الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مؤتمر 77
(1)
عن (الثورة الإفريقية) عدد 247 - 9 تشرين الثاني (نوفمبر)1967.
لقد أنهى مؤتمر (77) مداولاته، ولأنه لقب (باندونج الإقتصادي) فقد يرى من يؤمن بالفأل سبب تشاؤم في هذه التسمية. ولسوف يعزو ذلك إلى سوء حظ سابقه (باندونج السياسي) الذي لم يحظ فعلا بما يغبط عليه.
والحقيقة أن (باندونج السياسي) لم يبق سوى ذكرى طيبة بعد ما صبّ، عند انعقاده منذ اتنتي عشرة سنة، من روع في الروح الحساس الذي كان للراحل (فوستر دالس).
ولنترك جانبا- إذا شئتم- الخرافات هذه، والتشاؤم والتفاؤل معا، وحسبنا أن نكون موضوعيين لنقوم بمجرد تقويم لمؤتمر (77).
لقد أضاف، لاشك، فصلا هاما إلى تاريخ الحركة التحريرية التي بدأت في العالم الثالث مع إستقلال الأوطان الأولى منه.
وعلى هذا الأساس نعترف بأن المؤتمر قد أضاف إلى هذا الجهد التحرري عملا سياسيا هاما ألا وهو ما سمي (ميثاق الجزائر).
بعد هذا لابد من ملاحظة: لقد اتخذ هذا المؤتمر من المؤتمر الذي سيعقبه في نيودلهي قبلته منذ اللحظة الأولى، وبذلك أضحى مؤتمر الجزائر، كأنه فقد الغاية في حد ذاتد أو بعض غايته.
(1) سمي المؤتمر (77) لأن سبعا وسبعين دولة اجتمعت فيه بالحزائر.
ولم يكن هذا الأمر دون تأثير على نوع تفكير المؤتمر، وعلى نوع مراكز الإهتمام في تفكيره، كما لم تكن من جراء هذه التبعية لتفقد بعض التبعيات وزنها في اتجاه مداولاته، التي كانت على ذلك، ضربا من مقدمة للحوار المتوقع متابعته في نيودلهي، مع مخاطبه (العالم المصنع) الذي كان حاضرا في الجزائر وإن لم تره الأبصار.
فقد كان الإجتهاد في تهيئة مقررات الحوار المقبل مؤثرا على جدول أعمال، قد تأتي فيه المشكلات على عكس ترتيبها الطبيعي، ترتيبا يأتي معه المهم منها في الرتبة الثانية.
وإذا تصفحنا بدم بارد، الوثيقة التي تركها المؤتمر بين أيدينا باسم ميثاق الجزائر نجد فيها فعلا بعض الثغرات.
لقد كنا في الحقيقة ننتظر بنودا تحدد التزامات كل عضو في الوحدة أو الجهة الإقتصادية المزمع تشييدها، لكننا لم نجد في الوثيقة سوى كراسة المقترحات التي ستقدم بنيودلهي إلى المخاطب الحاضر غير المرئي.
وفي الحقيقة نجد الكراسة هذه تطالب بالكثير، من العالم المصنع، إن لم نقل إنها تطالب بكل شيء، فتطالب مثلا 1% من مدخوله العام لتنمية البلدان النامية.
فمن الناحية الأخلاقية، لعل هذا جائز، ولكن المخاطب لا ينصت لهذا المنطق ولا يتكلم هذه اللغة.
وهكذا انزلقت المداولات في الحديث عن حقوق (العالم الثالث) عوض أن تذكره (بواجباته) نحو نفسه، بينما مأساة الدول النامية كلها انعقدت حول نواة قي نفسها، تخلق فيها عقدة حرمان تحرمها من حرية التفكير أولا ثم من حرية العمل.
فكل شيء يزحزح مسؤوليتنا عن عاتقنا، ليضعها على كاهل غيرنا هو شيء لا يعدو أن يلحقنا منه ضرر.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينمي في كل مسلم الشعور بمسؤوليته بطريقة تربوية، نذكر منها مع ما نستطيع في ضبط النص هذا الحديث:«إنما هي أعمالم ترد إليكم، كما تكونوا يول عليم» .
فالقضايا الإقتصادية لا تند عن دائرة هذا القانون: فمسؤوليتنا فيها لا تقل عن مسؤوليتنا في المجال الأخلاقي.
