الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جولة البترول العربي
عن (الثورة الإفريقية) عدد 229 - 3 تموز (يوليو)1967.
كما كنا نتوقع، فالإستعمار يقوم في هذه الآونة بلعبة في منتهى الخطورة:
إنه لا يحاول فحسب بث التفرقة بين العرب، كيما يشعر بأن الوحدة المأمولة بينهم، تسقط في عالم الأساطير، بل إنه يريد أيضا، في توقع سياسة بترولية موحدة بدأ العرب يهددون بها، أن يُفقد هذا السلاح حده مسبقا.
هكذا بدأت منذ الآن، أقلام وأبواق مأجورة تحاول إقناعنا بأنه سلاح ذو حدين. ليشعرونا بأن سلاحنا قد يقطع حبل وريدنا وهذه العملية في المجال النفسي تسير جنبا إلى جنب مع عملية أخرى في المجال الإقتصادي ذاته.
يبدو أن الإستعمار يخشى من سلاحنا أن يقطع حبل وريده، فبدأ يطلب من بعض البلدان العربية أن تزيد في فتح محابس بترولها.
وهكذا نراه يقوم بمحاولة تخويف من ناحية، وبمحاولة استمالة من ناحية أخرى ليحقق فائدتين.
ففي الوضع الراهن لو اتفق العرب على كل شيء، سوى شيء واحد، فإن هذا الاستثناء انتصار معنوي كبير للاستعمار، يستطيع من ورائه، كسب نتائج لا يزهد فيها في المجال الديبلوماسي.
أما إذا كان الشيء الذي اختلفوا حوله هو البترول، فالإنتصار هنا ليس معنويا فحسب، بل هو انتصار كبير لا تقدر نتائجه بالنسبة للإستعمار، خصوصا
على الصعيد الإستراتيجي، وفي وقت لا نعرف فيه على أية نتيجة تنتهي المداولات التي تدور الآن في هيئة الأمم.
إننا إذا ما تصورنا المشاغل الحالية، في واشنطن أو لندن على حد سواء، من خلال التدابير المزمع اتخاذها بخصوص البترول، في المجال الإقتصادي أو الفني، فإننا نستطيع أن نأخذ مسبقا مقياسا نقيس به انتصار الإستعمار، إذا ما ارتخى الموقف العربي في ميدان البترول.
فالأنباء تفيدنا بأن الحكومة الأميركية قد جمعت هذه الأيام اللجنة الخاصة لاستيراد البترول من الخارج، ((لاتخاذ التدابير الضرورية في حالة نقص في المواد البترولية قد يصيب البلدان الأوربية)). بسبب الوضع في الشرق الأوسط.
والأخبار تفيدنا أيضاً، أن البلدان الأوربية المشتركة في منظمة ( ocde) تتابع من جانبها تبادل الافكار حول المشكلة نفسها.
ويقال أيضاً إن بعض البلدان كالسويد وسويسرة، بدأت ترفع تسعيرات البترول، كما نسمع عن قيام السوفييت بسحب عروضهم الأخيرة للبترول من السوق الغربية.
هكذا يصبح الإمبرياليون وجها لوجه مع البترول العربي. ونتصور من هنا حيرتهم وما سوف يكيدون به العرب لتمييع موقفهم.
علينا إذن أن نفكر في السؤال: ماذا يجب أن نفعل كيلا يرتخي هذا الموقف؟ لقد قال الرئيس (بومدين) في خطابه على سطح قصر الحكومة: ((يجب علينا أن نضع الحجر على بطوننا لمدة عام)) مقترحا بذلك سياسة تقشف.
إننا نلاحظ بأنه ليس للعرب مخرج آخر إذا ما أرادوا أن يعطوا لسلاحهم البترولي كل تأثيره في الموقف الراهن. ومن هنا لا بد أن نتصور ما هي في الواقع الإلتزامات التي يفرضها هذا المخرج؟.
