المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الاطراد الثوري عن (الثورة الإفريقية) عدد 232 - أسبوع 24 - - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌الاطراد الثوري عن (الثورة الإفريقية) عدد 232 - أسبوع 24 -

‌الاطراد الثوري

عن (الثورة الإفريقية) عدد 232 - أسبوع 24 - 30 تموز (يوليو) 1967م.

إن العدوان الإسرائيلي وضعنا في أجواء ثورتنا كأننا نعيشها مرة أخرى، والأحداث التي تتابعت منذ ذلك العدوان جعلتنا نتأملها مرة أخرى بعقولنا أيضا.

وها هي ذي نقاط كثيرة حرمنا لهيب المعركة أو قلة خبرتنا من الالتفات إليها في حينها أثناء الثورة الجزائرية، تصبح اليوم تجتذب اهتمامنا، كأنها جديدة علينا.

ولعل كلامنا يكون من قبيل تقرير الواقع، إذا قلنا إن أحدنا يشعر أكثر ما يشعر بالضربة حين تصيبه في مفصل من مفاصله. ويكفينا أن نتصور أو نتذكر الضربة التي تصيبنا في مفصل الذراع أو الركبة، لنقتنع بصحة ما نقول.

وللأطفال في هذا تجربة يومية، ونضيف إلى ذلك أن الجهاز الميكانيكي كثيرا ما يصيبه العطب في مفاصله.

وإذا قدرنا الثورة بوصفها اطرادا، فإن لها روابط تربط بين أطرافها أي مفاصلها، وتكون نقاط الضعف غالبا، عندما ننتقل من مرحلة في الاطراد إلى التي تليها.

ص: 13

ولم يكن ماركس، عندما كتب (تاريخ كومون باريس) رجل أدب، بل عالم حياة بالنسبة إلى الثورة التي فشلت بباريس عام 1871.

إن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق وهذا كله يخضع لقانون.

فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال.

إن الثورة الفرنسية تضمنت عهد ما قبل الثورة، في صورة مقدمات وجدتها في أفكار (جان جاك روسو) والعلماء الموسوعيين. فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم 14 تموز (يوليو) عام 1789. لكن عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة كان فيه خلل، جعل أشباه الثوريين مثل (دانتون وميرابو) يسيطرون عليها، ويحاولون بناء مجدهم على حسابها، حتى في التعامل مع العدو، ليمنحهم انتصارات وهمية يعززون بها موقعهم مثل واقعة (قلمى).

ولقد انتهى بها المطاف بين أيدي نابليون الذي صنع منها- والتاريخ يعترف له بالفضل- قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية.

ولكننا مع ماركس ولينين، اكتسبنا في هذا الميدان، معلومات دقيقة، وتقنية ثورية تلم بجوانب الثورة، من مرحلتها التحضيرية إلى مرحلة الإنجاز، ومنها إلى مرحلة الحفاظ على الخط الثوري.

والواقع أن هذه ليست تقنية جديدة في التاريخ، فلو رجعنا إلى الوراء لوجدنا لها أثرا ليس في صيغة حرفية، ولكن في مواقف ثورية محددة.

ص: 14

إننا لو اعتبرنا الإسلام من جهة التاريخ المجردة، لرأيناه ثورة كبيرة غيرت كل البناءات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في المجتمع الجاهلي. إننا نراها في أصعب الظروف قد غيرت كل شيء، حتى أسماء معتنقيها، فكانت النمو الثوري في أدق ما في هذه الكلمة من معنى.

وإذا كان يسيرا على المعاصرين للرسول الكريم، أن يشعروا بذلك في أنفسهم، فإن محكمة أميركية استطاعت هذه الأيام أن تقدر هذا الأثر في شخص الملاكم محمد علي الذي طلّق حتى اسمه القديم (كسيوس كلاي).

إنها دروس حية نلم بمصيرها حين نوازنها مع أحسن الدروس الثورية في الحاضر، أو مع بعض الأخطاء في ثورات معاصرة.

