الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(الإجماع:
العزم والاتفاق.
وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر.
ومن يرى انقراض العصر، يزيد: إلى انقراض العصر.
ومن يرى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميت أو حي وجوَّز وقوعه، يزيد لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر.
الغزالي: اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على أمر من الأمور الدينية.
ويرد عليه: أنه لا يوجد ولا يطرد بتقدير عدم المجتهدين، ولا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلي أو عرفي).
أقول: لما فرغ من السنة، شرع في الإجماع، وقد اشتمل على مقدمة مسائل.
أما المقدمة: ففي تعريف الإجماع، وإمكانه، وإمكان العلم به، وإمكان نقله عنهم إلينا، وفي كونه حجة.
أما تعريفه: فهو في اللغة العزم، يقال: أجمع فلان على كذا، إذا عزم عليه، ومنه قوله تعالى:{فأجمعوا أمركم} .
وهو أيضًا: الاتفاق، يقال: أجمعوا على كذا، إذا اتفقوا عليه.
وفي اصطلاح الأصوليين: اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على
أمر [من الأمور الدينية].
فـ (اتفاق) كالجنس.
وقوله: (المجتهدين) يخرج اتفاق العامة، أو اتفاق بعض المجتهدين، فلا [يعتبر العامي دخولًا وخروجًا] ، ويشمل اتفاقهم قولًا أوفعلًا، أو بعضهم قولًا أو فعلًا، وبعضهم اعتقادًا.
وقوله: (من هذه الأمة) يخرج اتفاق المجتهدين من الشرائع السالفة.
وقوله: (في عصر) ليندرج فيه إجماع كل عصر أي زمان، قلّ أو ك ثر، وإلا أوهم أنه لا يحصل إجماع إلى يوم القيامة.
وقوله: (على أمر) يتناول الدينية والدنيوية، والإثبات والنفي، والعقلي والعرفي والشرعي.
والحق أن الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية أخص مما ذكر، وهو اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على حكم شرعي عن اعتقاد.
ثم اعلم أن هذا التعريف لمن لم يشترط في الإجماع انقراض العصر، أما من اشترطه فلابد أن يزيد في التعريف: إلى انقراض العصر، ليوافق مذهبه.
ومن قال: إن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من ميت أو حي وجوّز وقوع هذا الاتفاق بعد استمرار الخلاف، يزيد في التعريف: لم
يسبقه خلاف مجتهد مستقر.
ولما كان المصنف يجوّز هذا الاتفاق مع سبق الخلاف، لاسيما مع المخالف القليل ويراه إجماعًا، لم يحتج إلى هذه الزيادة.
قال التستري: لا يحتاج إلى هذه الشروط؛ لأن الحدَّ إنما هو للماهية لا للإجماع الذي هو حجة، وإلا لم يطرد لصدق الحدّ على الإجماع الصادر في زمانه عليه السلام مع أنه ليس بحجة.
قلت: الحق أنه [لا معنى للترديد، وهو حدّ لماهية الإجماع المصطلح، فيحتاج إلى الشرائط، وهو أحد] الأدلة الشرعية والذي ثبتت حجيته، فلا يرد عليه شيء؛ إذ اتفاقهم في زمانه مبني على جواز اجتهاد معاصريه وعلى جواز فإنما يكون بعد استفراغ الوسع، وذلك لا يكون إلا بعد أن يسألوه عليه السلام، فإذا أجمعوا بعد ذلك منعنا عدم حجيته، نعم يرد ما قدمنا.
وعرَّفه الغزالي: بأنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور الدينية.
وزيَّفه المصنف: بأنه لا يوجد إجماع، فإنه اعتبر أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يتناول المسلمين إلى يوم القيامة فحقيقته جميعهم ولا يتصور اجتماعهم، وعلى تقدير تخصيصه ببعض فلا يطرد بتقدير اتفاق الأمة مع عدم المجتهدين، وأيضًا لا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلي أو عرفي ضرورة اعتبار قيد الدينية.
قلت: ومع ظهور ورودها، فهو خير من تعريفه؛ لأنها تدفع بالعناية بأن يكون أراد اتفاق المجتهدين في عصر، وسبق ذلك إلى فهم أهل الشرع، وكذا فُهم من «لا تجتمع أمتي على الضلالة» ؛ إذ المراد المجتهدون، فكأنه حافظ على لفظ الحديث.
وأما الاعتراض الأخير، فالاتفاق إن تعلق به عمل أو اعتقاد فهو أمر ديني، وإلا فلا يتصور حجيته، والغزالي إنما عرّف الإجماع الشرعي.
قال: (وخالف النظَّام وبعض الروافض في ثبوته، قالوا: انتشارهم يمنع نقل الحكم إليهم عادة.
وأجيب: بالمنع؛ لجدهم وبحثهم.
قالوا: إن كان عن قاطع، فالعادة تحيل عدم نقله، والظني يمتنع الاتفاق فيه عادة لاختلاف القرائح.
وأجيب: بالمنع فيهما، فقد يستغنى عن ن قل القاطع بحصول الإجماع وقد يكون الطني جليًا.
قالوا: يستحيل حصوله عنهم عادة؛ لخفاء بعضهم، أو انقطاعه، أو خموله، أو أسره، أو كذبه، أو رجوعه قبل قول الآخر، ولو سُلّم فنقله مستحيل عادة؛ لأن الآحاد لا يفيد، والتواتر بعيد.
وأجيب عنهما: بالوقوع، فإنّا قاطعون بتواتر النقل بتقديم النص
القاطع على المظنون).
أقول: لما فرغ من تعريفه، شرع في ثبوته؛ لأن حجيته فرع ثبوته.
ذهب الجمهور إلى مكان ثبوته، وخالف النظام وبعض الروافض في إمكان ثبوته، والمصنف يظهر من كلامه أن الخلاف في وقوعه، وأن النظام استحال وقوعه عادة، والذي في الإحكام والمحصول هو ما ذكرنا.
واحتجوا بوجهين:
الأول: اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم، لكن انتشارهم في أقطار الأرض يمنع نقل الحكم إليهم، والعادة تقضي بذلك.
أجاب: أنّا نمنع أن انتشارهم يمنع عادة نقل الحكم إليهم مع جدهم وبحثهم عن الأحكام وعن الأدلة، وإنما يمتنع فيمن قعد في بيته لا يطلب ولا يبحث، أما الباحث فيمكن قطعًا نقل الحكم إليه وإن كان في أقصى الأرض.
الثاني: لا يمكن اتفاقهم؛ لأن اتفاقهم لا يكون عن قطعي ولا لنقل؛ لأن العادة تحيل عدم نقل القاطع؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، فلما لم ينقل علم أنه لا يوجد، ثم لو نقل لأغنى عن الإجماع، ولا يكون عن ظني؛ لأنه يمتنع الاتفاق عنه عادة؛ لاختلاف القرائح، وتباين الأقطار، كاتفاقهم على أكل طعام واحد في ساعة / واحدة، فإنه معلوم الانتفاء بالضرورة، وما ذلك إلا لاختلاف الدواعي.
أجاب: بمنع ما ذكر في كل من القسمين، أما القاطع فلا يجب نقله عادة؛ إذ قد يستغنى بحصول الإجماع الذي يرفع الخلاف المحوج إلى نقل الأدلة، وأما الظني فإنه يكون جليًا، واختلاف القرائح والأنظار إنما هو في الخفي دون الجلي.
ثم شرع في المقام الثالث وهو النظر في ثبوته عنهم، أعني العلم باتفاقهم، وفي الإحكام والمحصول: أن المجوزين لانعقاد الإجماع اختلفوا.
فذهب أكثرهم إلى إمكان العلم به، وذهب الأقلون إلى امتناع العلم به، وظاهر كلام المصنف أن هذا من جهة مانعي الانعقاد، أي ولو أمكن منهم فلا يمكن العلم به عندهم عادة.
