المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حذف بعض الخبر - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٢

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: ‌ حذف بعض الخبر

بضبطه وإتقانه، انحط عن درجة الصحيح بأن كان هذا قريبًا من الضابط، كان الحديث حسنًا، وإن كان بعيدًا منه ردَّ وكان من قبيل الشاذ المنكر، فخرج من هذا أن الشاذ المردود قسمان.

أما لو أسنده المنفرد وأرسله الباقون، فحكى الخطيب عن أكثر المحدثين أن الحكم للمرسل، وعن بعضهم الحكم للذي هو أحفظ، وعن بعضهم الحكم للأكثر، ثم ذلك غير قادح في عدالة من أسنده، خلافًا لمن قال: من أسند ما أرسله الحفاظ فذلك قادح في عدالته، ثم قال: والصحيح أن الحكم لمن أسنده.

وكذا لو رفعه بعضهم إلى النبي عليه السلام ووقفه بعضهم على الصحابي فكالزيادة على الأصح أيضًا.

أما لو وصله وكان منقطعًا عند الأكثرين فكالزيادة؛ إذ المنقطع والمرسل يشتركان في عدم الاتصال.

قال: (مسألة:‌

‌ حذف بعض الخبر

جائز عند الأكثر، إلا في الغاية والاستثناء ونحوه، مثل:«حتى تزهى» ، وإلا «سواء بسواء» فإنه ممتنع).

أقول: يجوز حذف بعض الخبر وروايته عند الأكثرين إذا كان مستقلًا

ص: 426

لأنهما كخبرين.

أما لو تعلق بالمذكور تعلقًا بغير المعنى كما في الغاية، مثل ما روى في الصحيح عن أنس:«نهى عليه السلام عن بيع الثمرة حتى تزهى» .

وفي الصحيح أيضًا، عن أبي سعيد الخدري قال: قال عليه السلام: «لا تبيعوا الذهب بالذهب والورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء» ، فلا يجوز حذف «حتى تزهى» ولا حذف المستثنى، لاختلال المعنى، وحينئذ إنما يجوز / للعارف الذي يعلم أن ما تركه غير متعلق بما ذكر فجائز، ومنعه قوم مطلقًا.

قال: (مسألة: خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كابن مسعود في مس الذكر، وأبي هريرة في غسل اليدين، معمول به، خلافًا لبعض الحنفية.

لنا: قبول الأمة له في تفاصيل الصلاة، وفي نحو الفصد والحجامة، وقبول القياس وهو أضعف.

قالوا: العادة تقضي بنقله متواترًا.

ردّ: بالمنع، وتواتر البيع والنكاح والعتق والطلاق اتفاقًا، أو كان مكلفًا بإشاعته).

ص: 427

أقول: من الأمور: ما تعم به البلوى وحاجة الكل إليه، كالصلاة وما تتوقف عليه، فعند المالكية والشافعية قبول خبر الواحد فيه.

قال المصنف: كحديث ابن مسعود في وجوب الوضوء من مس الذكر، وهو غير معروف عن ابن مسعود.

نعم رواه غيره، قال الطبري:«بضعة عشر صحابيًا رواه» .

وحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها» ، خرجها في الصحيحين عنه.

وحديث رفع اليدين، رواه أبو هريرة، «كان النبي عليه السلام إذا قام

ص: 428

إلى الصلاة رفع يديه» أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة، وخرجاه في الصحيح من حديث ابن عمر، لكن قال البيهقي:«لا نعلم سنة رواها جماعة منهم العشرة إلا هذه» ، إلا أن يحمل على رفع اليدين عند الركوع فيصح، وهو أيضًا مروي من حديث أبي هريرة، وهو في الصحيح من حديث ابن عمر.

والحق: أن الأول والثالث من المشهور، وهم يفرقون بينه وبين الآحاد في كثير من الأحكام.

لنا: قبول الأمة له في تفاصيل الصلاة وذلك مما تعم به البلوى، وقبوله نحو الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة، أوجبوا منها الوضوء وهو حجة عليهم.

وأيضًا: قبلوا القياس في نحوه وهو أضعف من خبر الواحد، على ما

ص: 429

سيأتي، فخبر الواحد [أولى] بالقبول.