إن كل سياسة تتطلب شيئا من المثالية توحي بمسوّغاتها، وشيئا من الواقعية تحدد وجوه تطبيقها والطرق الفنية للإنجاز.
وسهم المثالية لابد أن يكون على مستوى التقشف المطلوب. والقاعدة الايديولوجية لابد أن تكون متينة، بقدر ما تكون التضحيات المطلوبة والطاعات المفروضة على كل واحد، في مستوى الصعوبات التي يحتمها وضع استثنائي.
ولابد أن تكون هذه القاعدة من فولاذ كي لا يرتخي الموقف العربي، ولا يتزعزع عليها بناء الوحدة العربية مهما كانت الأعاصير والمناورات والمحن.
ويجب أن نلاحظ بأن (المثالية) التي نتحدث عنها ليست صنفا من (السوريالية) وتجريدا يسبح فوق الواقع، فوق الشروط الحقيقية، فوق المعطيات الطبيعية لوضع معين.
إنها لا تتنافى مع (الواقعية) بل تقتضيها على مستوى كبير.
وعلى هذا الأساس من الواقعية نقول: إن الأوطان العربية تختلف الآن فيما بينها. وليست الفوارق بينها ناتجة عن تاريخها لأنه واحد، ولكنها فوارق نتجت عن الإطار الإستعماري قبل إستقلالها وبعده.
وهذه الواقعية تلقننا أيضاً، ألا نقدم في الظروف الصعبة، لشعوب هذا واقعها من حيث الإختلاف، مقترحات لا تجد في قلوبها الحساسية نفسها، ولا تدفعها الدفعة نفسها ولا تهزها الهزة نفسها.
فما يدعو إلى الأمل أن نرى الزعماء العرب مهتمين الآن بهذه القضية، يبحثون لها عن حل. كما تدل على ذلك المحاولة التي تقوم بها بغداد هذه الأيام من أجل عرض مشروع (ميثاق عربي) للدراسة، ويبدو أن المبادئ العامة لهذا الميثاق قد تحددت منذ الآن.
وعلى أية حال فالمشروع مطروح في بغداد، ونتمنى له أن ينتهي في قريب عاجل إلى نص يعرض على من يريد أن يتأمله أو يطبقه في العالم العربي.
ومن الضروري أن يوضع بين يدي كل قطر عربي هذا النص ليستوحيه في سياسته على العموم، وفي سياسته البترولية على الخصوص طبقا لمبادئ أخلاقية تتحكم في الموقف العربي كله بالنسبة للبترول.
لكن (المثالية) كما قلنا لا تكفي وحدها. ومن أجل ألا يرتخي الموقف العربي لابد أيضاً أن تعالج قضية البترول بما تستحق من (الواقعية).
(فالمثالية) تتدخل لتحديد إلتزامات كل بلد من الوطن العربي، ولتفرض العقوبة المعنوية لكل مخالفة يرتكبها هذا البلد أو ذاك.
ولكن يجب أن نفكر أيضا كيف لا تكون هذه الإلتزامات فوق طاقة أي بلد، وكيف ينبغي أن تتخذ التدابير الإقتصادية الكفيلة بمساعدة ذلك البلد على القيام بالتزاماته، في التقشف المفروض عليه، كما هو مفروض على كل واحد من المجموعة في حدود لا حرج فيها.
هذا الجانب هو ما تتولاه (الواقعية)، فتجعلنا نلاحظ بأن أعضاء المجموعة ليسوا كلهم مرتبطين بقضية البترول في مستوى واحد.
فبالنسبة لبعض الدول كالكويت والسعودية والعراق (في وضعه الراهن)، يشكل البترول المورد الوحيد ويكون تقريبا كل ميزانيتهم.
أما بالنسبة للاعضاء الآخرين كالجزائر فالبترول يضيف فقط إلى المدخول العام. أما السودان فلا يمسه منه شيء كما لا يمس سوريا إلا في عائدات النقل.