وتقريره: أن العادة قاضية بأنه لا يتفق أن يثبت عن كل واحد من علماء المشرق والمغرب أنه حكم في مسألة كذا بحكم كذا؛ إذ لا يعرفون بأعيانهم فضلا عن تفاصيل أحكامهم لخفاء بعضهم، بحيث لا يعلم وجوده البتة، أو انقطاعه بعد العلم بوجوده، فصار بمعزل عن الناس، بحيث لا يسأله أحد، أو يكون خاملا لا يعرف أنه مجتهد، أو أسر فلا يقدر على علم ما عنده، أو كذبه بحيث يقول رأيي كذا وهو يعتقد خلاف ذلك، والعبرة بالاعتقاد لا باللفظ، أو بتغيير اجتهاد بعضهم فيرجع قبل قول الآخر، وإنما قيد بقوله:(قبل قول الآخر) لأنه لو رجع بعد قول الآخر لم يعتبر وكان خالقًا للإجماع والأولى ضبط الآخر بكسر الخاء، أي رجوعه قبل قول آخر المجتهدين؛ إذ لا
د
يكون خارقًا إذا رجع بعد قول شخص آخر لا يكون آخرهم، إلا أن يريد بالآخر من عدا الراجح فيصح بفتح الخاء، وفيه بُعْد، ثم هذا إنما يكون خارقًا عند من لا يرى انقراض العصر.
ثم شرع في المقام الرابع وهو النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به، أي سلمنا جواز حصوله عنهم لمن سمعه منهم، أما نقله لمن يستدل به فمستحيل عادة؛ لأن نقله إما بالآحاد ولا يفيد العلم، والإجماع أصل من الأصول فلا يثبت بما ليس بقطعي، أو نقول: ولا يجب العمل بالإجماع بنقل الواحد على ما سيأتي.
وإما بالتواتر فبعيد جدًا؛ إذ يجب استواء الطرفين والوسط، ومن البعيد جدًا أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقًا وغربًا، ويسمعوا منهم وينقلوا عنهم إلى أهل طبقة طبقة حتى يصل إلينا.
ثم أجاب المصنف: بمنع استحالة المقامين؛ لأن الوقوع فرع الجواز، ونحن قاطعون بإجماع الصحابة على تقديم النص القاطع على غيره بسبب النقل المتواتر.
قال في المنتهى: «وجوب الثالث والرابع الوقوع، فإنا لا ننكر أنه تتواتر عن كل واحد من الصحابة تقديم النص المقطوع به على غيره» .
قال: (وهو حجة عند الجميع.
ولا يعتد بالنظّام، وبعض الخوارج، والشيعة.
وقول أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب» ، استبعاد لوجوده).
أقول: ذهب جمهور المسلمين إلى أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم كما يجب العمل بالكتاب ونحوه، ولا عبرة بخلاف النظام وبعض الخوارج والشيعة؛ لأنهم نشأوا بعد الاتفاق؛ ولأنهم من أهل البدع، فلا يعتبرون على ما سيأتي، وما روي عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه / في إحدى الروايتين من قوله:«من ادعى الإجماع فهو كاذب» ، فهو استبعاد منه أن يطلع عليه أحد، لا أنه أنكر حجيته بتقدير الاطلاع عليه، ومعنى استبعاد وجوده، أي استبعد أن يجده الشخص ولا يطلع عليه غيره، لا أنه استبعد أن يوجد في الواقع، فيرجع في الحقيقة إلى استبعاد الوجدان لا الوجود.
وحمل كلام المصنف على هذا أولى، ليساعد ما نقل في الإحكام؛ ولأن الحجية فرع الوجود، فلا تثبت الحجية ما لم يثبت الوجود، وليست فرع الوجدان، وإنكار الشيعة حجيته من حيث إنه إجماع، وإلا فهو عندهم
حجة لاشتمال على قول الإمام المعصوم.
قال: (الأدلة منها: أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف، والعادة تحيل إجماع مثل هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على قطع في شرعي من غير قاطع، فوجب تقدير نص فيه.
وإجماع الفلاسفة، وإجماع اليهود، وإجماع النصارى غير وارد.
لا يقال: أثبتم الإجماع بالإجماع؛ إذ أثبتم الإجماع بنص يتوقف عليه؛ لأن المثبت كونه حجة ثبوت نص عن وجود صورة منه بطريق عادي، لا يتوقف وجوده ولا دلالتها على ثبوت كونه حجة، فلا دور.
ومنها: أجمعوا على تقديمه على القاطع، فدل على أنه قاطع، وإلا تعارض الإجماعان؛ لأن القاطع مقدم.
فإن قيل: يلزم أن يكون المحتج عليه عدد التواتر، لتضمن الدليلين ذلك.
قلنا: إن سلم فلا يضر).
أقول: شرع الآن في الاحتجاج على حجية الإجماع، احتج على ذلك بأدلة من الكتاب، والسنة، والمعقول.
وقدم ما تعلق بالعقل؛ لإفادته عنده كون الإجماع حجة قطعية، بخلاف ما تعلق بالكتاب والسنة، فإنهما لا يدلان إلا على كونه حجة ظنية.
توجيه الأول أن يقال: الإجماع دلَّ القاطع على تخطئة مخالفه، وكلما دلّ القاطع على تخطئة مخالفه فهو حجة قطعية، فالإجماع حجية قطعية، أما الكبرى فظاهرة.
وأما الصغرى؛ فلأنه لو لم يدل القاطع على تخطئة مخالف الإجماع بعد انعقاده لا قبله وإلا لم يكن إجماعًا، ولما أجمع مثل هذا العدد الكثير من العلماء المحققين على القطع بتخطئة مخالف الإجماع، لكنهم أجمعوا على القطع بتخطئة مخالف الإجماع بالنقل المتواتر عنهم بذلك.
بيان اللزوم: أن العادة تحيل اجتماع هذا العدد الكثير من العلماء المحققين المجتهدين على القطع في حكم شرعي من غير نص قاطع يكون سندًا لقطعهم والعادة أصل يستدل به، كما يستدل بها على بطلان دعوى وجود معارض للقرآن يوجب تقدير نص قاطع دال على الحكم المجمع على تخطئة مخالفه.
قلت: وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنا نمنع الصغرى بمنع الاستثنائية في الدليل الذي استدل به على صحتها؛ لأن أحمد قد أنكر الوجدان، ومن خالف ما لم يتحقق وجوده، كيف يكون مخطئًا فضلًا عن القطع بتخطئته، ثم جماعة من محققي الأصول كالإمام فخر الدين وغيره يرونه حجة ظنية، وهو [أقرب] ، ومخالف الظني لا يقطع بخطئه.
وأيضًا على مذهب القاضي الذي يعتبر موافقة العامي في حجية الإجماع، فكيف يوجد؟ .
ثم أورد المصنف على نفسه سؤالًا توجيهه: إن الفلاسفة أجمعوا على القطع بقدم العالم، واليهود أجمعوا على القطع بكون النبي عليه السلام متنبئًا وكذا النصارى على أن عيسى قد قتل، وليس إجماعهم عن قاطع؟ .
ثم أجاب: بأنه غير وارد، أما أولًا: فنمنع الإجماع.
وثاني: نفرق؛ لأن سند الإجماع الشرعي نص قاطع، وهو لا يحتمل الخطأ، وسند إجماع الفلاسفة العقل وهو يخطئ.
واليهود والنصارى ليسوا قاطعين، بل مستندين إلى آحاد الأوائل، بل قد أخبر الله تعالى بكذب اليهود، حيث قال تعالى:{يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} .
