الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العمل والإستثمار
عن (الثورة الإفريقية) عدد 224 في 29 أيار (مايو) سنة 1967.
إن الحدث الذي يوحي بهذه السطور وقع حوالي عام 1956، حين كانت الصين وشيكة القيام بما سمته (الوثبة إلى الأمام)، هكذا قررت سياسة الإسكان، أو بعبارة أخرى تحديد النسل.
وعندما يقرر وطن- عدد سكانه أكثر من أي وطن آخر- تحديد نسبة زيادة السكان فلا غرابة في ذلك. هذا في الظاهر على الأقل، لأن منحنى التنمية يضع تلقائيا علاقة بين هذه الزيادة وحجم الإستثمار، وهي علاقة عكسية؛ أي إذا زادت نسبة السكان نقصت نسبة الإستثمار على الرؤوس.
هكذا تقول الأرقام.
إنها القاعدة المتبعة في كل تخطيط كلاسيكي، تفسر لعالم الإقتصاد التقليدي المهتم بصورة خاصة في العالم الثالث، من بين ما تفسر، الفشل النسبي الذي منيت به الهند بسبب زيادة السكان.
وهكذا لم يكن المشروع الصيني مخالفا لمنطق الأرقام عندما قرر تحديد النسل، من أجل تعديل منحنى الإسكان، لتكون بينه وبين مقتضيات الإستثمار النسبة المعينة.
لكننا رأينا حين التطبيق، كيفط دامت هذه النظرية ((كما تدوم زهور الورد ساعة صباح)). هكذا لم نرها تدوم في الواقع أكثر مما دامت نظرية (مئة الزهرة)(1).
وإذا نحن استطعنا تفسير إلغاء النظرية الأخيرة، بأسباب التقلبات السياسية، فإنه من الصعب أن نفسر، بالطريقة نفسها، إلغاء النظرية الأولى (نظرية تحديد النسل)، وهي نظرية إقتصادية لا تزال تحتفظ بقيمتها في رأي علماء الإقتصاد في الغرب، وحتى في بعض بلدان الشرق.
هكذا رأينا المسؤولين الصينيين يتراجعون عن نظرية تحديد النسل ويتركونها إلى سياسة حرية النسل.
إن للحدث معنيين مهمين:
فهو يعني أولا، أن أي طريقة عمل نختارها، لا يجوز لنا أن نضع منها منديلا على أعيننا، يمنعنا من النظر: بل يجب علينا أن تكون لدينا دائما القدرة على إعادة النظر في أي لحظة نريد.
ومن ناحية أخرى فإن الحدث يفيدنا بأن المسؤولين الصينيين قد أعادوا النظر فعلا فيما قرروا، وأنهم أدركوا بذلك طريقة أخرى جديدة للإستثمار.
هذا الجانب هو الذي يمثل جوهر موضوعنا، مع أن التجربة تثرينا بجانبيها:
فنحن نرى أن المخطط الصيني يطرح المشكلة أولا في صيغتها الكلاسيكية التي تقول: إذا أردنا أن نزيد من نسبة الإستثمار ينبغي أن نحفظ نسبة زيادة السكان.
(1) ظهرت هذه النظرية للوجود في فترة التأليف بين النزعات المختلفة في الصين ثم ألغيت.
ثم نراه في فترة وجيزة يغير موقفه تماما في الموضوع: فيطلق العنان للنسل دون تخفيض في منحنى التنمية.
بل على العكس من ذلك، فقد ازدادت في الصين سرعة التنمية في تلك الفترة التي تسميها (الوثبة إلى الأمام).
هل نستطيع من هنا أن نقرر أن التجربة قد دلت على عدم صحة النظرية العامة القائمة على الأرقام، والتي تربط بين نسبة زيادة السكان ونسبة الإستثمار بعلاقة عكسية؟.
وهل نكون بذلك قد كذبنا الأرقام التي كان لها فعلا ثقلها في تحديد منحنى التنمية في أكثر من بلد من العالم الثالث، حيث كان من الصعب تحقيق (شروط الإقلاع) بسبب تزايد السكان بالذات؟.
علينا أن نكون أقرب للمنطق فنجد إذن تفسيرا آخر. فالصين قد اكتشفت في نظرتها الثانية إلى الموضوع، طريقة تعويض، تعوض في مخطط الإستثمار الأثر السلبي لعامل السكان، ذلك الأثر الذي فعل فعله في تجربة الهند.
وقد يهمنا أن ننكب على المشكلة لنتفحصها عن كثب: فالمرحلتان اللتان مرت بهما التجربة الصينية تدلان على صورتين للإستثمار: الواحدة منهما على عكس الأخرى بل تنافيها تماما.
ولعلنا، نبسط الأشياء من أجل الفهم، إذا ما عرضناها في صورة جبرية، تكشف أكثر سمات النظريتين:
1) ففي الحالة الأولى سيكون العمل النتيجة النهائية للإستثمار، في صورة عدد من الوظائف يخلقها الإستثمار.
2) أما في الحالة الثانية فالإستثمار هو نفسه نتيجة العمل مقدرا بساعات عمل ( H.T) .
وهكذا نرى أن طريقتي الإستثمار تختلفان اختلافا جذريا، ليس من حيث مبدأ التخطيط فحسب، بل من حيث سائر نتائجه الإقتصادية والإجماعية والسياسية. فالإستثمار الأول يقوم أساسا على المال، أما الثاني فهو يعتمد أساسا على الطاقات الإجتماعية.
