الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمن الوحدة العربية
عن (الثورة الإفريقية) عدد 326 في 12 حزيران (يونيو)1967.
لقد بدأ العالم العربي برد الفعل على الاحداث الكبيرة التي سببها العدوان الصهيوني في الشرق الأوسط.
إن القلم ليقف في لحظة صمت، لأرواح الأبطال الشهداء، الذين سقطوا في الميدان من أجل الوطن العربي الذي استرجع وحدته المعنوية في الظروف العصيبة التي يواجهها.
إن المستويات الكبيرة التي أبرزتها الأيام الخطيرة الأخيرة، قذفت بالإنسان من حياة يومية سطحية إلى ملحمة كبر بها حجمه فوضعته في مستوى الأحداث.
هذا التغيير النفسي له، بطبيعة الحال، أثره في الحياة السياسية: فالمشكلات التي طالما تحدت رشدنا وصدمت ذوقنا بفرقة العرب، هذه المشكلات التي استعصى حلها حتى الآن، تجد الآن حلولا عاجلة يبدو أنها ستبنقى في أيدينا.
إن الخطب السياسية، ومواعظ الجامعة العربية لم تحقق، طيلة عشرين عاما، وحدة العرب، وإنها اليوم لتتحقق في لحظة أمام الشدة، في الجانب المعنوي على الأقل.
لقد سكتت المشاغبات، وعدنا لا نستمع في الموجات العربية إلا البلاغات يملؤها الإخاء.
وسرعة التغيير هذه ظاهرة تلفت في حد ذاتها نظر المؤرخ، كما لفتت نظر المؤرخين الأوربيين، سرعة انتشار الإسلام واتساع رقعته التي أصبحت في أقل من قرن، تمتد من قلب فرنسا بفضل موسى بن نصير وطارق بن زياد، إلى قلب الهند مع محمد بن القاسم الثقفي، إلى حدود الصين مع قتيبة.
ونستطيع قياس عجب هؤلاء المؤرخين، إذا قدرنا في نظرهم المدة التي اقتضاها تأسيس أو امتداد الإمبراطورية الرومانية في إفريقيا الشمالية، بعد قرنين طويلين من (الحروب الفينيقية).
ويبدو أن الفرد في العالم العربي، يستطيع الانسجام مع الظروف الاستثنائية أكثر منه مع الظروف العادية.
إنه، إذا حركته فكرة أو قضية كبرى يفعل المعجزات، كما دلت الثورة الجزائرية على الظاهرة نفسها التي تتكرر مع اختلاف في الموقع الجغرافي فقط.
وهذا هو بالضبط موضوع تأملنا:
إن شعبا من الشعوب لا يكتب تاريخه فقط (بالرعد والصواعق) كما يقول (نيتشه)، فإذا كان لابد من طوفان وقيام كوارث من كل نوع، لتستيقظ الضمائر وتنشط الجوارح، فإن ثمن الصفحة من التاريخ سيكون باهظا جدا.
فمن الطبيعي، أنه لابد للشعب إذا ما دقت ساعة الخطر أن يكون في مستواها. ولكن الحياة نسيج أحداث كبيرة وصغيرة. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت له نظرة ثاقبة في الأشياء، بوصفه أستاذ ينشئ أمة، كان يعلمها تقدير الأشياء البسيطة التي يستصغرها النظر القصير، كأنما يريد بذلك ألا يترك الضمير الإسلامي يحلق فوق الأشياء العادية يزهد بها.
نراه مثلا، في عودة له من إحدى غزواته الكبرى، ربما غزوة تبوك، يقول
لأصحابه رضوان الله عليهم: ((عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)).
فإذا صح الحديث فهل يعبر حقيقة عن قلب للمقاييس؟.
إننا نرى اليوم مجتمعات جديدة تتكون وتنمو أمام أعيننا، ونلمس على الطبيعة إطراد نموها تحت تأثير أحداث لا نتوء كبير لها.
والأحداث كلها- صغيرها وكبيرها- تثري المجتمعات فتستنتج منها دروسا. والأحداث التي يعيشها العالم العربي منذ أيام قد أثرته فعلا بطريقة تجعله أكثر انسجاما مع شروط مصيره ووحدته.
وكأننا نرى الثورة الكبرى- التي لم يسبقها مثيل في البلاد العربية- تجتاح هذه البلاد وتغير معالمها النفسية تحت أعيننا، حتى إن (الوحدة) التي دعا إليها كثير من الدعاة، خلال السنين العديدة دون جدوى، تتحقق في ومضة عين في هذه الأيام العصيبة لتصبح أثمن ما كسبته الثورة.
إن العرب الذين كانوا يحلمون بها، والذين يسقطون الآن في الميدان ليشتد عودها بدمائهم السخية، أولئك يعرفون ثمنها.
وعليهم الآن أن يعرفوا بأي ثمن سيحافظون عليها، لأننا- حتى إذا لم نستطع منذ الآن إصدار الحكم النهائي على ثورة لا زالت في حيز الاتجاه- نستطيع منذ الآن، الحكم على مكاسبها. وهي لن تصبح مكاسب نهائية إلا إذا أصبحت المسوّغات التي سجلتها في نفسية البلدان العربية وفي سياستها، هذه الأيام، القواعد التي تجري عليها حياتهم كل يوم.
إنها لمشكلة الغد، لأن ما لدينا من تجربة ثورية في العالم، وفي البلاد العربية بوجه خاص، يجعلنا نقول: إن لكل ثورة ما بعدها، فإما أن يكون مواصلة للثورة وإما أن يكون في اتجاه معاكس يتنكر لها ويمسخها.
وما نجزم به، أن للاستعمار، منذ الآن، خطة مفصلة لمسخ هذه الثورة.
ليس فحسب في الفترة التي ستتبع العدوان مباشرة، ولكن حتى في الوضع العسكري الراهن.
ولا شك بأنه سيسعى بكل ما لديه من وسائل مادية، لتوريط العرب في مأزق عسكري أولا، ليس فحسب من أجل الحفاظ على كيان إسرائيل؛ ولكن، قبل كل شيء، من أجل تحطيم الوحدة المعنوية العربية التي تحققت هذه الأيام.
ولسوف يصنع المستحيل من أجل إرجاع العرب إلى نقطة البداية النفسية التي انطلقوا منها في المعركة، حتى يغمسهم من جديد في التفرقة السياسية والفوضى الروحية، بينما نرى أن نكسة معنوية ستكون أشد عليهم من أية نكسة عسكرية (1).
إن ساعة الصفر التي يكون فيها كل أمر مهيأ للبعث والتجدد، لا تدق كل يوم. لقد دقت للشعوب العربية، في الدقيقة ذاتها التي ألقت فيها أول طائرة إسرائيلية أول قنبلة للعدوان، وكأن الأقدار تهيئ لهم الفرصة مرة أخرى، لتصفية رواسب عهد الإستعمار.
لقد بارك الله عز وجل هذه القطعة من التراب التي نسميها فلسطين، وجعلها مهدا نزلت فيه الأديان، قبل الإسلام، وعلى العرب اقتداء بأسلافهم أولا، ولأن أبطالهم يستشهدون اليوم على أرضها، أن يباركوها بما يسترجع وحدتهم.
…
(1) كتبت هذه المقالة مباشرة بعد الخامس من حزيران (يونيو) سنة 1967، قبل الإنهيار العسكري على الجبهة العربية.