المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عشرون سنة من بعد - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌عشرون سنة من بعد

‌عشرون سنة من بعد

عن (الثورة الإفريقية) عدد 220 أول أيار (مايو)1967.

قد يُذكِّر هذا العنوان بعض الناس بالقضية الشهيرة التي كتبها (دوماس)، بينما ليست لي رغبة في أن أخصصه هنا لقطعة من الأدب، ولكن لذكر مأساة تحين ذكراها في هذا الشهر من كل عام.

إن إسرئيل ستحتفل، خلال السنة المقبلة، بالذكرى العشرينية لتأسيسها، ومنذ تسعة عشر عاما كان العالم العربي، وهو مأخوذ بالصرخات الصبيانية التي يطلقها (القاوقجي)، وهو مغرور بدهاء (جلوب باشا)، مسحور ببيان (عزام باشا) يضع قدمه في الفخ.

لقد كان الجيش الإنكليزي، قبل بضعة أيام، قد غادر يافا على رؤوس الأصابع، ولم ير أحد في ذلك مأخذا، وبالتالي لم ير موجبا للاحتجاج على هذا الجلاء المخالف للعرف الدولي، بل على العكس من ذلك فربما كان العربي مستعدا لأن يخلع على الجندي الإنجليزي المنسحب طوقا من الزهور.

فعندما ينتهي احتلال عسكري، يقضي العرف الدولي أن المحتل لا يغادر المكان قبل تسليم السلطات إلى سلطة محلية، تأخذ مسؤولياتها الإدارية والسياسية، من أجل حماية السكان، طبقا لتقليد يؤيده القانون الدولي.

أما إذا انسحب الجيش المحتل، بلا دَف ولا زَف، فهذا يعني أن في القضية لغزا، إذ يبقى السكان في الحقيقة تحت رحمة من له سلاح، ومن باب أولى تحت رحمة من سلحه الجيش المنسحب.

ص: 105

هذا ما وقع بالضبط في تلك الأيام الأولى من شهر نيسان (ابريل) سنة 1948.

إن الإستعمار ينسحب .. ولعلك تدرك ما لهذه الاغنية من تأتير سحري، على عقول بسيطة عودتها اللريمانوجية تبسيط المشكلات فوق اللزوم

أليس - كذلك؟.

فلم يكن في نظر القوم موجب للاحتجاج. بل على العكس فقد اطلق الناس للابتهاج العنان، غنى كل واحد أنشودة النصر، ببراءة تشتم منها رائحة افتقاد الوعي.

لقد عاش الناس حمى الفرح، وانطلقت أصوات أولي الحل والعقد في ذلك العهد، تقول صاخبة أو خافتة: إننا سنقضي على الصهيونية قضاء مبرما!!.

وفي تونس، قام أحد الافاقين وكان نبيها متمرنا على انتهاز الفرص، فطبع خريطة فلسطين ونشرها- بمئة فرنك للواحدة- لنتتبع عليها العمليات الوهمية، المشار إليها بالسهام الحمراء أو الخضراء (إنني لا أتذكر لونها) والتي سيقوم بها الطيران العربي.

وبهذا ستسحق الصهيونية سحقا!!

ولكن كان الأمير عبد الله وأخاه عبد الإله ببغداد، يشمران عن ساعديهما ليضيفا إلى الامبراطورية الهاشمية جزءا من فلسطين.

لقد كانت الخيانة منتشرة في الجو. إذ كان فاروق هو الآخر، يبرم شاربيه ويعلن ترشيحه للخلافة، بعد أن قررت فتوى أصدرها بعض العلماء أنه من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا الهذيان العام الذي ساد العالم العربي، لم يبق غير عبد العزيز بن

ص: 106

سعود صاحيا فقد احتفظ على الأقل بمظهر كرامته، إذ أدرك هذا البدوي العبقري منذ اللحظة الأولى أن اللعبة قد لعبت، ولم يبق غير توقيعه من بين الدول العربية على اتفاقية الهدنة.

