الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذلة به لخبثهم.
وقال القاضي أبو بكر، وأبو الحسين البصري:«كل خبر أفاد علمًا بواقعة لشخص، فمثله يفيد العلم بغير تلك الواقعة لشخص آخر» .
قال المصنف: وهذا صحيح بشرط تساوي الخبرين والواقعة، لما علمت من تفاوت إفادته للعم بتفاوت تلك الأمور، وذلك بعيد جدًا لتفاوتهما عادة.
قال: (مسألة: إذا اختلف المتواتر في الوقائع، فالمعلوم ما اتفقوا عليه بتضمن أو التزام، كوقائع حاتم، وعليّ كرم الله وجهه).
أقول: لو اشتركت أخبار كثيرة بلغت رواتها مبلغ التواتر في معنى داخل أو لازم، كسخاوة حاتم، وشجاعة عليّ، حصل لنا العلم بالمشترك؛ لأن راوي الجزئي بالمطابقة راو للكل بالتضمن أو الالتزام، وهذا النوع يسمى ب
التواتر المعنوي
.
فإذا حكى شخص أن حاتمًا أعطى فرسًا، وحكى آخر أن أعطى جملًا، وحكى آخر أنه أعطى ثوبًا، وآخر دينارًا، فإنا وإن لم نعلم شيئًا من تلك القضايا بعينه، فهو لم يختلفوا في ما تضمنته تلك القضايا من جود حاتم، وكذلك نقول في شجاعة عليّ.
وإسناد الاختلاف إلى المتواتر مجاز، بل الاختلاف مستند إلى الوقائع المتضمنة أو المستلزمة للقدر المشترك.
قال: (خبر الواحد: ما لم ينته إلى التواتر.
وقيل: ما أفاد الظن، ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظن.
والمستفيض: ما زاد نقلته على الثلاثة).
أقول: عرّف خبر الواحد لما لم ينته إلى حدَّ التواتر، إما بأن لا يكون جماعة، أو جماعة لم يفد خبرهم علمًا، أو أفاد لكن / لا بنفسه بل بالقرائن الزائدة.
وقيل في تعريفه: إنه خبر أفاد الظن ويبطل عكسه بخبر لا يفيد الظن.
والمستفيض من أخبار الأحاد: ما زاد نقلته على الثلاثة.
قال: (مسألة: قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل بالقرائن لغير التعريف.
وقيل: بغير قرينة.
وقال أحمد: ويطرد، والأكثر لا بقرينة ولا بغيرها.
لنا: لو كان بغير قرينة لكان عاديًا فيطرد، ولأدى إلى تناقض المعلومين، ولوجب تخطئة المخالف.
وأما حصوله بقرينة، فلو أخبر ملك بموت ولد مشرف مع صراخ
وجنازة وانتهاك حريم ونحوه، لقطعنا بصحته.
قالوا: أدلتكم تأباه.
قلنا: انتفى الأول لأنه مطرد في مثله، وانتفى الثاني لأنه يستحيل حصول مثله في النقيض، وانتفى الثالث لأنا نخطئ المخالف لو وقع.
قالوا: قال: {ولا تقف} ، {إن يتبعون إلا الظن} ، فنهى وذم فدل على أنه ممنوع.
قلنا: المتبع الإجماع، وبأنه مؤول فيما المطلوب فيه العلم من الدين).
أقول: اختلفوا في إفادة خبر الواحد العدل العلم، فالأكثرون على أنه لا يفيد العلم لا بقرينة ولا بغيرها، وقال قوم: إنه يحصل به العلم.
ثم اختلفوا، فذهب النَّظام إلى أنه إنما يفيد إذا احتفت به القرائن، وقال غيره: يفيد من غير قرينة.
ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إن ذلك مطرد في كل خبر عدل، وهو أحد قولي أحمد.
ومنهم من قال: إن ذلك يوجد في بعض الأخبار، وهو مذهب بعض أهل الحديث.
ومختار المصنف: أنه قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل إذا احتفت به القرائن الزائدة على ما لا ينفك التعريف عنه، وهي الأمارة الدالة على صدق الخبر كالبكاء والتفجع وانتهاك الحريم في المثال الآتي، لا بالقرائن التي للتعريف كموافقته لدليل العقل أو لقول الصادق، فإنه لا خلاف في حصول العلم وإن لم يكن من خبر الواحد.
ثم هاهنا مقامان:
الأول: أنه لا يحصل العلم بغير قرينة.
والثاني: أنه يحصل بقرينة، ولا معنى لقول المصنف في صدر المسألة:(قد)، وهو يقول بعد:(قلنا: مطرد في مثله).
احتج على المقام الأول بثلاثة أوجه:
الأول: لو أفاد العلم بغير قرينة لكان العلم عاديًا؛ إذ العقل لا يستقل بإدراك ما لأجله أفاد ذلك الخبر العلم، بل يكون بإجراء الله عادته بخلق العلم عقب الإخبار.
ولو كان عاديًا لاطرد في كل خبر عدل فأفاد العلم؛ إذ الموجب لحصول العلم متحقق كما في المتواتر، فإنه لما كان عاديًا كان مطردًا، وأما بطلان اللازم؛ فلأن الواقع بخلافه.
الثاني: لو حصل العلم به بغير قرينة لأدى إلى تناقض المعلومين إذا أخبر عدلان بأمرين متناقضين، ومثل ذلك واقع قطعًا، [واللازم باطل قطعًا].
الثالث: لو حصل العلم به لوجب تخطئة من خالفه بالاجتهاد، لوجوب تخطئة مخالف القاطع بالظن إجماعًا، واللازم باطل اتفاقًا.
