المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الإفهام سمى الكلام في الأزل خطابًا؛ لأنه يقصد به الإفهام - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٢

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: الإفهام سمى الكلام في الأزل خطابًا؛ لأنه يقصد به الإفهام

الإفهام سمى الكلام في الأزل خطابًا؛ لأنه يقصد به الإفهام في الجملة، ومن قال: هو الكلام الذي يقصد به إفهام من هو متهيء للفهم لا يسميه في الأزل خطابًا، وينبني عليه أن الكلام حكم في الأزل، أو يصير حكمًا.

قيل: وعلى هذا يجب أن يحمل الكلام على اللفظي لا النفسي؛ لأن الكلام النفسي لا يقصد به الإفهام، ولا يقع به التخاطب، وفساده ظاهر ويجب أن يفسر الخطاب لمدلول يقصد به الإفهام، إذ الكلام عند الأشعري النفسي لا اللفظي، وفيه ما مرّ، وكل من عرّف الحكم بخطاب الله، وقال: إن الحكم قديم، يلزمه أن يكون في الأزل خطابًا.

قال: ‌

‌(الوجوب

الثبوت والسقوط.

وفي الاصطلاح: ما تقدم، والواجب الفعل المتعلق للوجوب، وما يعاقب تاركه مردود بصدق إيعاد الله، وما يخاف مردود بما يشك فيه.

وقال القاضي: ما يذم تاركه شرعًا بوجه ما، وقال: بوجه ما، ليدخل الواجب الموسع والكفاية، حافظ على عكسه فأخل بطرده، إذ يرد الناسي والنائم والمسافر، فإن قال: يسقط الوجوب بذلك، قلنا: ويسقط بفعل البعض.

والفرض والواجب مترادفان.

الحنفية: الفرض / المقطوع به، والواجب المظنون).

ص: 17

أقول: الوجوب لغة: الثبوت، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا وجب المريض فلا تبكين باكية» ، أي: إذا ثبت وزال عنه الاضطراب، والوجوب أيضًا السقوط، قال الله تعالى:{فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت.

وفي الاصطلاح ما تقدم، وهو: خطاب بطلب فعل غير كف ينتهض

ص: 18

تركه في جميع وقته سببًا للعقاب، والواجب هو الفعل الذي تعلق به الوجوب، فهو فعل غير كف، فينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب، ومنه تعلم حدّ الأقسام الأخر ومتعلقاتها.

ثم ذكر للواجب رسوما مزيفة، على أن الامدي إنما ذكرها رسوما للوجوب، ثم اعترضها بأنها تصلح رسوما للفعل الذي هو الواجب، لا الحكم الذي هو الوجوب.

الأول: ما يعاقب تاركه، وهو غير منعكس، لخروج الواجب الذي عفي عنه تاركه.

ونقل الآمدي هذا الرسم: ما يستحق تاركه العقاب على تركه وهو على هذا منعكس؛ لأن متروك من عفي عنه يستحق على تركه العقاب؛ إذ لو عوقب كان ذلك ملائمًا لنظر الشارع، وهو معنى الاستحقاق على الترك، ولا يرد هذا على الحدّ المختار؛ لأن الترك وإن كان سببًا، لكن يجوز تخلف العقاب لمانع.

الثاني: ما أوعد بالعقاب على تركه ليندفع الإيراد، وردًّ: بأن إيعاد الله خبره، وخبره صدق فيستلزم العقاب على الترك ويعود [الإيراد].

لا يقال: لا نزاع في أن الواجب أوعد بالعقاب على تركه، فهذا الرد إنما يجيء على مذهب المعتزلة في عدم جواز العفو؛ لأنّا نقول: ما جاء من

ص: 19

الظواهر في الوعيد فهي عمومات مخصوصة، فالمراد من العموم هو الذي أوعد من العقاب ولا يجوز العفو عنه لاستحالة الخلف في الخبر، ومن عفي عنه غير مراد من العموم، فليس وعدًا بالعقاب، فمتروك العفو عنه واجب وهو غير متواعد بالعقاب على تركه.

الثالث: ما يخاف العقاب على [تركه].

وردّ: بأنه غير مطرد؛ لأن ما يشك في وجوبه ولا يكون واجبًا في نفس الأمر، يخاف العقاب على تركه.

