الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشتري أم نصنع
عن (الثورة الإفريقية) عدد 260 في 8 شباط (فبراير)1968.
نشرت جريدة (الجزائر والأحداث) مقالا يتعلق بتحديد النسل، فقدمته إلى قرائها بتعليق تناولته بعض السطور.
إنه لا يهمني في هذا التقديم، ما لا يخصني كذكر (الضرورة الإقتصادية) بوصفها مسوغا لتحديد النسل في نظر (الغزالي)، مع أنني أعتقد أن تحميل صاحب (إحياء علوم الدين) مثل هذا التسويغ في قضية (العزل) إنما هو تعد على حقيقة شخصيته وزمانه.
ولقد أراد صاحب السطور أن يلمح إلى بعض ما قلته في إطار تحديد النسل والإقتصاد موضحا سطحية من يعزو التخلف بصورة خاصة إلى كثرة السكان.
وهكذا يتناول التعليق هذا الرأي قيعقب عليه بأننا في ذلك قد حاولنا أن نحيط النظرية (الملتوسيه)(1) بالشكوك، بينما أحطتها بالوضوح كله معتمدا على إحصائيات وتجارب واقعية، في بيان خطئها.
وإني لأعترف لصاحب السطور هذه، بأنه لم يجعل رأيي في الموضوع كله (شكوكا)، بل إنه تفضل وترك له نصيبا من الصحة والصواب. إنما هو قد حصر هذا النصيب فيما أسماه (الظاهرة اليابانية) و (الظاهرة الصينية).
ولقد ركز فعلا حالتي الصين واليابان، لا على أنهما حالتا شذوذ كما يوعز قلمه
(1)(ملتوس) هو صاحب نظرية تحديد النسل، وقد وضعها في القرن الماضي.
بذلك، ولكن على أنهما دلالتان بينتان على واقع ذي أهمية كبرى، في التدليل الفاصل على أن الحياة الإقتصادية بالمعنى العضوي لها (ذاتيتها)، وأنها تحتفظ بها في نظم أيديولوجية مختلفة أو حتى متباينة.
لكن لصاحب السطور في (الجزائر والأحداث) الفضل على أية حال، فقد أعطاني فرصة لمزيد من التوضيح والإدلاء بمزيد من الآراء فيما يتعلق بذاتية الظاهرة الإقتصادية.
لقد أطلقت الصين في البحر، منذ بضعة أسابيع، أول سفينة للإتصال البعيد، ضعتها كلها إحدى ترساناتها وأسمتها (دنج فيند)، وقد أنتهزت الصحافة الصينية هذه المناسبة، للإشادة مرة أخرى بانتصارات الثورة الثقافية، وهاجمت المثبطين والمتوجسين وفندت مزاعمهم.
وهكذا خصصت صحيفة نقدا شديدا للخط السياسي الذي ((يدفع إلى شراء أو استئجار البواخر عوض صنعها)).
وليس لنا هنا، أن نعد هذا النقد من وجهة النظر الأيديولوجية كما فعلت الصحيفة، ولكن من الناحية الإقتصادية الصرفة.
ولعلنا نفاجئ الكثير من إخواننا، إذا قلنا لهم إن الولايات المتحدة- وهي أغنى دولة- لا تستطيع إذا حطم زلزال عنيف إحدى مدنها الكبرى (شراءها) من جديد لتعيد بناءها.
فأميركا الغنية لا تستطيع فعلا، بما لديها الآن من رصيد الذهب، وهو تقريبا أربعة عشر مليارا من الدولارات، أن تدفع لمقاول- أنجز إعادة بناء مدينة كنيويورك مثلا بكل مرافقها السكنية والصناعية- ثمن مقاولته عينا.
إذن لا بد أن نتصور غرور المسكين الذي يتقدم لمقاولة كهذه. ومع ذلك
فلن نرى عجبا في وجوه إخواننا- الذين فاجأناهم بمثلنا هذا- إذا قلنا لهم إن الولايات المتحدة قد قررت- وليكن لأسباب استراتيجية- بناء مئة نيويورك (تحت الأرض) لتجمع فيها السكان في حال حرب نووية.
فالوطن الذي كانت له الجرأة، منذ أكثر من نصف قرن، ليقدم على إنجاز المشروع الضخم المسمى (مشروع مجرى التينسي)، لقادر اليوم على إنجاز أي مشروع في الحجم الذي قدرناه (بمئة نيويورك) تقديرا يشبه الخيال.
لكنه ليس في تقديرنا أي خيال، وخصوصا حين نلاحظ أن إعادة بناء سائر مدن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك إعادة بناء هيروشيما ونجازاكي في اليابان، قد تم في صميم الواقع في القرن العشرين بعيدا عن الخيال.
هذا بينما لا نتصور أنه كان في استطاعة ألمانيا واليابان (ثراء) مدنهما المحطمة ودفع ثمنها عينا: فمن أين توافر لهاتين الدولتين ذلك كله في وقت كانتا فيه محطمتين وقد فقدتا كل قوة شرائية في السوق العالمية؟.
