الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في المعاصي، فقال:{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]
ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة.
وفي الحديث: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان، ولا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة» والله أعلم.
[حديث لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلَا حَسَبَ كحسن الخلق]
الحديث السبعون عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» . رواه البيهقي في " شعب الإيمان ".
هذا الحديث اشتمل على ثلاث جمل، كل واحدة منها تحتها علم عظيم:
أما الجملة الأولى: فهي في بيان العقل وآثاره وعلاماته، وأن العقل الممدوح في الكتاب والسنة: هو قوة ونعمة أنعم الله بها على العبد، يعقل بها الأشياء النافعة، والعلوم والمعارف، ويتعقل بها، ويمتنع من الأمور الضارة والقبيحة، فهو ضروري للإنسان، لا يستغني عنه في كل أحواله الدينية والدنيوية، إذ به يعرف النافع والطريق إليه، ويعرف الضار وكيفية السلامة منه. والعقل يعرف بآثاره.
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث آثاره الطيبة، فقال:«لا عقل كالتدبير» أي: تدبير العبد لأمور دينه، ولأمور دنياه.
فتدبيره لأمور دينه: أن يسعى في تعرف الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي الكريم من الأخلاق والهدي والسمت، ثم يسعى في سلوكه بحالة منتظمة. كما قال صلى الله عليه وسلم:«استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» .
وقد تقدم شرح هذا الحديث وبيان الطريق الذي أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها طريق سهلة توصل إلى الله وإلى دار كرامته بسهولة وراحة، وأنها لا تفوت على العبد من راحاته وأموره الدنيوية شيئا، بل يتمكن العبد معها من تحصيل المصلحتين والفوز بالسعادتين والحياة الطيبة.
فمتى دبر أحواله الدينية بهذا الميزان الشرعي، فقد كمل دينه وعقله، لأن المطلوب من العقل: أن يوصل صاحبه إلى العواقب الحميدة من أقرب طريق وأيسره.
وأما تدبير المعاش، فإن العاقل يسعى في طلب الرزق بما يتضح له أنه أنفع له وأجدى عليه في حصول مقصوده. ولا يتخبط في الأسباب خبط عشواء، لا يقر له قرار، بل إذا رأى سببا فتح له باب رزق فليلزمه، وليثابر عليه، وليجمل في الطلب، ففي هذا بركة مجربة.
ثم يدبر تدبيرا آخر، وهو التدبير في التصريف والإنفاق، فلا ينفق في طرق محرمة، أو طرق غير نافعة، أو يسرف في النفقات المباحة أو يقتر. وميزان ذلك قوله تعالى في مدح الأخيار:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
فحسن التدبير في كسب الأرزاق، وحسن التدبير في الإنفاق، والتصريف،
والحفظ، وتوابع ذلك: دليل على كمال عقل الإنسان ورزانته ورشده.
وضد ذلك: دليل على نقصان عقله، وفساد لُبه.
الجملة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ورع كالكف» .
فهذا حد جامع للورع، بين به رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الورع الحقيقي هو الذي يكف نفسه، وقلبه ولسانه، وجميع جوارحه عن الأمور المحرمة الضارة. فكل ما قاله أهل العلم في تفسير الورع، فإنه يرجع إلى هذا التفسير الواضح الجامع.
فمن حفظ قلبه عن الشكوك والشبهات، وعن الشهوات المحرمة والغل والحقد، وعن سائر مساوئ الأخلاق، وحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والشتم، وعن كل إثم وأذى، وكلام محرم، وحفظ فرجه وبصره عن الحرام، وحفظ بطنه عن أكل الحرام، وجوارحه عن كسب الآثام، فهذا هو الورع حقيقة.
ومن ضيع شيئا من ذلك نقص من ورعه بقدر ذلك، ولهذا قال شيخ الإسلام:" الورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة ".
الجملة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا حسب كحسن الخلق» .
وذلك أن الحسب مرتبة عالية عند الخلق. وصاحب الحسب له اعتبار وشرف بحسب ذلك. وهو نوعان:
النوع الأول: حسب يتعلق بنسب الإنسان وشرف بيته. وهذا النوع إنما هو مدح؛ لأنه مظنة أن يكون صاحبه عاملا بمقتضى حسبه، مترفعا عن الدنايا، متحليا بالمكارم. فهو مقصود لغيره.