قيل: لا يتصور ما يشك في وجوبه؛ لأن المجتهد إن شك لعدم الدليل كان الحكم عدم الوجوب جزمًا، فينتفي الشك، وإن كان لتعارض الدليلين فعند من قال يتخير ينتفي الشك، وعلى الآخر تساقطا ويرجع إلى البراءة الأصلية، وجوابه: إن ذلك يتصور إذا قدم على الترك قبل بذل وسعه في طلب الحكم، ويكون مباحًا في الواقع.

وقال القاضي أبو بكر: ما يذم تاركه شرعًا بوجه ما، [والمراد بالذم شرعًا نص الشارع به أو بدليله؛ إذ لا وجوب إلا بالشرع].

ص: 20

وقال: «بوجه ما» ليدخل الواجب الموسع وفرض الكفاية، إذ لا يذم تاركهما مطلقًا بل بوجه، أما الموسع فيذم إذا تركه في جميع وقته، وأما الكفاية فإنما يذم إذا تركه جميع المكلفين.

قيل: تارك الظهر في جزء معين من الوقت ما ترك واجبًا، إذ ليست بواجبة به على الصحيح، فلا يحتاج إلى دخول الموسع.

وأجيب: بأن القاضي يرى في الموسع أن الواجب الفعل أو العزم، فقال: يذم تاركه بوجه ما، إذا ترك الفعل والعزم.

قال السهروردي: الذام إما أن يكون صاحب الشرع أو أهل الشرع، أما الأول فباطل؛ لأن الشرع ما نص على ذم كل تارك، وأما أهل الشرع فإنما يذمون من عملوا أنه ترك واجبًا، فذمهم موقوف على معرفتهم بالواجب، فلو عرّف به لدار، أجيب: بأن الذام الشارع بصيغ العموم، نحو:{فأولئك هم الظالمون} ، {فأولئك هم الفاسقون} ، ولأن التارك عاص، وكل عاص مذموم للأدلة العامة.

سلمنا، ولا دور؛ لأن تصور الواجب موقوف على تصور الذم، [وتصور الذم من أهل الشرع] ليس موقوفًا على تصور الواجب، بل

ص: 21

حصوله هو المتوقف على تصور الواجب، فلا دور.

قيل: إن أريد بيذم الذم بالفعل لم ينعكس؛ لتخلفه عن ما لم يشعر بالواجب ولم يمكنه ذلك، وإن أريد به على تقدير العلم به، فكذا ما يعاقب تاركه أي بتقدير عدم العفو، وإن أريد استحقاق الذم فكذا يجري فيما يعاقب تاركه، وأجيب: بأن المعنى أن الشارع يذمه، واستصحاب الشريعة يعطي أنه مذموم الآن فلهذا أتى بلفظ المضارع، أو أن أهل الشرع يذمونه.

قال المصنف: (حافظ على عكسه فأخل بطرده) لدخول الصلاة التي تركها بالنوم أو بالنسيان، والصوم الذي تركه المسافر لأجل السفر، فإنه ليس بواجب مع أنه يذم بوجه ما، وهو ما إذا تمكن من القضاء ولم يقض إلى أن مات.

لا يقال: لا يلزم من عدم وجوبها عليهم عدم وجوبها مطلقا؛ لأن المراد حدّ الواجب على المكلف.

فإن قال القاضي: لا نسلم أن هذه الصلاة غير واجبة عليهم، إذ لا يلزم من عدم وجوب الأداء عليهم لسقوطه بالعذر عدم وجوبها مطلقًا.

قلنا: وكذا في الكفاية يقال: يذم بتركه مطلقًا شرعًا أي يجب الذم إلا أنه يسقط [الذم] بفعل البعض الآخر، وإذا اعتددت بالوجوب الساقط في الفعل فلم لا تعتد بالوجوب الساقط في الذم، فلا حاجة إلى: بوجه ما. واعلم أن الحد يعطي أن الذم إنما هو سبب تركه، والذم للناسي والنائم

ص: 22

والمسافر إنما هو لترك الصلاة المذكورة الواجبة عليهم، لا على الترك مطلقًا، فلا يصدق الحد على متروكهم؛ لأن الذم من ترك القضاء لا الأداء، فهو سبب واجب آخر، فلا يرد عدم الطرد.

قيل: يرد [المندوب] والمباح، والمكروه والمحظور؛ إذا تركه المكلف وارتكب محظورًا آخر، وكذا السنة إذا أصرّ على تركها، إلا أن يزاد: ما يذم تاركه من حيث هو تاركه.