إن الثورة الإسلامية تقدم لنا أولا درسا عاليا، ربما زهدنا فيه أو تناسيناه، في ضبط السلوك. ففي غزوة أحد حيث يتعرض جيش المسلمين لضربة قاسية من جيش المشركين تحت قيادة قريش، نرى النبي عليه الصلاة والسلام يرفض على الرغم من قلة عدد من معه من المهاجرين والأنصار وعدتهم، يرفض سند عبد الله بن أبي وهو على رأس المنافقين واليهود ويقول:((لا يقاتل معنا إلا من هو على ملتنا)).

ولم يكن هذا الموقف مجرد اندفاع خاص في لحظة معينة، فالقرآن سيعطي له كل معناه في الآية الكريمة:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:147/ 9]، مجددا فيها السبب لتجنب القتال مع متطوعين غرباء عن الثورة، أي مجرد مرتزقة كما نقول اليوم.

فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة.

ولا شك أن هذا المبدأ هو الذي حدد سلوك القيادة السوفيتية أثناء الحرب

ص: 15

العالمية الثانية؛ إذ في أحلك الأيام من معركة القفقاز ترفض مدد الحلفاء يأتيها عن طريق إيران.

إن لكل ثورة منهجا يتضمن المبادئ التي تسير عليها، كما يتضمن فحوى القرارات التي ستمليها عليها ظروف الطريق.

فموقف أبي بكر بعد وفاة الرسول الكريم، عندما ارتدت بعض القبائل من العرب، وزعمت أنها لا تدفع الزكاة وتبقي على غير ذلك مما أتى به الإسلام، قد يبدو فيه لمعاصريه بعض التشدد والغلو، كما يكون موقف المرتدين غير بعيد عن الأمر المعقول، إذا قدرناه من الجانب المادي فحسب دون الرجوع إلى مبدأ يقره المنهج أي تقره فلسفة الثورة القائمة، وكاد عمر بن الخطاب يكون على هذا الرأي، لولا إصرار أبي بكر رضي الله عنهما وفصله الموقف بقوله ((والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)).

ولقد قاتل المرتدين فعلا، حتى نصره الله عليهم النصر المبين.

ولنا نحن، في موقف أبي بكر أسوة حسنة. والعبرة التي نأخذها منه هي:

أننا إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدمات ومسلمات الثورة، فلن نفقد (عقالا) فقط بل نفقد الروح الثوري ذاته.

فالثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة) بطريقة واضحة خفية. والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح (ما ضد الثورة) طبقا لمبدأ التناقض تناقضا مستمرا. حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات، تتبعا لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك.

ص: 16

وفي الملاحة يعرف ربان السفينة هذه الحقيقة بطريقته، إذ يعرف أنه لا يكفيه أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين إلى آخر.

وهذه الضرورة لا تخفى على الأوطان التي قامت فيها الثورات المعاصرة، حيث نرى الشغل الشاغل بقياداتها أن تحافظ على (الخط الثوري)، وبالتالي فهذه الرقابة، بقدر ما لا تعني هذه الكلمة مجرد لفظة، وإن كانت ضرورية في كل ثورة، فهي أكثر إلحاحا في الأوطان التي لا تكون فيها فحسب خمائر (ما ضد الثورة) نتيجة إفراز المجتمع نفسه بطبيعته، بل تكون بالإضافة إلى ذلك محفوفة بالخطر في الاطراد الثوري من الخارج، على أيدي خبراء يعرفون كيف تجهض الثورات.

والخلاصة أن المجتمع الذي يقوم بثورة على الاستعمار فهو بطبيعة وضعه من ذلك الصنف، أي ذلك الصنف الذي تبدو المسلمة الأولى التي تقوم عليها رقابته، هي تقديره لخمائر (ما ضد الثورة) المحقونة في ثورته على أيدي خبراء الاستعمار.

فإذا عددنا هذا التقدير مجرد وسواس (1)، فذلك يقودنا إلى أن نرى الاستعمار طفلا بريئا تعتدي على براءته ألسنة شريرة، وإن ما حدث في سيناء ما هو إلا أضغاث أحلام خامرت نومنا هذه الأيام.

