الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياسة والثقافة
عن (الثورة الإفريقية) عدد 142 في 16 تشرين الأول (أكتوبر)1965.
في مقال سابق تحت عنوان ((السياسة والايديولوجية)) قمنا بخطوة مفيدة، إذ أوضحنا الشروط الضرورية لتجانس عمل الفرد وعمل الدولة، في وحدة عضوية لا تنفصم أمام أهوال التاريخ.
وحين نتابع التحليل إلى أبعد من ذلك تبدو هذه الشروط بدورها غير كافية. وإذا تجنبنا إفراط المستشرق (جيب) في الحكم، فإننا نلاحظ معه المجتمع الإسلامي وهو يعاني منذ القرون الأخيرة، فتورا قد نسميه أزمة حياة فقدت أسباب التوتر والطموح.
والعلاج لحالة كهذه، كما حاولنا توضيحه فيما سبق، يقتضي أيديولوجية تعطي التوتر الضروري لمجتمع يقوم بإنجاز مهمات كبرى، لأنها تخلق الفرد التواق، وهو عكس الفرد المائع الذي يركب مجتعا ارتخت أوتاره.
وهنا نقول أيضاً، إن هذا العلاج سيبقى دون ما تقتضيه الحالة، إذ الايديولوجية ليست سوى سهم يشير إلى هدف، ويحدد بعض الإتجاه. وهي بذلك تستطيع توجيه عمل الفرد وعمل الدولة وربما تتيح لهما الوصول إلى الهدف.
ومهما كان الهدف تحطيميا، أو كان التوجيه توجيها نحو انتحار أمة، فإن باستطاعة الايديولوجية أن تمنح المجتمع شروط انطلاقه وطموحه.
فالايديولوجية الهتلرية استطاعت أن تعطي الشعب الألماني توترا وصل
درجة فاقت طاقة البشر، لكننا نعلم من ناحية أخرى أية هاوية سحيقة ألقت به، هذا إذا لم نأخذ بالإعتبار الإحتمال الآخر.
فلو انتصرت الايديولوجية الهتلرية في العالم ماذا كانت تصنع؟
فقد كنا نعلم من خلال التصريحات، أن هتلر يريد أن يفرض على العالم ألف عام من السلم الجرماني، أي ألف عام يرجع فيها الضمير العالمي إلى الوراء.
فالسياسة إذن تقتضي أكثر من ذلك، إذ لا يكفي أن تحدد عمل الدولة في اتجاه معين، وأن يكون ثمة جهاز رقابة ضروري لمتابعة عمليات التنفيذ، وجهاز حماية للمواطن من اعتداء عمل الدولة نفسه عليه. كما لا يكفي أن تمنح هذه السياسة التوتر الضروري للطاقات الإجتماعية لتبلغ الهدف المعين.
فبالإضافة إلى كل ما سبق، لا بد أن يكون الهدف نفسه متطابقا مع التطور الطبيعي للأمة، ومع الظروف العامة التي تحيط بهذا التطور. وأن يكون فوق ذلك متطابقا مع مصير الإنسانية كلها.
فإذا كانت السياسة تفقد فعاليتها إذا انفصلت عن ضمير الأمة، فإنها إذا انفصلت عن الضمير العالمي تضيف إلى العالم خطرا فوق الأخطار التي تهدده، فإذا نظرنا إلى القضية من الوجهة الأولى، أعني وجهة انسجام السياسة مع تطور الأمة ومع الظروف المحيطة بتطورها، فإن القضية تطرح علينا منذ الخطوة الأولى مشكلة الثقافة.
أما إذا وسعنا هذا الانسجام إلى ما يقتضيه وضع عالمي، فإن التوسيع هذا لا يزيدنا إلا تركيزا على النتيجة المستخلصة من نظرتنا الأولى.
فنابليون، لم يكن أثناء إقامته في موسكو، أي في أحلك أيامه، منكبا على خرائط تحركاته العسكرية فحسب، بل إنه انكب أيضا على إتمام القانون المدني الذي وضعه في بداية عهده وشغلته قضية أخرى كتنوير شوارع باريس.