كما أن أقطار مصر ومراكش وتونس، لا يهمها الأمر باعتبارها أعضاء مجموعة تفرض عليها الظروف القاسية أن تحدد سياسة بترول لم تتحدد بعد.
هكذا تبدو الفوارق التي تجب مراعاتها من الناحية الواقعية ..
فهذه الأوطان جميعها، متضامنة في نطاق مجموعة، تواجه بصورة شاملة حالة تحدّ تجعل من مشكلة البترول قضية حياة أو موت بالنسبة إليها.
وهي من ناحية أخرى، كما تنبغي الملاحظة، تجد نفسها في أوضاع إقتصادية خاصة حتى من الناحية النقدية. ولا ينبغي للتعديل الإقتصادي الطلولا بين البلدان العربية، أن يتجاهل هذه الفوارق التي ستدخل حتما في ميزانية المجموعة، التي يجب عليها أن تصفي حسابها على طريق (مقايضة clearing) في الداخل ومقايضة مع الخارج.
وعلى سبيل المثال فالدين المترتب على الجمهورية العربية المتحدة وحدها في بون، يبلغ نحو المئتين والخمسين مليونا من الدولارات.
هذا الرقم يعطينا فكرة عن الأوضاع السابقة، التي يجب إدخال التعديلات المطلوبة عليها في وضع سياسة إقتصادية عربية شاملة.
ولسنا نشك في أن الإقتصاديين العرب سيجدون الصيغة الكفيلة التي تضع هذه الأوضاع في الحساب.
فإذا كانت هذه الصيغة في صورة سوق عربية مشتركة، فإن أصحابها سيجدون قطعا في النموذج الأوربي دلالات مهمة، خصوصا من حيث فكرتها المبدئية التي حركت الهمم، عندما وجدت البلدان الأوربية نفسها، بعد الحرب العالمية الثانية، أمام كتلتين عملاقتين: الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي.
إن الواقع الإقتصادي في القرن العشرين، يدل على أن المنظمة الإقتصادية الكلاسيكية لا تستطيع في حجم الوطن، جمع الوسائل الكافية لتنمية هذا الوطن، وبالتالب فإنها لا تستطيع المنافسة في السوق العالمية أمام الكتل الإقتصادية المكتملة.
والأمر الذي كان يند عن انتباه اقتصاديي القرن التاسع عشر، هو أن النمو الإقتصادي الأوربي كان يتحقق على مساحات عذراء تمثلها المستعمرات حين كان كل مستعمر يستطيع أن يفرض ما يناسب أقتصاده، وقد أخفى هذا الأمر عن عالم الإقتصاد في ذلك العهد، العوامل التي تلعب اليوم دورا رئيسيا في اقتصاد يريد تحقيق استقلاله.
إن كلمة (الوطنية) كانت وحدها كافية للدلالة على الإستقلال. ولكن القرن العشرين كشف عن أن الإستقلال الإقتصادي يرتبط بعاملين: اتساع الرقعة وعدد السكان.
فالكلمتان اللتان تحققان الإستقلال الإقتصادي وقد ظهرتا بعد الحرب العالمية الثانية، ليستا غير ما يتمتع به الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي من الساحات الواسعة وعدد السكان.
والصين تستعد بدورها للدخول في زمرة العمالقة للأسباب نفسها، ومن الطبيعي أن بلدا كبلجيكا، لا يستطيع وحده مجاراة هؤلاء العمالقة، ومن باب أولى لا يستطيع منافستهم.
ففكرة السوق المشتركة الأوربية نشأت أمام هذه الحقيقة، وهي تعني مراجعة شاملة للأفكار الإقتصادية الكلاسيكية التي كانت تسود أوربا.
وإذا أصبحت إنكلترا- التي طالما اعتزت بـ (العزلة الجميلة) - تطمح للدخول في السوق المشتركة، فلأنها اكتشفت هذه الحقيقة التي فرضت عليها مراجعة أفكارها.
