الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
صفاتها الخُلُقِيَّة
إِنَّ عائشة رضي الله عنها قد احتلتْ مكانة سامية مرموقة في الأخلاق الحسنة النبيلة الرفيعة، وكان الزهد والورع والعبادة والسخاء والجود والشفقة على الناس من أهم وأكبر معالم شخصيتها رضي الله عنها.
فقد تأثرت عائشة رضي الله عنها كثيراً بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه فيها؛ لأنها كانت ألصق الناس به صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم اطلاعاً على عبادته الخاصة به عليه الصلاة والسلام، ونقلت عائشة رضي الله عنها للناس - في الأحاديث الكثيرة التي رويت عنها - صورة كاملة لعباداته صلى الله عليه وسلم (1)، وفي ما يلي ذكر لأمهم ما تميزت به عائشة رضي الله عنها من صيام وقيام وزهد وورع:
أولاً: صيامها وقيامها:
كانت أُمّ المؤمنين عَائِشَة رضي الله عنها كثيرة العبادة، قوامة دائمة التهجد (2)، صوَّامة كثيرة الصِّيام، فعن عبد الرحمن بن القاسم (3) عن أبيه (4): «أَنَّ عَائِشَة زَوْجَ النَّبِيّ
(1) ينظر: سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين ص (208)، والسيدة عائشة أم المؤمنين وعالِمة نساء الإسلام ص (161)
…
(2)
مصنف عبد الرزاق 8/ 454، رقم (15887)، وإسناده صحيح.
(3)
هو: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المدني الفقيه أحد الأعلام، من سادات أهل المدينة، فقهًا وعلمًا وديانةً، وحفظًا للحديث، وإتقانًا، مات بالشام سنة (126هـ).
ينظر في ترجمته: الطبقات الكبرى 5/ 367، والتاريخ الكبير 5/ 339، ومشاهير علماء الأمصار ص (206).
(4)
هو: محمد بن أبي بكر الصديق، أبو القاسم التيمي، ولد في حجة الوداع في حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وولي إمرة مصر من قبل عليّ، وقتل بها سنة (38هـ). =
صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَلَا تُفْطِرُ إِلاّ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ يَوْمَ فِطْرٍ»، وفي رواية:«أَنَّ عَائِشَة رضي الله عنهاَانَتْ تَسْرِدُ الصَّوْمَ (1)» (2).
ثانيًا: كرمها وجودها:
كانت عَائِشَة رضي الله عنها جوَّادةً كريمةً كثيرة الصدقات، لا يكاد يقر بيدها المال حتى تنفقه على الفقراء والمساكين، فقد باعت عَائِشَة رضي الله عنها دارًا لها بمائة ألف دينار ثم قسمت الثمن على الفقراء، فعتب عليها عبد الله بن الزبير، فعن عروة بن الزبير رضي الله عنه، قال: «كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَحَبَّ البَشَرِ إِلَى عَائِشَة بَعْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِهَا، وَكَانَتْ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِلا تَصَدَّقَتْ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهَا (3)، فَقَالَتْ:"أَيُؤْخَذُ عَلَى يَدَيَّ؟!، عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ كَلَّمْتُهُ"، فَاسْتَشْفَعَ إِلَيْهَا بِرِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَبِأَخْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً فَامْتَنَعَتْ، فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّونَ (4) أَخْوَالُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
= ينظر في ترجمته: معجم الصحابة 4/ 526، ومشاهير علماء الأمصار ص (40)، ومعرفة الصحابة 1/ 168.
(1)
أي: أنها كانت تصوم الأيام التي لم يرد في حقها النهي عن صومها كالعيدين وأيام التشريق، وأيام الحيض، وهذا يزيل إشكال:"أنها كانت تصوم الدهر"؛ لأنه وردت أحاديث تنهي عن صيام الدهر، والمقصود هنا: أنها كثيرة الصيام.
ينظر: فتح الباري 4/ 221، وشرح السيوطي على مسلم 3/ 245.
…
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 54،59، والفريابي في الصيام ص (100)، رقم (131)، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 187، وقال محققو السير 2/ 187:"أخرجه ابن سعد ورجاله ثقات".
(3)
أي: يحجر عليها وتمنع من الإعطاء. ينظر: عمدة القاري 16/ 77.
(4)
الزُّهْرِيُّونَ: هم المنسوبون إلى زهرة، واسمه: المغيرة بن كلاب. ينظر: عمدة القاري 16/ 77.
بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: إِذَا اسْتَأْذَنَّا فَاقْتَحِم الحِجَابَ، فَفَعَلَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِعَشْرِ رِقَابٍ فَأَعْتَقَتْهُمْ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تُعْتِقُهُمْ حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ، فَقَالَتْ:"وَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ حِينَ حَلَفْتُ عَمَلاً أَعْمَلُهُ فَأَفْرُغُ مِنْهُ"» (1).
وعنه رضي الله عنه قال: «رَأَيْتُهَا تَصَدَّقُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا وَإِنَّهَا لَتَرْقعُ جَانِبَ دِرْعِهَا (4)» (5).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب مناقب قريش 4/ 180، رقم (3505).
(2)
هي: بريرة بنت صفوان، مولاة أم المؤمنين عائشة، صحابية مشهورة، كانت مولاة لبعض بني هلال فكاتبوها، ثم باعوها من عائشة، وجاء الحديث فِي شأنها بأن الولاء لمن أعتق، وكان زوجها عبدًا يسمى مغيثًا، عاشت إلى خلافة يزيد ابن معاوية.
ينظر في ترجمتها: الطبقات الكبرى 8/ 201، ومعرفة الصحابة 6/ 3275، والاستيعاب 4/ 1795.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 15، رقم (6745)، وفي سنده محمد بن يونس الْكُدَيْمِيُّ، وهو ضعيف. ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 553، والمجروحين 2/ 312، وتقريب التهذيب ص (515).
(4)
في المطبوع: "تَرْفَعُ جَانِبَ دِرْعِهَا"، وكأنه تصحيف: والصواب: "ترقع جانب درعها" والله أعلم، والمعنى: أنها كانت ترقع قميصها، لأن درع المرأة قميصها. ينظر: غريب الحديث للحربي 2/ 694، والزاهر في معاني كلمات الناس 1/ 437، ومشارق الأنوار 1/ 256، والنهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 113.
(5)
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 53، وأبو نعيم في حلية الأولياء 2/ 47، والحديث أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 186، وصححه، وسكت عنه محققو السير.
ثالثًا: زهدها وورعها:
كانت أُمّ المؤمنين عَائِشَة رضي الله عنها مع صيامها وقيامها وكرمها وجودها تكره أن يُثْنَي عليها وأن تُمْدح وهي تسمع، مخافة الرياء، وتقول:«يَا لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا» (4).
وكثيرًا ما كانت تتمثَّل ببيت لبيد بن ربيعة (5):
(6) هي: أم ذرة المدنية، مولاة عَائِشَة، روت عَن: مولاتها عَائِشَة أُمّ المؤمنين، وأم سلمة زوج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر:"مذكورة في الصّحابيات". الإصابة 8/ 388.
ينظر في ترجمتها: الطبقات الكبرى 8/ 353، وتهذيب الكمال 35/ 358، والإصابة 8/ 388.
(1)
الغِرَارَة: بكسر الغين: الكيس الكبير من الصوف أو الشعر. ينظر: لسان العرب 5/ 16، وتاج العروس 13/ 226.
(2)
التَعْنيفُ: التوبيخ والتقريع واللوم. ينظر: تهذيب اللغة 3/ 5، والصحاح 4/ 1407، ولسان العرب 9/ 258.
(3)
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 53، وأبو نعيم في حلية الأولياء 2/ 47، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 187، وقال محققو السير:"رجاله ثقات".
(4)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه 11/ 307 (20616)، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/ 462، رقم (750)، وأبو داود في الزهد ص (279)، رقم (318)، والطبراني في مسند الشاميين 4/ 201، رقم (3102)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 2/ 45، والبيهقي في شعب الإيمان 2/ 229، والحديث إسناده صحيح.
(5)
هو: لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، أحد شعراء الجاهلية البارزين، من أهل نجد ثم سكن الكوفة، وقد أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أسلم لم يقل شعراً، وقال: يكفيني القرآن، مات سنة (41هـ).
ينظر في ترجمته: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 70، والأعلام 5/ 240.
وكثيرًا ما كانت تتمثَّل ببيت لبيد بن ربيعة (1):
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ
…
وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
وتقول: رحم الله لبيدًا فكيف لو رأى زماننا، وقال عروة بن الزبير: رحم الله أُمّ المؤمنين فكيف لو رأت زماننا (2).
وقد عاشت أُمّ المؤمنين عَائِشَة رضي الله عنها في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم معيشة الكفاف، فعنها رضي الله عنها قالت:«مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ» (3).