والأول يتطلب غالبا وسائل مفقودة في البلاد المتخلفة، فيلجأ إلى رؤوس الأموال الأجنبية، وهي حين تأتي، تفرض شروطها السياسية التي تعرض البلاد لمشكلات لا حل لها، أو شروطا فنية تجعل إستثمارها دون جدوى، كالقروض التي استثمرت في جنوب شرق آسيا في نطاق مشروع (كولومبو).
إذ تأتي الأموال والقروض أولا، وتترك البلد الذي ينتظرها مكتوف اليدين مع مشروع معلق، كمصر في سنوات 1955 - 1956 مع مشروع السد العالي المعلق.
هذا من الناحية السياسية.
أما من الناحية الإقتصادية والإجتماعية، فالفوارق بين الطريقتين أعمق من ذلك بكثير. فالمجتمع الذي ينمو على الطريقة الكلاسيكية للإستثمار، لا يستفيد إلا من جزء من العمل المتوقع (وهو نسبة السواعد التي تعمل فعلا)، بينما يتحمل بالضرورة سائر الأفواه التي تأكل، سواء منها من كان عاملا أو من غير عمل، وبذلك يتحمل بطالة لها أثر مزدوج: فهو يتحمل الشحاذة على نطاق واسع، وهي طفيلية إجماعية تزيد في الأعباء غير المنتجة على كاهل الوطن. إذ الأفواه الطفيلية تأكل على أية صورة كانت. ثم نتيجة أخرى لهذا الأثر هي هجرة العمل المتوقع (الذي تمثله السواعد المعطلة)، والتحاقها بأي من الطاقات العاملة في الخارج، وأحيانا تكون هذه الطاقات ذات كفاءة. وبذلك يصبح هذا المجتمع وكأنما يصدر للخارج ثروته الرئيسية: العمل.
حتى الأطر التي لم تشغل في نطاق الإستثمار الكلاسيكي فإنها تهاجر أحيانا.
من هنا ندرك السبب الذي يجعل البلدان التي تخطط، مضطرة فيما يبدو لتحديد النسل، وذلك لتحديد عدد الأفواه الطفيلية والسواعد المعطلة، دون أن يصرحوا بهذه الحقيقة لاعتبارات أخرى.
أما المجتمع الذي ينمو على أساس استثمار إجتماعي، إذ تعمل السواعد كلها وتأكل الأفواه كلها، فإنه لا يجد نفسه معرضا لتلك المناقضة الصارخة. فالأعضاء غير المنتجة فيه تنحصر في أقل مقدار (الطفل والمريض والعجوز) أما بقية السواعد فهي تعمل.
وهنا لا تبقى في الوطن ضرورة لتحديد النسل، كما يكون متناسبا مع الإستثمار، كما هو الأمر في البلد الذي يخطط على أساس آخر.
والحاجة إلى تحديد النسل تذوب منذ النظرة الأولى في الإستثمار الإجتماعي، بل لعلنا إذا أعدنا النظر في القضية- وفي ضوء التجربة الصينية- سوف يتبين على العكس أنه ربما يفيدنا أن نزيد في نسبة النسل، في حدود لائقة بقدر يتناسب مع مساحة الرقعة وغنى ترابها من ناحية، ومع مرحلة النمو من ناحية أخرى.
قطعا، فحين يصل الوطن إلى طور الآلية الشاملة ( Automation) فقد يكون من حقه أن يعيد النظر مرة أخرى في قضية النسل.
والواقع أن بلدان العالم الثالث ما زالت بعيدة جدا عن هذا الطور، وعليه فإذا عدنا هنا لاعتبارات قدمناها في مقالنا السابق، فلأننا أردنا أن نلح مرة أخرى على مبدأ التخطيط الذي أشرنا إليه في صورة مسلمة:((يجب أن تأكل الأفواه جميعها ويجب أن تعمل سائر السواعد)).
ولا نستطيع القول إن هذا الرأي يمتاز بالأصالة في صيغته. فالمدرسة الماركسية صاغته أيضا في عبارة أخرى: ((من كل حسب وسائله، إلى كل حسب حاجاته)).
وإذا كانت الصيغتان لا تختلفان تقريبا من حيث المحتوى، فإدراج هذا المحتوى في اطراد موضوعي للنمو الإقتصادي مع ما يستتبع من شروط فنية، يختلف تماما بين النظريتين.
فالنظرة الماركسية تضع هذا المبدأ في آخر الإطراد، أو كما يقولون: عند ظهور المجتمع الشيوعي الذي يلي المجتمع الإشتراكي. وعليه يكون المبدأ ذا قيمة أخلاقية يتدخل خصوصا في عملية التوزيع.
أما فيما نشير إليه ونلح فيه، فإن المبدأ الذي أشرنا إليه يوضع في بداية الإطراد، ليكون مبدأ فنيا في أساس التخطيط. وعلى ضوء ذلك لابد لتقنية التخطيط أن تتغيركلها لتكون مطابقة لذلك الأساس، وبالتالي فإننا نقول: إن إطعام سائر الأفواه وتشغيل السواعد كافة في بلد متخلف ليس إلا وهما، إذا ما فكر هذا البلد في استثماره على أساس رأسمالي.
أما إذا فكر على أساس ماركسي فإنه مجرد أمنية حلوة.
***