الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هيئة الأمم تدين شعب فلسطين
عن (الثورة الإفريقية) عدد 230 في 10 تموز (يوليو)1967.
إن هيئة الأمم أصدرت حكمها، فأدانت شعب فلسطين، وهكذا ينتهي بالنسبة إلينا أسبوع الغثيان.
إن الألم المفرط يحرر من الألم، وكثرة السآمة تحرر من الغثيان، كما يؤدي الظلم في درجته القصوى إلى التحرير، وهكذا نعود إلى استخدام قلوبنا وشعورنا بطريقة مجدية، بعد أن شلهما الواقع المرير، ونستطيع حينئذ الحكم على الواقع بعقل رصين.
وهيئة الأمم لم تصدر حكمها على الشعب الفلسطيني فحسب بل إنها أغضت فلم تلفظ كلمة واحدة عن الاعمال الوحشية، التي طردته من دياره التي استقر بها منذ آلاف السنين.
إنها لم تحكم فقط على ضحايا النابالم، وعلى من وقعن ضحية اغتصاب مقيت، وعلى أولئك الذين اقتحمت بيوتهم عليهم، غداة عدوان بدأ من دون إعلان حرب.
لقد حكمت على نفسها أيضاً وهي بغير شك تكتب صفحتها الأخيرة في التاريخ. فالعاصفة التي اكتسحت الأرض العربية في الشهر الأخير، قد أماطت عن وجهها قناعا حجب حقيقتها عن الأبصار.
فأولئك الذين تقنعوا وتزيوا بزي القضاة قد ظهروا على حقيقتهم، والشعر
غير الطبيعي الذي كان يكسو رؤوسهم ليمنحهم بياضه وقار الشيوخ، قد طار وكشف عن وجوه ذات ملامح مريبة.
إن الظرف يعطينا أولا الفرصة للملاحظة بأن في المكروه درجات: فالقرصنة قرصنة في سائر الحالات.
والذي يضع الخنجر على رقبتك، ويأمرك بكل وقاحة، أن تعطيه ما عندك، مغتصب سارق ولا شك في ذلك.
والذي يتزيا بزي (الراهب المتسول)(1) أو يلبس إحرام الحاج، وبيده سُبحة، ويرصدك في منعطف الطريق، أو في ركن الشارع ليغتالك ويسلبك متاعك، هو أيضاً مغتصب سارق.
ولكن على أية حال! ألسنا إذا تبصرنا في الأمور أبعد من سطحها، نرى أنفسنا محقين إذا قلنا عن الأول: ياله من مغتصب عفيف.
لقد تحدث الناس، ولعلهم ما زالوا يتحدثون- وربما من أجل تصنيف توراة جديدة- عن العناء الذي عاناه اليهود في حكم هتلر. وتحدثوا بوجه خاص عن محكمة (نورمبرج) التي تحكم على اليهود باسم عنصرية لا تكتم اسمها.
ولكن .. ها نحن أولاء اليوم، نرى محكمة (نورمبرج) بين جدران هيئة الأمم، تحكم على الشعب العربي الفلسطيني باسم التوراة الجديدة!
إن مسوغات الحكم، لا تمت بصلة- نقرؤها في الحكم، أو نرى أثرها فيه بكل وضوح- إلى العنصرية والتعصب الديني.
ولا تمت بصلة نجدها في نص الحكم، إلى إرادة القوة التي أملت بتأسيس إسرائيل بوصفها رأس جسر أعد من أجل غايات استراتيجية، في احتمال حرب
(1) كان هذا النوع من الرهبان موجودا في أوربا في القرون الوسطى وكانوا يتسولون تعبدا.
عالمية ثالثة، ولأغراض سياسية تقف سدا في طريق وحدة البلدان العربية التي لا تقدر على شيء مادامت الوحدة غير موجودة.
فليس من الضروري أن نذهب إلى أبعد، بل نحن منذ الآن نستنتج نتيجة: فالمحكمة الهتلرية بهيئتها العنصرية، الصبيانية، لن يكون لها في تاريخ الإنسانية الأخلاقي الأثر الذي سيكون لمحكمة (نورمبرج) الجديدة التي أدانت شعب فلسطين بإتلاف قضيته.
ولعل الحكم الممقوت الذي أصدرته بتصويتها ضد العرب، يطلقنا من بعض قيود تفرضها علينا اللياقة، لنتحدث ببعض الحرية عن الوضع المتسم بالخلط والشبهات، الذي انغمس فيه العالم الثالث منذ عدة سنين والذي يفرض عليه مراجعات مؤلمة.
إننا نذكر بوجه خاص أن إسرائيل لم تجد نفسها مضطرة إلى إلغاء بعض مبادئها، ثمنا للحصول على صداقة الكثير من دول العالم الثالث وما يسمى بالعالم الحر.