قلت: إنما تتوجه على من قال يطرد، وأما الآخر فله أن يقول في الأول: خبر الواحد ليس بموجب للعلم، بل الله تعالى يوجد العلم عند سماع بعض الأخبار فلا يجب اطراده؛ لأنه فاعل مختار، وأما المتواتر فلولا اطراد عادة الله تعالى بإفادته العلم لما كان كذلك.
ويقول في الثاني: إنه إذا خلق الله العلم عند إخبار واحد، نمنع خلق الله العلم عند الإخبار بنقيضه، وله أن يقول في الثالث: من حصل له العلم به ثم خالف بالاجتهاد تجب تخطئته.
وأما المقام الثالث: فاحتج عليه بأنه لو أخبر ملك بموت ولد له مشرف على / الموت، وانضم إلى خبره القرائن من صراخ، وجنازة، وخروج المخدرات على حالة منكرة غير معتادة دون موت مثله، وخرج الملك وكبار أهل مملكته، فإنا نقطع بصحة ذلك الخبر، ونعلم به موته علمًا ضروريًا.
واعترض: بأن العلم والحالة هذه حصل بالقرائن لا بالخبر، كالعلم
بخجل الخجل.
والجواب: أنه حصل بالقرائن مع الخبر إذ لولا الخبر لجوزنا موت آخر.
واعلم أن العدالة ليست شرطًا في إفادة مثله العلم، وإنما ذكره لأن المذاهب مقيدة به.
أما المخالفون فهم فريقان: فرقة تنكر إفادته العلم مع القرينة وهم الأكثرون، وفرقة تقول بإفادته له بلا قرينة.
أما المنكرون مطلقًا، فقالوا: أدلتكم على امتناع إفادته للعلم بلا قرينة تأبى كونه مفيدًا له بقرينة؛ [للزوم] الاطراد وتناقض المعلومين، وتخطئة مخالفه بعين ما قررتم.
والجواب: أما لزوم الاطراد؛ فلأنه ملتزم في مثله فإنه لا يخلو عن العلم وأما تناقض المعلومين؛ فلأن ذلك إذا حصل في قضية امتنع أن يحصل مثله في نقيضها، وأما تخطئة المخالف؛ فهو ملتزم، ولو وقع لم تجز مخالفته بالاجتهاد إلا أنه لم يقع في الشرعيات.
أما القائلون بإفادته العلم مطلقًا فاحتجوا: بأنه يجب العمل به إجماعًا، ولو لم يفد الظن لما وجب العمل به، ولما جاز لقوله تعالى:{إن يتبعون إلا الظن} ، وقوله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} ؛ لأن الأول في معرض الذم، والثاني نهي وهو يدل على التحريم.
الجواب من وجهين:
أحدهما: أن المتبع هو الإجماع على وجوب العمل بالظاهر، لا أنا اتبعنا خبر الواحد، فالمتبع القطع.
وثانيهما: أن ظاهرها في العموم مؤول بتخصيصه بما طلب فيه العلم من أصول الدين، لا بما يطلب فيه العمل، والمخصص الإجماع الدال على وجوب العمل بالظن في الفروع.
قيل على الجواب الأول: اتباع الإجماع لم يوجب كون خبر الواحد مفيدًا للعلم، فإن كان مفيدًا له بدون الإجماع فالجواب لم يدفع ما تمسك به، وإن لم يفده لم يجز اتباعه، فثبتت الملازمة.
وردَّ: بأن المصنف إنما منع بطلان التالي في قوله: (لو لم يفد العلم لم يجب اتباعه) فإنه بتقدير وجوب العمل بخبر الواحد لا يكون متبعًا، بل المتبع ما دلّ على وجوب العمل به وهو الإجماع.
قال: (مسألة: إذا أخبر بحضرته لم يدل على صدقه قطعًا.
لنا: أنه يحتمل أنه ما سمعه، أو ما فهمه، أو كان بيّنه، أو رأى تأخيره، أو ما علمه، أو صغيرة).
أقول: إذا أخبر واحد بحضرته عليه السلام ولم ينكر، لم يدل عدم إنكار عليه على صدق الخبر دلالة قطعية، وإن دلّ ظنًا.
لنا: أنه لا يتعين السكوت لتصديقه؛ لأنه يحتمل أنه ما سمعه، أو ما فهمه، أو كان بيّنه وعلم أنه لا يفيد إنكاره ثانيًا، أو ما علمه لكون دنيويًا، أو رأى تأخير الإنكار إلى وقت لمصلحة، وبتقدير عدم الجميع فقد يكون كذبه صغيرة، وقصارى ترك الإنكار أن يكون صغيرة، وهي إن كانت منتفية عنه، لكن غير مقطوع بنفيها.
قال: (مسألة: إذا أخبر واحد بحضرة خلق كثير ولم يكذبوه، وعلم أنه لو كان كذبًا لعلموه، ولا حامل على السكوت، فهو صادق قطعًا للعادة).
أقول: إذا أخبر واحد بحضرة خلق كثير عن أمر محسوس وسكتوا عن تكذيبه.
فإن كان مما يحتمل ألا يعلمون كخبر غريب، لم يدل على صدقه، وإن كان مما لو كان كذبًا لعلموه / فإن كان لهم حامل على السكوت لم يدل أيضًا، وإن علم أنه لا حامل لهم على السكوت، دلّ على صدقه دلالة قطعية عند المصنف، وعند غيره ظنًا.
لنا: أن سكوتهم وعدم تكذيبهم مع علمهم بالكذب في مثله ممتنع عادة.
لا يقال: لعلهم ما علموا، أو علمه بعضهم أو جميعهم وسكتوا لمانع.
لأنا نقول: أحدهما منفي بالعادة، والآخر بالفرض.
قال: (مسألة: إذا انفرد واحد فيما تتوفر الدواعي على نقله، وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر، فهو كاذب قطعًا.