فاليوم أصبحت البلدان العربية مطالبة بالمراجعة نفسها، تطالبها بذلك ظروف أقسى من تلك التي أوحت بالسوق المشتركة الأوربية.
وربما عمدت البلدان العربية إلى مراجعة توحي بحلول كالتي عمدت إليها
الدول الأوربية، وربما انصرفت الرغبات عن مثل ذلك. لكنهم إذا لم يفعلوا وارتخى موقفهم في ميدان البترول، للأسباب التي قدمناها، فإنهم إذن سيرون النتائج الوخيمة التي أشرنا إليها.
أما إذا انتهجوا منهج الرشاد، فسوف تكون إذن مبادرتهم ذات معنى مهم ومغزى كبير، لأنهم يدركون بفضلها أنهم لا يواجهون مشكلة مؤقتة، أي قضية البترول، بل مشكلة عضوية ألا وهي إقتصادهم في الإتجاه الذي يسير إليه الزمن اليوم.
إنهم سيدركون أن إستقلالهم الإقتصادي في إطار بلد واحد هو ضرب من الأوهام في العصر الحاضر.
فالرقعة الجغرافية العربية مع عدد سكانها ومساحاتها وما تنطوي عليه من خبرات، قد تحقق شروط الكتلة المتكاملة ( autarcie) أي الشروط الأولية للإستقلال الإقتصادي.
فعلى طريق يؤدي إلى هذا الإستقلال، ليست قضية البترول إلا مرحلة؛ لكنها مرحلة ضرورية، لأن مشكلة البترول وما يعلق بها من اعتبارات ملتهبة في الظروف الراهنة كفيلة بتحريك الضمير في العالم العربي نحو وعي اقتصادي، ينسجم مع التطور الراهن أكثر مما يحركه خطاب سياسي.
ثم إن هذه الخطوة تستطيع تصفية (الذهان) المستولي على البلدان المنتجة للبترول خشية أن تفقد عائداته.
وبذلك سوف تساعد هذه الخطوة على وضع الإقتصاد العربي على قواعد سليمة، أكثر ملاءمة مع الإستقلال الإقتصادي، لأن من يسعى لتحرير البترول في الخارج من ربقة الإستعمار، عليه أت يتحرر هو من ربقة البترول في الداخل.
ثم، لعل الحكومات العربية تفكر في اتخاذ تدابير بصدد نظام العملة، إذا ما قررت اتخاذ غير الدولار الأميركي وغير الجنيه الاسترليني في المبادلات الإقتصادية فيما بينها أو مع الخارج، وحينئذ سيكون اختيارها في الميدان النقدي وسيلة تضاف إلى البترول من أجل الضغط على بلاد الانجلوسكسون.
وإذا ما حولوا رصيدهم في البنوك الأنجلو أميركية بقيمته من الذهب، فإن الدولار والجنيه الاسترليني سيتعرضان في القريب إلى الصعوبات في سوق العملة (1).
والكويت تستطيع أن تصبح (السيتي city) العربية لو شاءت ذلك في ظل هذه العملية، بل إنها تستطيع أن تلعب الدور الذي لعبته (السيتي) في القرن التاسع عشر، في إستقلال الإمبراطورية البريطانية.
من هنا تبدو مرحلة البترول- أو جولة البترول كما سميناها في العنوان- وهي تفضي إلى ملابسات مهمة إذا ما عرف العرب كيف يجتازونها.
ولا بد أن نكرر بأن اجتياز هذه المرحلة، يتطلب من (المثالية) بقدر ما يتطلب من (الواقعية) للأسباب التي ذكرناها.
فإذا قدرنا الأشياء بمقياس (المثالية) عرفنا ما يتطلبه منا تحقيق ذلك من تقشف وتضحية.
وإذا قدرناها بمقياس من (الواقعية) عرفنا الشروط الفنية التى تجعل تحقيقها ممكنا.
…
(1) نذكر القارئ بأن هذه السطور كتبت في شهر تموز (يوليو)1967.