المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مؤتمر نيودلهي عن (الثورة الإفريقية) عدد 266 في 21 آذار (مارس) - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌مؤتمر نيودلهي عن (الثورة الإفريقية) عدد 266 في 21 آذار (مارس)

‌مؤتمر نيودلهي

عن (الثورة الإفريقية) عدد 266 في 21 آذار (مارس)1968.

أن مؤتمر (77) الذي انعقد في الجزائر منذ بضعة أشهر، كان المقدمة للمؤتمر الذي تجري مداوالاته الآن في نيودلهي، وهذه المداولات تهمنا من نواح عدة خصوصا وقد اتخذت فجأة طورا مزعجا للغاية على الأقل بالنسبة للمسيو (راؤول بريببش)، الذي يحضرها بصفته الأمين العام لمنظمة إعانة الدول النامية cnuced. فقد رأى أن المقود الصعب للسفينة التي كلفته قيادتها هيئة الأمم المتحدة، يكاد يفلت من يده فتتحطم السفينة على الصخور. حتى إنه وجه نداء للدول الغنية يستنجدها، ويصرخ في ندوة صحفية: إن المؤتمر على حافة (الإفلاس).

لسنا ندري إذا كانت السفينة ستسلم بفضل ندائه، لكن الشيء المؤكد الآن، في احتمال فشل مسعاه (كما يراودنا الشك في ذلك منذ مؤتمر 77) هو أن خيبة أمل الدول النامية قد تكون خيرا لها، إذا ما هضمت هذه الخيبة واستنتجت منها ما يفيدها.

والمشكلة بالنسبة لهذه الدول تطرح كما طرحت لأوربا، على الرغم من أنها طرحت لهذه الأخيرة بألفاظ أقسى، حين اعتبرت جولة (كندي) تحديا منح أوربا وعيا أكبر، عبّر عنه كتاب يحمل عنوان (التحدي الأمريكي) لـ (جان سرفان شرايد).

فالعالم الثالث يواجه تحدي الدول المصنعة، وعلينا هنا أن نواجه أنفسنا

ص: 154

بصدق. فنحن إذا كنا نعرف كيف نقدر حاجاتنا من ناحية، فإننا من ناحية أخرى لا نقدر كما ينبغي إمكانيات الآخرين أو حسن نواياهم.

وقد لا نستطيع فعلا تقدير إمكانياتهم ليس فحسب لعوامل نفسية في أنانية الكبار وتسلطهم، جعلت الأقوباء جدا ضعفاء في التعاون بين الدول، بل هنالك عوامل أخرى تتصل بسياسة الكبار الداخلية وبما يشغلهم في عقر دارهم فيصرفهم عن مشاغلنا.

ولنذكر على سبيل المثال كيف أن الجنيه الاسترليني لا يعرف الآن مصيره، وكيف يتزعزع الدولار لأنه يفقد غطاءه الذهبي (1)، أو نذكر التحدي الأمريكي لأوربا لنجد الأسباب أو المعاذير، التي تجعل النداء الذي وجهه المسيو (راؤول بريببش) معرضا ليقع في الفراغ فلا يجد أذنا صاغية.

وقد يكون مصيره مصير النداء الذي وجهه، منذ أربعين سنة بطل (طاتبيرج) في الحرب العالمية الأولى، عندما أستنجد بالعالم المتحضر لإنقاذ عملة بلاده وجمهورية (فيمار).

وحتى البلدان الإشتراكية لها مشاغلها اليوم، على الصعيد الايديولوجما على الأقل (2).

وإذا تصورنا مداولات نيودلهي، ومصير (الحوار) في إطار دولي كالذي أوضحنا، فإننا نتصور خاتمة الحوار في كلمة (نو) من طرف الانجلو سكسون و (نييب) من طرف السوفييت.

على العالم الثالث إذن أن يعتمد على نفسه، وأن يستعد لمواجهة سائر

(1) انتهت القضية بعد ذلك بان ألغت أميركا الغطاء الذهبي لعملتها.

(2)

كان الصراع بين موسكو وبكين على أشده حتى على الجبهة العسكرية بسبيريا.

ص: 155

الإحتمالات بوسائله الخاصة، ومشكلته ليست سهلة الحل، لأنها لا تتسم بالطابع الإقتصادي البسيط كما يعني إختصاصي الإقتصاد بهذه الكلمة.

