المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌السياسة والأخلاق عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965.   ((والعلم بغير - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌السياسة والأخلاق عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965.   ((والعلم بغير

‌السياسة والأخلاق

عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر)1965.

((والعلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح)).

هكذا كان (رابليز) يقول في غرة القرن السادس عشر ولم يكن يدري - وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد- أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة.

لكنه منذ تفجر الفكر (الكرتزائي) في القرن الذي بعده، أصبح من اليسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوغست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس).

ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي، عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج.

منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل

ص: 73

خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم.

لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات:((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال.

ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.

ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.

ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.

ص: 74

ويتفشى الوضع هذا حتى في العلاقات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية. فالعلم إذا تجرد من الأخلاق فإنه يجر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي.

ومما تجب ملاحظته هنا، أن الاقتصاد ليس سوى إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين.

فبقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ أخلاقية معينة، يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها.

فهذه المشكلات يرتبط بعضها ببعض، وليس من الصدفة أو من مجرد وحي استوحاه من الحياة في أثينة، إذ كتب أرسطو كتابه (في السياسة) من أجل اسكندر الأكبر، وكتابه (في الأخلاق) من أجل (ينكوماك) بل إنه إنقاذ لدافع داخلي وجده في روحه بوصفه إنسانا.

وإذا نحن بعد ألفي عام، نرى ماركس يرد على (برودون) بشيء من التعالي والسخرية. وتلك لحظة من لحظات حياة الفكر الإنساني الكبرى، تعبر عن الانفصال الذي مزق تلك الروح.

أجل إن العلم والمضير تطالقا في عالم تسوده حرب طاحنة بين أخوين: الرأسمالية والماركسية، على الرغم من أنهما من نقطة واحدة. بعد أن كانت تسود هذا العالم منذ بداية تاريخه علاقات يطبعها الإخاء والسخاء حسب كلمة ماركس نفسه.

و (خراب الروح) الذي أشار إليه (رابليز) بدأ يعلن أثره في الحياة الأخلاقية، في الإطار الوطني والدولي على السواء.

ولكن الروح يحتفظ- بفضل ما أودع فيه من نزعة التمسك بجوهره- بوحدته، كما تحتفظ الحياة البيولوجية بكيانها بفضل النزعة إلى البقاء.

ص: 75

وإذا كانت لحظات (إينشتين) الأخيرة- وهو كما يقال عنه قمة الفكر الإنساني في القرن العشرين- إذا كانت تلك اللحظات، قد تركزت في محاولة مستميتة للإلمام بالكون في معادلة واحدة، فإن هذه المحاولة إذا فقدت جدواها في المجال العلمي الصرف، فإنها عبرت عن انطلاقة الروح نحو الوحدانية تشعر بها في وحدتها. وبالتالي، وبنتيجة لعلها غير مقصودة، كانت المحاولة من أجل رتق الخرق الذي أحدثته العلمانية بين العلم والضمير.

على أية حال، فإننا نستطيع بعد تجربة قرن كامل، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو.

ولعلنا نستطيع على الأقل، تقويم هذا الفساد وتقدير ثقله في التاريخ من خلال حربين عالميتين.

فحينما حدث في أوربا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء - خصوصا في بلدان العالم الثالث- أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري).

فهذا الصراع لم يوقظ، في نهاية الحساب، الضمير عند الفريقين أو عند أحدهما. وإنما أيقظ فيهما كليهما (الضمير الطبقي) وهو يضفي على صراعهما طابع فقدان الأخلاق أو مناقضة الأخلاق، فالأول يريد مزيدا من الذهب في خزينته، والثاني يريد مزيدا من اللحم في بطنه. وكلاهما بمقتضى تعاليم ايديولوجيته يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة.

ففي صراع بين مصالح مادية صرفة، (والصراع الطبقي ليس سوى ذلك)

ص: 76

لا يبدو المستضغف نفسه إلا في مظهر الحاقد الضعيف، ينتظر دوره لينتقم من خصمه بمثل ما انتقم منه.

هذا في نطاق الأمة.

أما إذا نظرنا إلى نتيجة الانحراف الأخلاقي في أقصى مداه، فسوف نجد البرجوازي والبروليتاري الأوربي، حليفين تجاه الإنسان المستعمر، وهكذا تتمزق وحدة الإنسانية.

لكن خمائر التجزئة والتفرقة لا تؤدي مفعولها على الصعيد الاجتماعي والمعنوي فحسب، بل إن الطلاق بين العلم والضمير يؤدي إلى نتائج أخرى على الصعيد الفكري بالنسبة للفرد الواحد.

وإذا كان من نتائج هذا الطلاق الفلسفي، ظهور موضوعية (أوغست كونت) ومادية (ماركس)، فإن رمزه الحي، ذلك المثقف الذي يلقب نفسه أو يلقب بـ (الفكر الموضوعي).

ومن أغرب الموافقات أن سائر المظاهرات المطالبة بالحقوق في العالم ذات وجه واحد ولغة واحدة.