ثم أورد على نفسه سؤالًا آخر توجيهه: إن ما ذكرتم ملزوم لإثبات الشيء بنفسه، أو لإثباته بما يتوقف عليه، وملزوم الفاسد فاسد، لأنكم إن قلتم: أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف فيكون الإجماع حجة، فقد أثبتم الإجماع بالإجماع، وإن قلتم: الإجماع دلّ على نص قاطع في تخطئة المخالف، فقد أثبتم الإجماع بنص يتوقف عل الإجماع؟ .
ثم أجاب عنه: بأن المثبت حجية الإجماع لا نفسه، ومثبته وجود نص
قاطع دلّ عليه وجود صورة من الإجماع يمتنع عادة وجود تلك الصورة بدون ذلك النص القاطع، سواء قلنا الإجماع حجة أم لا، ثم ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها العادية على وجود النص القاطع لا يتوقف على كون الإجماع حجة؛ لأن ثبوت تلك الصورة بالتواتر، ودلالتها على النص بالطريق العادي.
فالحاصل: أن الذي جعلنا وجوده دليلًا على حجية الإجماع، لا يتوقف وجوده ولا دلالته على حجية الإجماع، بل فرد من أفراد الإجماع مثبت للنص، والنص مثبت لحجية الإجماع.
قيل: إذا كان المثبت لطريق النص هو الطريق العادي، فلا حاجة إلى التمسك في حجية الإجماع بالإجماع على تخطئة المخالف، لجواز أن يقول: ابتداء الإجماع حجة؛ لأن العادة إلى آخره، وإذا تضمن كل إجماع نصًا قاطعًا، كان كل إجماع حجة.
ردَّ: بأن التمسك بالعادة في كل إجماع لا يقتضي وجود القاطع، وإلا لزم أن يكون سند كل إجماع قطعيًا، وإنما احتيج إلى ما ذكر من حيث أن العادة في مثل هذا الإجماع توجب وجود قاطع؛ إذ القطع بتخطئة المخالف يحيل عدم القاطع فيه عادة، فيكون هذا الإجماع القطعي دالًا على تخطئة مخالف كل إجماع، فيكون كل إجماع قطعيًا.
الدليل الثاني من الأدلة العقلية على كون الإجماع حجة قطعية:
إذا علمنا بالتواتر أن العلماء المحققين أجمعوا على تقديم الإجماع على النص القاطع، فدلّ على أنه حجة قطعية، وإلا لزم تعارض الإجماعين؛ لأنا علمنا بالتواتر عنهم أيضًا أنهم أجمعوا على تقديم القطعي على الظني، وتعارض الإجماعين يستلزم خطأ أحدهما، وخطأ الإجماع باطل لما سيأتي، مع أن العادة تقضي بامتناع التعارض بين أقوال هذا العدد من العلماء المحققين.
قلت: وفي هذا الدليل نظر؛ لأنا أولًا نمنع أنهم أجمعوا على تقديمه على القاطع، وفي المنهاج وغيره إذا عارضه نص أول القائل له وإلا تساقطا، [ولو سلم عدم التساقط، فإنما يقدم الإجماع إذا كان سنده قطعيًا وإلا كان الإجماع خطأ، ولا نزاع أصلا في إجماع سنده قاطع أنه قطعي، وإنما النزاع في ما سنده ظني ولم يدل عليه دليل أنه حجة قطعية]، [فإن تمسك به على وجه آخر بأن يقول: أجمعوا أنه لا يقدم القاطع عليه، وقد أجمعوا على تقديم القاطع على الظني، فلو كان ظنيًا تعارض الإجماعان.
قلنا: لا يتصور إجماع يقابله قاطع؛ لأنه يكون خطأ؛ إذ قصارى سنده أن يكون قطعيًا آخر ولا يصح، لأن تعارض القطعيين محال لاستلزامهما
النقيضين].
ثم أورد على نفسه سؤالًا على الدليلين مع الجواب عنه، توجيهه: أن مقتضى الدليلين أن الإجماع الذي يكون حجة هو ما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر؛ لأن العادة إنما تحيل اجتماع العدد الكبير على القطع في [شرعي] من غير قاطع [إذا بلغوا عدد التواتر والعادة أيضًا إنما تقضي بامتناع التعارض بين أقوال مثل هذا العدد، وما قصر عن ذلك لا يقدم قولهم على القاطع.
أجاب أولًا: بالمنع، وأن الدليل ناهض من غير تقييد ولا اشتراط لبلوغ عدد التواتر؛ لأنهم خطأوا المخالف وقدموه على القاطع مطلقًا، والعادة تحيل اجتماع العدد الكثير على القطع من غير قاطع] ، بلغوا عدد التواتر أم لا وتحيل التعارض بين أقوال العدد الكثير من العلماء، بلغوا حدّ التواتر أم لا.
سلمنا، ولا يضر إذ الغرض حجية الإجماع في الجملة وقد صح، لا أن كل إجماع يكون قطعيًا.
أو نقول: اللازم أن القاطعين بتخطئة المخالف والذين قدموا الإجماع على النص القاطع عددهم عدد التواتر، لا كون المجمعين عدد التواتر، فما لزم عدم التواتر إلا في الإجماعين المذكورين ولا يضر، وهذا أظهرها.
أو نقول: يلزم إذا كان المجمعون عدد التواتر كون الإجماع قطعي، وذلك لا ينفي حجية إجماع قصروا فيه عن عدد التواتر، على أن أكثر ما
يستدل به من الإجماع كإجماع الصحابة والتابعين قد بلغوا عدد التواتر.
ولم يورد المصنف على الدليل الأخير ما أورد على الأول من إثبات الشيء بنفسه، استغنى بما تقدم من الجواب، ولو أخّره إلى أن يورد على الدليلين كما فعل في هذا الإيراد الأخير لكان أولى؛ لعموم وروده عليهما مع كون الجواب عنهما واحد.
قال: (الشافعي: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} وليس بقاطع لاحتمال في متابعته، أو مناصرته، أو الاقتداء به، أو في الإيمان، فيصير دورًا؛ لأن التمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، بخلاف التمسك بمثله في القياس.
الغزالي: بقوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي» من وجهين:
أحدهما: تواتر المعنى، كشجاعة عليّ، وجُود حاتم، وهو حسن.
والثاني: تلقي الأمة لها بالقبول، وذلك لا يخرجها عن الآحاد).
أقول: شرع الآن فيما تمسك به على حجية الإجماع مما يرى صحته.
الأول منها: متمسك الشافعي وهو قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} .
ووجه التمسك بها: أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول التي هي حرام إجماعًا وبين اتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فيكون اتباع غير سبيل
المؤمنين حرامًا، وإلا لم يجمع بينه وبين الحرام في الوعيد، ثم الوعيد على كل واحد واحد لا على الكل؛ لأن المشاقة مستقلة بذلك، فكان اتباع سبيل المؤمنين لغوا حينئذ، وإذا حرم اتباع غير سبيلهم، وجب اتباع سبيلهم؛ إذ لا مخرج عنهما، والإجماع سبيلهم؛ إذ السبيل ما يختاره العامل قولًا أو فعلًا فيجب اتباعهم في قولهم وفتواهم، ولا نعني بكون الإجماع حجة إلا ذلك.
واعترض على المتمسك بهذه الآية بقريب ثلاثين اعتراضًا، أقواها ما ذكره المصنف: أن هذا التمسك أولاً ليس بقاطع، فلا يفيد من يرى / الإجماع حجة قطعية.