على كل حال، فالأمر الذي ينبغي تسجيله للتاريخ، في تلك الأسابيع المشؤومة، أن القيادة العربية، لم تتخذ إجراء يعطل الإطراد السياسي العسكري الذي نتج عن انسحاب الجيش البريطاني.

ينبغي أن نلاحظ بأن تقدير الموقف العسكري قد فاتهم مند اللحظة الأولى، حتى من جانب الكم، أعني التقدير البسيط لعدد طلقات الرصاص والبنادق وأزرار الأحذية، بينما كان ذلك يدلهم على خطورة الموقف حتى لو عدوا على الأصابع.

لقد كانوا مقتنعين بتفوقهم العددي، مثلا، بينما لو عدوا فقط أصابعهم لأدركوا أن هذا التفوق كان- وهميا في الحقيقة: فعدد من كانوا تحت لواء منظمة (الشتيرن والهاجانا) فقط قد فاق عددهم، هذا إذا لم نقدر كفاءة قيادتهم وتفوق تسليحهم ومستواهم المعنوي، المستوى الذي بدونه لا يستطيع الجندي شيئا ببندقيته، وإذا لم نتحدث من ناحية أخرى، عن العلاقات الخاصة لـ (وايزمن) في العالم المتواطئ، سواء بموسكو أو باريس أو واشنطن.

فمن الناحية العسكرية كان الموقف ملغوما قطعا منذ اللحظة الأولى، ولم يكن للعرب من دفع لهذا الموقف إلا بفتح الأبواب لمتطوعين، الذين كانوا يأتون فعلا من أعماق مراكش والجزائر، ليصبوا في المعركة لهيب إيمانهم، وليستشهدوا من أجل تلك البقاع التي جعلها التاريخ من البقاع المقدسة للمسلمين كافة.

ص: 107

لكن على العكس من ذلك فإن الأبواب انغلقت في وجه أولئك المجاهدين، وأحيانا بطريقة مخزية.

أما من الناحية السياسية، فقد كانت القيادة العربية تستطيع بعض الشيء.

كانت تستطيع مثلا أن تعلن في وجه العالم جمهورية فلسطين، إعلانا يوقف الأشياء عند حدها في موسكو وباريس وواشنطن، أو يكشف عن السرائر ويمزق القناع عن النفاق الذي استطاعت به الدول الكبرى أن تعترف، من دون أن تريق ماء وجهها بإسرائيل باسم ديمقراطية مزعومة.

فلو أعلن العرب الجمهورية الفلسطينية لقطعوا السبيل على ذلك النفاق، ولكن ياللويل! كان عبد الله يريد امبراطورية وفاروق يريد خلافة!!

ولا نريد الحديث هنا عن ذلك الجانب المضحك المبكي- إذ شر البلية ما يضحك- عندما تصبح الرصاصات العربية تقتل من يطلقها، وطلقات المدافع تعجز المدافع لأنها ليست على القياس.

كل هذا كان مبيتا، مرتبا، منظما كفصول مسرحية: فالصهيونية لم تكن تريد فحسب كسب جولة، بل كانت تستهدف على الخصوص تحقير الجانب العربي، ويجب أن نعترف بأن هذا الجانب قد تطوع في هذا السبيل، فمثل في المسرحية (جالوتا) مزيفا قائما على قدمين من طين، أمام (داود) مزيف أيضا لأنه كان مدرعا بالسلاح.

إن إسرائيل ولدت هكذا، منذ ما يقارب العشرين عاما.

ولكن ما الجديد في الموضوع منذ ذلك العهد؟.

إن (الثورة الإفريقية) نشرت منذ أيام مقالا لـ (بن بركة)، يصب سؤالنا في حاجز أحر من الجمر، ويضعنا أمام ظاهرة تجعلنا نرى إسرائيل في حد ذاتها، من حيث تطورها، ومطامحها، ودورها في العالم.

ص: 108

إن هذا العرض يهمنا قطعا في حد ذاته، ولكنه يهمنا أكثر بوصفه مقياسا نقدر به التطور الإجتماعي والأخلاقي والسياسي في العالم الإسلامي.