إنها لم تتنكر لصفة من صفاتها إرضاء لأحد، بل ظهرت للجميع على حقيقتها كما هي بل شددت في الظهور كذلك
…
في وجه العالم
…
فملحدوه ومؤمنوه تكلموا بلغة واحدة أثناء الأحداث.
إنههم قاموا كلهم على جبل سيناء، في لحظة خشوع وقنوت، أمام توراة منشورة حملتها دبابة.
وفي اليوم الأول من العدوان، وجه (موشي دايان) إلى الجيش هذه الكلمات:
((إن جنود السماء تقاتل معنا)).
ونحن لا نشك في صحة هذا البلاغ، إذ لم نتلقه من صحافتنا، بل من صحافة الغرب التقدمية التي لا يجوز فيها الشك فيما تنقل عن تل أبيب.
وعليه، فإن إسرائيل لم تتنكر لشيء من حقيقتها، بل أظهرتها كما هي للعالم، ولسنا في هذا ننتقدها، بل على العكس، فنحن نحترم عقائد الآخرين.
إنما نريد، في تحليل وضع معين، أن نأخذ بعين الإعتبار سائر العوامل التي كان لها فيه دور أي دور.
فاستعمال النابالم لا يفسر فقط حسب نظرية (لود ندروف) في قيادة (الحرب الشاملة)، فهو مرتبط بعوامل نفسية لا يجوز إهمالها، ليس فحسب بسبب دورها الديناميكي في الأحداث، بل في نظرنا، لضبط معناها السياسي بصورة أكثر.
لقد كان لهذه العوامل دور، حتى في مداولات هيئة الأمم الأخيرة، أو في إدانتها شعب فلسطين كما فضلنا أن نقول.
ولعلنا نفسح المجال هنا لتعجبنا من الجهد الذي بذل في الأيام الأخيرة، من أجل إقناعنا بأن المداولات لم تكن تنطوي على أي شيء يمتُّ إلى الدين، أو العنصرية (1).
هل نصدق هؤلاء المحامين عن نزاهة (موشي دايان) في الموضوع، أم نصدق (موشي دايان) نفسه الذي يكذبهم بأعماله وأقواله .. ؟.
إننا نأبى- وقدى استطاع (موشي دايان) على الجبهة العسكرية أن يستخدم الشيفرة العربية التي حصل عليها عن طريق خونة متورطين- أن نستخدم الآن
(1) يذكرنا هذا الموقف بآخر عندما كتبت قبل الثورة الجزائرية، مقالا بمناسبة إبعاد مولاي (محمد الخامس) تحت عنوان (حقد على الإسلام). انظر كتاب (في مهب المعركة) [ص:59]، دار الفكر- دمشق 1987، حيث أدرج هذا المقال.
على الجبهة الايديولوجية أصواتا عربية تشهد له، عن علم أو غير علم، بالنزاهة. يجب أن نترك هيئة الأمم تحمل مسؤولياتها كاملة أمام التاريخ.
إنما ينبغي أن نلاحظ بأن هذه المسؤولية لا تخص أمريكا وحدها، بل تخص إفريقيا أيضاً، تلك التي التفتت عن قضية عادلة في لحظة حاسمة، وضحت، بتصويتها، بوصفها شعبا من العالم الثالث على مذبح (مولوخ).
فقبيل (الإدانة) كنا نقرأ في مجلة أسبوعية تنتسب لإفريقية، على الأقل في عنوانها، مقالا عنوانه (صمت إفريقيا) يعبر عن الحقيقة.
أما بعد الإدانة فكنا نعلم أن إفريقيا- عدا ثلاث دول أو أربع- قد أسهمت في إصدار الحكم على شعب فلسطين.
لقد كتبنا منذ بضعة أسابيع، أن العرب خسروا معركة عسكرية، بسبب تواطؤ أمريكا في القضية، والآن يجب أن نقول: إن العرب خسروا معركة ديبلوماسية بسبب تواطؤ إفريقيا هذه المرة.
إنما بكل أسف لا بد أن نلاحظ في الوقت نفسه أننا حصدنا ما زرعنا.
ولا بد أن نعود إلى الوراء بعض الخطوات، لنرى كيفط ساعدنا الإستعمار في لعبته في العالم الثالث، وبالتالي ساعدناه ضد أنفسنا.
ففي عام 1955 اجتمع المؤتمر الأفرسيوي الأول، وإنا لندكر ما أثار من آمال في العالم الثالث، ومن استياء في العسكر الإمبريالي.
وقد استطاع هذا المؤتمر فعلا أن يجعل الامبراطورية الإستعمارية سابقا، جبهة ضد الإستعمار يحركها روح باندونج، ومما زاد في أهمية الأمر أن هذه الجبهة حددت لنفسها خطا سياسيا أسمته (الحياد).
