المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إقتصاد القوت والتنمية - بين الرشاد والتيه

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌إقتصاد القوت والتنمية

‌إقتصاد القوت والتنمية

عن (الثورة الإفريقية) عدد 252 - 14 كانون الأول (ديسمبر)1967.

كان يسيرا أن يلقب القرن الثامن عشر لقبا واحدا يناسب طبيعته وهكذا سمي هذا القرن (قرن الأنوار).

ولكن يبدو من العسير على المؤرخين أن يلقبوا قرننا هذا بتسمية واحدة لتنوع جوانبه الأساسية: فهو فعلا متنوع في مظاهره العميقة، إنه عهد الذرة، وهو عهد الفضاء الذي يصرخ فيه أحد الرواد، (جاجارين)، بأنه لم يجد الله في جولته، كأنما كان على موعد معه على بعد أربع مئة (400) كيلو متر من الأرض.

وهو أيضاً عهد الساحات الكبرى المخططة التي تعطي لعالم الإجتماع فرصة ليلاحظ- من خلال نسق النمو في الصين أو في الإتحاد السوفييتي- سعة تطور إجتماعي، تختزل أربعة أو خمسة قرون من التطور العادي في مدى بضعة عقود من الحركة المنظمة.

هذا المظهر الأخير هو الذي يهم بصورة خاصة البلدان المتخلفة، ويهمنا نحن في كل بلد عربي.

إن فكرة التخطيط تلازم ذهنية عصرنا، فهي جزء لا يتجزأ من ثقافته، لكن تطبيقها يفرض شروطا تختلف من رقعة إلى أخرى أو حتى من وطن إلى آخر.

ص: 182

فبلاد كالولايات المتحدة حيث تحققت النسبة اللائقة بين عدد السكان والساحات المنتجة أي بين الطاقات الإجتماعية وإمكانيات التراب، تستطيع غلق حدودها دون أن يخل ذلك بميزانيتها الإقتصادية.

إنها وحدة متكاملة ( Autarcie) في حيز الطاقة، تستطيع في كل لحظة أن تكون في حيز الوجود، إذا ما فرضت عليها ظروف خارجية خاصة، أن تستغني عن تجارتها مع الخارج، فتقصر حلقتها التجارية على الداخل فقط.

لكن فكرة التخطيط، في هذه الرقعة، لا تتصدى هنا لمشكلات الوجود، فالقوت متوفر منذ الآن، لكنها تتصدى لمشكلات القوة والهيمنة من أجل الحفاظ على توازن القوى في العالم، كما يزعمون.

ففي رقعة كهذه، تكون مهمة المخطط سهلة نسبيا، لأنها تعنى فقط بإيجاد أفضل استخدام للوسائل يتحقق به أقصى ما يمكن من القوة.

وفي رقعة أخرى، كالاتحاد السوفييتي والصين في بداية إقلاعها، كان على المخطط أن يواجه صنفين من المشكلات:

كان عليه أن يحل أولا، مشكلة القوت في وقت يواجه فيه مشكلة القوة.

إنما هو لن يستطيع حل الثانية إذا لم يحل الأولى قبلها .. يحلها على الأقل بصورة تدريجية.

وهذا يعني من الناحية النظرية، أنه لا يمكن تحقيق اقتصاد تنمية، بطريقة مستقلة عن إقتصاد متين لتحقيق القوت.

هذه الضرورة، المفروضة بحكم الطبيعة على التخطيط، كما رأيناها قد روعيت في بلدين كالصين والإتحاد السوفييتي، وكم يجب من باب أولى، مراعاتها في البلدان المتخلفة.

ص: 183

ففي هذه البلدان، لابد للتخطيط أن يعين، بكل وضوح، وسائل القوت ووسائل التنمية.

لكن الصلة بين الجانبين عضوية ووثيقة، وأي حل نتخذه، كنوع الإستثمار من أجل التنمية، فإنه سيفرض الحل، الحسن أو السيئ للمشكلة الأولى، وربما فرض مع ذلك نتائج سياسية في بعض الحالات.

وكما سبق أن قلنا في غير هذا المكان، فهناك نوعان من الإستثمار:

1) الإستثمار الكلاسيكي بالوسائل المالية.

2) الإستثمار الإجتماعي لسائر الطاقات البشرية، سائر موارد التراب، وما تحت التراب أو الركاز كما يقول الفقهاء.