يجب علينا أن نضع جنبا إلى جنب واقعتين: مولد إسرائيل، وهجرة السكان العرب المطرودين من بيوتهم. ونقدر بالموازنة أثرهما في المجتمعين أو الأمتين، دون أن ننسى أن الحدث كان قد اتخذ في العالم العربي حجم الكارثة.

ولكن المقدرين لنتائجه، عدوا وقعه على الضمير الإسلامي سيكون له أثر حسن. ومن بين هذه التكهنات نذكر، على سبيل المثال، ما كتبته (الجمهورية الجزائرية) في عدد 9 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1949، تعليقا على مقالة للدكتور (ناظم القدسي) فقالت ((إن الهزيمة التي حلت بالخليط من الدول العربية، يبدو أنها أيقظت شعوب الشرق المتوسط من النوم الذي غمستهم فيه قياداتهم.

هذا التعليق يحمل كما لا يخفى، نبرة تفاؤلية واضحة، لم تكن خاصة في ذلك العهد، بالصحيفة التي نذكرها.

واليوم، بعد عشرين سنة، وفي ضوء ما نراه (1) نجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بأن هذا التفاؤل لم يتحقق.

ومن هنا يطرح السؤال: هل كان ذلك نتيجة خطأ خاص بذلك العهد في تطور الموقف، أم حدث بسبب عامل فعل فعله السلبي أثناء الإطراد منذ ذلك العهد حتى كانت نتيجته تكذيبا للتقديرات؟!.

إننا نرد الاحتمال الأول، لأن الدكتور ناظم القدسي لم ينفرد بين الزعاء العرب برأيه المعبر عن استرجاع الوعي الإسلامي، بعد الكارثة.

(1) لم نكن قد رأينا بعد هزيمة حزيران، لأن هذه السطور كتبت قبلها بشهر.

ص: 109

وأكثر من الآراء.، كانت الوقائع نفسها تأذن بالتفاؤل: إن سلسلة من ردود الأفعال الثورية تتابعت حلقاتها مباشرة بعدها.

فالأولى من الثورات وقعت في اليمن في العام نفسه بقيادة عبد الله الوزير، ثم الثورة التي قضت على الملكية في مصر شهر تموز (يوليو) سنة 1952، فكانت بذلك تعبر أكثر من غيرها، عن الوضعية الجديدة التي أصبحت تسود العقول والنفوس في العالم العربي، بعد الإساة الفلسطينية.

ثم أتت العاصفة التي مسحت العرش الهاشمي وكنست حطامه من بغداد، وبالتالي انتابت الين الزوبعة الثورية الثانية، فأصبح النظام الجمهوري كما يبدو مستقرا بصورة نهائية، على الرغم مما هنالك من تشكك تبديه الصحافة في الغرب مثل (لوموند) حيث ترى الوضع يتطور نحو استفتاء الشعب اليمني.

ولم يكن إذن من اتخذ، منذ عشرين سنة، موقفا تفاؤليا قد تعدى حدود العقول في القضية.

ولكن إذا نظرنا إلى الأشياء، من الناحية الإجتماعية، وأخذنا مقياسا للموازنة، التطور الذي حصل في إسرائيل في الفترة نفسها، كما يصفه (بن بركة)، فسنجد أنفسنا مضطرين للاعتراف، بأننا إذا قررنا أن الرأي العربي المتنور لم يتعد منذ عشرين سنة القول، وأنه لم يصرف سندا بدون رصيد، فإنه يجب علينا أن نعترف أن ذلك الرصيد قد تبخر.

وليست هذه الحالة الوحيدة، التي نشاهد فيها تعقيم حدث كبير ليفقد الإطراد التاريخي طاقته التغييرية.

إن مؤتمر باندونج كان أيضا حدثا عظيما، توقع منه الناس آثارا كبيرة في العالم لكنه عقم في الطريق، فلم يلد شيئا.

***

ص: 110