الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
بين الرشاد والتيه
كتاب ضم مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي بالفرنسية، ونشر معظمها في جريدة ((الثورة الإفريقية La revolution Africain)) إثر عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال في الستينات.
وقد جمعها رحمه الله في صيف عام 1972م، وترجمها إلى العربية، ثم بوبها وحدد فصولها، واختتمها بكلمة عن الصراع الفكري.
وقد سلمني أصول هذا الكتاب إثر الفراغ منه، فلما قرأته وجدت من المناسب مراجعة النص بما يحافظ على أسلوب الأستاذ مالك، ويزيل إبهام بعض العبارات، وهكذا أصبح الكتاب جاهزا للتداول بين أيدي القراء، في مرحلة من مسيرة الأمة العربية تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
فالمقالات هذه تعكس أحداث الستينات في الجزائر كما في العالم العربي والإسلامي. وهي أيضا تطرح مشاكل العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، فتسلط عليها أضواء كاشفة تبرز أبعادها وتنير طريق الكفاح، من أجل القضاء على هذه المشاكل.
ففي الستينات، كانت في الجزائر مهمات البناء الجديد للدولة، في الإطار السياسي والإداري والاقتصادي، وكان الأستاذ مالك يواجه بفكره هذه المهمات،
يرصد الأحداث اليومية والمبادرات المستقبلية. ثم يخرج على الناس بمقالات، تحدد مفاهيم العمل ومقاييسه الثابتة، حتى لا تضل في المفاهيم الغربية المستوردة، أو تتيه في زحمة التضليل المتداول في سوق الصراع الفكري.
وفي هذا الإطار كان الأستاذ مالك يتخذ من مواقف الأمس والحاضر أدلة للتوضيح والمناقشة.
فإذا تحدث عن الثورة في العصر الحديث، اتخذ من الثورات المعاصرة نماذج وأمثالا: الصين وكوبا وما أكثر ما ضجت بأحداثهما الستينات، وما أكثر ما خرج حولهما من تعليق. وما أكثر ما ربط الناس بين التطور والماركسية في تلك المرحلة، وما أكثر ما تحدث زعماء العالم الثالث عن الاشتراكية والتقدمية بوصفهما خطة في معركة البناء والتحرر:
كان حتما على رجل المنهج أن يستخرج الضوابط لهذه التطورات؛ فيطرح ما علق فيها من أوهام ترتبط بالبنية الفكرية للإنسان المتخلف في العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، ويأخذ الذي يثري مبادرات التغيير والتطور بتجربة فتية راهنة.
لذا استشهد الأستاذ مالك بكثير من المبادرات التي حفل بها العالم الحديث؛ فكانت اليابان مثلا لنهضة استقامت على سنة التاريخ، فأعطت وأثمرت منذ العصر الميجي في منتصف القرن الماضي، وكان الحديث عنها شاهدا على عقم ما اتبعت النهضة الإسلامية الحديثة من سبل فتفرقت بها عن سبيل الأصالة والسنن التي أودعها الله الحياة.
وكانت الصين، ومن قبلها الإتحاد السوفيتي، ومن بعدها كوبا، أمما أمثالنا؛ وقد واجهت أفكار هذه الأمم وقياداتها مشاكلها بتجربة واعية مدركة، فسارعت إلى مكانها في الإسهام في مصير العصر الحديث، في الإطار السياسي
والاقتصادي، فكان لابد إذن من مثل يؤخذ من هذه التجربة، ومثل يؤخذ من تلك التجربة، على الرغم من التباين المذهبي والسياسي بين التجربتين كلتيهما.
فحين يتحدث الأستاذ مالك عن اليابان حينا، وعن الصين أحيانا، على الرغم من أن الأولى ذات نظام رأسمالي والثانية ذات نظام شيوعي؛ فلكي يزيل عن أذهان العالم الثالث، ما قد فرضته معطيات الحياة المعاصرة، من حتمية الاختيار بين أي من النظامين في مواجهة ضرورات المستقبل.
فالأستاذ مالك يهتم بتوضيح الضوابط الفنية للحركة الاجتماعية، التي تتكون في بنائها ثقافة كل مجتمع، ويتكون في إطار هذه الثقافة حضارة توفر الشروط والضمانات الضرورية لأفراد ذلك المجتمع.
وهو في كل ما حدد من ضوابط في هذه المقالات في الإطار الثوري أو السياسي أو الاقتصادي، إنما يثري الفكر الإسلامي برؤية جديدة، يتعامل من خلالها مع القيم التاريخية والأصالة التي أودعها الإسلام ضمير العالم الإسلامي عبر العصور.
فالأستاذ مالك، يدعو إلى بعث هذه القيم في إطار ثورية حقيقية، ترتكز في أساسها على ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية في عهد النبوة، لذا يربط الأستاذ مالك بين معطيات السنن الإلهية في تطوير المجتمعات وتغييرها، وبين نجاحها الفعلي في كل أمة اتخذت طريق هذه السنن في مواجهة مستقبلها، مهما كان اتجاهها الفكري والمذهبي.
هذا الربط، إنما هو تأكيد للقاعدة التي هي سنة الله لا تبديل لها. فالله {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11/ 13]. وتغيير ما بالنفس إنما هو تغيير ما بالفكر من رؤية للأمور، وما بالروح من رتابة وجمود.
لذا بدا صوت الأستاذ مالك في هذه المقالات، عاليا وأحيانا منفعلا، وهو
يرى غفلة الأبصار عن حقيقة الهزيمة في حرب 1967م في فلسطين. وهكذا ضاع ما كان لهذه الصدمة من أمل في بعث الرؤية الجديدة لمستقبل الأمة العربية، وضاع في إثرها كل عمل جاد في تجميع الثروة الاقتصادية والبترولية للعالم العربي، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية عالمية ذات بعد سياسي واقتصادي معا.
لذا أهتم مالك بن نبي في الفصل الأخير، باقتصاد العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، فوضع لهذا الاقتصاد قواعد التنمية الحقيقية التي ترتبط بالجهد الاجتماعي في أساسها.
هذه المقالات تضعنا أمام حقيقة واضحة، حقيقة ترقب حركات التاريخ المعاصر بنظرة موضوعية لا عقدة فيها ولا كراهية؛ نظرة لا تخاف الماركسية ولا الرأسمالية إنما هي تفصل بين واقعها التاريخي وتجربتها الاجتماعية. وهي تأخذ من هذه التجربة بمقدار ما يوضح القاعدة الأساسية التي هي من سنن الله، أما النماذج التي انتهت إليها تلك التجارب، فهي تحظى من الأستاذ مالك باحترام الجهد الإنساني المتعاون، لكنها أبعد ما تكون علاجا لحالة اجتماعية نحاول الخروج من مأزقها.
فالأستاذ مالك يدعو العالم الإسلامي والدول الإسلامية، إلى تجربة تستمد معطياتها من واقع المشكلة، بعد تحليل عناصرها، دون التأثر بالمفاهيم التي زرعتها الحضارة المعاصرة في أفكارنا، وأسدلت ستارها على أبصارنا.
وهو لذلك يدعو في هذه المقالات، إلى علم اجتماع مستقل يختص بمشكلات العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، ويختط لمستقبله الاجتماعي والاقتصادي، خطة تنمية لا يثقلها اطراد نمو العصر الصناعي في الحضارة المعاصرة، وما أفرز هذا الاطراد من مفاهيم ماركسية ومشكلات رأسمالية.
طرابلس- لبنان- 30 شعبان 1398هـ
4 آب (أغسطس) 1978م
عمر مسقاوي