لنا: العلم بكذبه عادة، ولذلك نقطع بكذب من ادعى أن القرآن عورض.
قالوا: الحوامل المقدرة كثيرة، ولذلك لم ينقل النصارى كلام المسيح في المهد، ونقل انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، وإفراد الحج، وإفراد الإقامة، وترك البسملة، آحادًا.
وأجيب: بأن كلام عيسى إن كان بحضرة خلق كثيرة فقد نقل قطعًا، وكذلك غيره مما ذكر، واستغنى عن الاستمرار بالقرائن الذي هو أشهرها وأما الفروع فليس من ذلك، ولو سلّم فاستغنى لكونه مستمرًا، أو كان الأمران شائعين).
أقول: إذا انفرد واحد بالإخبار عن شيء تتوفر الدواعي على نقل مثله، وقد شاركه خلق كثير فيما يدعيه سببًا للعلم، كما لو انفرد واحد بالإخبار عن قتل خطيب على المنبر يوم الجمعة بمشهد من أهل المدينة، فهو كاذب قطعًا.
لنا: أنا نجد من أنفسنا العلم بكذبه، ولولا أن هذا الأصل مركوز في العقول لما قطعنا بكذب من ادّعى أن القرآن عورض؛ لأنه مما تتوفر الدواعي
على نقله فلو عورض لنقل؛ لأن الله تعالى ركز في طباع الخلائق توفر الدواعي على نقل ما علموه والتحدث به، حتى أن العادة تحيل كتمه.
أورد الشيعة ما هو أشبه بالمعارضة منه بالمنع، حتى لا يكون الجواب كلامًا على المستند، تقريره: ما ذكرتم وإن دلّ على كذبه، فعندما يد ل على عدمه لاحتمال صدقه؛ لأن الحوامل المقدرة على كتمان الإخبار كثيرة، منها ما هو غرض للكل لمصلحتهم من أمر الولاية وإصلاح المعاش، أو خوف عدو أو ملك ظالم، أو أغراض مختلفة عائدة إلى الآحاد لا يمكن ضبطها، فكيف يجزم بعدمها؛ إذ مع جوازها لا يحصل الجزم والوقوع.
دليل الجواز: فإن النصارى لم ينقلوا كلام عيسى في المهد مع أنه من الأمور الغريبة التي تتوفر الدواعي على نقلها، ومنه أن معجزات النبي عليه السلام كانشاق القمر، وتسبيح الحصى في كفه، وحنين الجذع الذي كان يستند إليه حين استند إلى غيره، وتسليم الغزالة عليه لم تتواتر، وكلها مما تتوفر الدواعي على نقله.
وحديث انشقاق القمر في الصحيحين من طرق، وهو متواتر عند المحدّثين، ولفظه عند مسلم، قال عبد الله بن عمر: «انشق فلقتين: فلقة
من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل، فقال عليه السلام: اللهم اشهد».
وحديث حنين الجذع متواتر عند بعضهم، ولفظه عند البخاري:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحنّ الجذع، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه» ، وفي لفظ:«فالتزمه» ، وفي طريق آخر:«فاحتضنه وسارّه بشيء» .
وأما تسليم الغزالة، فليس في الكتب الستة، لكن خرّجه الحافظ أبو نعيم، من حديث عمرو بن علي الفلاس، عن يعلى بن إبراهيم الغزال، عن الهيثم بن جماز، عن أبي كثير، عن زيد / بن أرقم
قال: «كنت مع النبي في بعض سكك المدينة، فمررنا بخباء أعرابي، فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء، فقالت: يا رسول الله! إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان في البرية، وقد تعقد هذا اللبن في أخلافي، فلا هو يذبحني فأستريح، ولا هو يدعني أرجع إلى خشفي، قال لها: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار، فأطلقها فلم تلبث أن جاءت تلمظ فشدها إلى الخباء، وأقبل الأعرابي ومعه قربة، فقال عليه السلام: أتبيعها مني؟ ، قال:[هي لك، فأطلقها].
قال ابن أرقم: أنا والله رأيتها في البرية تسبح وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لكن الغزال لا يعرف، والهيثم ضعفوه.
وأما حديث تسبيح الحصى، فليس أيضًا في شيء من الستة، لكن روى الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة، من حديث صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن رجل قال: سمعت أبا ذرّ يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته، كنت رجلا أتتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته وحده فجلست، فجاء أبو بكر فسلم وجلس، ثم جاء عمر، ثم عثمان وبين يدي النبي حصيات، فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن فخرسن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن، ثم وضعهن فخرسن، فقال عليه
السلام: «هذه خلافة النبوة» .
وابن أبي الأخضر تكلموا فيه، وشيخ الزهري مجهول.
ومنها: أن كثيرًا مما تعم به البلوى وتمس الحاجة إليه لم يتواتر، بل نقل آحادًا، ولذلك اختلفوا فيه، فإفراد الإقامة، وإفراد الحج، وترك قراءة البسملة في الصلاة، أما حديث الإقامة، ففي الصحيحين:«أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» .
وحديث إفراد الحج، لمسلم من حديث ابن عمر، أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا.
وحديث ترك البسملة، عن أنس:«صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة، ولا في آخرها» . خرّجه مسلم.
الجواب: أن بينا أن العادة تحيل اتفاق إجماع الكثير على عدم نقل ما [جرى] بحضرتهم من الأمور العظيمة، سواء وجدت الحوامل المقدرة أو لم توجد، أما إذا لم توجد فظاهر، وأما إذا وجدت [فكذلك، إذ العادة تحيل اشتراك الخلق الكثير في الدواعي إلى عدم نقل ما جرى بينهم من الوقائع القديمة] كما تحيل اشتراكهم في الدواعي إلى الكذب، [وما ذكروه] من صور الاستشهاد لا يدل على صحة ما ذكروا؛ لأن كلام عيسى إن كان بحضرة / خلق كثير فقد نقل قطعًا، فإن ثبت أنه لم ينقل فلقلة المشاهدين، فليس مما نحن فيه.