ولربما يتعذر استعمال هذا النص- ولست على يقين من ذلك- في عهد ما قبل الثورة، لأن الزعماء كانوا يزعمون أنه يجب علينا لمواجهة الإستعمار أن نصنع سهامنا من كل حطب، وزعموا أن (الحقوق) كانت الحطب الموجود في أيدينا.
إنني لا أشك في أن الإستعمار، أو وريثه الإستعمار الجديد، يريد ألا نحتطب إلا من ذلك الحطب إلى نهاية الدنيا، حتى نفقد تماما الشعور بالمسؤولية، كما لا نشك إذا راجعنا تاريخ الجزائر في الحقبة ما بين 1934 و 1939، أن الذي غير وجهتنا من القيام بالواجبات إلى المطالبة بالحقوق، لم يكن سوى إحدى نتائج تلك الميكيافيلية؛ ففي ضوء هذه التجربة التاريخية، نستطيع الآن الحكم على المؤتمر الإقتصادي الذي انعقد بالجزائر بأنه قد انزلق أيضاً في (المطالبة)، بينما كانت أولى المشكلات تحديد العلاقة بين المواد الخام والعملة، حتى لا تكون الأولى تحت رحمة الثانية في السوق تبعا لألاعيب البورصات العالمية.
أما اليوم، فصاحب العملة هو الذي يحدد وحده تلك العلاقة، باستثناء بعض الصفقات التي تقع على أساس المقايضة بين دولتين.
أما القانون العام للتبادل التجاري، فهو قائم على سيادة العملة، وهذا القانون يمسح المشكلة الإقتصادية في العالم الثالث، مسحا يطرح معه دائما طبقا للتقديرات النقدية، وأحيانا طبقا للتقديرات السياسية عندما يقرر إنشاء مشروع كبير للتنمية.
إننا نذكر على سبيل المثال، ما حدث لمشروع السد العالي في مصر، عندما كان بناؤه مقررا في البداية عن طريق البنك العالمي للتنمية، ونتذكر كيف أحجمت هذه المؤسسة النقدية العالمية بالتالي، حينما حددت الحكومة المصرية، سنة 1955، خطها السياسي بالنسبة للأحلاف العسكرية الجوية، واتخذت بعض التدابير في التسليح للدفاع عن الوطن من عدوان إسرائيل.
ففي هذا الإطار كل محاولة تنمية ما هي إلا سراب، وكل تبادل إقتصادي تفرضه سلطة العملة فهو إجحاف.
إنه ليس تحت تصرف العالم الثالث وسيلة تساعده في الوضع الراهن على تنفيذ برامج تنمية سوى المواد الخام التي في أرضه. فإذا كانت هذه المواد في السوق العالمية رهينة البورصات تصبح خطط التنمية صعبة أو مستحيلة.
ولقد كان من واجب مؤتمر الجزائر أن يركز تفكيره في هذه المشكلة بصورة جذرية وأن يطرحها في إطار جديد، لأنه من العبث أن يطلب من مستغل أن ينهي استغلاله، بل يجب التفكير في إيجاد إطار جديد، في صورة تدابير من شأنها أن تلغي تلقائيا الاستغلال (1).
ولا نرى في هذه التدابير سوى قطع العلاقات الإقتصادية الكلاسيكية مع المستغل، أي بعبارة أخرى قطع العلاقة الراهنة بين المادة الخام والعملة.
(1) والغريب في الأمر أن نرى رجالا ينزهون سياستهم عن الأخلاق في بلادهم، باسم الواقعية أو لسبب آخر ثم نراهم في الميدان الأول يطالبون باسم المبدأ الأخلاقي.
لكن هذه العملية ليست ممكنة إلا إذا قرر العام! الثالث إنشاء (مصرف المواد الخام) تجاه مصرف العملة، سواء كان اسمها البنك العالمي للتنمية أو غير ذلك.
ويجب بعد ذلك ألا ينشأ هذا المشروع في صورة تحدٍّ، ولكن على أنه تدعيم للعدالة بين الدول، وللفعالية في البلاد المتخلفة.
فالأدوار موزعة في الوضع الراهن توزيعا تمثل فيه المادة الخام دور (العرض) والعملة دور (الطلب)، بينما مجرد النظرة في ميزانية التبادل بين الشمال والجنوب في العالم- حيث يمثل الشمال الصناعة والجنوب المواد الخام- تكشف عن عدم توازن صريح في توزيع الفائدة.