ليس في هذا كله عجب، بل إننا نستطيع التدليل بدلائل أخرى كظهور الإتحاد السوفيتي من العدم. ولئن دل ذلك على شيء، فعلى أن عقول الناس تميز، تمييزا طبيعيا إلى حد ما، بين (قوة الشراء) و (قوة العمل) في مجتمع ما.
ولهذا التمييز أهمية كبرى بالنسبة للبلدان المتخلفة، لأنه يجعلها تدرك، إن شاءت، الفرق الجوهري بين الإستثمار المالي الكلاسيكي الذي يعتمد منذ الخطوة الأولى على (قوة الشراء)، والإستثمار الإجتماعي الذي يعتمد أساسا على (قوة العمل).
ولاشك، بأن الصعوبات التي لاقتها هذه البلدان أو الفشل الذي منيت به، بعد الحرب العالمية الثانية، قد كان مرجعها إلى خلط وعدم وضوح في الأفكار في هذا الصدد.
إن (قوة الشراء) كانت فعلا ضعيفة لدى هذه البلدان أو هي تساوي صفرا في السوق العالمية، فإذا وضعت مخططاتهم بالتقديرات النقدية وليس منها في أيديهم شيء، فإن (إقلاعهم) سيصبح مستحيلا، وستكون خطواتهم في هذا الإتجاه مجرد تيه يعرضهم لخيبة أمل تارة، ولفشل أخرى، وأحيانا لتورطات سياسية على حساب سيادتهم.
وقد يحدث أيضاً لبعض البلدان من العالم الثالث، أن تعلن على الصعيد السياسي موقفها الإشتراكي، ولكن دون رؤية واضحة لمستلزمات هذا الموقف على الصعيد الإقتصادي، فنراهم ينهجون في مخططاتهم منهج من يعتمد على (قوة الشراء) المفقودة بين أيديهم، فتصبح مخططاتهم خاضعة لتبعيات مالية تعطل إنجازها.
وطالما لم تتوضح فكرة الإستثمار في تلك البلدان، وتبقى فيها خاضعة لسلطان المال، فإنها- مهما كان مبدؤها السياسي- لن تكتشف قدرتها الإقتصادية الحقيقية.
والمشكلة هذه التي تفرض شرطا مسبقا على مشروعات تلك البلدان، ليست في الواقع من الصنف الإقتصادي بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، ولكنها- قبل ذلك- مشكلة نفسية ثقافية، أو بعبارة أخرى هي من الصنف الأيديولوجي مع توسيع معنى هذه الكلمة. فهذه البلاد تعيش نتائج صدمة ثقافية تحرمها من حرية التصرف في أكثر من ميدان.
ففي الميدان الإقتصادي يجب عليها أن تكتشف قدرتها الحقيقية، التي لا توجد على محور (القدرة المالية)، ولكن على محور (القدرة الإجتماعية).
وطالما لم تقم البلدان المعنية بهذه الخطوة من أجل تحررها النفسي- الثقافي، فإن تحررها الإقتصادي يصعب أو يستحيل .. وهكذا يصبح بعضها
الغني يموت جوعا، لأنه لا يحسن التصرف بما آتاه الله من قدرة، بينما هذه القدرة عظيمة جدا في العالم الثالث، شريطة أن يحولها من حيز القوة إلى حيز العمل. ولا يمكن ذلك إلا بتحقيق سائر شروط التحويل، كما تحققت في الإتحاد السوفيتي حوالي سنة 1928، وفي الصين عام 1948.
ولسنا نفترض هنا، بذكر هذين المثالين، إختيارا أيديولوجيا معينا.
فالإقتصاد له قوانينه الذاتية- كما ذكرنا ونكرر- وعلى ضوء ذلك لا يمكن القول إن ثمة (ظاهرة يابانية) من ناحية، و (ظاهرة صينية) من ناحية أخرى، وإنما هنالك (ظاهرة إقتصادية) واحدة تحققت، طبقا لشروط ذاتية، في بلدين تختلف أيديولوجيتهما اختلافا مطلقا.
وللإقتصاد تاريخه أيضاً: فالعصر الصناعي لم يبدأ في ألمانيا في القرن التاسع عشر على أساس شيء يسمى مشروع (مرشال)(1) أو على قاعدة أيديولوجية معينة.
لعله كان (للإستثمار المالي) أثر (كحقنة سيروم تقوي جهازا لازال ضعيفا) في النهضة الصناعية، التي قامت في الإتحاد السوفيتي بعد ثورة 1917، مهما كان في هذا الإحتمال من ضعف بعد أن أعلنت الثورة إلغاء سائر القروض الأجنبية، ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن (الإستثمار الإجتماعي) قد حقق ما سماه لينين (الإقتصاد الجديد NEP) ، وهو الذي شيد العملاق السوفيتي.
