الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تغيير الإنسان
عن مجلة (الثورة الإفريقية) عدد 221 شهر أيار (مايو)1967.
ينقل العدد الأخير من مجلة (نوفيل أوبسرفاتور) مقالا من مجلة (بروق)، يصف صاحبه، (فرانسوا فوريه) ما يسميه:((تيه المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية)).
إنني بكل أسف لم أطلع على هذا المقال، وربما لم تكن لتفيدني مطالعته إلا من الناحية الفكرية، إذا ما عقدت موازنة بين الحالة التي يصفها وبين ((تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة)).
غير أن الموضوع يأخذ فجأة أهمية كبرى، حين نقرأ ملاحظة لـ (جان دانييل)، تطرح بصورة غير مباشرة، مشكلة لم تفقد أهميتها في كل محاولة تقويم جديد للثورة الجزائرية.
إن ثورة ما، هي في جوهرها عملية تغيير.
غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته: فأما الأسلوب فيتسم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي:
ما هو الموضوع الذي يجب تغييره، ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟
المشكلة تبدأ من نقطة الاستفهام هذه، فمن هذه النقطة بالذات تنشأ في الأذهان الالتباسات والشبهات.
وينبغي على الثورة لتفادي الإبهام، أن ترسم خطا واضحا حول موضوع التغيير حتى لا يبقى مجال للخلط.
أما إذا أسلمت الأمور إلى الغموض والضباب، فإن أي انحراف سيكون متوقعا، وسوف تظل الثورة معرضة لأن تترك مكانها- دون أن تعلم- لشبه ثورة، تستبدل بالكيف الكم، وبالتغيير الجذري الضروري شبه التغيير.
إن مجموعة من المظالم الاجتماعية تستطيع تخزين طاقة ثورية هائلة، ولكن إذا انفجرت هذه الطاقة، وهي تنفجر في ظرف استثنائي، فليس من المؤكد أن تمسك الثورة اتجاهها، وألا يطرأ فيها انحراف.
الإستمرار في الاتجاه إذن يقتضي شروطا.
وفي هذا المجال نرى في تعليق (نوفيل أوبسرفاتور) توضيحا لا مزيد عليه في الموضوع، إذ أن صاحبه (جان دانييل) احتج على (فرانسوا فو ييه) برأي، أدلى به (جيفارا) في حديث عن الثورة يقول فيه:((إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني إذن شيئا بالنسبة لي)).
فهذه كلمات في منتهى الوضوح، في منتهى الصفاء، وفي منتهى الدقة، إنها تضعنا في صلب القضية.
لقد علق (جان دانييل) على هذه الكلمة بأنه كان يشعر أثناء الحديث مع (جيفارا) وهو يقول هذه الكلمات ((بنفس تتخلله حدة دينية)).
ولقد كان (جان دانييل) محقا في تعليقه هذا.
وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة.
والتغييرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط، فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وتعديل النظام الاقتصادي، هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية.
وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه.
وقد يرتفع متوسط الدخل الفردي أيضا، دون أن يكون ذلك القياس الصحيح الذي به تقاس الثورة.
إذ لو كان الأمر يقتضي مجرد زيادة في الأجور وفي وجبات الطعام، لكان على حد تعبير (جيفارا) مع تصرف قليل في كلماته
…
لكان استعمار جديد له نصيب من الذكاء أقرب إلى النجاح بالمعنى الثوري المنحرف.
ولقد كان الشعب الجزائري الثائر، على إدراك تام لقضيته، عندما قال:((لا))، في استفتائه على مشروع قسنطينة، الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية.
فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار، فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمها.
ولا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 بصفته بعثا وتحريرا للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث، التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف.
ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان على الإنسان أن يحتقر نفسه وأن يتحلى بألقاب (أنديجين) .. كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه.
والمثقف في الجيل السابق كان يطالع جريدة (صوت الانديجين) وجريدة (صوت المحتقرين)، وإذا تعين عليه أن يكتب شيئا فموضوعه يتحدد في ذهنه بقابلية للاستعمار، وكذلك المثقف الجزائري الذي نشر حوالي عام 1925 كتابا عنوانه (يا ألله)، وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره ((أو كيف يأمر الأوربي (الانديجين) حتى يطيعه)). لعل هذه العبارة تكفي دليلا على سمو العواطف عند صاحبها، أليس كذلك؟.
ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفون، بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في أرجاء العالم الثالث، وفي إندونيسيا منه عينات نقل بعضها (ريدشارد قرقايط) في كتابه عن باندونج.
فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار، أهم عمل ثوري في الثورة.
فلا غرابة إذن في أن الذين كانوا في فرنسا يعرفون عن العامل الجزائري صورة هزيلة، يكتشفون له بصورة مفاجئة صورة تفرض التقدير والاحترام عندما اندلعت الثورة.
لقد لعبت الكلمات نفسها دورا في هذا التعبير، فبمجرد أن كان الجزائري يلقب (بالمجاهد)، كان وكأنما ألغى من ذهن الآخرين صورة (الانديجين) الحقير، حتى قبل أن يطلق أول رصاصة في الجبل.
فبمجرد ما يلقب (بالمجاهد)، كان في طفرة واحدة، يصبح البطل الواعي المدرك لعظمة تحديه للقوى الهائلة التي أمامه.
وإذا تغيرت الكلمات بطريقة عكسية أو غيرت في اتجاه آخر، فإن أثرها في بعث الإنسان سيتأثر قطعا بسبب ذلك.
لقد حدد الدكتور خالدي، بطريقة موفقة، أهمية الكلمات من حيث مدلولها الثوري، ويجب أن نقدر أهميتها من الناحية النفسية؛ إن الكلمات تعين مواقف أيديولوجية محددة.
فإذا غيرناها فالتغيير لا يعتري فحسب (لغة) الثورة بل إنه سيصيب (روحها) وربما يغير الموقف الثوري نفسه.
فإذا تنازل الثوار عن لقب (المجاهد) فسرعان ما سوف يظهر في سلوكهم الانحراف، الذي كان يعتريهم عندما كانوا في الخدمة العسكرية في جيش الاستعمار.
يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء (لغتها) حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان.
إن بعض الإباحيات في اللغة- وقد يعدها أصحابها من الإقدام الثوري- ليست إلا خيانات للثورة في موضوعها الأساسي وهو تغيير الإنسان.
فإذا ما تحدث بعض المخنثين عن (التحرير الجنسي) مثلا فكلماتهم لا تعبر عن شيء سوى هبوط في الطاقة الثورية.
وليس من العبث أن يعزو (سفر التكوين) في العهد القديم سائر العوامل التي مزقت وحدتهم وفرقتهم، إلى البلبلة التي حدثت في لسان القوم. وقد أوضح بذلك أثر الكلمات على مصير البشر.
على أية حال، فالثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا هي لم تغير الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته.
وإذا ما نظرنا إلى الأمور في عمقها، فإن ثورة ما، لابد لها أن تسير طبقا للقانون الاجتماعي الذي تشير إليه الآية الكريمة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 12/ 13]
***