إنني ذكرت رقما كان تحت يدي عندما كنت أحرر فصل (مبادئ إقتصاد فعال) في كتاب الفكرة الأفروسيوية، وكان يعبر إجمالا على عدم التوازن بالنسبة لبلد مثل مراكش، حيث كانت قيمة الطن من صادراته (المادة الخام) ست مئة فرنك، وقيمة الطن من وارداته (المادة المصنوعة) 2300 فرنك.
إن هذا الرقم، على الرغم من أنه قديم (سنة 1952)، يعبر على الأقل بطريقة رمزية عن عدم توازن زاد في التعمق خلال السنين الأخيرة، زيادة لا تكشف معه خريطة العلاقات الإقتصادية الراهنة بين الشمال والجنوب، عن اندمال التخلف بل عن زيادته نسبيا.
هذا الوضع هو الذي يلزمنا بإنشاء (مصرف المادة الخام) لإصلاح حال المادة الخام التي تمثل العرض، في العمليتين الأساسيتين: إنتاجها وتسويقها.
فالبلاد النامية زهدت، بعد إستقلالها، في استخلاص النتائج التي يقتضيها وضعها الجديد.
ففي الجزائر مثلا، استمر الإنتاج بعد عام 1962، بينما ضاق السوق به، ثم بقيت تستورد من الكماليات ما شاء الله (1).
ولقد بقيت الفوضى سائدة في مجمل البلاد النامية، وكانت بالتالي في صالح (الطلب) على حساب (العرض) أي في صالح المال على حساب المادة الخام.
فإنشاء (مصرف المواد الخام) ضرورة، بوصفه وسيلة لتلافي هذه الفوضى مع استناده على مبدأ كم تمنينا لو قرره (مؤتمر 77) أو اعتمد ضمنا عليه ألا وهو:
كي يكون لاقتصاد البلاد النامية فعاليته في الخارج، يجب أن يكون له نظامه الدقيق في الداخل.
إن العالم الثالث في حاجة ملحة إلى تشريع متقن، يطبق بطريقة قهرية بإتقان بين البلاد النامية، لفرض نظام ضروري لمصلحتها في سوق المواد الخام تطبيقا يكون معه (مصرف المواد الخام) هيئة تنسيق، وفي الوقت نفسه محكمة تدين كل مخالفة للقانون المقرر، أي تحكم في كل حالة تنشأ فيها (أزمة) سوق سوداء تعتدي علينا؛ من الخارج، وهذا أشبه بمزاحمة المركب الكيميائي للمادة الخام إضرارا بنا، أو من الداخل بسبب سوء التصرف.
فهل من السهل تطبيق هذه الإقتراحات، ونحن نرى تنوع المصالح الإقتصادية بل إختلافها في العالم الثالث أمام المصالح الموحدة في العالم المصنع؟
إن الجواب على هذا السؤال يتوقف على اختيار:
فإذا اختار العالم الثالث طريق التطورات البطيئة، التي ينتظر معها بعد كل خطوة أن تعطى له الإشارة الخضراء من الكتلة المصنعة ليقوم بالخطوة
(1) غيرت الحكومة الجزائرية في السنوات الأخيرة هذا الوضع، وقررت اقتلاع الكروم وضيقت في الكماليات.
الثانية، كما تفعل الهند، فإن إنشاء (مصرف الواد الخام) لن يكون سوى سراب آخر نضيفه إلى محور طنجة جاكرتا، كذلك السراب الذي تمثله، منذ عشر سنوات، السكريتيرية الدائمة لتضامن الشعوب الأفروسيوية في إحدى العواصم العربية.
أما إذا انطلق كما فعلت الصين على نسق توقيت محدد، فيجب إذن منذ الآن، الإقدام على تغيرات جذرية حتى بالنسبة للمخططات الوطنية في نطاق مخطط شامل.
وإننا لنجد في ذلك قدوة في أعضاء السوق المشتركة، ولا نقول مع ذلك أن الحل سيكون يسيرا، بل سيكون صعبا، إذا تصورنا العاهات الموجودة في بعض البلاد المتخلفة أو السلطات الجانبية التي تغطي، في بعض الحالات، على السلطات الرسمية، في خدمة سيدها الإستعمار من أجل تعطيل حركة التنمية.
ومهما يكن من أمر فالجواب على السؤال المطروح موجود، في اختيار - ضمني أو منصوص عليه- لإحدى الطريقتين اللتين أشرنا إليهما.
ولكننا نلاحظ أن مؤتمر الجزائر لم يحدد هذا الإختيار، فكان بالتالي مؤتمر (حقوق الشعوب الفقيرة).
***