وأما ما ذكروه من المعجزات فكذلك، لو كثر مشاهدوها لنقلت متواترًا وإلا فغير محل النزاع، ولو سلّم يجوز أن تكون نقلت متواترًا ثم استغنى عن استمرار نقلها متواترًا بنقل القرآن الذي هو أشهر معجزاته؛ لأن المقصود من نقل معجزاته الدلالة علة رسالته، والقرآن هو أكبر دليل عليها.
والفروع ليس مما ذكر، لعدم توفر الدواعي على نقلها، ولو سلم فإنما ينقل مثله ليعلم من لم يعلم، وذلك فيما هو مستمر مستغنى عنه، ولو سلم فقد نقل إلا أنه نقل الآخر أيضًا لكونهما شائعين، وهو الذي ضعف الدواعي عن نقله متواترًا.
قيل: لا معنى لكون النقل متواترًا على تقدير وآحادًا على تقدير؛ لأن النقل إن ثبت في الواقع اتصف بأحدهما، وإن لم يثبت فلا معنى لتسليم كونه متواترًا على تقدير.
قلت: النقل ثابت في الواقع، وهو متصف بأحدهما، ولا نعرفه لعدم معرفتنا بالجمع أَهُم كثير فيكون الثابت من النقل تواترًا لكنه استغنى عن الاستمرار بالقرآن؟ أو هم يسير فيكون آحادًا؟ .
والمصنف إنما سلم في الفروع فقط، وهو لم يردد فيها.
قيل في الجواب: تخصيص الدعوى؛ إذ المعنى ما وجد بمحضر جمع عظيم وكان مما تتوفر الدواعي على نقله يجب [نقله متواترًا، إذا لم ينقل متواترًا فما هو أقوى منه]، وكذلك يلزم تخصيص الدعوى على جوابيه وهما:(استغنى لكونه مستمرًا) ، (أو كان الأمران شائعين).
قال: (مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائز خلافًا للجبائي.
لنا: القطع بذلك.
قالوا: يؤدي إلى تحليل الحرام وعكسه.
قلنا: إن كان المصيب واحدًا فالمخالف ساقط، وإلا فلا يرد، وإن تساويا بالوقف والتخيير يدفعا.
قالوا: لو جاز لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى.
قلنا: للعلم بالعادة أنه كاذب).
أقول: التعبد بخبر الواحد العدل، وهو أن يوجب الشارع العمل بمقتضاه على المكلفين جائز عقلًا، خلفاًا للجبائي وبعض المتكلمين.
لنا: القطع بذلك بأنا لو فرضنا أن الشارع قال: إذا أخبركم عدل بشيء فاعملوا بموجبه، فإنا إذا عرضنا ذلك على عقولنا لا يلزم منه محال لذاته، ولا معنى للجواز العقلي إلا ذلك، غاية ما يقدر في امتناعه احتمال كذبه، وهو غير مانع لورود التعبد بالمفتي والشهادة مع قيام الاحتمال.
قالوا: إن لم يكن ممتنعًا / لذاته فهو ممتنع لغيره؛ لأنه يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال بتقدير الكذب وكونه ممكنًا قطعًا وذلك مفسدة؛ إذ التكاليف مبنية على رعاية المصالح ودفع المفاسد، والعمل بمقتضاه بتقدير كذبه مفسدة، وما يؤدي إلى المفاسد لا يجوز عقلًا.
الجواب: إن قلنا: كل مجتهد مصيب فلا يرد أصلًا؛ إذ لا حلال ولا حرام في نفس الأمر، وإنما هما تابعان لظن المجتهد، ويختلف بالنسبة إلى المجتهدين، فيكون حلالًا لواحد حرامًا لآخر.
وإن قلنا: المصيب واحد، فالحكم المخالف للصواب ساقط وإن تعبد به المجتهد الذي ظنه، وليس بحكم الله، وما هو إلا كالتعبد بقول المفتي
والشاهدين إذا خالفا ما في الواقع، وهذا يصلح مستندًا ويصلح نقضًا.
لا يقال: هذا بالنسبة إلى مجتهدين، لكنه يؤدي إلى تناقض عند تساوي الخبرين بالنسبة إلى مجتهد واحد، لتعارضهما من غير ترجيح.
لأنا نقول: التوقف، وهو عدم العمل بهما؛ إذ شرط العمل عدم المعارض.
أو التخيير، وهو تجويز العمل بأيهما شاء يدفع وروده.
فقوله: (وإن تساويا) جواب عن سؤال مقدر، وهو في المنتهى دليل [برأسه للجبائي].
وجل الشراح قرروا هذا المكان على وجه آخر بعيد عن كلام المصنف، فليتأمل.
قالوا ثالثًا: لو جاز التعبد به لجاز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى بأنه أرسله، وهو باطل بغير معجزة إجماعًا.
الجواب: إن العادة ثمة أفادت أن من ادعى النبوة بغير معجزة كاذب؛ لأنه يطمع في نيل الدرجة العظمى بمجرد دعوه، وهو يفضي إلى أن يدعي كل واحد نسخ شريعة الآخر، ولا يخفى ما فيه من المفاسد، فافترق من قطع بكذبه ممن ظن صدقه.
قال: (مسألة: يجب العمل بخبر الواحد، خلافًا للقاساني، وابن داود، والرافضة.
