الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياسة والأيديولوجية
عن (الثورة الإفريقية) عدد 141 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1965.
في مقال سابق، عرفنا السياسة بشروط ثلاثة هي أدنى ما يحددها من شروط، ولم يكن تعريفنا لها في الحقيقة إلا مقياسا مجردا يميزها عن (سياسة) مزعومة ترتكز على تقديرات سافلة، وتطبيق مشبوه.
هل يكفي هذا التعريف؟
هل يكفي أن تعرف دولة عملها في ميثاق وطني مثلا، ثم تحدد طريقة لوقايته من أعمال التخريب أو ما يسمى في بعض البلاد (الانحراف المذهي)؟.
إنني لا أرى ذلك كافيا.
فالشروط السابقة التي أشرنا إليها ضرورية كلها، غير أنها ليست بكافية، وهذا ما تدل عليه بوضوح تجربة فرنسا، بعد ثورتها، التي تطبق اليوم دستورها السادس بعد إفلاس الخمسة الأولى من دساتيرها بوصفها جمهورية.
ينبغي أن نعود إلى تحديد (السياسة) على أبسط صورة باعتبارها عملا تقوم به الدولة. فمن الواضح أنه بالإضافة إلى الشروط الدستورية التي أشرنا إليها ينبغي على السياسة أن تطابق شرطا آخر، غالبا ما يكون غير منصوص عليه إلا أنه أكثر إلحاحا من سواه. فالسياسة لا تستطيع أن تكون العمل الذي تقوم به الأمة كلها إلا بقدر ما تكون مطبوعة في عمل كل فرد منها. هذا هو الشرط الذي نضيفه هنا.
إن (الإجماع) هو بالتالي القياس الجوهري الذي يميز سياسة ناجعة. ومن هنا تبدأ قضية الايديولوجية تطرح نفسها، لا على أنها مجرد اقتراح يستحسن، كثيرا أو قليلا، في مجال الافكار، بل بوصفها مشروعا حيويا به يكون للسياسة تأثير حقيقي على الواقع المحسوس في الوطن.
فلنتفحص عوامل هذا التأثير على الواقع، الذي لا يتسنى- ونحن نكرر هذا- إلا إذا تجانس عمل الدولة مع عمل الفرد.
ولا يمكن لتجانس كهذا أن يتحقق في غير ضمير الفرد، باعتباره مصالح حيوية مشتركة، ومسلمات متفق عليها بين جمهور من الناس يكون جسم الأمة وإجماعها.
فإذا تضاربت المصالح هذه أو اختلفت هذه المسلمات، فلن تكون السياسة سوى دكتاتورية كما تعرفها بكل أسف كثير من بلدان العالم الثالث، وهي بالتالي لن تستطيع أن تنسجم في الحقيقة مع مصائر الأمة ولا أن تحقق أهدافها.
وهذه الاستحالة تنتج أولا عن رفض الأمة تجاه هذه السياسة، رفضا يفصل الدولة معنويا عن الوطن، وثانيا عن عجز هذه السياسة في التأثير على نشاط كل فرد، وبالتالي عجزها في تحريك الطاقات الاجماعية الموجودة في اتجاه معين، نحو هدف محدد تدركه أغلبية المواطنين.
إن التعاون بين الدولة والفرد، على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والثقافي، هو العامل الرئيسي في تكوين سياسة تؤثر حقيقة في واقع الوطن. وإذا ما تعذر هذا العامل، فإن القطيعة المعنوية سوف تعزل الدولة عن الوطن وتشل الطاقات الإجتماعية، أو (والأمر هنا أدهى وأمر) تشتتها تشتيتا تكون نتائجه: عدم الانسجام وعدم التناغم، ومعارضات طاغية في فوضى شاملة، يسودها شعار (عليك خاصة نفسك)، ذلك الشعار الذي تدين به
فترات الانحطاط والقهقرى، كتلك الفترة التي أطلقنا عليها (عصر ما بعد الموحدين).
ولا يفوتنا أن نضيف هنا، أن التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد، في نطاق التعاون الذي أشرنا إليه، يتحقق في ضمير الفرد، ويجعل هذا الضمير موضوعا من ناحية وحكما من ناحية أخرى.
فالسياسة التي تريد تلقين مسوغاتها وأهدافها لهذا الضمير، عليها أن تجعله حكما، يصدر بكل حرية حكمه في مسوغاتها وأهدافها.
وربما استطاعت السياسة أن تأخذ هذا الحكم على حين غرة، في وقت ما، خصوصا حين ترفع شعارات خلابة وتصرح بوعود مغرية.
ولكن- كما يقول رئيس الولايات المتحدة (إبراهام لنكولن) -: إن التغرير بفرد ممكن دائما، والتغرير بشعب ممكن بضعة أيام، إلا أنه غير ممكن كل يوم.
والشعب الجزائري الذي ألقى في مهملات التاريخ كثيرا من الأساطير التي استولت منذ سنة 1930، على منصة سياسته، يقدم أصدق دليل على صحة رأي رجل الدولة الأمريكي.