وقد يقال: القهقهة والفصد والحجامة عمل به لشهرته، أو للقرائن المحتفة به، والقياس إنما عمل به لعدم القادح، والخبر المتنازع فيه عدم شهرته قادح فيه.

قالوا: العادة تقضي في مثله بالتواتر، لتوفر الدواعي على نقله، ولما لم يتواتر علم كذبه.

الجواب: المنع، وسنده ما مرّ من الفصد والحجامة.

قالوا: لو صح لوجب أن يلقيه إلى عدد التواتر، لئلا يؤدي إلى بطلان صلاة أكثر الناس، مما جعل في البيع والنكاح والعتق والطلاق.

أجاب: بالمنع، وبطلان الصلاة فيمن بلغة خاصة، والبيع وما ذكر معه اتفق تواتر، أو كان عليه السلام مكلفًا / بإشاعته خاصة دون غيره، فليس ذلك من العادة في شيء.

قال: (مسألة: خبر الواحد في الحدّ مقبول، خلافًا للكرخي والبصري.

لنا: ما تقدم.

قالوا: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» ، والاحتمال شبهة.

ص: 430

قلنا: لا شبهة كالشهادة، وظاهر الكتاب).

أقول: خبر الواحد فيما يوجب الحدّ مقبول عند الأكثر، خلافًا للكرخي والبصري.

لنا ما تقدم من أنه عدل جازم في حكم ظني، فوجب قبوله.

قالوا: قال عليه السلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» ، واحتمال كذبه شبهة، فوجب سقوط الحدّ فيه.

الجواب: ليس [كل] شبهة يدرأ بها الحدّ، كما في الشهادة مع احتمال الكذب، وذلك يدرأ الحدّ اتفاقًا مع أن بابها أضيق، وكذا ظاهر الكتاب يجوز أن يكون المراد غيره، مع أن هذا الاحتمال لا يدرأ به حدُّ.

وهذا الحديث في خلافيات البيهقي بهذا اللفظ.

وأخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت: قال عليه السلام: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن

ص: 431

الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة» ، قال:«وروي موقوفًا وهو أصح» .

قال: (مسألة: إذا حمل الصحابي ما رواه على أحد محمليه، فالظاهر حمله عليه بقرينة.

فإن حمله على غير الظاهر، فالأكثر على الظهور.

وفيه قال الشافعي: كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته.

فإن كان نصًا، فيتعين نسخه عنده، وفي العمل نظر.

فإن عمل بخلاف خبرٍ أكثرُ الأمة، فالعمل بالخبر، إلا إجماع أهل المدينة).

أقول: إذا روى الصحابي خبرًا مجملًا وحمله على أحد محمليه، فالظاهر حمله عليه؛ لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا لقرينة عاينها؛ لأن النبي عليه السلام لا ينطق بلفظ مجمل قاصدًا للتشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية غالبًا.

ص: 432

ولما كان قد يقال: لا يكون حجة على غيره من المجتهدين بل ينظر، فإن انقدح وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال وجب اتباعه، وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح.

وقال المصنف: (فالظاهر) ولم يقل: يجب حمله، ثم هذا إن لم يقل بتعميم المشترك، وأما إن قلنا به، فحمله على أحدهما حمل على غير الظاهر، فيصير من الثاني.

أما لو كان ظاهرًا في معنى، فحمله على غير ظاهره، فالأكثر على أنه يعتبر ظهوره ويحمل عليه، وفيه قال الشافعي:«كيف أترك الحديث لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث» .

وقال جمع من الحنفية: يحمل على ما تأوله عليه.

أما لو كان الخبر نصًا، فلا وجه لمخالفة الراوي سوى احتمال اطلاعه على ناسخ فيتعين لعدالة الصحابي أنه نسخ بناسخ اطلع هو عليه ورآه بالخبر؛ إذ ربما ظن ناسخًا ولم يكن، ولأن النص أقوى من الظاهر، والظاهر لا يترك

ص: 433

لقول الصحابي، فكيف النص.

ويمكن أن يقال: يعمل بالناسخ؛ لأن خطأه فيه / بعيد، والنص دلالة قطعية لا يحمل غير معناه، فما تركه إلا لنص آخر لاجتهاد، بخلاف الظاهر قد يكون تركه لاجتهاد.

