الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخلاق والثورة
عن (الثورة الإفريقية) عدد 264 - أسبوع 7 إلى 13 آذار (مارس) 1968م.
لعل عنوانا كـ (السياسة والأخلاق)، يكون في نظر بعض الناس أكثر انطباقا على محتوى هذا المقال، ولكن حتى على هذا الفرض فقد استعملته في مقال آخر (1).
ومهما يكن من أمر، فكثيرا ما يتهم (كاسترو) بسبب تشدده في الحفاظ على المبدأ الأخلاقي، بأنه يرتجل: يتهمه بذلك طرف من الصحافة اليمينية وأحيانا جناح من الصحافة اليسارية.
فتراه أحيانا في سياسته يقلب رأسا على عقب ما تعارف عليه الناس من مقاييس وتقاليد ثورية، وأحيانا أخرى نراه يلقي في سلة المهملات ما توارثه الناس من أفكار هؤلاء وأولئك، إلقاء قد يلتبس معه سلوكه فعلا على الذين يرونه يرتجل، أو ينفر من هذا السلوك رجال الاقتصاد والتخطيط في الغرب أو في الكتلة الشرقية على حد سواء.
وكأنه هو الآخر ينفر من هؤلاء وخاصة التشيكيين والسوفييت الذين نراه يعزو إليهم فشل بعض المشاريع التي لم تعط نتائج فعلية في كوبا.
(1) انظر [ص:73] من هذا الكتاب.
إن (كاسترو) لا يجد بعد في تصرفه، ذلك الجهاز الثقيل من إحصائيات وآلات إلكترونية وأصحاب اختصاص، ذلك الجهاز الذي يجعل الإنتاج المتسلسل عملية لا ثغرة فيها ولا خلل كما هو الأمر في البلاد المصنعة.
ولكن وطنا لم يزل في طور التكوين، لا يمكنه أن يمتع نفسه بهذا الحشد من الأرقام، وبهذا الترف من الآلات الإلكترونية، ليبلغ منذ اللحظة الأولى الذروة في ضبط عملية الإنتاج، والدقة التي لا تترك ذريعة فيها.
إن الإتحاد السوفييتي نفسه مر بهذه المرحلة، فقد كانت، أثناء مخططه الأول بين عامي 1928 - 1932م نسبة (40% إن لم نقل 50%) من إنتاجه من الحديد أو من الخزف، تلقى في أكداس المهملات أو تعود إلى أفران التذويب.
ولم يكن الإتحاد السوفييتي يخشى أن يتعلم الصناعة بهذا الثمن، كما كانت روسيا في عهد بطرس الأكبر تتعلم فن البحرية والحرب العصرية. حتى كان النبلاء فيها من طبقة (البويا) يقصرون لحاهم على الطريقة الأوربية.
إذن فليس على (كوبا) أن تخجل من تدريبها، وإذا اتهم (كاسترو) بأنه يرتجل فليكن؛ غير أننا نعترف بأنه يرتجل بطريقة موفقة عندما نرى، منذ زمن قريب، كيف تخرج من يده قرية مجهزة بمدرسة ومصحة في مكان (مدينة صفائح) توافرا لها منذ شهر ونصف الشهر فقط.
فإذا كانت الحالة هذه بكوبا تثير التعجب والاستغراب من طرف بعض الملاحظين، فإنما يعود ذلك إلى أن القرن العشرين تعود أن يستقطب الأفكار حول قطبين هما: الرأسمالية والماركسية، ولا يحتمل احتمالا ثالثا لهما يبدو معه أن لا مناص من أن تستوحى الأفكار من هذا القطب أو من ذاك القطب، في الميدان الاقتصادي أو التربوي أو السياسي دون تفكير خارجهما.
لكن (كاسترو) تحرر في تفكيره من كل تبعية لموسكو أو بكين، على الرغم من أنه ينتمي إلى مدرسة (ماركس) فبدأ يبتكر أو يرتجل كما يقولون.