يبقى إذن على السياسة- كي تتشكل على صورة الحياة الحقيقية- أن نتصور أولا محتواها من خلال العمل الفردي وفي مستواه.
ولا شك أن هذه الواقعية، هي التي أملت على (لينين)، الشعارات التي اتخذها من أجل تجنيد طاقات الجماهير في خدمة الثورة.
حينئذ بدأ عمل كل فرد روسي- جندي أو فلاح أو عامل- يتجانس مع عمل الدولة السوفيتية على أساس مسوغات فردية، هي على درجة من البساطة
ولكنها منظمة، مرتبة ضمن مسوّغ شامل، ربما لا يكون فهمه متيسرا للجماهير.
فلينين، لم يقدم للجماهير نظرية ماركس؛ كتابه في (رأس المال) على سبيل المثال، ولكن قدم لها فحواه وترجمته على صورة هي في متناول الإدراك الشعبي، وقابلة بسبب ذلك، للتأثير السياسي مباشرة، فأطلق لينين شعاراته المشهورة:((السلم للجندي، والخبز للعامل، والأرض للفلاح)).
وقد بدأت الجماهير منذ تلك اللحظة تصبح طاقات ثورية واعية وهي لم تكن قبل ذلك داخل النظام.
ولكن، هل كان يكفي لتستمر الهزة الثورية، دفعة من الشعارات التي أطلقت، وحققت انضمام الجماهير إليها آملة احتمال تغيرها في الطريق، كشعار ((الأرض للفلاح)) عندما تدق ساعة الكلخوز؟!.
إن الايديولوجية التي لا تتضمن- بصفتها أفكارا موجهة قوية- إلا مصالح عاجلة، فإنها وإن كانت محترمة) لن تفتح الطريق لغير سياسة قصيرة محدودة المدى على قدر الشعارات التي دفعتها.
وسياسة كهذه لا تستطيع، في المثل اللينيني، الذي ذكرناه للتوضيح، أن تكون في مستوى عهد المشاريع العظيمة والمحن الكبرى، التي تطلبت من الثقة والتضحية ما كان ضروريا للتشييد الاشتراكي ولمواجهة الهجوم الهتلري.
فالايديولوجية تتطلب إذن خمائر أخرى، تضمن الوحدة الضرورية بين عمل الدولة وعمل الفرد لإنجاز مهمات بعيدة ترتكز على الثقة والبطولة.
والخمائر هذه هي التي تعطي، حسب جوهرها، القيمة- الجليلة والحقيرة- للسياسة أمام التاريخ.
وإذا ما تفحصنا هذا الجوهر وجدنا أنه من عنصر أخلاقي وهو متصل بما وراء الطبيعة أي من العنصر النفسي.
فالفكرة الموجهة لسياسة تستطيع مواجهة أهوال التاريخ، لابد لها أن تتكون من هذا الصنف، إذ الجهد المدعوم بمصلحة عاجلة قد يتولى، ليس فحسب حين تحصل في بعض الظروف خيبة أمل تدفع إلى التراجع والقهقرى، بل حتى إذا دخل المجتمع بفضل ما حققه، حالة إشباع يسودها الفتور واللامبالاة.
ففي الحالين كليهما يتعرض المجتمع للانفرادية، أي لأصناف التمزيق. وهكذا لا يستطيع مجابهة أهوال الزمن إلا جهد تدعمه عقيدة لا يعتريها الشك أبدا.
والتاريخ منذ عهد (الفيران) في روما، إلى شهداء بدر، إلى أبطال ستالينجراد، ليس إلا شرحا لهذه الحقيقة.
فالتعاون بين الدولة والفرد، لابد له من جذور في عقيدة تستطيع وحدها أن تجعل ثمن الجهد محتملا مهما كانت قيمته لدى صاحبه، فيضحي هكذا بمصلحته حتى بحياته في سبيل قضية مقدسة في نظره.
إن السلوك الذي سمي (الستخانوفية) لا يفسر بوصفه عامل إنتاج إلا بهذه الطريقة. فهو المظهر الإقتصادي في حياة مجتمع تحركه فكرة توجيه تفوق كثيرا الإمكانيات العادية في ذلك المجتمع.
وإفلاس الإستعمار في المستعمرات كان محتوما، طبقا لقانون التعاون الضروري الذي كان مستحيلا بين الإستعمار والإنسان المستعمر.
ولا يعني هذا أن الإستعمار لم يحاول مواجهة المشكلة هذه، بفصل المسلم عن الإسلام، إلا أنه باء بالفشل، سواء بمحاولاته ذات الطابع اللاديني أو ذات الطابع الديني الهادف إلى (التمسيح).
لقد كان الإسلام الحصن الذي فشلت تحت أسواره جميع المحاولات، التي استهدفت سلب الشعب الجزائري شخصيته على مدى قرن من الزمان، كما كان الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعم جهده البطولي خلال الثورة.
ولكي نلخص هذه الكلمات لابد لنا أن نقول: إن علينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع تاريخنا.
***