والمصنف جزم في باب النسخ بأن النسخ لا يثبت بتعيين الصحابي، محتجًا بأنه قد يكون عن اجتهاد، فأحرى إذا لم يقل هو منسوخ بكذا، ولا يناقض ما هنا؛ لأنه قال: تعين عنده نسخه لا في الواقع، لكن يحتمل أن يكون منسوخًا في الواقع، فقد يكون قال:(وفي العمل نظر) لذلك، وهو يقرب من قوله في النسخ.

وإذا لم يعلم ذلك فالوجه الوقف، ويحتمل أنه تردد لتردد الناس في الراوي إذا خالف ما رواه، هل يقبل ما رواه أم لا؟ .

وأكثر المالكية يقبلونه.

أما لو عمل بخلاف الخبر أكثر الأمة، تعين العمل بالخبر لأنه حجة، وقولهم ليس بحجة.

قال المصنف: (إلا إجماع أهل المدينة) فإنه يقدم.

والحق ما قدمناه في الإجماع، وهو أنه إن كان إجماعهم مخالفًا لخبر الواحد، فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك الخبر بلا خلاف، وإن كان

ص: 434

اجتهاديًا قدم الخبر عند الجمهور من المالكية، خلافًا لابن المعذل، وأبي مصعب، وبعض المغاربة.

قال: (مسألة: الأكثر على أن الخبر المخالف للقياس من كل وجه مقدم، وقيل: بالعكس.

أبو الحسين: إن كانت العلة بقطعي فالقياس، وإن كان الأصل مقطوعًا به فالاجتهاد.

والمختار: إن كانت العلة بنص راجح على الخبر، ووجودها في الفرع قطعي فالقياس، وإن كان وجودها ظنيًا فالوقف، وإلا فالخبر.

لنا: أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في الجنين للخبر، وقال: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، وفي دية الأصابع باعتبار منافعها، لقوله عليه السلام:«في كل أصبع عشرة» ، وفي ميراث الزوجة من الدية، وغير ذلك، وشاع وذاع ولم ينكره أحد.

وأما مخالفة ابن عباس خبر أبي هريرة «توضؤوا مما مسته النار» ، فاستبعاد لظهوره، وكذلك هو وعائشة في «إذا استيقظ» ، ولذلك قالا: فكيف نصنع بالمهراس.

وأيضًا: أخر معاذ العمل بالقياس وأقره.

وأيضًا: لو قدم لقدم الأضعف.

والثانية إجماع؛ لأن الخبر يجتهد فيه في العدالة والدلالة، والقياس في ستة:

ص: 435

حكم الأصل، وتعليله، ووصف التعليل، وفي وجوده في الفروع، ونفي المعارض فيهما، وإلى الأمرين أيضًا إن كان الأصل خبرًا.

قالوا: الخبر محتمل للكذب والكفر والفسق والخطأ والتجوز والنسخ.

وأجيب: بأنه بعيد.

وأيضًا: فمتطرق إذا كان الأصل خبرًا.

وأما تقديم ما تقدم؛ فلأنه يرجع إلى تعارض خبرين عمل بالراجح منهما.

والقف: لتعارض الترجيحين.

فإن كان أحدهما أعم خُصّ بالآخر، وسيأتي).

أقول: خبر الواحد إن خالف القياس، فإن تعارضا من كل وجه، فعن مالك القياس مقدم، قال العراقيون من أصحابنا: هو مذهب مالك، وقال القاضي عياض:«مشهور مذهب مالك أن الخبر مقدم» .

وفي المدونة ما يدل على الأمرين من مسألة ولوغ الكلب، ومسألة المصراة. وقال الشافعي، وأحمد، والكرخي: الخبر مقدم.

ص: 436

وقال أبو الحسين: إن كانت العلة منصوصة بنص قاطع قُدم القياس، وإلا فإن كان الأصل مقطوعًا به فقط فموضع اجتهد في أيهما يقدم، وإلا فالخبر مقدم.

والمختار: إن كانت العلة منصوصة بما هو راجح على الخبر في الدلالة، فإن كان وجود العلة في الفرع قطعيًا فالقياس مقدم، فإن كان وجودها في الفرع ظنيًا فالوقف.

وإن لم تكن العلة منصوصة، أو منصوصة بما هو مساو للخبر في الدلالة، فالخبر مقدم.