(1) هو: لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، أحد شعراء الجاهلية البارزين، من أهل نجد ثم سكن الكوفة، وقد أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أسلم لم يقل شعراً، وقال: يكفيني القرآن، مات سنة (41هـ).
ينظر في ترجمته: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 70، والأعلام 5/ 240.
(2)
أخرجه معمر بن راشد في جامعه 11/ 246، رقم (20448)، والبخاري في التاريخ الأوسط 1/ 56، رقم (210)، وأبو داود في الزهد ص (277)، رقم (316)، وابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 275، رقم (26040)، والحارث بن أبي أسامة في مسنده (بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث) 2/ 845، رقم (895)، وأبو بكر الدينوري في المجالسة وجواهر العلم 8/ 143، رقم (3453)، والحِنَّائِي في فوائده 1/ 678، رقم (120)، والخطيب البغدادي في البخلاء ص (119)، رقم (152)، والصِّيدَاوِيّ في معجم الشيوخ ص (103)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة 5/ 2422، رقم (5924)، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 6/ 146:"هذا إسناد رواته ثقات".
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم من الدنيا 8/ 97، رقم (6454)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق 4/ 2281، رقم (2970).
وكانت عَائِشَة رضي الله عنها، شديدة الورع، فعن شريح بن هانئ (2) قال:«سَأَلْتُ عَائِشَة، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: ائْتِ عَلِيًّا فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَذَكَرَ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ» (3).
وعنها رضي الله عنها قالت: «كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي، وَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ، فَوَاللهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي، حَيَاءً مِنْ عُمَرَ» (4).
وفي رواية: «مَا زِلْتُ أَضَعُ خِمَارِي وَأَتَفَضَّلُ فِي ثِيَابِي فِي بَيْتِي حَتَّى دُفِنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِيهِ، فَلَمْ أَزَلْ مُتَحَفِّظَةً فِي ثِيَابِي حَتَّى بَنَيْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقُبُورِ جِدَارًا
(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 2/ 46، وإسناده صحيح.
(2)
هو: شريح بن هانئ بن يزيد بن كعب، أبو المقدام الحارثي من اليمن سكن الكوفة، كان شجاعًا مقدامًا، وكان من أمراء جيش عليّ رضي الله عنه يوم الجمل، وخرج في جيش أبى بكرة غازيًا فقتل بسجستان سنة (78هـ).
ينظر في ترجمته: الطبقات الكبرى 6/ 180، والاستيعاب 2/ 702، ومعرفة الصحابة 3/ 1480.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين 1/ 232، رقم (276).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده 42/ 440،441، رقم (25660)، والحاكم في المستدرك 3/ 63، رقم (4402)، و4/ 8، رقم (6721)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 26:"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". وقال محققو المسند 42/ 441 (طبعة الرسالة): "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
فَتَفَضَّلْتُ بَعْدُ» (1).
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير (2) رحمه الله: "ووجه هذا ما قاله شيخنا الإمام أبو الحجاج المزي (3): أن الشهداء كالأحياء في قبورهم وهذه أرفع درجة فيهم"(4).
(1) جاء بهذا اللفظ عند: ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/ 277، وابن شَبَّة في تاريخ المدينة 3/ 945، وإسنادهما حسن فيه إسماعيل بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الله ابن أويس، وهما صدوقان. ينظر: تقريب التهذيب ص (108)، وص (309).
(2)
هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير، أبو الفداء، البصري ثم الدمشقي الشافعي، المعروف بابن كثير، كان عالمًا بالتفسير، والحديث والفقه والتاريخ، له مصنفات كثيرة من أشهرها:(البداية والنهاية)، و (تفسير القرآن العظيم)، و (اختصار علوم الحديث)، مات سنة (774هـ).
ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة 1/ 445، وطبقات المفسرين الأدنه وي 1/ 260، وشذرات الذهب 6/ 231.
(3)
هو: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين القضاعي الكلبي المزي، محدث الديار الشامية في عصره، ولد بظاهر حلب، ونشأ بالمزة (من ضواحي دمشق)، وكان عالمًا باللغة، والحديث، ومعرفة الرجال، من مصنفاته:(تهذيب الكمال في أسماء الرجال)، و (تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف)، مات بدمشق سنة (742هـ).
ينظر: أعيان العصر وأعوان النصر 5/ 644، وطبقات الشافعية لابن قاضى شهبة 3/ 74، والدرر الكامنة 4/ 457.
(4)
ينظر: الإجابة لإيراد ما استدركته عَائِشَة على الصحابة ص (50).