والجمهور: بالسمع، وقال أحمد، والقفال، وابن سريج، والبصري: بالعقل.
لنا: تكرر العمل به في الصحابة والتابعين شائعًا ذائعًا متكررًا من غير نكير، وذلك يقضي بالاتفاق عادة كالقول قطعًا.
قولهم: فقد أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتى رواه محمد بن مسلمة، وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدري، وأنكر خبر فاطمة بنت قيس، وأنكرت عائشة خبر ابن عمر.
قلنا: إنما أنكروا عند الارتياب.
قولهم: لعلها أخبار مخصوصة.
قلنا: نقطع أنهم عملوا لظهورها لا لخصوصها.
وأيضًا: التواتر أنه كان ينفذ الآحاد إلى النواحي لتبليغ الأحكام).
أقول: القائلون بجواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلًا، اختلفوا في وجوب العمل به، فنفاه / القاساني، وابن داود،
والرافضة.
والقائلون بوجوب العمل به، اتفقوا على أن دليل السمع دلّ عليه، واختلفوا في وجوبه بدليل العقل، فقال به أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصري، [وأباه الآخرون].
والمصنف لو قال: وأبو الحسين، وبالعقل لكان فيه رفع وهمين:
الأول: أن البصري عند الإطلاق إنما يريد به أبا عبد الله.
الثاني: اعتقاد أن هؤلاء لا يقولون بوجوبه سمعًا.
لنا: إجماع الصحابة والتابعين، بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد، وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى، وتكرر ذلك مرة بعد أخرى، وشاع وذاع بينهم ولم ينكره أحد، وكل واحدة وإن كانت آحادًا، فإن المشترك متواتر، ولا مصادرة.
لا يقال: ما ذكرتم إنما دلّ على جواز العمل سمعًا؛ لأنا نقول: لا قائل بالفرق بين الجواز و [الوقوف] سمعًا.
واعترض من وجوه:
الأول: لا نسلم أن العمل في تلك الوقائع كان بأخبار الآحاد، ولعله بغيرها، ولا يلزم من موافقة العمل حين سمعوها أن يكون العمل لأجلها.
الجواب: علم من سياق تلك الأخبار أن العمل بها، وقرائن الأحوال تدل عليه، والعادة تحيل غيره.
قالوا ثانيًا: لا نسلم عدم الإنكار؛ فإن أبا بكر أنكر خبر المغيرة حتى رواه محمد بن مسلمة، روى مالك: «أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تسأله
ميراثها، فقال لها: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال ابن مسلمة مثل ما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر السادس» ، وتمامه لفظ أبي داود.
وأنكر عمر خبر أبي موسى في الاستئذان.
وفي الصحيحين، أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثًا، فكأنه وجده مشغولًا فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا، فقال: لتقيمنّ على هذا بينة أو لأفعل.
فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا، فقال: خفي عني هذا من
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق بالأسواق.
وأنكر عمر أيضًا خبر فاطمة بنت قيس، في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فقال عمر: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري أحفظت أم نسيت.
وأنكرت عائشة خبر ابن عمر المتقدم.
والجواب: إنما أنكروا عند الارتياب وليس بمحل التنازع، وأيضًا: لا يخرج بانضمام ما ذكرتم عن كونه خبر واحد، وأيضًا: هي عليكم [لا لكم].
قالوا ثالثًا: لعلها / أخبار مخصوصة تلقوها بالقبول، فلا يلزم في كل خبر.
الجواب: أنا نعلم أنهم عملوا لظهورها في كونها صادقة، لا لخصوصياتها من موافقة ظاهر الكتاب، أو خبر متواتر، أو قياس.
وللجمهور أيضًا: أنه تواتر أنه عليه السلام كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأحكام، وقبض الزكوات، مع العلم بأن المبعوث إليهم كانوا مكلفين بالعمل بمقتضاه، وإلا لم يكن لبعثهم فائدة، وهذا إنما يتم بالنسبة إلى من تواتر عنده، وإلا فهو مصادرة، مع أن المبعوث مُفتون، ويجب على العامي العمل بقول المفتي، وليس فيه ما يدل على تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدار الأحكام ليجتهد فيها، وهو محل النزاع.
قال: (واستدل بظواهر مثل: {فلولا نفر} إلى قوله: {لعلهم يحذرون} ، إن الذين يكتمون} ، {إن جاءكم فاسق} وفيه بعد).
أقول: استدل على وجوب العمل بخبر الواحد بثلاث آيات:
وجه التمسك بالأولى: أن الله تعالى أوجب الحذر بإنذار طائفة من فرقة، والإنذار: الخبر المخوف، والفرقة: ثلاثة لغة، فالطائفة: واحد أو اثنان، وحكى الجوهري عن ابن عباس أن الطائفة: الواحد فما فوق.
ولما كان الترجي على الله محالًا، حمل على لازمه وهو الطلب، إطلاقًا للملزوم وإرادة للازم، والطلب من الله أمر، والأمر للوجوب.
وفيه نظر؛ لأن الطلب إنما يكون أمرًا لو كان مانعًا من النقيض، وكون الترجي دالًا على مثل هذا الطلب ممنوع.
قيل: الإنذار: الفتوى المخوف لقرينة ليتفقهوا.
وردّ: بأنه يلزم تخصيص الإنذار بالفتوى، وتخصيص القوم بغير المجتهدين؛ إذ المجتهد لا يعمل بفتوى الآخر، ولا يلزم تخصيص القوم بالمجتهدين، فإن الرواية ينتفع بها المجتهد وغيره، وقرينة التفقه لا تدل على الفتوى، لقوله عليه السلام:«ربّ حامل فقه» الحديث.
قيل: فيجب خروج واحد من كل ثلاثة، وهو باطل اتفاقًا.
