المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العامل الجزائري في فرنسا - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌العامل الجزائري في فرنسا

‌العامل الجزائري في فرنسا

عن (الثورة الإفريقية) تشرين الأول (أكتوبر) 1965كتبت بمناسبة تأسيس (ودادية العمال الجزائريين في أوربا).

من الأشياء ما لا تدركه بالكلمات، إنما تدركه بالتذوق. وليس يكفي، كما يقول الغزالي، أن تقول هذا حلو إذا لم تتذوق طعمه، فمن ذاق عرف.

والعامل الجزائري في فرنسا من تلك الأشياء التي لا يدركها المرء بمجرد الكلمات.

فهلا سافرت من الجزائر إلى مرسيليا على عنبر سفينة أو متخفيا في مخزن فحمها.

وهلا نزلت في غبش ذات صبيحة في محطة ليون في باريس، دون أن تكون لديك فكرة عن طعامك ذلك اليوم؟؟

وهلا جُزت شوارع باريس على الأقدام، دون أن يكون لك فلس تركب به المترو، تبحث عن عمل؟!

وهلا وقفت ساعات لا تنتهي في صف طويل أمام شباك التشغيل؟

وهلا دفعت براميل ثقيلة على رصيف مصنع ثماني ساعات في اليوم، أو أفرغت شاحنات ضخمة سحابة النهار حتى تفسخ جلد كفيك؟!

ص: 55

هلا قضيت ليلك في المصنع، ثم خرجت في البكور مكبا على وجهك كأنما ظهرك قد انقسم نصفين، وكأنما عضلاتك لم يبق منها شيء، وقد التصق قميصك بجلدك من العرق؟.

إنك إذا كنت كابدت شيئا من ذلك فأنت تعرف القضية.

ولسوف تدرك أحلام الذين يذهبون هناك ثم يعودون بخفي حنين بعد إقامة قصيرة غير مجدية، أو يبقون في باريس يتعرضون للأمراض والتدهور الأخلاقي والإجتماعي الذي يتهددهم.

ولسوف تدرك أيضاً ما يبذل هؤلاء الذين بقوا هناك من جهد ليسلموا من أخطار تحدق بهم، وليجدوا لأسئلة تؤرقهم أجوبة تستشفها عقولهم.

أجل

إنك إذن ستدرك هذا كله دون كلمة أو نصف كلمة لأنك ذقته، لأنك عشت في لهبه، وكرعت من حوضه!!.

فالكلمات لا تستطيع سوى أن تخط حول هذا الموضوع خطا أسود يشير إلى محتواه الإجتماعي والسياسي.

أما هؤلاء (المتعطرون) الذين يتحدثون عن (الشروط الموضوعية) للعمل، وهم ينعمون على سطح مقهى من المقاهي الفخمة، فهؤلاء لا بد أن تكم أفواههم حتى لا يدنسوا بكلماتهم موضوعا كهذا.

وقبل هؤلاء، ينبغي أن تكم أفواه أساتذتهم الدجالين الذين لم يتعرفوا على الجماهير الكادحة، إلا في تلك القاعات الفسيحة حيث كانوا يأتون قبل الثورة، يعللون آمالهم- (فالجزائر لا ييئس أبدا من رحمة الله) - بكلمات خلابة حتى يجمعوا تبرعاهم في كل شهر.

ومهما يكن من أمر، فنحن اليوم أمام وضع معين علينا أن نباشره بحكمة.

ص: 56

فالجزائريون الذين يعيشون في فرنسا يكونون طائفة من المغتربين يبلغ عددهم سبع مئة ألف نسمة.

وهذا العدد وحده، يعبر عن أهمية قضية تتطلب تحقيقا نعرف به كيفية توزيع هؤلاء المغتربين على الخريطة الفرنسية، ولعله من ترف القول أن نشير بأن أحدا سوى الإدارة الفرنسية لم يعتن بهذا الأمر.

على أننا نستطيع على وجه التقريب، أن نتصور التوزيع الجغرافي هذا، وقد تكون عبر السنين حول مراكز تقليدية ثلاثة: باريس، مرسيليا، ليون.

يضاف إلى ذلك ما استوطن من الجزائريين حول مناجم الفحم في الشمال، وحول مناجم الفحم شرقي البلاد.

هذه المراكز تكون النقاط الأساسية لخريطة إسكان الجزائريين في فرنسا.

ثم لا بد من ملاحظة عامة أخرى، فسكان فرنسا من الجزائريين صنفان من السكان: صنف يغدو إلى فرنسا ويروح إلى عائلته في الجزائر. وصنف استقر نهائيا في مكان عمله.

وحينما نميز هذين الصنفين لا نعقد بينهما نسبة عددية لأننا نفقد إحصائية دقيقة تسمح بذلك، وإنما نريد فحسب لفت النظر إلى نوع المشكلات الخاصة بكل صنف.

فالعمال الجزائريون المستقرون في مكان عملهم يكونون بطبيعة الحال مجتمعا فيه الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، بمعنى آخر مجتمعا يطرح سائر المشكلات التي يواجهها وطن ما من تربية أطفال ورعاية أسرة أدبيا وطبيا، وزواج ودفن أموات، وإحاطة أفراده بإطار ثقافي معين.

