الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياسة والبلوتيك
إن العقلية الشعبية التي أوحت بالعرض السابق من مقالنا، لم تنصهر فحسب في الامثال والحكم والاستعارات، التي أشرنا إليها بوصفها أداة جدلية يستعملها الشعب للإقناع، بل قد انصهرت أيضاً في كلمات تنطلق انطلاق الرصاص ولها دويه في مواقف الغضب والاستنكار.
فحين تبدو أشياء خلال الحديث تدعو إلى الاستنكار، فإن هذه الكلمات تحمل السخط والازدراء لبعض الاكاذيب التي يريد من يريد بثها في حياتنا العامة، كما يبث المزيفون زيف عملتهم في المعاملات النقدية.
لقد انتبه الشعب منذ أمد بعيد إلى التزييف الذي بثه في حياتنا السياسية بعض الدجالين، أولئك الذين غالطوا الشعب حين بدأ يتخلص فيه من خرافات المرابطين المؤيدين من قبل الإستعمار، فعوضوا التمائم بأوراق الانتخابات، ووضعوا الزعيم ملتحيا أو أمرد مكان (الشيخ).
إلا أنه لا بأس من أن نذكر مرة أخرى حكمة (إبراهام لنكولن): قد يخدع رجل كل يوم، ويخدع شعب بعض الأيام، إلا أنه لا يخدع شعب كل يوم.
لم يمر في الجزائر زمن طويل حتى انتبه الشعب بعد بعض الاختلاسات الانتخابية، ذات النوع الجديد من التزييف، الذي أدخل تحت اسم السياسة، عددا لا يقدر من جراثيم ذلك التعفن، بعد أن أدت مفعولها المشؤوم في حقبات مضت، سيبقى لها إلى يومنا هذا بعض التأثير لأنها لم تصف بعد.
لكن الشعب الجزائري، على الرغم من المغالطة الماهرة التي خيبت أمله أكثر من مرة لم يفقد صحوته، فلم تمر عليه مدة طويلة حتى اكتشف الخدعة فميز بين السياسة والصورة التي زيفت عليها فسمى هذه الصورة المزيفة (البوليتيكا).
إن هذه الكلمة طلقة رصاص تجاه المخادعة والنفاق، إنها مكنسة كنس بها الشعب المزابل التي تكومت في سوق (البوليتيكا).
إنها كلمة انتقام وثأر! لأنها تثأر لمن تبقى لديه صفاء بصر على الرغم من الاختلاسات التي مرت.
إنها تثأر للذين نادوا بالواجبات، ورفعوا أصواتهم فوق من ينادي بالحقوق فقط، كأنما الحق شيء يعطى مجانا.
فالفرق بين السياسة و (البلوتيك) هو ذلك: أولا.
فعندما يرتفع الصخب في السوق، وتكثر حركات اليد واللسان، وعندما لا يسمع الشعب غير الحديث عن (الحقوق) دون أن يذكر بواجباته، وعندما يشرع بالطرق السهلة الناعمة، فتلك هي (البلوتيك).
لقد واجه ماركس في عهده صخبا كهذا في خصومة مع من سماهم (صانعي الكيميا المطالبة)، ومن هنا يتضح لنا أن الصراع بين السياسة و (البلوتيك) قديم جدا، وإذا أردنا أن نحددهما من الوجهة النفسية قلنا إن الأولى استبطان القيم بينما الثانية قذف مجرد للكلمات.
والأولى محاولة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب، والثانية مجرد صرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه.
ومن الناحية الفنية فـ (البلوتيك) ليست مفهوما محددا، ولو لم يضع الشعب الجزائري هذه الكلمة، ما وجدنا كلمة لنعبر بها عنها. ودراسة ملفها
ليست من اختصاص العلم، بل من اختصاص القضاء بوصفها جريمة اختلاس. وليس دونما سبب أن تكون صحيفة قد كشفت عن ارتياعها، وحاولت تغطيته بابتسامة، عندما اقترحت في إحدى مقالاتي أن يقدم المختلسون إلى المحاكمة أمام الشعب.
فبكل تأكيد، إن اقتراحي قد صب الرعب على أولئك الذين لهم أسهم في سوق (البلوتيك). ومع ذلك فقد كنت، وأنا أكتب المقالة المذكورة، أتوقع هذا النثر الذي يظهر بغير توقيع، ويأتي عن طريق قنوات مخفية تحت الأرض.
إن هؤلاء الذين يزعمون محبة الشعب، ولا يحبون مع ذلك الشخوص أمام عينيه في محكمته، وكتابهم في يمينهم، قد قالوا في الحقيقة- وهم لا يشعرون- ما تخفي صدورهم.
ولكن فلنمر في طريقنا مر الكرام.
فالبلوتيك إذن لا تحدد بصفتها شيئا له مدلول في عالم المفاهيم، ولكنها ذات تاريخ طويل في بلادنا، وفصلها الأخير له دلالة (1).
على أن الظروف قد تغيرت، ومن بين المشكلات الحادة التي يعرضها على عقولنا هذا التغيير، أن نراجع أفكارنا في السياسة.
وأول سؤال يعرض علينا هو: ماذا نعني بكلمة السياسة؟
لنأخذ الكلمة أولا في معناها المتداول والذي نجده في أي قاموس: هي العمل الذي تقوم به كل جماعة منظمة في صورة دولة. وإنه لتحديد كاف في كل وطن فيه معنى (الدولة) في منتهى الوضوح، إذ تكون وظيفتها محددة بدستور أو بتقاليد عريقة تضبطها، كما هو الأمر في إنجلترا.