واختلف في الفرض والواجب، هل هما مترادفان أو متباينان؟ .

فأما في اللغة فمتباينان؛ لأن الفرض التقدير {فنصف ما فرضتم} / والإنزال {إن الذي فرض عليك القرآن} ، والإحلال {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} ، والواجب: الثابت والساقط.

وأما في الشرع، فعند الشافعية متردافان، إلا ما وقع لهم في كتاب الحج من التفرقة، وعند الحنفية، ووقع في المدونة ما يدل على أنهما

ص: 23

متباينان، قال فيها: فإن احتقن في فرض أو واجب.

أما الشافعية فقالوا: لما كان الواجب ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب، وهذا المعنى موجود في الفرض الشرعي، فهما متردافان.

وقال الآخرون: اسم الفرض يخص ما كان مقطوعًا، واسم الواجب ما كان مظنونًا، إذ الفرض التقدير، والمظنون لا يعلم كونه مقدرًا علينا بخلاف المقطوع.

قال الإمام: وهو تحكم، إذ الفرض هو المقدر، سواء مقطوعًا أو مظنونًا.

وفيه نظر؛ فإن الوتر مثلًا لما لم يعلم تقديره، كيف يقال: إنه فرض مقدر؟ ، والصلوات الخمس لما علم تقديرها علينا، كيف يقال: إنها ساقطة؟ ، واتفاق أمرين في شيء لا يكفي في إطلاق اسم أحدهما على الآخر، والاستدلال على الترادف بقوله تعالى:{فمن فرض فيهن الحج}

ص: 24

أي أوجب ضعيف، والبحث لفظي.

قال: (الأداء ما فعل في وقته المقدر له أولًا شرعًا.

والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق به وجوبه مطلقًا، أخَّره عمدًا أو سهوًا، تمكن من فعله كالمسافر، أو لم يتمكن لمانع شرعًا كالحائص، أو عقلًا كالنائم.

وقيل: لما سبق وجوبه على المستدرك، ففعل الحائض والنائم قضاء على الأول لا الثاني، إلا في قول ضعيف.

والإعادة: ما فعل في وقت الأداء ثانيًا لخلل، وقيل: لعذر).

أقول: هذا تقسيم آخر للحكم؛ لأنه وإن كان تقسيمًا للفعل الذي هو الواجب، فهو في قوة قولنا: الوجوب إما أن يكون متعلقه قضاء، أو أداء، أو إعادة.

واعلم أن الواجب ينقسم انقسامات باعتبار نفسه إلى: معين أو مخير، وباعتبار فاعله إلى: فرض عين وفرض كفاية، وباعتبار وقته إلى: مضيق وموسع، وإلى: أداء وقضاء، والمصنف ذكر أحكامها في مسائل:

ص: 25

الأولى: ويقع في بعض النسخ: مسألة الأداء، وكذلك في المنتهى في الأداء، والقضاء، والإعادة.

واعلم أن العبادة إن لم يكن لها وقت معين، لم توصف بالأداء ولا بالقضاء كالأذكار، وإن كان لها وقت معين، فإن لم يكن [لها] وقت محدود، أو لا توصف بالأداء ولا توصف بالقضاء كالحج، وإطلاق القضاء على الحج المستدرك مجاز، من حيث إنه يشبه القضاء وإن كان محدودًا، وصفت بالأداء، والقضاء، والإعادة.

فالأداء: ما فعل في وقته المقدر له [أولًا] شرعًا.

فخرج ما لم يقدر له وقت كالنوافل، أو قدّر لا شرعًا كالزكاة يعين لها الإمام شهرًا، وما فعل في وقته المقدر له شرعًا ولكن غير الوقت الذي قدّر له أولًا كصلاة الظهر، فإن وقته الأول الظهر والثاني زمان ذكرها بعد النسيان، وأولًا معمول للمقدر لا الفعل، وإلا لزم خروج الإعادة عن الأداء.

ص: 26

والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء / استدراكًا لما سبق له وجوب مطلقًا، فما فعل بعد وقت الأداء يُخرج الأداء.

قوله: (استدراكًا) يخرج ما أوتي به بعد وقت الأداء لا لقصد الاستدراك.

وقوله: (لما سبق له وجوب) يخرج النوافل.