ثم لو احتج به من يرى الإجماع حجة ظنية ويرى أن الأصول تثبت بالظاهر، لزمه الدور، أما أنه ليس بقاطع؛ فلأن قوله:{ويتبع غير سبيل المؤمنين} يحتمل وجوها من التخصيص، أي ويتبع غير سبيلهم في متابعة الرسول، أو غير سبيلهم في مناصرته، أو غير سبيلهم في الاقتداء به، أو غير سبيلهم في الإيمان به، إذ دلالة العام على فرد من أفراد عينًا ليس بقطعي لجواز إخراج، غايته أنه ظاهر في جميعها، والتمسك بالظاهر إنما تثبت بالإجماع، ولولاه لم نعمل بالظن للأدلة الدالة على منع العمل بالظن، فيكون إثباتًا لحجية الإجماع بما لا تثبت حجيته إلا بالإجماع فيصير دورًا، وإذا سلكنا في الاعتراض هذا الطريق - لا طريق من قال إنه إثبات أصل كلي بدليل ظني فلا
يجوز - لم يرد علينا نقضًا؛ لأنا [إن] أثبتنا القياس بالظاهر [إذن] فالعمل بالظاهر غير مثبت فلا دور، واعمل أن الاحتمالات الأربعة التي ذكرها المصنف ترجع إلى ثلاثة؛ إذ الثالث يغني عنه الأول.
قيل: إنما يلزم الدور لو لم يدل على العمل بالظاهر غير الإجماع وهو ممنوع؛ لجواز أن يكون ثمة نص قاطع أو استدلال قاطع، كما يقال: الظاهر مظنون، وكل مظنون يجب العلم به قطعًا؛ لأنه لو لم يعمل بواحد من النقيضين يلزم رفعهما، وإن عمل بهما يلزم اجتماعهما، وإن عمل بالمرجوح يلزم خلاف صريح العقل.
قلت: وهذا ضعيف، أما قوله: لجواز أن يكون ثمة قاطع، الأصل عدمه، ولو كان لاطلع عليه، وأما الاستدلال القطعي فقد تقدم أول الكتاب ما فيه؛ إذ لا يلزم من عدم العمل بهما رفعهما؛ إذ قد يكون عدم العمل لعدم الجزم بأحدهما، مع أن الواقع لا يخلوا من أحدهما، والمحال إنما هو ارتفاعهما في الواقع.
سلمنا، ونختار القسم الآخر.
قوله: خلاف صريح العقل، إنما يلزم ذلك لو كان المرجوح عنده هو المرجوح في الواقع، وهو غير لازم، إذ قد يكون ظنه غير مطابق، ثم هو مبني على حكم العقل، ولا مجال له في الأحكام الشرعية عندنا.
الثاني: متمسك الغزالي وهو قوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي» ولفظه عند أبي داود: «إن الله أجازكم من ثلاث خلال: ألا يدعوا عليكم نبيكم فتهلكوا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة» ، وفي إسناده مقال، ورواه الترمذي ولفظه:«لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة [أبدًا]» وقال: «غريب من هذا الوجه» ، وفي إسناده سليمان بن سفيان وقد ضعفه الأكثرون.
وخرّجه الحاكم والدارقطني وعللوه، والتمسك به من وجهين:
أحدهما: أن معناه متواتر، فقد روي عنه عليه السلام:[«لا تجتمع أمتي على ضلالة» وروي عنه]: «لا تزال طائفة من أمتي على حق» وروي عنه «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» ، وروي «يد الله مع الجماعة» ، وروي:«عليكم بالسواد الأعظم» ، إلى غير ذلك مما دلّ على هذا المعنى من الأحاديث الكثيرة، فيكون القدر المشترك بينها وهو نفي الخطأ عنهم قطعي؛ لأن القدر المشترك تضمنته هذه الأخبار،
كقطعنا بشجاعة عليّ، وجود حاتم، ولم يتواتر إلا / القدر المشترك.
واستحسن المصنف هذا المتمسك وليس بحسن، بل هو أضعف من متمسك الشافعي الذي ردّه؛ إذ لم يرد من طريق صحيح ذكر الخطأ، والذي فيه ذكر الضلالة قد سمعت ما فيه.
وجميع الأحاديث الأخر لا تدل على حجية الإجماع، ولو سلّم فليس فيها نص صريح في وجوب العمل بالإجماع، والضلالة والخطأ ظاهران في مدلوليهما، فجاز أن يكون المراد من الضلالة والخطأ الكفر والبدعة إلى غير ذلك، فجاء الدور، مع أن اللازم أنهم لا يجتمعون على خطأ، ولا يلزم أن يكون قول غيرهم خطأ إلا بعد تحقق أن المصيب واحد، وفيه ما فيه.
الوجه الثاني من التمسك: أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة متمسكًا بها على هذا المعنى، ولم يطعن فيها بعدم حجة، بل تلقوها كلهم بالقبول، فلولا أنها صحيحة قطعًا لقضت العادة بامتناع الاتفاق على قبولها.
وزيفه المصنف: بأن تلقي الأمة لها بالقبول لا يخرجها عن كونها أخبار آحاد، فلا تفيد القطع بحجية الإجماع، أو لا تفيد حجيته أصلًا، إما لكونه أصلا من الأصول، والأصول لا تثبت بالظاهر، أو للزوم الدور، وقد زعم طائفة أن ما تلقي بالقبول يفيد العلم.
قال ابن الصلاح: وأحاديث البخاري ومسلم تلقتها الأمة بالقبول
فتكون قطعية، للعلم النظري بأنهم ظنوا صحتها، وظن الجميع لا يخطئ؛ لأنهم معصومون كالإجماع عن اجتهاد، وكذا ما انفرد به أحدهما، ولا فرق بينه وبين المتواتر، إلا أن إفادة المتواتر العلم ضرورية وإفادة هذا نظرية، سوى ما أخذ فيه على البخاري ومسلم وقدح فيه مُعتَمدٌ من الحفاظ، فهو مستثنى بما ذكرنا، لعدم الإجماع على ما تلقته بالقبول.
وهذا الذي قال ابن الصلاح فاسد؛ لأن تلقي الأمة لها بالقبول أفادنا وجوب العمل بها من غير بحث عن صحتها، بخلاف غيرها من أخبار الآحاد إنما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها، وهذا هو المراد من قولهم: أجمعوا على صحة ما فيها، بمعنى لا يحتاج إلى نظر في صحتها، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيها من غير بحث عن الصحة إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يوضح فساده: أن المجتهد إذا ظن حكمًا فمظنونه هو حكم الله في حقه بالإجماع، فيقال: أجمعوا على أن مظنونه هو حكم الله في حقه، فيلزم أن يكون هو حكم الله في حقه في نفس الأمر قطعًا لأنهم معصومون، وهذا لا يتم عند المحققين وهم الذين يرون المصيب واحدًا، فهم مصيبون في عملهم بالظن وإن كان في نفس الأمر على غير ذلك، كما يكون المجتهد مصيبًا في العمل بظنه وإن كان في نفس الأمر على غير ذلك.
ثم يلزم من خالف حديثًا قطعي الدلالة منها ولم يعلم به أن يكون كافرًا أو عاصيًا، وكثير منها لم يعمل على وفقه مالك، ولا الشافعي، ولا أبو
حنيفة، ولا أحمد، لا لمعارض قطعي، بل لمعارض ظني من خبر آحاد آخر لم يخرجاه، أو لقياس، ثم هذا كله إنما يتم على تقدير كون الإجماع حجة قطعية.
ولقائل أن يقول: لا دليل قطعي على حجية الإجماع، ولا تثبت حجيته بالظني للزوم الدور كما سبق، فلا تثبت حجيته.
ولهذا قال بعض حذاق الأصوليين المتأخرين: «الإجماع مشكل» .
وإنما أطنبت / في الردّ عليه لقوله: «وكنت أميل إلى أن ما اتفقا عليه مظنون وأحسبه مذهبًا قويًا، وقد بان لي أنه ليس كذلك، وأن الصواب أنه يفيد العلم النظري» .
قال: (واستدل: إجماعهم يدل على قاطع في الحكم؛ لأن العادة امتناع إجماع مثلهم على مظنون.
وأجيب: بمنعه في الجلي وأخبار الآحاد، بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر).
أقول: احتج إمام الحرمين على حجية الإجماع بدليل، توجيهه: أن الإجماع يدل على وجود دليل قاطع في الحكم المجمع عليه؛ لأن العادة تقضي بامتناع إجماع مثلهم على مظنون؛ لاختلاف القرائح المانعة من الاتفاق على مظنون.