علينا إذن للتمييز بين النوعين، أن نقدر فعالية الأولا بالنسبة لوطن واحد (ومن أجل التبسيط)، وفي إحدى مهماته فقط، في الجزائر مثلا، فيما يتصل على الأقل بالتشغيل الجزئي لليد العاملة فيها. وزيادة في التبسيط سنقدر مهمتها فقط بالنسبة لعودة سبع مئة ألف من أبنائها الموجودين في أوربا الآن، مع ضان تشغيلهم في بلادهم.

وثمة ملاحظة أولى في هذا الصدد: إن تصدير فوج كهذا من السواعد إلى الخارج، يمثل نزيفا للطاقة الإجتماعية للبلاد المصدرة، دون أن نضيف إلى هذا التصدير، نبرة المأساة التي يعيشها أكثر من نصف مليون جزائري، تلقي بهم الحياة في الصعوبات وعدم الإستقرار، كما يعرف هذا من شاهد ظروف العمل القاسية التي تفرض على هؤلاء العمال.

فاسترجاع هذا الفوج، مهمة ذات مغزى كبير من الناحية الوطنية والإقتصادية والإنسانية.

ص: 184

ولنظرح الآن المشكلة من الناحية النفسية: فكم يكون مبلغ الإستثمار المالي الكفيل بإنجاز مهمة كهذه، أي إيجاد سبع مئة ألف وظيفة؟.

إن الأرقام هي التي تجيب على هذا السؤال: فنحن نعلم أن الميزانية الجزائرية رصدت تقريبا مئتي مليار من الفرنكات القديمة تقريبا، لتشيد بعنابة مركب الحديد والصلب لإيجاد- حسب التقديرات الرسمية- نحو خمسة آلاف وظيفة.

وعليه يتطلب إنجاز مهمة واحدة كهذه- أي إرجاع الجزائريين الذين يعملون في الخارج مبلغا قدره ثمانية وعشرون ألف مليار من الفرنكات القديمة تقريبا.

هذا الرقم وحده، يوضح بأن التخطيط والإستثمار على الطريقة الكلاسيكية - أي بوسائل المال- يجعل مهمة جزئية فوق استطاعة الوطن.

وهذه الحقيقة ستكون أكثر وضوحا لو قدرنا المشكلة بكاملها ولم نقتصر على جزئية من جزئياتها.

فاختيار الطريقة الكلاسيكية للإستثمار يقودنا حتما إلى مأزق إقتصادي أولا، ثم إنه سيضع خطة تنميتها تحت رحمة رأس مال أجنبي بالضرورة، قد يتوفر لنا أو لا يتوفر، ثم إنه يفرض علينا قيودا لا نقدر مسبقا ثقلها على الصعيد السياسي.

فأمام احتمالات كهذه نستطيع قطعا اتباع نظرية الإقتصاد الكلاسيكية لـ (آدم سميث)، حين وضع مبدأه (اتركوه يعمل، اتركوه يسير) فوضع معه في الوقت نفسه سياسة النعامة التي تغرس رأسها في الرمل عندما ترى خطرا محدقا بها.

وهو يعني في وطن كالجزائر، أن نترك الأشياء تسير وحدها، بخطوة السلحفاة في عصر الفضاء.

ص: 185

أما إذا انتهجنا الطريق الآخر للإستثمار، فإن علينا أن نحدد مبادئه ومسلماته، فنراعيها ونراعي نتائجها في تخطيطنا.

وينبغي أن تأخذ أولا كلمة (تخطيط) ضبطا أكبر ووضوحا أجلى في مصطلحنا التقني، فليس التخطيط أن نضع، الواحد تلو أالآخر، أجزاء متفرقة ومختلفة، تاركين للصدفة ولحسن الحظ أن يتلقفاها في مركب نسميه (التنمية).

هذا من حيث المصطلح، ففيه لكل كلمة قدرة على تحديد نظرية أو سياسة اقتصادية لها فعاليتها في النتيجة.

أما المبادئ والمسلمات الخاصة بالإستثمار الإجتماعي فهما اثنتان:

1 -

يجب القوت لكل فم.

2 -

يجب العمل لكل ساعد.

وعليه فالقضية ليست بالنسبة للبلد الواحد في تشغيل جزء من السواعد، كسواعد العمال الجزائريين العائدين من الخارج، بل ينبغي تشغيل السواعد كلها. التي تمثل الرصيد الحقيقي للوطن بأجمعه في لحظة الصفر من إقلاعه.

وبهذا الثمن فقط نستطيع دفع عجلة التنمية في الوطن.