وليس خروج (كاسترو) عن الماركسية المألوفة تنكرا للفكرة نفسها أو حبا للظهور بالأصالة، إنما هو تمسك رجل دولة بما يراه ضروريا من حرية في الفكر وفي التصرف، للقيام بوظيفته طبقا لما تقتضيه تجربة بلاده.
ونحن ما نزال على مقربة من بداية هذه التجربة، قربا لا نستطيع معه الحكم منذ الآن، فهل ستؤدي إلى انشقاق نظري أم لا؟! وماذا ستكون آثار هذا الانشقاق- إذا حدث- في المجال السياسي بوجه خاص؟!
ولكننا نستطيع منذ الآن ملاحظة فوارق جذرية، إذا ما تذكرنا ما قاله (لينين) وهو يواجه أقسى الصعوبات بعد هدنة (بريست ليتوفسك):((إذا وجب علينا أن نسير إلى النصر زحفا على البطون ..... فليكن)).
بينما كاسترو يصرخ طاقة جهده بأن (سياسة الثورة) لا تقوم على الحسابات، فالمصلحة الوطنية وما يمليه أمر الدولة، إنما تقوم على المبدأ الأخلاقي.
فهذا كلام لا نتصوره على لسان رجل مثل (الكردينال دوريشيليو)، ولا على لسان (تاليران)، وإنما نجده في صرخة (دوبان دونمور)، الذي صرخ ذات يوم في مناقشات تدور بمجلس الثورة الفرنسية حول قضية المستعمرات، صرخ قائلا:((فلتمت المستعمرات ولكن لا نسلم في مبدأ من مبادئنا)).
إن (كاسترو) ليس عالم أخلاق وإنما رجل دولة يعرف قيمة الأخلاق في السياسة.
لكن التاريخ لن يصدر عليه حكمه طبقا لمبادئ مجردة بل طبقا لنتائجها في الواقع الملموس.
إنما من ناحية أخرى، يجوز لعالم الاجتماع بل يستحسن منه، أن يعلم ما إذا كان للأخلاق وظيفة في السياسة؟.
إن الأشياء ما تزال بالنسبة إلينا في ضباب الثورة، تجدد نفسها الثوري في كل خطوة وأمام كل صعوبة جديدة تواجهها.
لكن الأشياء بدأت خلال هذا الضباب تتخذ أكثر فأكثر شكلها، وتظهر كصدمات تجربة من شأنها أن تعم العالم الثالث كله، على الرغم من حدودها الضيقة في وطن صغير مثل كوبا.
لاشك أن إدانة الحافز المادي في الإنتاج، لم تعط بعد أثرها الواضح في منحنى التنمية على الأقل، حسب أقوال الصحافة التي نقرؤها في هذه الناحية من العالم.
كما أن إلغاء العلاقات السوقية بين المنتجين والدولة، مع ما يوحي به من إلغاء العملة ذاتها في أمد قد لا يبعد، لا يزال أيضا في غموض.
ولكن الشيء الذي نستطيع تقريره منذ الآن، هو أن هذه القرارات تثيرنا من ناحيتين:
إنها في الميدان الاقتصادي تمثل النموذج المثالي لا نسميه الاستثمار الاجتماعي، وهو أمر لا نجده في وطن آخر في الموضوع نفسه.
ومن هذه الناحية فإنها تقدم درسا لا يستغني عنه العالم الثالث، الذي بين يديه الكثير من الذهب ومن العملة الصعبة.
ولكن هذا الدرس يتضمن جانبا يهم العالم كله، ألا وهو الثقة في القيم الأخلاقية ومنحها الأولوية في الإنتاج وفي درجة الالتزام في الحياة السياسية.
ولنتأمل على سبيل المثال، هذا الدرس في إحدى قضايا العمل الإنتاجي:
إن العامل قد يتغيب من دون عذر عن عمله فما هي عقوبته؟.