أجاب: بأنا نمنع أن العادة تقضي بامتناع إجماعهم على مظنون، إنما ذلك في مظنون يدق فيه النظر، أما في القياس الجلي وأخبار الآحاد بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر فلا، قيل: صوابه بعد العلم بجواز العمل الظاهر، لا بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر؛ لأنه إنما ثبت به الإجماع على ما تقدم له، فلا يصح سندًا لمنع الملازمة.
قلت: ولا يلزم لما سنذكر، ثم للقائل أن يقول: جواز العمل بالظن مستند إلى الإجماع أيضًا وإلا لامتنع للأدلة الدالة على المنع من العمل بالظن.
قيل: هذا الاستدلال قريب مما استدل به المصنف أولًا وصححه.
قلت: [ظاهر، غير أنه غيره]؛ لأن الأول أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف وذلك يتضمن قاطعًا، وهنا أجمعوا على الحكم وهو لا يتضمن قاطعًا.
قيل: هذا الردّ ينافي ما ردَّ به أولًا متمسك الشافعي.
قلت: لا ينافيه؛ لأنهم إذا أجمعوا على وجوب العمل بالظاهر، ثم أجمعوا على ظاهر، فالإجماع مثبت لوجوب العمل بالظاهر، والظاهر مثبت لصورة من صور الإجماع لا لنفس الإجماع فلا دور، بخلاف الأول على أنه كلام على المستند.
قيل: قوله: (وأخبار الآحاد) يمكن جعله نقضًا، أي ما ذكرتم
منقوض بوجوب العمل بخبر الواحد، فإن الإجماع على وجوب العمل به مع أنه مظنون.
وردّ: بأنه لا يناسب أن يجعل نقضًا؛ إذ لا يلزم من انعقاد الإجماع على وجوب العمل بالظني جواز كون سند الإجماع ظنيًا.
قال: (المخالف: {تبيانًا لكل شيء} ، {فردوه} ونحوه، وغايته الظهور، وبحديث معاذ حيث لم يذكره.
أجيب: بأنه لم يكن حينئذ حجة).
أقول: احتج المخالف على أن الإجماع ليس بحجة بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فبآيات:
الأولى: قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} فيكون مبينًا للأحكام الشرعية، فلو كان الإجماع مبينًا لشيء من الأحكام، لم يكن القرآن تبيانًا لكل شيء.
الثانية: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فإنه يدل على أن الإجماع لا يكون مرجعًا للأحكام.
وقوله: (ونحوه) الظاهر أنه أراد ما تمسك به لهم الآمدي من قوله
تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ، وقوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين، وذلك يدل على تصورهما منهم، ومن يتصور منهم ذلك لا يكون قولهم موجبًا للقطع.
وأشار المصنف إلى أنه لو سلم من المنع والنقض فغايته الظهور، ولا يعارض القاطع الدال على حجيته وقد قدمناه، لكنه غير سالم؛ لأن قوله:{تبيانًا لكل شيء} لا ينافي أن يكون غيره بيان، ثم هو منقوض / بالسنة مع كون الآية تقتضي أن يكون القرآن تبيانًا لكون الإجماع حجة لأنه شيء.
وأما الآية الثانية فنمنع أنه نفى أن يكون الإجماع مرجعًا؛ لأن الردّ إلى الإجماع ردٌّ إليهما لأنهما أصل له، مع أن ذلك مختص بما فيه النزاع، والمجمع عليه ليس كذلك.
وأيضًا: يجوز أن تكون الآية للصحابة، والإجماع لم يكن إذ ذاك حجة.
وعن الآيتين: أن النهي راجع إلى كل واحد لا إلى المجموع، ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد واحد جوازها على الكل.
سلمنا، لكن غايته الجواز، ولا يلزم منه الوقوع.
احتجوا من السنة ما رواه أبو داود، والترمذي ولفظه: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في
كتاب الله؟ فقال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو، قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله» ، لكن قال [في] البخاري:«لا يصح هذا الحديث» ، وقال الترمذي:«ليس إسناده بمتصل» .
ووجه الاحتجاج: أنه أهمل الإجماع عند ذكر الأدلة، وقرره النبي عليه السلام.
أجاب المصنف: بأنه لم يكن حينئذ حجة لعدم تقرر المأخذ، وإنما لم يذكر المصنف لفظ الحديث لشهرته.
قال: (مسألة: وفاق من سيوجد لا يعتبر اتفاقًا.
والمختار: أن المقلد كذلك.
وميل القاضي إلى اعتباره.
وقيل: يعتبر الأصولي، وقيل: الفروعي.
لنا: لو اعتبر لم يتصور، وأيضًا المخالفة عليه حرام، فغايته مجتهد
مخالف، وعلم عصيانه).
أقول: القائلون بالإجماع اتفقوا على أنه لا يعتبر خلاف من سيوجد بعد انقراض عصرهم، أو من بلغ رتبة الاجتهاد بعد عصرهم وإن كان موجودًا في عصرهم، وأما من بلغ رتبة الاجتهاد في عصرهم، كان موجودًا يوم الإجماع إلا أنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد أو لم يكن موجودًا، فاعتباره مبني على الخلاف في اشتراط انقراض العصر.
وأما المقلد، فلا يعتبر عند مالك والشافعي واختاره المصنف، واعتبره القاضي أبو بكر مطلقًا، وقيل: تعتبر موافقة الأصولي المقلد في الفروع وقيل: بالعكس.
أما القاضي فرأى أن الأدلة كالمؤمنين والأمة تتناولهم، ولما كان المعول عند المصنف على الدليل العقلي وهو غير متناول لهم على ما عرف لم يعتبرهم.
احتج المصنف لمختاره بوجهين:
الأول: لو اعتبر موافقة المقلد، لم يتصور تحقق الإجماع لكثرتهم، أو انتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها وعدم انضباط كلمتهم.
الثاني: المقلد يجب عليه تقليد العلماء وتحرم عليه مخالفتهم، فلا تضر
مخالفته؛ إذ غايته كمجتهد خالف أصل الإجماع وعلم عصيانه، وهو المجتهد الذي بلغ رتبة الاجتهاد بعد انقراضهم، فكما يعصي هذا ولا تضر مخالفته فكذلك العامي بل أولى؛ لأنه لا يقدر على الاستنباط بخلاف المجتهد، والجامع بينهما أن كل واحد يعصي بالمخالفة ويجب عليه العمل بقولهم.
قلت: وفيهما نظر؛ أما الأول فنمنعه، وسنده ما ذكر في المجتهدين، والكثرة لا تمنع التصور، ولو سلّم ففي غير الأصولي والفروعي.
وأما الثاني: فلا يلزم من كون المخالفة عليه حرام، كون قولهم حجة على غيرهم، لجواز كون العصمة للهيئة الاجتماعية، والفرق بينه وبين المجتهد أنهم ثمة كل الأمة بخلاف هنا.
قال: (مسألة: المبتدع بما يتضمن كفرًا كالكافر عند المكفر، وإلا كغيره وبغيره.
ثالثها: يعتبر في حق نفسه.
لنا: أن الأدلة لا تنتهض دونه.
قالوا: فاسق فيرد قوله كالكافر والصبي.
أجيب: بأن الكافر ليس من الأمة في شيء، والصبي لقصوره.
ولو سلّم، فيقبل على نفسه).