والمسلمة الأولى (القوت لكل فم) تفرض منذ اللحظة الأولى شروطا على الثانية لتطبيقها، إذ نحن لن نستطيع تشغيل السواعد كلها إذا لم نأخذ على عاتقنا إطعام الأفواه جميعها.

هكذا يتبين الربط العضوي بين اقتصاد القوت واقتصاد التنمية.

لقد عاشت الصين الشعبية مع الثورة الثقافية، تجربة تفيدنا في هذا الصدد من ناحيتين، فالمعارضون لـ (ماوتسي تونج) قاموا بمحاولة تعطيل لاقتصاد

ص: 186

التنمية، ببث الفوضى في أقتصاد القوت، فبذروا الإحتياطي من الغذاء بتوزيع يرضي العمال في حاجتهم العاجلة ويحطم مصلحتهم لم الآجلة.

لكن المسؤولين ما لبثوا أن أدركوا بسرعة هذا التخريب وأطلقوا عليه مصطلحا جديدا (الإقتصادانية)(1).

وكان التخريب المسمى بهذه التسمية موجها لتخدير الوعي الثوري لدى العمال الذين لم ينخدعوا، وموجها لإحباط الجهد الجبار المبذول في الوطن من أجل التنمية.

هكذا نلمس الرباط الحيوي بين اقتصاد القوت وأقتصاد التنمية، في بلد اختار بالضبط طريقة الإستثمار الإجتماعي مع مسلمتيه الأساسيتين.

ولا نرى، في الحالة الراهنة، طريقة ثالثة لرسم خطة تنمية للبلدان النامية؛ إنما اختيار أي الطريقتين يفرض نتائجها بأكملها، خصوصا في تخطيط العمل والتوزيع، إذ لكي نحرك السواعد كلها لابد أن نوفر القوت لسائر الأفراد.

وذلك يعني في المخطط أولا، إنتاج أقصى ما يمكن من الغذاء، لتوزيعه على أليق صورة، بين ما يخزن للإستهلاك وما يوفر للتصدير في نطاق مقتضيات التنمية.

وها نحن أولاء نجد مرة أخرى في الصين المثل الذي يوضح هذه الخطة، إذ القطاع الزراعي فيها قدم وحده وسائل اقتصاد التنمية، بالإضافة إلى وسائل اقتصاد القوت.

لقد قدم القطاع الزراعي وحده، على الأقل في العقد الذي تلا عام 1948،

(1) ترجمنا بهذه الكلمة المنتحلة لفظة Economisme وهي أيضاً منتحلة من Economie أي الإقتصاد للتعبير عن الإغراء بوسائل الإقتصاد.

ص: 187

الوسائل التي أتاحت للصين أن تواجه راشدة سائر مشكلات الوجود (القوت)، وأن ترسي بنجاح القواعد التي تجعلها دولة قوية. إنها البلد الوحيد في العالم الثالث الذي استطاع أن يستثمر 20% من دخله السنوي العام في تجهيز صناعته، وذلك بفضل قطاعه الزراعي.

والواقع أن مجمل البلدان المتخلفة أصبحت تعيش بشظف. وهي ما تزال تعيش على أي حال من قطاعها الزراعي، بينما نرى إنتاجها الزراعي قد انخفض منذ استقلالها، أي أصبح لا يعنى بضرورات القوت، ومن باب أولى لا يعنى بضرورات التنمية.

إن شروط التسويق، المهيمن عليها المال، لا تسمح أيضاً برفع ميزانية البلدان المتخلفة من أجل التصنيع، ولا تستطيع الواحدة منها أن تكون داخل حدودها سوقا مستقلة، إنما تستطيع على الأقل تحرير قوتها من شروط الخارج.

لا بد إذن من وضع اقتصاد القوت فوق سائر تقلبات السوق في الخارج، وكذلك مناورات البورصات، وعليه لابد أن يوضع مخططه في صورة حلقة مغلقة لا تؤثر عليها العوامل الخارجية، ولتحقيق هذا الهدف لابد من تجنب استهلاك بعض الأنواع من الغذاء المستوردة من الخارج، كالشوكولاه من النوع الفاخر وسمن النورماندي والويسكي الايكوسي.

ولا بد أن يكون هذا التخطيط الغذائي في صورة (أوترشي Autarcie) صغيرة جديرة، على الأقل، بتحقيق قوت الأفواه جميعها.

لابد لكل وطن متخلف أن ينظم أولا قطاعه الزراعي، حتى يقوت سائر الأفواه ويشغل بالتدريج كل ساعد.

إننا ننتظر نيران الأفراح تعلن أن البلدان الإسلامية تسير على هذا الطريق.

ص: 188