إنه لا يجازى بحسم من تموينه ومن أجرته، ولكن يفرض عليه عدد من أيام تغيب أخرى.
فالجزاء يقوم هنا على قاعدة أن اللولب النفسي ذو فعالية أكبر من اللولب الاقتصادي في حياة الفرد.
ولكن هل هذه القاعدة تصح من دون قيد أو شرط؟.
إننا لا نتصور أثرها إلا في مناخ أخلاقي حقيقي، تكونه الثورة وتحافظ عليه بوصفه صيدا أساسيا لها، كذلك المناخ الذي نشعر به في قصة المخلفين في القرآن الكريم.
ونحن إذا عدنا إلى تجربة كوبا، نرى (كاسترو) لا يخلق هذا المناخ فحسب، بالقرارات العامة التي يتخذها وبتفسيرها للجماهير، بل يمثلها أيضا في سلوكه الشخصي ليكون القدوة في هذا كله.
فعندما قرر سياسة التقشف في استهلاك البترول، كان لها مسوغاتها الاقتصادية، بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضربته أمريكا على كوبا، حصارا أصبحت معه واردات البترول حتى من (البلاد الصديقة) لا تغطي غير 2% من الزيادة في الاستهلاك التي تقدر بـ 8% بالنسبة إلى السنوات السابقة. وقد أشار إلى ذلك في خطابه بمناسبة رأس السنة (1).
لكن الأمر الذي يرفع هذا القرار إلى أعلى درجة في الفعالية، هو تفسير (كاسترو) له في غير الإطار الاقتصادي، إذ قال في الخطاب نفسه ((إنه لا يليق بكرامة هذا الشعب أن يبقى دائما يطلب العون من الآخرين)).
فهذا درس ينبغي ألا يهمله العالم الثالث المنغمس في سياسة الاستنجاد
(1) 2 كانون الثاني (يناير)1968.
والاستجداء. فقد أعطى (كاسترو) من نفسه القدوة، إذ استبدل بالسيارة التي ورثها عن خصمه السابق (باتيستا) سيارة عسكرية تقتصد استهلاك البترول.
هذا كله قد يسميه الآخرون (الأخلاق الماركسية) نسبة إلى انتماء (كاسترو)، ولكننا في إطار النظرة الموضوعية نراه فقط (الأخلاق) في المناخ الثوري.
إن ثورة ما، لن تستطيع تغيير الإنسان إن لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية.
إن (روبسبيير) و (سان جوست) وهما من هما في الثورة الفرنسية، يمثلان قبل كل شيء أنضج صورة لأخلاق ثورية لا تنازل فيها.
فلا يجوز لنا إذن أن نستغرب الأمر إذا ما كان (كاسترو) لا يفسر قرارا اتخذه بالأرقام أي بمسوغات مادية، بل يفسره بمسوغات أخلاقية عندما يشير إلى كرامة الشعب الكوبي.
إن ثورة تقوم، لا تكون ثورة حقيقية لمجرد ما تجتهد في نشر العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب، إذا هي لم تعلمه كيف يستعيد شخصيته، وتلقنه معنى كرامته.
ولقد يكون التعبير عن هذه الكرامة في نص الدستور نفسه، كالتصريح بحقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية، أو يكون بمجرد قرار عن ضرورة التقشف في استهلاك البترول كما أشرنا إليه في كوبا.
وهذه الاعتبارات عن وظيفة الأخلاق، ليست بنت الأمس: فقضية تكريم الإنسان لم تهمل ولم تنس في الثورة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء70/ 17]. هكذا وضع القرآن الكريم في آية لكرامة الإنسان قاعدة سامية بالنسبة لدنياه ولآخرته.
والإنسان لا يجوز له أن يخالف في سلوكه هذا التكريم، الذي لا يضمن له حقوقا فقط، بل يفرض عليه واجبات أيضا.