فحين نقول إن العالم الثالث ملزم بمواجهة الوضع الإقتصادي بوسائله الخاصة وبإمكانياته التي بين يديه، فإننا لا نقول إلى أي حد يستطيع استخدام هذه الوسائل وتلك الإمكانيات.

إنني أعلم أن أهل (ميلة) يتذوقون النكتة، فليسمحوا لي بنكتة قسنطينية قديمة تنير هذا الجانب من القضية.

ففي قسنطينة كانت ألسنة حداد تصف صدق أهالي (ميلة) وأمانتهم بصورة كريكاتورية، فتذكر عنهم قصة خاتمتها هذه الكلمة:((يا أهل ميلة! يا رؤوس بقر، إنكم تضعون أقدامكم على الفضة وتحسبونها قطعة من الصخر)).

قطعا ليست هذه سوى نكتة بالنسبة لأهل ميلة، لكنها تدخلنا بصورة رمزية في صلب الموضوع. أعني في الأوضاع النفسية الراهنة في العالم الثالث، هذا العالم الذي يضع أقدامه فعلا على خيرات لا يتصورها العقل، وهو لا يستفيد منها شيئا في خطة تنمية.

هذا الجانب هو جوهر مشكلته الإقتصادية، وهو الذي لفت، منذ نحو عشرين سنة، نظر (تيبورماند) الذي يلاحظ بحق، في أحد كتبه، هذه الملاحظة الكاشفة عندما يقول:

إن القضية تتطلب (عالم الحياة في الإجتماع) أكثر من (مهندس اجتماع).

إن الحياة الإقتصادية لا ترتبط فقط بأجهزة ذات طابع فني ومالى وتنظيمي، بل هي قبل ذلك مرتبطة بأجهزة نفسية موجودة في المعادلة الشخصية لدى الفرد الذي يفكر في الخطط والذي ينفذها.

ص: 156

وهذه المعادلة ليست من المعطيات البسيطة التي نجدها تلقائيا في الجهاز الميكانيكي الذي نقتنيه لتجهيز مصنع، ولكنها شيء يكتسب، جنبا إلى جنب مع تكوين ونمو ثقافة.

لقد شرحت هذه الاعتبارات في كتاب نشرته في الموضوع منذ عشر سنوات (1)، ولربما وجدناها بشروج مستوفاة بتوقيع كبار الإختصاصيين فى جريدة (لوموند الديبلوماسي) في عدد آذار (مارس) 1968 الذي خصص تقريبا لمؤتمر نيودلهي.

ومن بين الآراء التي نقرؤها في هذا العدد نقتطف ما قاله (جوزوي كاسترو) بعنوان (تكوين الإنسان) هو مفتاح التنمية، إذ يبدو لنا أنه أبرز المشكلة على الصعيد الذي نطرحها عليه هنا.

فصاحب كتاب (جوعة العالم) الذي حصل الشهرة التي حصل عليها كتاب (فنديل ديلكي): (العالم واحد)، قد حلل تحليلا دقيقا الملابسة الإقتصادية التي مرت بالعالم في الفترة الأخيرة، وقد لخص رأيه فيها ((بأن العهد الذي كان ينتظر منه تحقيق شروط التنمية كان بالتالي عهد خيبة الأمل)).

إن (جوزي كاسترو) يبدأ في أطروحته من ملاحظة أولية يقول ((إن العلم يعترف اليوم بفشل استراتيجية التنمية التي اتبعتها البلدان المتخلفة)).

وينحصر سبب الفشل في نظره ((بأن هذه الإستراتيجية كانت موضوعة على مبادئ ومناهج تفكير بعيدة عن أن تحقق الفعالية)).

وأكبر الأخطاء التي ارتكبت في نظره هو ((أن الخطط قد وضعت على مبدأ تشابه اطراد التنمية في كل مكان، مع ما سار عليه النمو في البلدان الغنية في الغرب)).

(1) انظر الفكرة الأفروسيوية فصل ((مبادئ الفعالية في الاقتصاد)).

ص: 157

وأضيف لو سمح لي أن أقول ((أو شبيه بالتنمية في البلاد ذات الايديولوجية الماركسية، دون أن نقدر حسابا للتغيير الذي أحدثته هذه الايديولوجية في الإنسان ذاته)).