لنا في تقديم الخبر حيث يقدم: أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في مسألة الجنين للخبر، حين استشارهم في إملاص المرأة، فقال المغيرة: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالغرة عبدًا أو أمة، فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي عليه السلام قضى به، خرّجه البخاري.

زاد أبو داود: «الله أكبر، لو لم أسمع هذا لقضينا بغير هذا» .

ص: 437

وكذا في دية الأصابع، حيث رأى أنها تتفاوت باعتبار منافعها، حكى الخطابي عن ابن المسيب أن عمر كان يجعل في الإبهام خمسة عشر، وفي [الخنصر ستًا، وفي البنصر تسعًا] ، وفي الوسط والسبابة عشرًا عشرًا، حتى وجد كتابًا عند آل عمر بن حزم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ به.

وكذا في ميراث الزوجة، روى أبو داودٍ أن عمر كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا، حتى أخبره الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: أن ورث امرأة أشيم من دية زوجها، إلى غير

ص: 438

ذلك من الصور، وشاع وذاع ولم ينكر تقديمه، فكان إجماعًا.

قيل: لا نسلم عدم الإنكار، فإن ابن عباس خالف خبر أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال:«توضؤوا مما مسته النار» . أخرجه في الصحيحين.

زاد الترمذي: فقال ابن عباس: «أنتوضأ من الحميم» .

وبأن ابن عباس وعائشة خالفا خبره أيضًا، وهو قول عليه السلام:«إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها» .

واعلم أن ما ذكره المصنف من مخالفتهما فغير معروف.

نعم روي عن أصحاب عبد الله أنهم قالوا: «كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس» ، رواه البيهقي.

ص: 439

الجواب: أنهما لم يقدما القياس، بل استبعدا حمل الحديثين على ظاهرهما الذي هو الوضوء الشرعي في الأول، والإطلاق في الثاني، لثبوت غير ذلك من أنه عليه السلام «أكل من كتف شاة وصلّى ولم يتوضأ» ، ولتعذر الثاني في مثل المهراس، وهو الحجر العظيم.

واللام في (لظهوره) للتعدية / لا للتعليل.

ولنا أيضًا: حديث معاذ، أخّر فيه القياس عن الخبر، وأقره عليه السلام، فكان الخبر مقدمًا.

واعلم أن التمسك السابق لا يتناول ما كانت العلة فيه بنص مساوٍ للخبر، وهذا إن أراد معاذ بالسنة ما سمعه من النبي عليه السلام فغير محل للنزاع، وإن أراد ما صدق أنه سنة، لزم تقديمه في موضع الاجتهاد عنده.

احتج أيضًا: بأنه لو قدم القياس على خبر الواحد لقدم الأضعف؛ لأن الخبر يجتهد فيه في أمرين فقط:

[عدالة الراوي، ودلالة الخبر على المراد.

وأما القياس، فيجتهد فيه في أمور ستة]:

ثبوت حكم الأصل.

ص: 440

وتعليل حكم الأصل.

إظهار وصف صالح للتعليل.

ووجود ذلك الوصف في الفرع.

ونفي المعارض في الأصل.

وفي الفرع.

وإن كان حكم الأصل ثابتًا بالخبر، احتاج القياس أيضًا إلى اجتهاد في عدالة الراوي ودلالة الخبر على المراد، ولا شك أن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر، فاحتمال الخطأ فيه أكثر، والظن الحاصل منه أضعف، وهذا أيضًا يقتضي تقديمه في موضع الاجتهاد.

قالوا: الاحتمال في القياس أقل؛ لأن الخبر يحتمل كذب الراوي وفسقه وكفره وخطئه، وباعتبار الدلالة يحتمل التجوز، وباعتبار الحكم يحتمل النسخ.

الجواب: أنها احتمالات بعيدة لا تمنع الظهور، ثم هذه الاحتمالات متطرقة إذا كان حكم الأصل بخبر.

ثم لما فرغ مما يقدم فيه الخبر، قال: وأما تقديم ما يقدَّم من القياس، فإنه يرجع إلى تعارض خبرين وأحدهما راجح، فقدم الراجح.

وفيه نظر بغير ما ذكر؛ لتوقفه على مقدمات أكثر، ولا يلزم من رجحان نص العلة على الخبر رجحان القياس على الخبر؛ لأن نص العلة وإن

ص: 441