قلنا: النص اقتضى خروج احد من كل ثلاثة، ووجوب العمل بقوله إذا رجع خص في أحدهم إجماعًا، وبقي معمولًا في الآخر.
قال المصنف: (وفيه بعد) لأن قصاراه الظهور ولا يكفي في مسائل الأول؛ إذ النزاع في وجوب العمل بالظني.
الآية الثانية: قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} تواعد على كتمان ما أنزل، ومنه السنة لقوله تعالى: {وما
ينطق عن الهوى}؛ ولأنها من الهدى، فوجب على الواحد إخبار بما سمع، ولولا وجوب العمل به لم يكن لوجوب الإخبار فائدة.
وردّ: بأن المراد بما أنزل الله القرآن، سلمنا لكن الواجب إظهاره، [ولا يجب العمل به، كما يجب على الفاسق بمقتضى الآية الإظهار، ولا يجب العمل بقوله؛ إذ قد يقصد بوجوب الإظهار] على كل واحد حتى يتألف منه ما يفيد العلم.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا} ، أمر بالتبيين في الفاسق، فدل أن العدل بخلافه؛ ولأنه علق الحكم على الوصف، وهو مشعر بعليته، فوجب العمل بخبر العدل لانتفاء علة التبيين.
وردّ: بأن ترتيب / الحكم على الوصف [يشعر] بالعلية لكنه لا يوجبها، سلمنا لكن اللازم كون خبر الواحد ليس مانعًا من القبول، فأين وجوب العمل؟ .
إلا أن يقال: كلما ثبت الجواز سمعًا ثبت الوجوب، ومفهوم المخالفة ضعيف، ولو سلم فاستدلال بظاهر في أصل.
قال: ({ولا تقف} ، {إن يتبعون إلا الظن} وقد تقدم، ويلزمهم ألا يمنعوه إلا بقاطع.
قالوا: توقف على أنه علة في خبر ذي اليدين، حتى أخبره أبو بكر وعمر.
قلنا: غير ما نحن فيه، ولو سلّم فإنما توقف للريبة بالانفراد، وهو ظاهر في الغط، ويجب التوقف في مثله).
أقول: المانعون لوجوب العمل بخبر الواحد تمسكوا بالآيتين، وقد تقدم وجه التمسك بهما والجواب عنهم.
ويلزمهم ألا يمنعوا التعبد به إلا بقاطع؛ لأن الآيتين دلتا على أن التمسك بما لا يفيد العلم لا يجوز، وما ذكروه لا عموم له، فلو سلّم فهو قابل للتخصيص.
تمسكوا من السنة، بما في الصحيحين من حديث ذي اليدين، وهو مشهور.
والجواب: أنه ليس من صور النزاع؛ لأن الكلام في وجوب العمل على الأمة بخبر الواحد منقولًا عنه عليه السلام، ولا يلزم ذلك في حقه.
سلمنا لأنه مما نحن فيه، لكنه توقف لانفراده بالإخبار بين جمع كثير في أمر الغالب عدم مثله وعدم الغفلة له، وكان ظاهرًا في الغلط، والتوقف في مثله واجب اتفاقًا.
قال: (أبو الحسين: العمل بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل واجب عقلًا، كالعدل في مضرة شيء، وضعف حائط، وخبر الواحد كذلك؛ لأن الرسول بعث للمصالح، فخبر الواحد تفصيل لها، وهو مبني على التحسين.
سلمنا: لكنه لم يجب في العقليات، بل أولى.
سلمنا: فلا نسلمه في الشرعيات.
سلمنا: وغايته قياس ظني في الأصول.
قالوا: صدقه ممكن، فيجب احتياطًا.
قلنا: إن كان أصله المتواتر فضعيف، وإن كان المفتي، فالمفتي خاص وهذا عام.
سلمنا: لكنه قياس شرعي.
قالوا: لو لم يجب لخلت وقائع.
ردّ: بمنع الثانية.
سلمنا: لكن الحكم النفي، وهو مدرك شرعي بعد الشرع).
أقول: احتج أبو الحسين على وجوب العمل بخبر الواحد عقلًا: بأن العمل بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل في العقليات كالأفراد العقلية لكل معلوم واجب عقلًا؛ لأنه لما كان اجتناب المضار واجبًا قطعًا، وجب تفاصيله عقلًا، كقبول خبر العدل في مضرة شيء معين فيحكم العقل بأن لا يؤكل، وكإخبار عدل بضعف حائط فيحكم العقل بوجوب القيام من تحته، وما ن حن فيه من ذلك؛ لأن النبي عليه السلام بعث لتحصيل المصالح ودفع المضار قطعًا، ومضمون خبر الواحد تفصيل لذلك، والخبر يفيد الظن به، فوجب العمل به قطعًا.
والجواب: أنه مبني على التحسين والتقبيح العقلي، وقد أبطلناه.
سلمنا، ولا نسلم أن العمل / بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل واجب، بل هو أولى للاحتياط، ولم ينته إلى الوجوب.
سلمناه في العقليات، ولا تقاس الشرعيات عليها، لعدم الجامع الذي هو شرط القياس، وظهور الأذى.
سلمنا، لكنه قياس ظني فلا يفيد إلا الظن؛ لجواز كون خصوصية الأصل شرطًا، وخصوصية الفرع مانعًا، للأدلة المانعة من الظن، ثم إن المسألة أصولية لا يجزي فيها الظن.
احتج الباقون: بأن صدق العدل ممكن، فيجب العمل به احتياطًا.