هذه الازدواجية تتمثل أحسن تمثيل، في حديث عن حكيم بن حزام إذ يقول:
((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي:
يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل.
فقال يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.
فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله).
فهذا الحديث يلخص ويوضح لنا كل ما نسميه (أخلاقية الثورة)، إعطاء الإنسان حقه ولكن مع الحفاظ على كرامته.
إن بعث الإنسان ليس ثمنه ضمان حقوقه فقط.
بل إننا نرى في موقف حكيم، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثمن الحقيقي حين يرفض حقه من الفيء.
إن الثورة الجزائرية تستطيع أن تستوحي من الثورات العصرية، لبعث الإنسان الجزائري وتغييره بعد ما أصابه في فطرته طيلة عهد الاستعمار، ولكن إذا كان خطاب الرئيس (بومدين) الأخير أثناء رحلته في جبال أوراس، قد
لفت النظر بصورة عامة، فالمقطع الذي نال منه هتافا أكبر من الحاضرين، هو الذي أشار فيه إلى جذور الثورة الإسلامية.
لقد هتف الشعب لهذا المقطع، لأنه يعيد الثورة إلى إطارها التاريخي الحقيقي. فالشعب أحس عند هذا المقطع بشخصيته تتحرك في أحشائه، ولقد أثارتنا على شاشة التلفزة تلك الصور التي التقطت أثناء الرحلة، حيث نرى رجالا شدادا كالجبال التي حولهم، يجيبون عن الأسئلة المطروحة عليهم وهم يمسحون الدموع. فالقوى الأخلاقية التي قامت بالثورة ثم بدأت تتقهقر في عهد الديماغوجية بدأت تنطلق من جديد. فلعل الإنسان الذي تركته الظروف إلى العزلة والإنفراد يعود إلى عشيرته ومصيره الوطني في المناخ الجديد.
فالحوار الذي دار بين المسؤولين والجماهير، تحت قمم أوراس الشاهقة، قد أعاد في كلمات قالت الحقيقة، الجسر الذي يصل الشعب بالدولة.
وليس غريبا في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات، ولو كان ثمنها مزيدا من التقشف، لأن الصعوبات لا تزول بين عشية وضحاها بعصا سحرية.
هذا هو السر الذي أدركه (كاسترو) عندما ركز سياسة الإنتاج في بلاده على الحافز الأخلاقي أكثر من الحافز المادي. وقد أنهى بذلك عملية تخريب تقوم بها تحت الأرض شرذمة تسعى لتبريد المناخ الثوري بالمزايدة الديماغوجية أو حتى بالخيانة الصرفة.
إن كل ثورة ملزمة بأن تحمي نفسها من سائر المحاولات التخريبية، التي يكون فيها أصحابها سلطة جانبية في وطن ثوري، يؤثرون فيه حتى لحساب الخارج بما في أيديهم من وسائل السلطة.
وبعبارة أخرى، فإذا كانت الثورة في حاجة إلى (أخلاقية) لا تتنازل عن شيء، فمن واجبها أيضا أن تتمتع بحاسة نقدية لا يفوتها شيء، حتى لا تؤخذ على غرة في أي لحظة وفي أي قطاع من أجهزة الدولة.
فعندما تحدث الرئيس (بومدين)، أثناء رحلته بجبال الأوراس، عن بقايا (الحركيين)، فكأنه أراد أن يشير في هذه المناسبة إلى ضرورة طرح مثل هذه القضية.
وإن طرحها لواجب فعلا، ولنا أكثر من مسوغ في هذا الصدد. وبالإضافة إلى ذلك، فالثورة التي تقف في منتصف الطريق خلال إنجاز مهماتها أو تخشى إصلاح أخطائها فإنها تنتحر.
فالسياسة تستطيع المراوغة والمداهنة، لكن الثورة تفرض عليها أخلاقيتها أن تمضي إلى آخر المطاف.
***