أقول: المجتهد المبتدع إن كان مبتدعًا بما يتضمن الكفر، وهو المخطئ في الأصول بتأويل - لأن غير المتأول كافر - فمن كفر المتأول فلا نزاع في أنه لا يعتبره في الإجماع، ولا يثبت تكفيرهم بإجماعنا لأنه فرع تكفيرهم، بل بالدليل العقلي، ومن لم يكفره فحكمه عنده حكم المبتدع بما لا يتضمن كفرًا
كالفسق بالجوارح، وفيه ثلاثة مذاهب: اعتباره مطلقًا، وهو اختيار بعض المالكية، وإمام الحرمين، والمصنف، الثاني: عدم اعتباره مطلقًا، الثالث: تعتبر موافقته في حق نفسه، بمعنى أنه تجوز له مخالفة الإجماع الذي انعقد بدونه، ولا تجوز لغيره مخالفته، احتج لمختاره: بأن الأدلة العقلية والسمعية لا تنهض دونه، أما العقلية: فلأن النص القاطع الذي تضمنه إجماعهم على القطع بتخطئة المخالف، إنما هو على تقدير اتفاق جميع مجتهدي عصر، وأما السمعية، فلأنه من الأمة والمؤمنين، وفسقه لا يخل بأهليته.
احتج القائلون بعدم اعتباره: بأنه فاسق فلا يعتبر قوله، قياسًا على الكافر والصبي بجامع عدم العدالة.
الجواب: نمنع عليه الوصف؛ لأن الكافر إنما لم يعتبر لكونه ليس من الأمة، والصبي إنما لم يعتبره لقصوره عن درجة الاجتهاد، بخلاف الفاسق فإنه من الأمة وقادر على الاستنباط، ولو سلم عدم قبول قوله فبالنسبة إلى من لم يظهر صدقه عنده، أما في حق نفسه فلا ينعقد إجماعهم حجة عليه إذا أداه اجتهاده إلى غير ذلك، وهذا معنى قول الآمدي: «لا نسلم امتناع فتواه
بالنسبة إلى من ظهر صدقه عنده» ، ومن هنا تعلم أن مراد المصنف ردّ قول النافي بأنه لا ينهض أصلًا أو لا ينهض على أحد الفريقين، لا كما قال بعض الشراح:«إن مدعى المصنف أحد الأمرين، إما قبوله مطلقًا، أو قبوله في حق نفسه» ، ولا كما قرره أكثر الشراح من أن الفسق يمنع من قبول قوله في حق الغير للتهمة، ولكن لا يمنع قبول قوله على نفسه لعدم التهمة، فإذا أجمعوا على ما يكون عليه فعدم موافقته لا تعتبر للتهمة، أما إذا أجمعوا على ما يكون له فعدم موافقته تعتبر لعدم التهمة، وقد ظهر لك ما هو الحق.
ونزيده وضوحًا، قال الإمام في البرهان: في عدم اعتبار قوله نظر عندي؛ لأنه لا يلزمه أن يقلد غيره، بل يلزمه أن يرجع في وقائع نفسه إلى اجتهاده، فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده خالف اجتهاد غيره، وإذا لم ينعقد في حقه استحال بعض حكمه، فإن قيل: هو عام في حق نفسه باجتهاده يصدق عليه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره، فلهذا انقسم حكم الإجماع في حقه، قلنا: الفاسق لا يقطع بكذبه، فهو كالعالم الغائب، فإذا تاب كان كما إذا قدم العالم الغائب.
قال: (مسألة: لا يختص الإجماع بالصحابة، وعن أحمد قولان.
لنا: الأدلة السمعية، قالوا: إجماع الصحابة قبل مجيء التابعين
وغيرهم على أن ما لا قطع فيه سائغ فيه الاجتهاد، فلو اعتبر غيرهم معهم خولف إجماعهم وتعارض الإجماعان.
أجيب: بأنه لازم في الصحابة قبل تحقق إجماعهم / فوجب أن يكون ذلك مشروطًا بعدم الإجماع، قالوا: لو اعتبر لاعتبر مع مخالفة بعض الصحابة، أجيب: بفقد الإجماع مع تقدم المخالفة عند معتبرها).
أقول: الجمهور على أن الإجماع لا يختص بالصحابة، بل إجماع مجتهدي كل عصر حجة، وذهب أهل الظاهر وأحمد في أحد القولين إلى أن الإجماع المحتج به هو إجماع الصحابة فقط، احتج المصنف بالأدلة السمعية، وهي تتناول مجتهدي كل عصر، وقد علمت أن السمعية ردها إلا ما تمسك به الغزالي على الوجه الأول، فإليه أشار والله أعلم، وأطلق لفظ الجمع نظرًا إلى أفراد تلك الأخبار، أو لأن الظاهرية لما كانت أدلة الإجماع عندهم من الكتاب والسنة، أشار إلى ما احتجوا به، فقال:(لنا: الأدلة السمعية) ولم يتعرض للأدلة العقلية؛ لأن أهل الظاهر لا يسلمونها، فانحصر عندهم دليل حجية الإجماع في الكتاب والسنة، ثم قالوا: هي كلها خطاب مع الموجودين، فلا يكون إجماع التابعين حجة؛ إذ ليسوا كل الأمة؛ إذ من تقدم لا يخرج بالموت عن كونه من المؤمنين أو من الأمة، ويلزمهم أن لا يكون من أسلم بعد نزول الآية معتبرًا في إجماع الصحابة، لأن أولئك كل
الأمة حقيقة، وكذا إن مات البعض بعد نزول الآية ثم أجمع الباقون، إلا يكون إجماعًا إذ ليسو كل الأمة، فالتابعون كل الأمة فيما لم يسبق لغيرهم فيه خلاف وبعض الأمة في ما سبق فيه خلاف، احتج أهل الظاهر بوجهين: الأول لو كان إجماع غير الصحابة حجة لزم تعارض الإجماعين واللازم باطل، أما الملازمة: ؛ فلأن الصحابة أجمعوا قبل مجيء التابعين على أن كل مسألة لا قاطع فيها يجوز فيها الاجتهاد، وأن يأخذ كل مجتهد فيها بما أداه إليه اجتهاده، فلو اعتبر إجماع التابعين وأجمعوا على مسألة لا قاطع فيها لزم تعارض الإجماعين؛ لأنه يلزم من إجماع التابعين عدم جواز الاجتهاد فيها لمن بعدهم ويلزم من إجماع الصحابة جواز الاجتهاد فيها، وتعارض إجماعين يستلزم خطأ أحد الإجماعين، والخطأ منفي عن الإجماع. الجوةاب: إن الإلزام المذكور لازم في الصحابة قبل تحقق إجماعهم؛ لأن الصحابة قبل إجماعهم في مسألة يجوز فيها قد أجمعوا على جواز الاجتهاد فيها فإذا أجمعوا فيها فبعد إجماعهم لا يجوز فيها الاجتهاد فلزم تعارض إجماعيهما، فلو صح ما ذكرتم لزم أن لا يجوز إجماعهم في شيء من المسائل الاجتهادية، ولما كان هذا الجواب إلزاميًا، أشار إلى التحقيق بأنه يجب أن يكون المجمع على جواز الاجتهاد فيه عند الصحابة المسائل الاجتهادية بشرط عدم القاطع، بمعنى أن ما لا قاطع فيه يسوغ فيه الاجتهاد ما دام كذلك، وأكثر القضايا العرفية سيما السوالب تفيد ذلك وإن لم يصرح به، فإذا قلت: لا شيء من النائم بيقظان، فهم منه ما دام نائمًا، وفيما ذكر زال الشرط فزال الحكم.
احتجوا ثانيًا: بأنه لو اعتبر إجماع غير الصحابة، لزم اعتباره في حكم خالف فيه بعض الصحابة؛ لأنه إذا كان معتبرًا في حكم لا قول فيه لصحابي فمع موافقة بعض الصحابة أولى لكن اللازم باطل؛ إذ لا إجماع مع سبق الخلاف. الجواب: بمنع الملازمة عند من يشترط في صحة الإجماع ألا يسبقه خلاف مستقر؛ إذ القول لا يعدم بانعدام قاله فحينئذ يفرق بينهما إذ لا يلزم من اعتبار الإجماع مع احتمال المخالفة اعتباره مع تحقق المخالفة / ومن يرى أن سبق الخلاق لا يقدح في صحة إجماع العصر الثاني يمنع بطلان التالي.