الجواب: أنه قياس لم يتبين فيه الأصل، فإن كان أصله المتواتر [فضعيف للفرق؛ إذ المتواتر] يفيد العلم، ولذلك وجب اتباعه لا للاحتياط، فالجامع ملغى، وإن كان أصله فتوى المفتي فضعيف أيضًا للفرق؛ إذ حكم المفتي خاص بمقلده، وحكم خبر الواحد عام.
سلمنا، لكنه قياس فلا يفيد إلا الظن والمسألة علمية، ثم هو شرعي لا دليل عقلي، ومطلوبكم وجوب العمل به عقلًا.
ولهذه الفائدة غيّر المصنف العبارة، فقال في جواب دليل أبي الحسين:(قياس ظني)، وقال هنا:(قياس شرعي).
احتجوا ثانيًا: بأنه لو لم يجب العمل به لخلت وقائع عن الحكم، وهو ممتنع، أما الأولى: فلأن القرآن والأخبار المتواترة لا تفيان بالأحكام بالاستقراء، وأما الثانية: فظاهرة.
الجواب: منع الاستثنائية، وهو امتناع الوقائع عن الحكم عقلًا؛ إذ المتفق عليه امتناع خلو الوقائع التي لها دليل، لا التي لا دليل لها.
سلمناه، ونمنع الملازمة؛ لأن الحكم فيها لا دليل فيه نفي الحكم، ونفي الدليل دليل على نفي الحكم، لورود الشرع بأن ما لا دليل فيه لا حكم فيه فكان عدم الدليل لعدم الحكم مدركًا شرعيًا، فلم يلزم إثبات حاكم غير
الشرع، وقال:(بعد الشرع) لأن عدم الحكم لما استند إلى عدم الدليل وهو عقلي، والمستند إلى العقلي عقلي، أشار إلى أنه وإن كان ثابتًا قبل الشرع، لكنه بعد ورود الشرع مدرك شرعي مستند إلى الاستصحاب، وهو شرعي، [والحق أن النفي حكم عقلي].
قال: (الشرائط: منها البلوغ لاحتمال كذبه لعلمه بعدم التكليف، وإجماع أهل المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء قبل تفرقهم، مستثنى لكثرة الجناية بينهم منفردين.
والرواية بعده والسماع قبله مقبول كالشهادة.
ولقبول ابن عباس وابن الزبير وغيرهم في مثله، ولإسماع الصبيان).
أقول: لما فرغ من حكم خبر الواحد، شرع في شرائط وجوب العمل [به]، منها:
البلوغ؛ لأن غير البالغ لا يحصل الظن بصدقه؛ لأنه عالم بأنه غير مكلف فلا ينزجر عن الكذب إذ لا مانع من الإقدام عليه إلا الإثم، وقد علم انتفاؤه، ويعلم منه عدم قبول رواية المجنون.
لا يقال: أجمع أهل المدينة على قبول شهادة الصبيان المحكوم بإسلامهم في الجراح قبل تفرقهم لئلا يلقنهم الكبار، مع أنه احتيط في الشهادة ما لم
يحتط في الرواية، فاشترط الجمهور فيها العدد والحرية دون الرواية، فتكون روايتهم مقبولة بطريق الأولى، لأنا نقول: قبولها مستثنى لمسيس الحاجة إليه، لكثرة الجناية فيما بينهم، وإنما تقبل بشرط أن يكونوا منفردين [ليس بينهم كبير] ، فمنفردين ليس حالًا من كثرة الجناية كما قرره الشارحون، فلو لم تعتبر شهادتهم لضاعت الحقوق التي توجبها تلك الجنايات، والمستثنى لا يرد نقضًا كالعرايا.
واعلم أنه لم يثبت إجماع أهل المدينة، لمخالفة القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله.
وبعدم قبولها قال بعض أصحابنا، منهم: ابن عبد الحكم، واختلف قول مالك في قبولها في القتل.
واختلف المذهب في اشتراط العدد، والحرية، والذكورية، وعدم العداوة، والقرابة.
وأما لو روى بعد البلوغ ما سمعه قبل البلوغ قُبِلَ قياسًا على الشهادة بطريق الأولى، وقد تمنع الأولوية لإيجاب الرواية حكمًا عامًا.
وأيضًا: أجمع الصحابة على قبول رواية ابن الزبير، وابن عباس، وغيرهما من أصاغر الصحابة، فيما تحملوه قبل البلوغ ورووه بعده، ولم
يرد قط أنهم كانوا يسألون الراوي، هل سمعت قبل البلوغ أو بعده؟ .
وأيضًا: أجمعوا على إحضار الصبيان مجالس الرواية وإسماعهم، ولو لم يعتبر نقله لم يكن لإحضارة فائدة، وقد يمنع؛ إذ قد يحضر للتبرك، ولذلك يُحضرون من لم يميز.
قال: (ومنها: الإسلام للإجماع، وأبو حنيفة وإن قبل شهادة بعضهم لم يقبل روايته، ولقوله تعالى:{إن جاءكم فاسق بنبأٍ} ، وهو فاسق بالعرف المتقدم.
واستدل: بأنه لا يوثق كالفاسق.
وردّ: بأنه قد يوثق ببعضهم لتدينه في ذلك.
والمبتدع بما يتضمن التكفير كالكافر عند المكفر، وأما غير المكفر فكالبدع الواضحة، وما لا يتضمن كفرًا إن كان ظاهرًا كفسق الخوارج فرده قوم، وقبله قوم.
الرادّ: إن جاءكم فاسق، وهو فاسق.
القابل: نحن نحكم بالظاهر، والآية أولى لتواترها، وخصوصها بالفاسق، وعدم تخصيصها، وهذا مخصص بالكافر والفاسق المظنون صدقهما باتفاق.
قالوا: ليجمعوا على قبول قتلة عثمان.
ردّ: بالمنع، وبأنه مذهب بعض.