(1) ذكر هذا الفصل في الأصل المخطوط، ولكن حذف في النص المطبوع الذي نترجمه ولم نجده في ذاكرتنا.
أما في العالم الثالث حيث لا تزال النظم في ورشة الاختبار، وفي حالة التمرين فالمعنى الذي تتكفله تقاليد التاريخ، مفقود أو غير كاف، لأن التقاليد نفسها ما تزال في حيز التكوين.
يجب علينا أن نثري مفهوم (السياسة) بما نستطيع من ملاحظات هي في صلب الحياة. ويبقى على أية حال أن السياسة هي العمل المنظم لـ (جماعة) بكل ما تقتضيه وتفترضه كلمتا تنظيم وجماعة.
فالجماعة التي تدخل في مضمون السياسة، هي مجموعة الافراد الذين تجمع بينهم روابط تاريخية وجغرافية، تتلخص في وحدة مسوغات ووحدة مصير، وقد تكون الجماعة بهذا المفهوم (الأمة).
فبالنسبة لهذا المصطلح فالقضية واضحة إلى حد ما. أما بالنسبة لـ (التنظيم) فالأمر يختلف. فنحن نعيش في وطن هو دون التكوين والتمرين في كل مجال، أي في الدور الذي يفرض عليه أولا التفكير في قضية (العمل المنظم)(1).
ولا ينبغي أن نتصور (العمل) فحسب، بل أن نلم بالنظرة نفسها بسائر الشروط التي يفترضها العمل، حتى لا يبقى دون الهدف، ولا أن يتعدى حدود الهدف، أي- بعبارة مألوفة- حتى لا نتورط في طرفي تفريط أو إفراط.
ففي الحالة الأولى تكون السياسة مشوبة بـ (اللافعالية)، وفي الأخرى تكون مشوهة بالإجحاف. والعمل السياسي إذن يقتضي مستوى الدولة شروطا ثلاثة على الأقل:
أولا: تصور (العمل) أي تحديد السياسة بأكثر ما يمكن من الوضوح.
(1) إننا حين نطرح هذه القضية بالنسبة للجزائر، نعلم أنها قضية تواجه كل بلد إسلامي.
ثانيا: تصور وسائل تحصين هذا العمل من الإحباط، حتى لا يبقى حبرا على ورق في نص الدستور أو ميثاقا أو مجرد لائحة.
ثالثا: تصور جهاز يحفظ المواطن من إجحاف العمل، إذا تعدى- عن جهل أو سوء نية- من يقوم بتنفيذه.
ولنوضح الشرط الأول قد يكفينا أن نذكر (شو إن لاي) عندما صرح بهذه الكلمات ((إن سياستنا لا تخطئ لأنها علم)).
إننا لنعلم أن العلم نفسه. قد يخطئ، ولكن تحديد السياسة بصفتها (علما) له قيمته النظرية والعملية، إذ يضمن لها على الأقل ألا تصير (بلوتيك).
أما بالنسبة للشرط الثاني فإن على الدولة أن تدافع عن عملها، أي عن سياستها، إذ الرواسب التي خلفها الإستعمار، وخلفتها (البلوتيك) في الوطن قد تجعل من الصعب تنفيذ قانون، هذا إذا لم تعرضه للازدراء وهو ما يحدث أحيانا بكل أسف (1).
ولقد نرى أحيانا القانون في يد من ينفذه، يتخذه أداة يقضي بها مصالحه، والويل إذن للمواطن الذي يكون تحت رحمته، تحت رحمة طاغية صغير يخضع باسم الدولة لهواه أو لإدارة خفية، المسكين الذي يرفض الخضوع لـ (البلوتيك).
ينبغي إذن حماية المواطن من هذا الاختلاس وذلك التحطيم، اللذين من شأنهما أن يضعا المواطن ضد الدولة وضد النظام.
فمن مصلحة الدولة العليا إذن أن تضع من أجل المواطن جهاز دفاع يحميه من عملها، حين يصبح هذا العمل إجحافا.
(1) لم يقل لي أحد عندما نشرت هذه السطور: تعال وأعطنا بينات عن هذا الاتهام الخطير.
والجهاز هذا موجود بصورة دستورية في البلاد المتطورة، وعلينا في الجزائر أن نفكر جديا في الموضوع.
هذه الشروط الثلاثة هي أقل ما تتطلبه السياسة لتتميز عن (البلوتيك).
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، بل هنالك ما هو أبعد بكثير.
ويكفينا كي نقوم بعملنا على ما يرام، أن نسير طبقا لمبادئ لا غنى عنها، ولو أتى نصها الحرفي على لسان غيرنا، أي على لسان من هو على غير سفينتنا.
ولعل ما كنا قد اقترحناه في صدر هذا المقال من مراجعة أفكارنا السياسية قد يستفيد مما قاله لينين:
((إن كل الاحزاب الثورية التي أخفقت حتى الآن، قد أخفقت لأن الغرور قد استولى عليها، ولم تكن تقدر ما يكون قوتها، كما كانت تخشى الحديث عن جوانب الضعف فيها.
أما نحن فإننا لن نخفق، لأننا لانخشى الحديث عن ضعفنا ونتعلم كيف نتغلب عليه)).
***