قال: (مسألة: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين، كإجماع غير ابن عباس على العول، وغير أبي موسى على أن النوم ينقض الوضوء، لم يكن إجماعًا قطعيًا؛ لأن الأدلة لا تتناوله.
والظاهر: أنه حجة؛ لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف).
أقول: اختلفوا في انعقاد الإجماع مع شذوذ المخالف وإن قلَّ كالواحد.
أكثر أصحاب مالك وجمهور العلماء على أنه لا يكون إجماعًا، كإجماع من عدا ابن عباس من الصحابة على العول، وإجماع من عدا
أبي موسى الأشعري على أن النوم ينقض الوضوء.
وفي بعض النسخ لم يكن إجماعً «قطعًا» ، وفي بعضها «قطعيًا» .
والأولى أظهر، أي يقطع أنه ليس بإجماع فلا يكفر ولا يفسق مخالفه لأن الأدلة العقلية والنقلية لا تتناوله، أما العقلية: فلأن النص القاطع الذي وجب تقديره إنما هو أن المخالف لجميع مجتهدي عصر مخطئ لا المخالف لبعضها، وأن الذي أجمعوا على تقديمه على القاطع هو ما اتفق فيه كل الأمة لا أكثرها، وأما الأدلة السمعية: فلأن هؤلاء بعض المؤمنين وبعض الأمة، ثم إذا لم يكن إجماع فالظاهر أنه حجة، إذ الغالب على الظن أن الأكثر لا يخطئ الدليل ويجده الأقل، وخرّج ابن ماجه:«إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم» ولأن الظن الناشئ منه أكثر من الظن الناشئ من إجماع أهل المدينة مع كونه حجة على ما سيأتي، ورجح بعض الشراح [النسخة] الأخيرة قال:«ليس قطعي لأنه ظني» .
واحتج له بقوله في المنتهى: «لأن أدلة القطعي لا تتناوله» .
وفيه نظر؛ لأن المصنف اصطلاحه أنه لا يطلق الإجماع إلا على القطعي إلا أنه يطلقه مضافًا، كقوله: إجماع أهل المدينة، أو موصوفًا، والإجماع الظني إنما يطلق عليه اسم الحجة، وإلا لورد على تعريف الإجماع، ولا يقال التعريف للقطعي؛ لأنه يتناول السكوتي، وأما ما ذكر في المنتهى فقد عدل عنه هنا مع أنه احتج على حجية الإجماع القطعي، فلذلك قال:«أدلة القطعي لا تتناوله» ، ثم أدلة الظني لا تتناوله أيضًا لأنه ليس له صورة الإجماع، والظواهر إنما دلّت على كل الأمة أو كل المؤمنين، ورجحها بعضهم بأنه لو كان حجة لا إجماعًا لزم عدم انحصار الأدلة في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، وليس بمرجح لأنا نلتزمه.
قال: (التابعي المجتهد معتبر مع الصحابة، فإن نشأ بعدهم فعلى انقراض العصر. لنا: ما تقدم، واستدل: لو لم يعتبر لم يسوغوا اجتهادهم معهم، كسعيد بن المسيب، وشريح، والحسن، ومسروق، وأبي وائل والشعبي، وابن جبير وغيرهم، وعن أبي سلمة: تذاكرت مع ابن عباس وأبي هريرة في عدة الحامل للوفاة، فقال ابن عباس: أبعد الأجلين، وقلت أنا: بالوضع، وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.
أجيب: إنما سوغوه مع اختلافهم).
أقول: اختلفوا في اعتبار التابعي المجتهد عند انعقاد الإجماع من الصحابة،
فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد إجماعهم مع مخالفته، وذهب الأقلون إلى عدم اعتباره، أما لو بلع رتبة الاجتهاد بعد انعقاد الإجماع، فاعتباره مبني على اشتراط انقراض العصر وسيأتي. احتج بما تقدم من أن الأدلة لا تتناوله إذ ليس كل الأمة، واستدل: لو لم يعتبر قوله وكان كالعدم، لم يسوغ الصحابة للتابعين الاجتهاد معهم، أما الملازمة؛ فلأن اجتهاد / التابعين مع وجود الصحابة لو كان باطلا، لكان تسويغ الصحابة له تسويغًا للباطل، وهم لا يجتمعون على ذلك، أما بطلان التالي؛ فلأن الصحابة سوغوه لهم، كسعيد بن المسيب، وشريح، والحسن، ومسروق
وأبي وائل، والشعبي، وسعيد بن جبير.
فقد روي عن الحسين بن علي أنه سئل عن مسألة، فقال:«سلوا الحسن» .
وسئل ابن عباس عن أخرى، فقال:«سلوا مسروقًا» ، وسئل ابن عمر عن فريضة، فقال:«سلوا سعيد بن جبير» .
وفي صحيح مسلم أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة وهما يتذاكران أن المرأة تعتد بعد وفاة زوجها بليال، فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين، وقال أبو سلمة: قد حلّت، فجعلا يتنازعان ذلك، قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعني أبا سلمة.
الجواب: أن محل النزاع إذا اتفق الصحابة، وهنا إنما سوغوه مع اختلافهم، ولا يلزمه من اعتباره حيث اختلفوا اعتباره حيث اتفقوا.
قال: (مسألة: إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة عند مالك. فقيل: محمول على أن روايتهم مقدمة، وقيل: على المنقولات المستمرة، كالأذان والإقامة، والصحيح التعميم.
لنا: أن إجماع مثل هذا العدد الكثير من العلماء اللاحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلا على راجح، فدل على أنه راجح.
فإن قيل: يجوز أن يكون متمسك غيرهم راجح، ولم يطلع عليه بعضهم.
قلنا: العادة تقتضي باطلاع الأكثر، والأكثر كاف فيما تقدم.
واستدل بنحو: «إن المدينة طيبة تنفي خبثها» ، وهو بعيد، وبتشبيه عملهم بروايتهم.
وردّ: بأنه تمثيل لا دليل، مع أن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف
الاجتهاد).
أقول: اشتهر بين النظار أن إجماع أهل المدينة حجة عند مالك، وتحقيق القول في ذلك، ما بسطه القاضي أبو الفضل عياض، فإنه من محققي العلماء، وممن يرجع إليه سيما في مذهب مالك.
فنقلهم لهذه الأمور من قوله أو فعله، كنقلهم موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته، وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره، وصفة صلاته وعدد الركعات، أو نقل إقراره لما شاهده ولم ينقل عنه إنكاره، كعهده الرقيق، وشبه ذلك، أو نقل ترك أحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها
لديهم وظهورها فيهم، كتركه أخذ الزكاة من الخضروات، مع علمه أنه عندهم كثيرة.
فهذا النوع من إجماعهم حجة قطعية، وإليه رجع أبو يوسف، وهو الذي تكلم عليه مالك عند أكثر شيوخنا، ووافق عليه جمع من الشافعية، وكذا نقول: لو تصور ذلك في غيرهم، لكن لا يوجد مثل هذا النقل عند غيرهم، فإن شرط المتواتر تساوي الطرفين والوسط، فالذي ينقله غيرهم آحاد، والمتواتر مقدم.
فإن احتجوا بالأذان الذي نقله أهل مكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوه متواترًا، قلنا: آخر الفعلين ما توفي عنه عليه السلام بالمدينة.
الثاني: إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، وهذا النوع اختلف فيه أصحابنا، فذهب / معظمهم إلى أنه ليس بحجة، وهو قول أكثر البغداديين، منهم: ابن بكير، وأبو يعقوب
الرازي، وابن المنتاب، وأبو العباس الطيالسي، وأبو الفرج، والأبهري، وأبو التمام، والباقلاني، وابن القصار.