وأما خلاف البسملة وبعض الأصول وإن ادعى القطع، فليس من ذلك لقوة الشبهة من الجانبين، وأما من يشرب النبيذ ونحوه ويلعب بالشطرنج من مجتهد أو مقلد، بالقطع أنه ليس بفاسق وإن قلنا المصيب واحد؛ لأنه يؤدي إلى تفسيق بواجب، وإيجاب الشافعي الحدّ لظهور أمر التحريم عنده).
أقول: الشرط الثاني الإسلام؛ للإجماع على ردّ رواية الكافر، وأبو حنيفة إن قبل شهادة بعضهم [على بعض] للضرورة، صيانة للحقوق عند عدم حضور المسلمين، فقد صرح بعدم قبول روايته.
وأيضًا: قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ} ، وهو فاسق بالعرف المتقدم، وإن كان لا يسمى فاسقًا بالعرف المتأخر إلا المسلم صاحب الكبيرة، والآية وإن لم تكن عامة بلفظها، فهي عامة بحسب المعنى المومأ إليه وهو الفسق.
واستدل: بأن الكافر لا يوثق بقوله، فلا يقبل كالفاسق.
وضعف: بأنه قد يوثق ببعضهم لظهور تدينه في ذلك الدين، مع تحريم
الكذب فيه.
أما المبتدع، فإن كانت بدعته تتضمن كفرًا، فهو كالكافر عند من كفّره، وأما من لم يكفره فهو عنده كمرتكب البدع الواضحة.
وأما المبتدع بما لا يتضمن كفرًا، فإن لم يكن واضحًا، فلا نزاع في قبوله وسنذكره آخر الفصل.
وإن كان واضحًا، كفسق الخوارج الذين استباحوا الدماء والأموال، فرده القاضي أبو بكر وجماعة، وقبله الأكثرون ما لم يكن ممن يدعوا إلى بدعته، وقبله آخرون مطلقًا ما لم يكن ممن يستحل الكذب.
احتج الراد: بقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأٍ} وهو فاسق، ولا فرق بين متأول أو غير متأول، كما لا فرق بين كافر متأول أو غيره.
واحتج القابل: بقوله عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» وهو ظاهر الصدق؛ لأنه يعظم الدين ويتوقى الكذب، ولا يعلم فسق نفسه، وقد تقدم الكلام عن هذا الحديث.
قال المصنف: (ومذهب الراد أولى) لأن الآية أولى بالعمل من الحديث لتواترها، والخبر آحاد، ولا نزاع في تقديم المتواتر، ولخصوصها بالفاسق، وعموم الحديث في الفاسق وغيره، ودلالة الخاص على ما يتناوله لا شك فيه والعام يحتمل عدم تناوله لذلك الخاص، بأن يكون مخرجًا عنه.
وأيضًا: الآية غير مخصصة؛ إذ كل فاسق مردود، والحديث مخصص؛ لأن خبر الكافر والفاسق العالم بفسق نفسه وإن ظن صدقهما لا يعمل بقولهما اتفاقًا، وإذا تعارض ما دخله التخصيص وما لم يدخله، قُدم ما لم يدخله، على ما سيأتي في الترجيح.
واعلم أن أولى ما تمسك به القائل اتفاق المحدثين على الرواية عنهم، ففي الصحيحين كثير من أحاديثهم.
احتج القابل: بإجماع الصحابة على قبول رواية قتلة عثمان، ولا
نزاع في أنها بدعة واضحة.
الجواب: منع الإجماع، وثانيًا: بأن فسق القتلة ليس مجمعًا عليه، بل هو مذهب / بعضهم، وبعضهم يراه اجتهاديًا، مع أن القتلة من أهل الإجماع، أو نقول: قبول روايتهم مذهب بعضهم.
أما ما لا يكون بدعة واضحة، فلا يوجب رد الرواية إن كان في غير الفروع، كالخلاف في أن البسملة من القرآن، وبعض مسائل الأصول كإثبات التكوين والبقاء صفتين، فإنه وإن ادعى الخصم القطع فليس من قبيل البدع الواضحة لقوة الشبهة من الجانبين، وكذا إن كان من الفروع كم يشرب النبيذ ويلعب الشطرنج من مجتهد يرى ذلك حلالًا أو مقلد له في ذلك، فالقطع أنه ليس بفاسق.
إما إن قلنا: كل مجتهد مصيب فواضح، وإن قلنا: المصيب واحد؛ فإنه يجب عليه العمل على وفق ظنه، وعلى المقلد بفتواه، فيؤدي إلى تفسيق بما يراه واجبًا عليه، وذلك فيما يكون واجبًا عند مجتهد حرامًا عند آخر.
فإن قيل: لو لم يكن فاسقًا قطعًا لما حُدَّ، لكن الشافعي قال بوجوب
الحدّ.
قلنا: الشافعي أوجب الحدّ لظهور أمر التحريم عنده، لا لأنه فاسق، ولذلك [قبل] شهادته.
والعجب من المصنف حيث لم يذكر مذهب مالك، وهو يقول: يُحدّ ولا تقبل شهادته.
وقد قال بعض أصحابنا: إن ذلك منه بناء على أنه فاسق قطعًا، والظاهر أنه فاسق ظنًا عنده، لكن لم يبعض الحكم كما فعل الشافعي، وإنما لم يذكره لكونه يبطل له القطع الذي ادعاه، على أنه اختار في كتابه في [الفقه] القول الآخر المتأول على مالك من أنه لا يحدّ وتقبل شهادته، وصححه جمع من متأخري المالكية، إلا أن يحمل على بعد على سلب القطع بفسقه.
الثالث: رجحان ضبط الراوي على سهوه؛ إذ مع المرجوحية والمساواة لا يترجح طرف الإصابة، فلا يحصل الظن.