فهل كنا نتصور اهماما كهذا لو فصلنا السياسة عن الثقافة؟
إن صناعة (1) السياسة تعني، إلى حد كبير، تغيير الإطار الثقافي في اتجاه ينمي تنمية متناغمة، عبقرية أمة؛ ومن هنا فصناعة السياسة تعني في آخر المطاف، صناعة الثقافة.
فإذا شيدنا حديقة في مدينة كالجزائر أو القاهرة، أي إذا غيرنا الإطار الثقافي في أي بلد من بلدان العالم الثالث نقوم بعمل سياسي لا مزيد عليه.
وفي الوقت ذاته، فهذه الملاحظات- وفي إمكان أي منا أن يلاحظها في الشارع يوميا- تبين لنا كيف تطرح المشكلة في بلد من العالم الثالث، حيث تكشف لنا تجربتنا التأثير المشترك لعوامل من أصناف ثلاثة:
الصنف الأول وهو يتصل بالثقافة التي نريد صنعها.
الصنف الثاني وهو يتصل بـ (لا ثقافة) موروثة نريد تصفيتها.
الصنف الثالث وهو يتصل بشيء نسميه (ما ضد الثقافة) وهو يفرض علينا أن نكون في انتباه مستمر تجاهه.
وعلاقة السياسة بالثقافة تمر حتما بهذا الثالوث، علاقة تتطلب منا إذا فكرنا في (الثقافة) في بلد من العالم الثالث، أن نفكر في اللحظة نفسها بالقوى غير الواعية التي تمثل (اللاثقافة)، والقوى الواعية التي تمثل (ما ضد الثقافة)، والقوتان كلتاهما تبدوان قوة مشتركة تعمل في المحيط الإجتماعي.
ومن ناحية أخرى، يجب توسيع المصطلحات ذاتها في مدلولها، إذ كل منا يعلم أن تشييد مدرسة عمل يهم نشر (الثقافة) كما يهم رفع (اللاثقافة).
إنما إذا نظرنا من زاوية السياسة إلى مشكلة الثقافة، فالأمر أكثر تعقيدا.
(1)(صناعة) استعملناها هنا طبقا لمصطلح ابن خلدون.
فحتى لو كانت المدرسة هي الوسيلة الرئيسية- والقضية فيها نظر- لصنع الثقافة، وبالتالي لإعطاء السياسة بعدها الوطني والعالمي، فهذه الوسيلة تبدو غيركافية.
وحسبنا لنقتنع بذلك، أن نتذكر أسماء الذين عمروا سوق الانتخابات في الجزائر منذ ثلاثين سنة، إنهم على العموم لم يكونوا أميين بل تخرجوا من المدرسة سواء أطلقنا عليهم المثقفين أو (المتثقفين).
ينبغي إذن أن نعيد النظر في المدرسة، وألا ننظر إليها من زاوية التجهيز، كما ينظر إليها عادة: فالمدرسة ليست المكان المجهز بمقاعد، وبما يكتب عليه، والسبورة نكتب عليها الحروف الأبجدية، أو المعادلات الرياضية فحسب، بل هي قبل ذلك المعبد الذي يستشعر فيه الضمير بالقيم التي تكون تراث الإنسانية.
فقد كانت قسمات (سقراط) مع مريديه، هيأت فيها أثينة بلاغها إلى الإنسانية. ومجالس غاندي وهو صامت الساعات الطويلة، وحوله الآلاف المؤلفة من البشر مدرسة هي الأخرى وجهت إلى ضمير القرن العشرين بلاغ (الساتياجراها).
وما كان هدي محمد صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إلا مدرسة بلغت العالم رسالة حضارة جديدة.
فبقدر ما تستعيد المدرسة معناها الأصيل، تستطيع القيام بدورها الثقافي وبالتالي دورها السياسي، إذ السياسة حينئذ تكتسب بعدا وطنيا وعالميا بفضل ما تهب لها الثقافة من تفتح على القيم، التي اكتسبها الفكر الإنساني عبر الآلاف من السنين.
هنالك يتجانس عمل الدولة مع عمل الإنسانية بعد ما يكون قد تجانس مع عمل الفرد.