وقوله: (مطلقًا) تنبيه على أنه لا يشترط الوجوب عليه، بل ما هو أعم من الوجوب عليه أو على غيره؛ لأن وجوب القضاء إنما يتوقف على وجود سبب وجوب الأداء، وهو الخطاب الموجب له في الجملة، فيخرج مذهب من يشترط وجوب القضاء على المستدرك، ثم لا فرق بين أن يكون أخَّره عن وقت الأداء سهوًا أو عمدًا، وسواء تمكن من فعله كالصوم للمسافر أو لم يتمكن من الفعل لمانع، إما شرعًا كصوم الحايض، أو عقلا كصلاة النائم.

قلت: والظاهر أن قوله: (من الوجوب) زيادة، مع أن مانع الوجوب لا ينفي التمكن من الأداء كالصيام، وإنما دعاه إلى ذلك التنبيه على المذهب المختار، وهو أن الحيض مانع من الوجوب لا أنه مانع من الأداء، والأولى أن يقال: ما انعقد بسبب وجوبه ولم يجب لمانع عقلي أو شرعي، سواء تأخر

ص: 27

عمدًا أو سهوًا، وسواء كان قادرًا على فعله في وقته كالصوم للمسافر، أو غير قادر عليه إما شرعًا كصوم الحايض، أو عقلًا كصلاة النائم، فإنه إذا فعل بعد ذلك وقع قضاء.

أو قيل: ما فعل بعد الأداء استدراكًا لما سبق وجوبه على المستدرك، والفرق بين التعريفين، أن فعل الحايض والنائم على هذا لا يسمى قضاء إلا مجازًا؛ لأنه لا يجب عليهما؛ لأن الوجوب وإن كان قائمًا إلا أن الإثم تخلف عنه لمانع، وهو قضاء على التعريف الأول إذ سبق له وجوب في الجملة.

وقول المصنف: (إلا في قول ضعيف) هو لبعض المالكية، ولبعض

ص: 28

الشافعية، قالوا: الحائض مثلا يجب عليها الصوم، فهي ممن سبق الوجوب عليها، وإنما الحيض مانع من الأداء لقيام الموجب، وقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهو ضعيف؛ لأن جواز الترك مجمع عليه، وهو ينافي الوجوب عليها، وأيضًا: لو وجب مع المنع من الأداء، لزم تكليف ما لا يطاق.

ولما كانت النوافل على مذهب المصنف لا تقضى، لم يصح إيراد قضاء النوافل المؤقتة عليه.

واعلم أنه يرد عليه من صلَّى خارج الوقت يظن أن الوقت باق، فإنها ليست أداء ولا قضاء؛ لأنها ما أتى بها استدراكًا ولا إعادةً وهو ظاهر.

والإعادة: ما فعل في وقت الأداء ثانيًا لخلل، وقيل: لعذر، فمن صلّى منفردًا ثم صلى مع جماعة، فصلاته إعادة على الثاني لا على الأول؛ إذ لا خلل فيها، وطلب الفضيلة عذر، قلت: ولو فسد القضاء فأعاده، أو صلًّى منفردًا صلاة خارج وقتها، ثم وجد جماعة فاتتهم تلك الصلاة وجمعوها

ص: 29

أعادها معهم، كان إعادة، ولا يتناوله الرسمان.

قال: (الواجب على الكفاية على الجميع ويسقط بالبعض.

لنا: أثم الجميع بالترك باتفاق.

قالوا: سقط بالبعض.

قلنا: استبعاد.

قالوا: كما أمر بواحد مبهم أمر ببعض مبهم.

قلنا: إثم واحد مبهم لا يعقل.

قالوا: {فلولا نفر} .

قلنا: يجب تأويله على المسقط جمعًا بين الأدلة).

أقول: اختلفوا في الواجب على الكفاية، وهو ما كان مطلوبًا حصوله في / الواقع، وأمكن حصول الفرض منه بفعل البعض، هل هو واجب على جميع المكلفين أو على البعض؟ ، واختلف القائلون بأنه

ص: 30

يجب على البعض، فقال بعض: يجب على بعضٍ أيَّ بعض كان.

وقال بعضهم: إّنه واجب على البعض الذي يشهد ذلك الشيء، كصلاة الجنازة مثلًا.

وقال بعضهم: هو واجب على بعض معين عند الله منكر عندنا.