ص: 57

أما بالنسبة للصنف المترحل عن مكان عمله، فالمشكلات تأتي على درجة الحاجة العاجلة: المأوى، العمل، الضمان الإجتماعي للعامل الذي لم يجد بعد عملا، الإطار الثقافي الذي ينبغي وضعه فيه ليستفيد من الإمكانيات الثقافية الموجودة في مكان العمل، أو الموجود في الوطن الأم في نطاق ما يسمى (التربية الشعبية).

بعد تعداد المشكلات الخاصة بكل صنف من الصنفين اللذين ذكرت، هناك المشكلة المشتركة بينهما، وإنها لمشكلة ملحة، والسؤال الذي نطرحه الآن يدلنا على درجة إلحاحها

فهل تستطيع الجزائر أن تزهد وتضيع بالتالي سبع مئة آلف من آبنائها؟.

هذا السؤال ينتج عنه سؤال آخر، ماذا تبذل الجزائر كي تمسك في أحضانها هذا العدد من أبنائها

؟.

قد يتبين للقارئ هنا أننا لا نقدم حلولا، بل نطرح مشكلات نراها في منتهى الخطورة.

ولكي نعطيه فكرة عن تفصيل من تفاصيل القضية فليسمح لي أن أذكر ما سمعته من امرأة

من أم جزائرية عام 1954.

لقد كانت المرأة هذه ترى، والأسى يفتت قلبها، أن أطفالها لا يجدون في المدرسة التي يترددون عليها في باريس، أية معلومات عن تاريخ بلادهم، ولا أي توجيه ثقافي يتلاءم مع عادات وتقاليد الوطن، ولا أي شيء يربطهم بمصيره، لقد كنت في تلك الفتر، قبل الثورة بقليل، مهتما بأمر يشغل بالي؛ ففي باريس كانت ولا تزال المشاريع ذات الطابع الإجتماعي والإنساني، وهي جديرة بأن تقدم على الفور بكل نزاهة الجواب الذي كانت الأم الجزائرية تنتظره مني إذا قصرنا سؤالها على مجرد تكوين أولادها مهما كانت الطريقة.

ص: 58

لكن جوابا كهذا ما كان له أن يلي رغباتها بوصفها أما جزائرية.

فقد كان أي مشروع جزائري جدير بتلبيتها لو كان موجودا إذ ذاك، غير أن منظماتنا الوطنية لم تكن تفكر في إيجاده، إذ كانت تفضل الظهور على المنصات، على القيام بأعمال متواضعة لا تلفت النظر.

لقد كان من المحتمل أن يناهز عدد الأطفال الجزائريين في تلك الفترة- قبيل الثورة- ثلاثين ألفا في باريس وضاحيتها.

فسؤال الأم الجزائرية لم يكن فاقد الأهمية، في وسط توجد فيه عند كل باب سائر وسائل التعليم والتكوين المهني، لقد كان يدوي في ذهني دويا كبيرا. إن ثمة معجزة في متناول أيدينا، لو شئنا تحقيقها: لكنا نستطيع خلال سنوات معدودة تجهيز الوطن (وهو مقبل على الثورة) بثلاثين ألفا من الفنيين من كل نوع.

وإنا لندرك ونحن أمام مشكلات البناء، قيمة المعجزة التي فرطنا بها.

لماذا لم تتحقق، وقد كانت الأسر الجزائرية مستعدة للعطاء ولم ينقطع سخاؤها في أبواب الخير، بل كانت مستعدة لدفع كل ما تستطيع لكل من يريد القيام بتوجيه أطفالها.

فلا يجوز إذن أن نعزو الفشل إلى أسباب مادية، بل إلى أسباب فكرية ونفسية.

لقد درست فعلا القضية عن كثب، ووضعت في ذهني خطة بسيطة لمواجهتها. وهي مواجهة لم تكن تتطلب إلا بعض التضحية والمبادرة من زعماء حركاتنا الوطنية في باريس.

ويجب أن نقول اليوم إن القضية لا زالت قائمة، غير أن الظروف تبدو أيسر في مواجهتها من ناحية، ومن ناحية أخرى أشد عسرا.

ص: 59

فهي عسيرة؛ إذا قدرناها بالنسبة لعدد الأطفال الذي لم ينقص بل تزايد في العقد الأخير، ولأن الوضع السياسي قد تغير بالنسبة إلى آبائهم.

وهي يسيرة: لأن القضية لم تعد رهينة منظمات كما كانت قبل الثورة، بل أصبحت بين أيدي الدولة الجزائرية، ولا نتصور أن الدولة ستزهد بسبع مئة ألف من المواطنين.

إننا ننتظر من الدولة أن تحرر العامل الجزائري في فرنسا، من أولئك المشعوذين الذين يبتزونه، كما استغل أخاه في الوطن الموظف وشيخ الزاوية.

ولا ينحصر دور الدولة الجزائرية في الجانب السياسي والمادي من القضية بل ينبغي أن تعالج الجانب التربوي أيضاً.

ينبغي أن تعنى الدولة بوضع العامل الجزائري في فرنسا، حتى لا يذهب إلى مكان عمله بأخلاق تسيء إلى سمعة الوطن، أو يعود إليه بسلوك يسيء إلى مجتمعه.

إن المشكلة لا تتطلب مجرد الموقف النظري، ولا مجرد المواقف الخيرية. إنها جديرة بكل اهتمام ودقة.

***

ص: 60