الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحظة (الفلاش)
عن (الثورة الإفريقية) عدد 227 في 19 حزيران (يونيو)1967.
كما هو متوقع، فالعدوان ضد البلاد العربية انطلق في اليوم والساعة اللذين حددهما الإستعمار في مخططه.
بتواضع تعودناه منه- وهو تواضع لا حاجة لنا إلى شرح دوافعه الخبيثة مرة أخرى- نراه لا يضع توقيعه على ما يصنع إلا إذا اضطرته إلى ذلك ظروف قاسية كما يحدث في فيتنام.
عدا ذلك فهو يتصرف بطريقة أخرى: إنه يهيئ كل ما يقلب الوضع رأسا على عقب، يضع القنبلة ثم ينسحب بكل تواضع، تاركا لسواه مهمة تفجيرها أمام العدسات الكبيرة وأجهزة الإعلام والإذاعة.
هكذا حدث في إيران، أيام مصدق.
وفي الكونجو، أيام لومومبا.
وكما يحدث في نيجيريا الآن.
فالإستعمار يوظف إذن من يضع توقيعه على أعماله، وموظفه في الشرق الأوسط هو إسرائيل الذي يوقع على كل عدوان في مكانه.
فحينما لا يريد الإستعمار أن يظهر أمام العالم، يشرع في تكليف سواه وضع اسمه مكانه، وهذه الطريقة أخذت تزداد أهميتها بقدر ما تزداد حساسية الناس نحو السلم في هذا العصر.
وإنها الطريقة نفسها التي أوحت إلى (جونسون)، من دون شك، أن يصرح قبيل الخامس من حزيران (يونيو)، بأن أمريكا محايدة من حيث النية ومحايدة مين حيث القول ومحايدة من حيث العمل.
وبعبارة أخرى؛ إنها ليست هي التي ستفجر القنبلة التي صنعتها، وأعدتها لليوم الموعود ضد العرب، ولكن على الرغم من شدة هذا التحفظ لم ير أحد (جونسون) يطوي في جيبه شراع الاسطول السادس في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وهكذا رأينا، بل أرونا في لحظة (الفلاش) إسرائيل أمام العدسات الكبيرة وأجهزة الإذاعة والإعلام.
إن القلم يتوقف
…
!
ولقد توقف في المرة السابقة، في لحظة تفرضها ذكرى الأبطال الذين سقطوا تحت قنابل الغرب وقد كتب على جوانبها إسرائيل.
أما اليوم فإنه يتوقف في لحظة غثيان
…
!
فكل ما يحدث من تصفية هو خسارة على حساب الإستعمار.
فقد لاحظنا في الأضواء التي أطلقتها أجهزة الإعلام لحظة (الفلاش)، تلك التقدمية المتبجحة التي خدعت باسم النزعة الإنسانية، كثيرا من الناس في بلادنا، أثناء الثورة، وهي تنضم لجانب إسرائيل (1).
وإن هذا لكسب لنا في الحقيقة، إذا خلصنا عقولنا في سحر الأسطورة التي يسمونها (التقدمية)، وخسارة للجانب الآخر حين تنكشف إحدى وسائله في تخدير عقولنا، وهو منذ اليوم لن يستطيع استخدامها في ظروف أخرى،
(1) نشير بوجه خاص إلى المثقفين الفرنسيين الذين نشروا بلاغاتهم قبيل الأحداث بأسبوع.
خصوصا في تلك العاصمة العربية التي مجدت أكثر ممثلي هذه التقدمية تبجحا، فنقشت اسمه على جدران جامعتها، ولقبته (ضمير القرن).
على أية حال فها نحن أولاء أمام الأمر الواقع: إن (موشي دايان) الذي كان يؤرخ بلاغاته من تل أبيب، أصبح يؤرخها من القدس.
وليس لي أن ألخص الموقف العسكري، فإن رئيس مجلس الثورة قد لخصه للشعب الجزائري فقال مما قال: إن الغلبة تحققت إلى حين، للامبرياليين حلفاء الصهاينة، ولكن هذا لا يعني أننا خسرنا الحرب في معركة .. إننا لم نخسر الحرب.
إن آثار العدوان الصهيوني لا تقف عند حد ما نتصوره اليوم، فكما توقعت في مقالتي الأخيرة فقد أعطينا العدو فرصة ليجرنا إلى مأزق.
وإذا نحن تركنا جانبا الاعتبار العسكري الصرف، نرى أمرين يلفتان الانتباه في الحالة الراهنة، أحدهما يخص بدايتها والثاني يتعلق بنهايتها.
لقد شعر كل جزائري بألم، يوم أعلن نبأ الهزيمة، وعرفت أسبابها الفنية، ونعلم الآن أن هذه الأسباب كانت معروفة منذ اللحظة الأولى، إذ قضي الأمر منذ تحطمت الطائرات العربية في مكانها.
ولا أقول هنا سائر ما يجول في عقولنا حول تلك المفاجأة، إذ تكشفت أسباب جعلت النصر الإسرائيلي من الأمر اليسير. ففي وضع كان ينذر بعدوان إسرائيلي قريب كان ثمة إهمال في الرقابة والرصد المبكر لمبادرة العدو، ثم كانت لامبالاة في الإعلام
…
الخ.
وإني لأساءل: لماذا لم تعلن القيادة العربية عن تلك الأسباب منذ اللحظة الأولى، أي منذ تحطمت الطائرات حتى يتفادى قدر الإمكان الصدمة النفسية في الوطن، عندما يفاجأ بالطامة الكبرى في النهاية.