واختار المصنف المذهب الأول، واحتج عليه: بأنه لو كان واجبًا على بعض المكلفين، لما أثم جميع المكلفين بتركهم إياه، واللازم باطل، أما الملازمة: فلاستحالة تأثم المكلف بترك ما لا يكون واجبًا عليه، وأما بطلان التالي: فبالاتفاق.

وقيل في تقرير المذهب المختار: الإيجاب على الجميع من حيث هو جميع لا على كل واحد، فإن الوجوب إذا تعين على كل واحد، فإسقاطه عن الباقي يكون رفعًا للطلب بعد تحققه، وذلك لا يكون إلا بالناسخ، ولا يلزم ذلك إذا قلنا: يجب على الجيمع من حيث هو جميع، إذ يلزم من إيجاب الحكم على جملة إيجابه على كل واحد، ويكون تأثيم الجملة من حيث هي جملة بالذات، وتأثيم كل واحد بالعرض.

ص: 31

وفيه نظر؛ فإن سقوط الأمر قبل الأداء كما يكون بالنسخ يكون بانتفاء علة الوجوب؛ لأنه وجب لمعنى، فإذا حصل ذلك المعنى انتفى الوجوب، فالسقوط ليس لفعل البعض، وإنما هو لانتفاء علة الوجوب، إلا أنه لما كان فعل البعض سببًا لانتفاء علة الوجوب، نسب السقوط إليه مجازًا.

أو نقول على أصل أهل السنة: لا نسلم أن الرفع لا يكون إلا بخطاب جديد، لم لا يجوز أن ينصب الله عليه أمارة، وهنا قد جعل أداء بعضهم أمارة على سقوط الفرض عن الباقين؛ لأنه لو بقي التكليف به لكان تكليفًا بتحصيل الحاصل.

احتج الآخرون بوجوه ثلاثة:

الأول: أنه يسقط بفعل البعض، فلو وجب على الجميع لما سقط بفعل البعض، أما الملازمة: فإنه من المستبعد سقوط الواجب عن المكلف بفعل غيره.

الجواب: أن دليل الملازمة استبعاد وهو لا يكون حجة، مع أنه لا استبعاد في الحقيقة، فإن السقوط لانتفاء علة الوجوب، ولو قال في بيان الملازمة: الواجب ما لا يسقط عن المكلف بفعل غيره كفرض العين وإلا لم يكن واجبًا، منع أن ما يسقط بفعل الغير لا يكون واجبًا، فإن الاختلاف في طريق السقوط لا يوجب الاختلاف في الحقيقة، فإن القتل الواجب بسبب الردة لا يخالف القتل الواجب بسبب القصاص في الحقيقة، مع أن أحدهما

ص: 32

يسقط بالعفو، ولا يسقط بالتوبة، والآخر بالعكس.

قالوا ثانيًا: لو امتنع أمر بعض مبهم، لامتنع الأمر بواحد منهم، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأنه لا مانع إلا الإبهام، وهو ملغى.

أجاب: بالفرق، وهو أن إثم واحد غير معين لا يعقل، بخلاف الإثم بواحد غير معين فإنه معقول، فيصح أن يكون متعلقًا للوجوب، فليس المانع كونه غير معين فقط، بل المانع لزوم كون الإثم غير معين وهو غير معقول.

وهذا الجواب إنما يتم لو كان مذهبهم إثم واحد بالترك، أما إذا كان مذهبهم أثم الجميع بالترك فلا، وهو كذلك، ويدل عليه قوله:(لنا: أثم الجميع بالترك باتفاق) ، فحينئذ إن أراد تأثيمه بانفراده غير معقول فمُسلّم، وليس كذلك، وإن أراد تأثيمه / على تقدير تأثيم الجميع غير معقول، فممنوع.

قالوا ثالثًا: قوله تعالى: {فلولا نفر} إلى آخرها، يدل على كون البعض مأمور بالتفقه في الدين الذي هو من فروض الكفاية، والبعض غير معين، وهو المطلوب.

أجيب: بأن الدليل دلَّ على الوجوب على الجميع، والآية وإن كانت ظاهرة في الوجوب على البعض، لكن الظاهر يجب تأويله لأجل الدليل، فتحمل على غير ظاهرها جمعًا بين الأدلة، فتؤول بأنّ فعل الطائفة من الفرقة مسقط للوجوب عن الجميع، فيحمل النافر على المسقط.

ص: 33