هذا هو بصورة إجمالية مرض العالم اليوم. ويكفينا أن نتجرد بعض الشيء، لنبقى موضوعيين ونرى الأشياء على حقيقتها، في عالم فيه نصف الإنسانية يبذر، والنصف الآخر (يستعطي) بقايا الوليمة، فيتناولها في صورة صدقات أو عائدات بترول.

إن (محمد علي، كاسيوس كلاي)، لم يمنح قوة عضلات ضمنت إعجاب العالم فحسب، بل منح قوة ذهنية، حين لاحظ في مجتمع السود بأميركا، هذه الملاحظة التي تدل على صراحته فقال:((لو لم يصنع الرجل الأبيض الصابون لبقي الرجل الأسود دون أن يغسل يديه)).

هذه اللمسة الكريكتورية، تسم على أية حال، نموذجا نفسيا معينا أطلق عليه (منوني) في كتابه (سيكولوجية الاستعمار) لقب (الإنسان التابع).

فهذه التبعية، وهي قبل كل شيء في الافكار، تكون اليوم جوهر المشكلة الإقتصادية في العالم الثالث.

لذا نرى (جوزوي كاسترو) يخرج من تأملاته في الموضوع بهذه النتيحة:

((إن المشكلة تعرض لنا في صورة مركب اقتصادي وثقافي معا، ولكن بكل أسف لم نتعود بعد ربط العلاقة بين هاتين الكلمتين: الإقتصاد والثقافة)).

هذا في الوقت الذي تفرض فيه علينا أحدث تجربة للإنسانية، أن نعقد في المستقبل صلة وثيقة بين الوقائع الإقتصادية والمعطيات الثقافية.

فخلل التوازن، بين أميركا وأوربا مع ما يصب من قلق في بعض النفوس

ص: 158

الأوربية، ليس في الحقيقة إلا اختلافا في المستوى التكنولوجي، تستطيع معه أوربا أن تتخلص منه ببعض التعديلات السياسية كإنشاء السوق المشتركة.

أما عدم التوازن بين العالم المصنع، والعالم الثالث فهو قضية أخرى:

إنه مشكلة حضارة.

فكيف تستطيع البلدان المتخلفة إدراك ذلك، ومتى تقدم الحل الناجح للمشكلة بأقل وقت ممكن

؟.

ينبغي إذن على الثورات السياسية التي حققت في العالم الثالث الإستقلال بثمن غال، أن تزدوج الآن مع ثورات ثقافية تحقق إنهاء ما يسميه (منوني):

(حالة تبعية).

فكل وطن أفلت من اليد التى كانت (تُمشِّيه) في التيار السياسي كما ((تُمشِّي)) الأم طفلها، عليه أن يتعلم أيضاً المشي وحده في الميدان الاقتصادي، دون يد تمسكه.

عليه بعد أن ترك يد (المرضعة) ألا يتشبث بثيابها كلما واجهته صعوبة، إذ ينبغي عليه أن يودع المرضعة نهائيا، وأن يتقبل الأخطاء الملازمة لـ (حالة الترك) كما يسميها (منوني).

فالطريق الوحيد للإستقلال الحقيقي، يقضي ببتر كل علاقات (التبعية) مهما كان نوعها، وتقبل سائر الصعوبات التي تواجه الإنسان عندما يرشد، ويتحمل كامل مسؤولياته.

لقد قال وزير الطاقة الجزائري عند عودته من نيودلهي ((يجب علينا أن نعتمد على أنفسنا)).

ص: 159

فهذا حسن .. حسن جدا شريطة ألا تكون هذه الكمات زخرف قول، أو مجرد تعبير عن غضب، بل البداية لتأمل جديد في القضية.

وبغير ذلك سنجد أنفسنا أمام المنظر المزعج، حين يرفض الغني المترف المتعالي، التصدق، ونرى الشحاذ يجلجل غضبه بين شفتيه.

وليس من شك في أننا هنا سنقول لذلك الغني الكلمة التي تخزيه، ولكن ما عسانا نقول للثاني خصوصا إذا كان يتمتع بكامل قواه؟!!!.

***

ص: 160