إن الإعلام عن ذلك كله، لم يأت إلا في اليوم الرابع من العدوان، بينما كان الجيش العربي يواجه طيلة أربعة أيام، العدو من غير وقاية جوية في أرض لا يجد فيها الجندي غابة استوائية تقيه، كما وجد الجندي في فيتنام.
هل كان من صالح القيادة العربية أن تكتم السر؟
إن الذين سجلوا اعترافها في اليوم الرابع، وأصابهم هذا الاعتراف كقذيفة تصيب صدورهم، هؤلاء يعرفون أن (السر) الذي يعرفه العدو، ولا نكشفه للمواطنين لهو سر خطير.
إن الصراع النفسي، أو حرب الأعصاب كما يقولون، له قواعد لا يجوز الحياد عنها. وإذا لخصنا ما نقول فإننا نلخصه بهذه العبارة: إذا كانت الحقيقة سلاحا وكان الكذب سلاحا، فالأولى استعمال السلاح الأول لأن أسوأ نتائجه أقل سوءا من نتائج الكذب.
ولا شك أن نية القيادة في الاحتفاظ بالسر كانت نية طيبة، لأنها لا تريد إزعاج الرأي العام، ولكنها قدرت الأمر تقديرا خاطئا، إذ الواقع سيكشف السر، وحينئذ يتعرض الرأي العام إلى صدمة أكبر مما لو علمه من قياداته.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإذا نظرنا إلى القضية في خواتيمها نلاحظ أن صحافتنا مافتئت تتحدث، في سائر أجهزة إعلامنا عن ضرورة اليقظة والانتباه، وأصبحت كلمة (حذر) تتردد في كل مكان هذه الأيام.
حسن! إنه لحسن جدا .. !
ففي كل موقف أقل ما يجب على المواطن الانتباه لكل ما يدور حوله في وطنه، دون حقد على الأجنبي، ولا ضغط على أحد، ولا عقلية بوليس، بطبيعة الحال.
ولكن يجب ألا تكون كلمة (حذر) كلمة خاصة بعناوين كبيرة في الصحافة، وبالمواعظ التي ترددها الإذاعة، بل يجب أن يكون الحذر مطبوعا في سلوك كل فرد، وخصوصا في سلوك المسؤولين.
إن وطننا ليس ثكنة يقف فيها الفرد كما يقف الجندي أمام الضابط، ولكنه في الوقت نفسه ليس قاعة ميسر يقامر فيها من يريد، بأمن البلاد وإستقلالها. إننا في وضع عصيب فرضه علينا الإستعمار، ولا نبالغ في مثل هذا الوضع إذا ذكرنا المواطن بواجباته، أو إذا طلبنا من الأجنبي الذي يعيش بيننا، أن يحترم قوانيننا وأصول الضيافة.
هذه الإعتبارات تأخذ أهميتها من وضع لا نريد أن يتطور نحو الخاتمة التي يفضلها الإستعمار بل نحو تلك التي نرغبها نحن.
فقد مني الوطن العربي بنكسة عسكرية لا تنقص من ميزات أبنائه في القتال، كما يعرفها الجميع، ولكن النكسة كشفت عن بعض جوانبه النفسية التي كان لها ضلع في النكسة الأولى في سنة 1948.
ويبدو أن العرب لم يتخلصوا بعد من هذه الجوانب. ولكنهم .. حتى في هذه الحالة، نراهم قد سجلوا أثرا محمودا ظهر في الوحدة المقدسة التي شاهدناها في أيامنا المثيرة هذه.
وهم إذا احتفظوا بهذا الأثر في سائر الظروف، فسوف يحققون آثارا أخرى في الميدان الإقتصادي والدبلوماسي.
وليس من شك في أن هذا هو السبب الذي جعل إسرائيل، تلح في التصريح بأنها مستعدة للتفاهم مع كل حكومة عربية على حدة حتى تفرق العرب مرة أخرى، وهو هدف تستهدفه الآن لتقول بطبيعة الحال، لكل واحد منهم على حدة إنه أعقل وأفضل من غيره.
وعلى الرغم من هذا كله فالإستعمار يشعر بأنه لم يكسب شيئا في هذه القضية، وهو سيدفع في كل شبر من تراب سيناء ثمنا غاليا إذا لم تقدر الأشياء تقدير المتبجحين.
وقد يستطيع العرب الزيادة في سلبية ميزانيته على الصعيد السياسي بتوثيق علاقتهم الأخوية أكثر فأكثر، ذلك التوثيق الذي بدأ يظهر منذ بضعة أسابيع. ولعله من الأسباب التي عجلت بالعدوان إذ أنه لم يكن هدف إسرائيل توسيع حدود بقدر ما كان تحطيم روح تخشاه.
على أننا نرى أن الميدان الإجتماعي هو الذي يجب أن تتأكد فيه خسارة الإستعمار. فالعدوان الصهيوني قد استهدف قطعا شل المجهود الذي تقوم به البلاد العربية في تشييدها الإجتماعي، فيجب إذن على العرب أن يحققوا انتصارا في هذا الميدان، وبالتالي عليهم أن يضاعفوا مجهودهم لمواجهة المحاولات التي تسعى لصرفهم عن البناء.
وبقدر ما يتمسكون باتجاههم وبنسقهم في السير، دون أن يزيدوا أو ينقصوا من سرعتهم بسبب خارجي، يستطيعون التغلب على الصعوبات، حتى تلك التي تكون أصعب ما يواجهونه اليوم.
***