ولكي نتصور مدى هذه الكلمة، علينا أن نتصورها في فترة يسودها مناخ الحرب الباردة، ومن هنا نستطيع أن ندرك سائر المسوغات التي كانت تدفع الإستعمار إلى إحباط هذا التجمع الخطير لشعوب العالم الثالث، وبذل سائر جهوده لإحداث التشققات في البناء، وافتعال الانشقاقات في الجماعة.
ولنتساءل: ما هي الطرق التي كانت تسمح له بذلك؟
لم يكن في استطاعته، بطبيعة الحال، أن يقول للشعوب الإفريقية الآسيوية: تفرقي! أو يأمرها بتنكر علني لما قررت، وبالكفر به، وبالردة!
وحتى لو استجاب له بعض الزعماء لنادت الشعوب: بالخيانة.
لم يكن الإستعمار إذن ليتبع طريقا مسدودا يؤدي به إلى مأزق، وهكذا اتخذ سبيلا آخر.
إن الأهمية الأيديولوجية لمؤتمر باندونج، كانت في أنه قد وضع جسرا يربط بين إفريقيا وآسيا كما يبدو في عنوانه وهذه أهمية خطيرة بالنسبة للمعسكر الإمبريالي.
ولا أقول هنا، كل ما قيل عن هذا الجسر في الصحافة آنذاك، إنما ما يهمنا قوله هو إن اهتمام الاستعمار بتحطيمه كان أهتماما بليغا.
وهكذا ولدت منظمة الدول الإفريقية، التي لم تكن سوى بنت سفاح للاستعمار، وإفريقيا التي ولدتما دون أن تعلم من هو أبوها، ودون أن تعلم أن مولدها لم يأت إلى هذا العالم إلا من أجل التفريق بينها وبين آسيا.
كان عملادقيقا رقيقا يجب الاعتراف بذلك.
ولكن الأمر الذي يهمنا، هو أن الأوطان العربية ساعدت على انجازه بطريقتين:
أولا: لأنهم زهدوا (هل زهدوا فقط) في تنمية روح باندونج، بما لديهم من وسائل، وفي مستوى مسؤولياتهم، حتى يصبح محصنا من سائر المناورات المكشوفة، أو التي تسري تحت الأرض؟ وأضيف بأننا لو قدرنا مسؤولياتهم، فقط لوجود (السكرتيرية الدائمة لتضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية) في القاهرة لعددنا مسؤوليتهم شيئا له وزن. بينما لو سألنا المسؤول العربي عن حصيلة مهمته الأفرسيوية أثناء إشرافه على السكرتيرية، فإنني أشك في أن تكون هذه الحصيلة إيجابية.
وعليه فمنذ البداية لم يفعل الإستعمار شيئا سوى أنه استغل سائر الثغرات ومن بينها ثغراتنا نحن العرب.
وإنني أذكر على سبيل المثال تصريح إحدى الشخصيات العربية التي حضرت جلسة لهيئة الأمم الإفريقية بالدار البيضاء سنة 1961 حين قالت: إن القرارات التي اتخذها هذا المؤتمر أهم من قرارات باندونج.
ونحن نتصور كم كان (بن غوريون) في ذلك اليوم مرتاحا لهذا التصريح الواقعي.
وإنا لنرى في الظروف الراهنة كم يندرج موقف الدول الإفريقية الأخير في هيئة الأمم المتحدة بتصويتها لصالح إسرائيل، كم يندرج هذا الموقف في تلك الواقعية قصيرة النظر.
وإنه لأمر عجيب حقا: فنحن حينا بمثاليتنا العرجاء، وحينا آخر بواقعيتنا الخرقاء، نصرف الماء دائما إلى طاحونة الإستعمار.
وبالتالي، فحين يتقرر في القاهرة، اجتماع مؤتمر إفريقي آسيوي مستعجل للتأثير فيما يبدو، على هيئة الأمم، نكتشف أنه لم يبق أي وزن لباندونج، ذلك
لأننا اجتهدنا عشرا من السنين لإفراغه من كل محتوى، وجاهرنا بانتقاصنا له حتى في تصريحاتنا الرسمية كما أشرنا إلى ذلك.
وإنها لمحنة إذا نحن لم نقرر جديا التخلص منها.
لكن من العسير معالجة مريض ليس فيه مرض فحسب، وإنما لديه إرادته في التمسك به فكيف يمكن شفاؤه.
وهنالك ما هو أدهى وأمر، حين يخفي المريض الدواء وراء ظهره، ثم يصرخ: أريد أن أشفى! أريد أن أشفى! .... إنه يحق لنا حينئذ أن نعده يمازحنا.
ومن حسن الحظ، فزمان المغالطة والمزاح قد انتهى، لأن عهد المحنة قد حان ولعلها تنضح ضمائرنا.
فالشكر للقدر على المصائب تصيبنا، إذا كان بها صلاح أمرنا.
***