أما إذا كانت مأساة سيناء واقعا عشناه، فالأولى بنا أن نستخلص منه الدرس الذي تقدمه لنا.

(1) غالبا ما تستولي الذهنية الصبيانية على قياداتنا، فتفضل إلغاء المشكلات حتى لا تتصدى لها ولا تبذل الجهد الذي يقتضيه التصدي، وبالتالي نراها تحقد على من يذكرها بواجبها وتتهمه إما بالوسواس أو بالطموح.

ص: 17

فمن الناحية العسكرية ليست القضية في تفوق العتاد وفي عبقرية موشي ديان، كما لا يمل القوم من تكراره لنا منذ شهر، حتى إنهم ضربوا في ألمانيا الغربية صورته على مدالية تذكارية، لتخدير الرأي العام الدولي، ولتنويمنا نحن.

يجب أن ننظر إلى القضية بدقة أكثر: فالعرب لم يكونوا في سيناء، أمام هنيبعل الإسرائيلي الصغير؛ ولكنهم واجهوا بعقلية الصبيان أجهزة في أعلى مستواها التقني وضعها الاستعمار تحت لواء إسرائيلي، ثم أمر اليهود بقصف سفينة التجسس (ليبرتي) كي يزيد في التعمية والتضليل.

لكن الناحية الأخرى تهمنا أكثر بكثير من الناحية العسكرية، إذ يجب أن نقول إن الانتصار الذي حققه اليهود في سيناء، لم تتهيأ شروطه في إسرائيل فحسب ولكن في البلدان العربية، إذ استطاع الاستعمار حتى تنويم الرادار في صبيحة 5 حزيران (يونيو) الأخير، ولا نذكر هذا التفصيل إلا لمجرد التوضيح.

أما الحقيقة فهي تخص فلسفتنا الثورية بأجمعها. فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر. وفي هذا الصدد نذكر قول ماركس ((يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا)).

إن الشعب الجزائري قام، بدون شك بثورة مجيدة، ولكن هذا لا يعني أنها خالية من الأخطاء في اطرادها الثوري.

ولست أشير هنا إلى الخطأ البريء الخفيف الذي يتولى الوقت نفسه تصحيحه في الاطراد الثوري، بل أشير إلى الخطأ العضوي سواء أفرزه المجتمع، أو حقن به من الخارج حتى صار جزءا من كيانه.

ص: 18

فالنوع الأول من الخطأ قد يهم من يهتم بالتاريخ أكثر من سواه، بينما قد يكون له أيضا أثر سيئ في وطن ثوري، يتعرض لمثل الأخطاء فيرتكس إلى عهد الأثرة والمحسوبية والأنانية، عندما نرى مثلا في هذه القرية الجميلة من الجنوب الجزائري، هذا الرجل الذي كان من أركان جمعية العلماء يستولي على قصر، كان يسكنه أحد ولاة العهد البائد ويؤجر مسكنه. فنحن لا نرى في مثل هذا التصرف ما يدل على قلة تعفف فحسب، بل يدل أيضا على هبوط في الروح الثوري، إذن هذا العالم لم يتاجر فقط بملكه بل تاجر بالقيم الثورية.

وإذا كان أحد قادة الحركة النقابية يقترض بعض الملايين من الفرنكات القديمة من شركة بترول، ويبني بها فيلا فخمة لا ليسكنها ولكن ليؤجرها لسفارة أجنبية، فإنني لا أرى في هذا التصرف ما يمت إلى (الخط الثوري) ولا إلى (المطالب النقابية) بصلة.

ولكن يا آلهة نيتشه المتألمة الخجلة!! صفحا عن هذه الأخطاء الطفيفة. إذ هنالك الأخطاء العضوية التي لا يصلحها الزمن بل ينبغي أن تمحوها الثورة.

والثورة التي تريد الوصول إلى هدفها يجب أن تدفع هذا الثمن، وبهذا الثمن وحده تستطيع ذلك.

***

ص: 19