.
وفيه: العناية بالأعمال كلها من صيام وغيره، ومراعاة تكميلها، والبعد عن جميع المنقصات لها، وتذكر مقتضيات العمل، وما يوجبه على العامل وقت حصول الأسباب الجارحة للعمل.
وقوله: «الصوم جنة» أي: وقاية يتقي بها العبد الذنوب في الدنيا ويتمرن به على الخير، ووقاية من العذاب.
فهذا من أعظم حكم الشارع من فوائد الصيام، وذلك لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
فكون الصوم جنة، وسببا لحصول التقوى: هو مجموع الحكم التي فصلت في حكمة الصيام وفوائده، فإنه يمنع من المحرمات أو يخففها، ويحث على كثير من الطاعات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لقاء ربه» . هذان ثوابان: عاجل، وآجل.
فالعاجل: مشاهد إذا أفطر الصائم فرح بنعمة الله عليه بتكميل الصيام، وفرح بنيل شهواته التي منع منها في النهار.
والآجل: فرحة عند لقاء ربه برضوانه وكرامته، وهذا الفرح المعجل نموذج ذلك الفرح المؤجل، وأن الله سيجمعهما للصائم.
وفيه: الإشارة إلى أن الصائم إذا قارب فطره، وحصلت له هذه الفرحة، فإنها تقابل ما مر عليها في نهاره من مشقة ترك الشهوات، فهي من باب التنشيط، وإنهاض الهمم على الخير.
وقوله: «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ريح المسك» .
الخلوف: هو الأثر الذي يكون في الفم من رائحة الجوف عند خلوه من الطعام وتصاعد الأبخرة، فهو وإن كان كريها للنفوس، فلا تحزن أيها الصائم، فإنه أطيب عند الله من ريح المسك، فإنه متأثر عن عبادته والتقرب إليه، وكل ما تأثر عن العبادات من المشقات والكريهات فهو محبوب لله، ومحبوب الله عند المؤمن مقدم على كل شيء.