خطبهما متشابهة، تتناول دائما موضوع (الشروط الموضوعية)، وبهذه العبارة بالضبط يعرف (الفكر الموضوعي) كأنما لغته في أي وطن مصدرها واحد، إنها اللغة التي تسم القرن العشرين، بصفتها مقياسا يصلح في كل مكان، وإذا لم تستعمل هذه اللغة فيما تقول أو تكتب، فأنت غير (تقدمي)، بل أنت (رجعي) طبقا لمقاييس هذه اللغة. حتى إنك ستضطر لترد التهمة إلى طرح السؤال ما هو محتوى (فكر موضوعي)؟.

لنقل أولا في أي صورة تراه عينانا: إن لنا في الجزائر عينات تمثل هذا الصنف، نراها في ركن من ذاكرتنا أو شاخصة أمام أعيننا بلحمها ودمها.

ص: 77

لا نستطيع بالطبع ذكر الأسماء، فلنقتنع إذن بذكر النوع الذي نسميه (الفكر الموضوعي).

فقد يكون شابا أو مسنا. وقد يكون (طالبا) لا يطلب علما أو (عاملا) لا يقوم بعمل، فهذا غير مهم.

ففي أي صورة تصورناه، فهو قناع لا نشعر وراءه بشيء يتحرك، يفرح أو يتألم، تحركا نستطيع معه تعريف (الفكر الموضوعي) بأنه شبح له ظاهر إنما ليس له باطن.

وإني أتذكر منذ ثلاثين عاما إذ كنت ذات يوم بالحي اللاتيني بباريس، أتحدث على سطح مقهى مع طالب جزائري، وكان يقول: إنني سأومن بوجود الله عندها أراه.

هذه العبارة تعرفنا بـ (الفكر الموضوعي) من الناحية الفكرية، وهو مازال فجا، لأن الصنف هذا (تقدم)، فلو تكلم أخوه الصغير اليوم لقال: حتى لو رأيت الله فلن أومن به.

إذن (الفكر الموضوعي) تقدم خلال الثلاثين سنة الأخيرة في الجزائر، وبطبيعة الحال فالأمور تجري وفقا لمقدماتها.

فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال، سيكون (الفكر الموضوعي) محافظا بالمعنى الفزيولوجي والإجتماعي: إنه سيئ فظ على حياته وعلى مصالحه بكل (موضوعية)، لقد حافظ على حياته أثناء الثورة، فبقي بعد الذين خاضوها بوازع ديني صرف.

لقد فضل أن يحتفظ بدمه لاوقات سانحة، ليتحدث فيها عن (الشروط الموضوعية) في الوطن حتى يزج به بعد الثورة في (التقدمية).

ص: 78

والجنائريون الذين عاشوا السنوات الثلاث الأخيرة، وشاهدوا بأعينهم مظاهراتنا، وتذوقوا ذلك الشر الذي كان يرد- من مسارب لا تراها العين لأنها تحت الأرض- إلى قاعات تحرير صحافتنا، وإلى بعض منظمات (التوجيه) هؤلاء الجزائريون يعرفون معنى هذا.

إن ميزانية السنوات الثلاث تحت أعيننا.

ففي المجال الإقتصادي أولا كما بين ذلك الرئيس بومدين في خطابه الأخير في المعرض السنوي بالجزائر.

وفي المناخ الإيديولوجي الذي سجل هبوطا في الحرارة يصعب تداركه.

وفي مجالنا الأخلاقي وقد جعل الآباء يطلقون الزفرات تحسرا على أولادهم وخشية. بكلمة واحدة: إن ميزانية (الفكر الموضوعي) في حياتنا الوطنية، منذ ثلاثة سنوات ذات ثقل لا يحتمل.

فهل هذا يكفي لتقويم محتواه؟ كلا فالعدم لايقوم. ولكنا نستطيع تصوير (الفكر الموضوعي) بمثل نقتبسه من التاريخ الإسلامي.

إننا نقتبسه من تلك الأيام الحالكة حين قام النزاع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه.

فمعاوية قد شعر بأن السيف لا يحقق نصره، فلجأ إلى الحيلة، إذ أمر قومه بأن يحملوا المصاحف على رؤوس رماحهم وينادوا: هذا حكم بيننا.

ومن المؤسف أن (الفكر الموضوعي) كان منبثا في الفريقين ليخدع في صف معاوية ولينخدع في صف علي حيث يقول: أجل إن الكتاب حكم بيننا.

لقد كان هذا الصف موضوعيا (بطريقته) لأن القران يمثل فعلا في نظر المسلم، المرجع الذي يرجع إليه في كل نزاع، خصوصا في نزاع سياسي.

ص: 79

لكنهم نسوا الأمر الرئيسي في الموضوع. وهو أن السياسة حين تكون مناقضة في جوهرها للمبدأ الأخلاقي، فإنها لا تطرح قضية تحل بالقضاء ولكن بالسيف ..

ولم يكن علي رضي الله عنه (الفكر الموضوعي) الذي يخدع أو الذي ينخدع فقال كلمته المتواترة: إنها كلمة حق يراد بها باطل.

وبعبارة أخرى، فإذا أردنا استعمال مصطلح آخر نقول إنه في مثل هذه القضايا يجب تحكيم منطق (بسكال) لا منطق (ديكارت).

وبأقصى التلخيص نقول إذا كان ((العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح))، فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة.

***

ص: 80