المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌وزن الوقت عن (الثورة الإفريقية) عدد 248 شهر تشرين الثاني (نوفبر) - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌وزن الوقت عن (الثورة الإفريقية) عدد 248 شهر تشرين الثاني (نوفبر)

‌وزن الوقت

عن (الثورة الإفريقية) عدد 248 شهر تشرين الثاني (نوفبر)1967.

شاهدنا على شاشة التلفزيون مقطعين من شريط عن الإتحاد السوفيتي:

كان المقطع الأول يعرض الصعوبات التي واجهها لينين والثورة تدور رحاها، فتضطره للخضوع إلى الشروط المخجلة التي فرضتها هدنة (بريست ليتوفسك)(1) عليه، فقد قبل هذه الشروط، على الرغم من رياح المعارضة في صفوفه وعواصفها، إذ كان يمنح الأولوية لتنظيم وإنقاذ ثورة لم ترس بعد جذورها في أرض روسيا وفي روح الفترة تلك.

أما المقطع الثاني فكان في غزو الفضاء والمكاسب الأخيرة التي حققها الرواد السوفييت.

وفيما نحن نتابع بعض ما تضمنه هذا المقطع من طفرة عجيبة حققها مجتمع انتقل من عهد (الموجيك)، إلى عهد الإنسان الذي يغزو الفضاء بنجاح، إذا بصرخة تطلقها طالبة طب من أهلي كانت بجنبي:

- مع أن خمسين عاما من الزمن شيء قليل!

هكذا قالت طالبة الطب.

وتذكرت حينئذ مقطعا من كتابي (شروط النهضة) أكتبه كما أذكره:

(1) هي الهدنة التي أوقفت حالة الحرب بين روسيا وألمانيا سنة 1917.

ص: 67

((إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب، والحقل الذي يعمل به، ولكن هذه الساعات التي تصبح تاريخا هنا وهناك، قد تصير عدما إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها)).

إننا إذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة، فالقرن لا يساوي شيئا، بل حتى ألف السنة لا تساوي شيئا.

ولعل الطالبة التي صرخت بجنبي تشعر بذلك ولو شعورا غامضا.

أما إذا قدرنا الزمن بمقياس (تايلور) فإن كل دقيقة لها وزنها، الذي يكون معه للسنوات الخمسين التي مرت على الثورة السوفييتية ثقل هذه الدقائق المنتجة، والتي أتاحت لمجتمع معاصر لنا أن ينتقل من عهد (الموجيك) إلى عهد (رواد الفضاء) في برهة من الزمن جد قصيرة.

وحين ترى الشعوب النامية، بصورة من الصور، تجربة تيلورية حية فسوف تدرك أن حتمية التاريخ لا وجود لها، وبعبارة أدق فإن حتمية التاريخ تصبح في قيد الإنسان وتحت رقابته.

فالتاريخ ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الإستعمار، ولكن ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها.

كنت في مقال سابق قد ذكرت حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر المسلم فيه من كل استسلام للأمر الواقع، وأنا أكرره هنا دفعا للشك والريبة اللذين ربما ساورا ضمير المسلم.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم، كما تكونوا يولّ عليكم» فإذا أصبح ابن (الموجيك) عالم فيزياء يكشف عن آخر أسرار الذرة، أو رائد

ص: 68

فضاء يغزو مجاهله، فإنما هو العمل الدائب لمجتمع جند طاقاته كلها طيلة خمسين عاما.

وإذا كان للشعوب النامية درس يستفاد منه في العيد الخمسين الذي أقيم هذا الشهر في موسكو، فإنما دلالته في الكشف عن قيمة الوقت بصفته عامل نهوض وتقدم.

ولو سمح لي أن ألخص وجهة نظر عبرت عنها منذ ربع قرن لقلت: إنه ليس من الضروري ولا من الممكن، أن يكون لمجتمع فقير، المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر أن ينقص من قيمته شيئا، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، والتراب، والوقت.

***

ص: 69