وإنه الإضطراد نفسه يتكرر اليوم في الصين بسرعة مذهلة.
(1) إن نشر هذه الآراء أوجد رد فعل في جبهات معينة نسميها (جبهات الصراع الفكري)، فأطلقت أقلامها وأبواقها المأجورة للرد المتستر علينا بأن مشروع (مرشال) هو الذي سمح لألمانيا بنهضتها الإقتصادية الحالية، ولكن هل كان (مرشال) في القرن الماضي!
وعلى العكس من ذلك، فإن (الإستثمار المالي) لا يستطيع أن يحل مشكلات البلدان المتخلفة لا كما ولا كيفا.
إنه لا يحلها كما، لأنه- مهما تواضعت التقديرات- لا يكون أبدا في مستوى الحاجات الحقيقية.
ومن ناحية الكيف لأن (قدرته) تصاب منذ الخطوة الأولى، بعيب منحه بصفته قرضا خاضعا لشروط توجهه غالبا مصالح صاحب المال، سواء لخدمة أغراض استراتيجية أو لتنميق سمعته.
فـ (النقطة الرابعة) على سبيل المثال، لم يكن لها أي تأثير في البلدان المتخلفة، سوى أنها أتاحت لعدد كبير من الأجانب إقامة سياحية طويلة وممتعة، بصفتهم مستشارين في تلك البلدان، ولم يستفد منهم من أهالي الوطن سوى بعض (البقالين) ليمونوهم، أو بعض المقربين إليهم من المثقفين المحليين.
وهكذا كانت (النقطة الرابعة) حقنة السيروم أعطيت للتقوية، إنما لم يستفد منها من حقن بها، لأن جرعتها بالنسبة لوهنه الكبير كانت قليلة، ثم لسوء حقنها كذلك.
وقد يحدث أحيانا أن (الإستثمار المالي) يصاب أيضاً بعيب من يستغله، فيستعمله في أبواب تافهة: كنصب تمثال من ذهب لزعيم في عاصة من عواصم العالم الثالث، أو في أمر تافه آخر.
إنه ليس للبلدان المتخلفة سوى طريق واحد للخروح من المأزق الإقتصادي، دون اللجوء إلى تلك التفسيرات التى تعزو التخلف إلى (التفجر السكاني) التي بينا سطحيتها فيما سبق.
هذا الطريق ما هو إلا (الإستثمار الإجتماعي) وفقا للشروط التي ذكرناها
آكثر من مرة، أي- بعبارة مختصرة- تلك الشروط التي تحول سائر العوامل الإقتصادية من حيز القوة والسكون إلى حيز العمل والحركة.
والعالم الثالث في حاجة، من أجل إقلاعه، إلى دفعة كفيلة بأن تخلصه من سائر أصناف الجمود، ولعله بصورة خاصة في حاجة في الميدان الإقتصادي إلى نظرية جديدة.
ولا بأس إذا ذكرنا هنا أن (مؤتمر 77) الذي انعقد بالجزائر قبل مؤتمر نيودلهي مر بالمشكلة مر الكرام. وكذلك المؤتمر الذي انعقد بالقاهرة عام 1957.
ويبقى أمامنا أن حل هذه المشكلة، هو الذي سيعطي الإشارة الخضراء الحقيقية للإقلاع في العالم الثالث، ولن يتحقق ذلك إلا ضمن تغيير جذري في طيات النفوس.
فالتنمية لا تُشترى من الخارج بعملة أجنبية، غير موجودة في خزينتنا.
فهناك قيم أخلاقية واجتماعية وثقافية لا تُستورد، وعلى المجتمع الذي يحتاجها أن يلدها.
والتنمية من تلك القيم، إنها لا تستورد بل تصنع في المكان نفسه كالباخرة التي أطللقتها الصين في البحر هذه الأيام.
وإذا بدا تزايد السكان في بلاد متخلفة كارثة، مثل كارثة زحف الجراد على أرض ذات زراعة ومرعى، فإنما ذلك لسبب واحد هو أن التخلف الإقتصادي مبطن بتخلف ذهني.
وإذا كان يخشى في وطن كهذا أن تزيد فيه البطالة، بينما كل شيء فيه ينتظر الإنجاز، فذلك دليل على أنه يعاني أولا بطالة العقول التي تحجم عن السير، وتقف أمام الإشارة الحمراء التي تضعها في طريقها فكرة (الإستثمار المالي).
إن وطنا متخلفا لابد له أن يستثمر سائر ما فيه من طاقات. يستثمر عقوله وسواعده ودقائقه كافة، وكل شبر من ترابه، فتلك هي العجلة الضخمة التي يجب دفعها لإنشاء حركة إجتماعية واستمرار تلك الحركة.
وعند ذلك فقط، إذا جاء من الخارج نصيب يضاف إلى الإستثمار العام، فإنه قد يكون حقنة تزيد في قوة جسم تكونت قوته من ذاته، حين اكتشف قوته الإقتصادية الحقيقية.
***