قالوا: لأنهم بعض الأمة، وأنكروا أن يكون ذلك قول مالك.
وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، ولكن يرجح على اجتهاد غيرهم.
وذهب بعضهم إلى أنه حجة يقدم على خبر الواحد.
قال عبد الوهاب: «وعليه يدل كلام ابن المعذل، وأبي مصعب، وقول جماعة من المغاربة» .
قال القاضي عياض: «عمل أهل المدينة مع خبر الواحد لا يخلو من ثلاثة أوجه:
إن كان موافقًا له، فهو يؤكد صحته إن كان من طريق النقل، أو يرجحه إن كان عن اجتهاد بغير خلاف، إذ لا يعارضه إلا اجتهاد آخرين.
وإن كان موافقًا لخبر يعارضه خبر آخر، كان عملهم مرجحًا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت، وإليه ذهب الإسفرئيني والمحققون من متأخري المالكية.
وإن كان مخالفًا لأخبار الآحاد جملة، فإن كان إجماعهم من طريق النقل، ترك له الخبر بغير خلاف عندنا، وإن كان إجماعهم اجتهاديًا، قدم الخبر عند الجمهور، وفيه الخلاف المتقدم.
أما لو لم يكن عملا، وإنما نقلوا خبرًا، ونقل غيرهم ما يعارضه، فالراجح ما نقلوه، قال الأستاذ والمحققون: لزيادة مشاهدتهم قرائن الأحوال.
فإن قيل: إذا كان من باب النقل كما ذكرتم، فما فائدة ذكر الإجماع مع أنه من باب النقل.
الجواب: أن موجب ذلك مخالفة العراقيين وغيرهم لنا في مسائل طريقها النقل والعمل المستفيض، اعتمدوا فيها على أخبار الآحاد.
واحتج أصحابنا بنقل أهل المدينة وعملهم المجتمع عليه المتواتر على ترك الأخبار، وعن الشافعي: إجماع المدينة أحب إليّ من القياس». انتهى كلام عياض، وهو العمدة، لا كلام المصنف.
احتج: بأن العادة تقضي بأن مثل هذا الجمع الكثير من العلماء المحصورين المحققين الأحقين بالاجتهاد لمشاهدتهم التنزيل وسماعهم التأويل، لا يجمعوه إلا عن راجح، وقال:(مثل هذا الجمع) لينبه على أنه لا خصوصية للمكان، وأنه لو اتفق في غيرها مثل ذلك كان حجة.
وقال: (المنحصر) لأنه لو اتفق عدتهم أو أكثر متفرقين في البلاد، أو مختلطين بمن خالفهم، أو غائبين عن بلدهم، لم يعتبر، ولم تقض العادة باطلاعهم على الراجح، بخلاف قوم مجتمعين يتناظرون ثم يتفقون، فيبعد ألا يطلع أحدهم على دليل المخالف المدعى رجحانه.
واحترز (بالأحقين) عن منحصرين في موضع لا يكون مهبطًا للوحي، وأهله غير واقفين على وجوه الأدلة من قول الرسول أو فعله، أو فعل أصحابه في زمانه، ووجوه الترجيح، ولا شك أن أهل المدينة أعلم بذلك.
فإن قيل: لا نسلم قضاء العادة باتفاق مثلهم عن راجح؛ لأنهم بعض
الأمة، فجاز أن يكون متمسك غيرهم أرجح.
قلنا: وإن كان جائزًا إلا أنه بعيد، والاحتمال البعيد لا ينفي الظهور؛ إذ العادة تقضي باطلاع الأكثر عددًا وإجماعًا وأحقية على الراجح، والأكثر كاف في الاطلاع على الراجح، أو في تتميم دليلنا، لأنه إذا قضت العادة باطلاع الأكثر، بَعُدَ ألا يطلع عليه من أهل المدينة أحد.
قال بعض الشراح: «والأكثر كاف فيما تقدم» ، يريد مسألة لو ندر المخالف.
وفيه نظر؛ وإلا لقال كما تقدم، مع أن تلك ندر المخالف، ولا يلزم فيما كثر فيه المخالف وإن كان أقل منه الآخرين، على أنهم قد يكونوا أكثر. واستدل بما في الصحيحين، ولفظه: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محمومًا، فقال: أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فأبى، ثم جاء فقال: أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها» .
ولمسلم وحده: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» .
وجه الاستدلال: أن الخطأ خبث فيكون منفيا عنها، فيكون قولهم
حجة.
قال المصنف: وهو بعيد؛ لأنه ظاهر في أنها تخرج عنها خبثًا حصل فيها، ولا دلالة له على ابتغاء الخطأ عما اتفق عليه أهلها، وإلا لزم ألا يقع الخطأ من مجتهد مدني.
واستدل أيضًا: بأن رواية أهل المدينة تقدم على رواية غيرهم، فيكون عملهم الاجتهادي راجحًا على اجتهاد غيرهم.
أجاب أولًا: بأنه تمثيل لا دليل، يعني لا جامع فيه، ويدل عليه لفظ الإحكام:«تمثيل من غير دليل موجب للجمع» .
ولفظ المنتهى: «تمثيل لا دليل فيه» ، ولا يحمل على أنه أراد بالتمثيل القياس الظني؛ إذ المصنف لا يقول إن إجماع أهل المدينة حجة قطعية، حتى ينفي الاستدلال على حجيته بالظني.
ثم أجاب ثانيًا: بالفرق، وهو أن الرواية ترجح بمجرد الكثرة عند التساوي فيما عداها من الصفات، والاجتهاد لا يرجح بمجرد الكثرة.
ولا يقال: المصنف رجح بها أولًا؛ لأنها إنما رجح بها منضمة إلى غيرها، وليس كل من كانت روايتهم مقدمة يكون اجتهادهم أرجح؛ لأن رواية عشرة مثلا من غير أهل المدينة مرجحة على رواية ثمانية من غير أهل المدينة، وليس اجتهاد عشرة من غير أهل المدينة يرجح على اجتهاد ثمانية من غيرهم.
قال: (مسألة: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم خلافًا للشيعة، ولا بالأئمة الأربعة خلافًا لأحمد، ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين.
قالوا: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» ، «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر».
قلنا: يدل على أهلية اتباع المقلد، ومعارض بمثل:«أصحابي كالنجوم» ، و «خذوا شطر دينكم عن الحميراء» ).
أقول: لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم، وهم: عليّ والحسن والحسين وأمهما، خلافًا للشيعة فإنهم يرونه حجة لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وإلا فالشيعة لا يرون الإجماع حجة بالذات على ما تقدم، ولا ينعقد بالأئمة الأربعة خلافًا لأحمد في أحد قوليه، وللقاضي أبي حازم من الحنفية [وهو لازم قول الشيعة؛ لأن عليًا منهم] ولا
باتفاق أبي بكر وعمر خلافًا لشذوذ من الناس.
لنا في المطالب الثلاث: أن الأدلة الدالة على حجية الإجماع لا تدل إلا على حجية قول جميع الأمة، ولما تكرر هذا الاستدلال لم يكرره.
احتج أبو جازم: بما رواه أبو داود، والترمذي، وصححه أبو نعيم، وخرجه الحاكم في مستدركه ولفظه، بعد أن وعظهم فقال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» .
ووجه الدلالة: أنه أوجب عليهم اتباع سنة / الخلفاء الأربعة كما وجب عليهم اتباع سنته، فيكون قولهم حجة.
احتج من قال إجماع الشيخين حجة: بما رواه الترمذي، وصححه
ابن حبان ولفظه: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» ، وإذا أوجب الاقتداء بهما، كان قولهما حجة.
والجواب عن الحديثين: أنهما خطاب مع عوام الصحابة جمعًا بين الأدلة فالأربعة والاثنان أهل لأن يأخذ المقلد بقولهم، وكأنه إشارة إلى أرجحية المذكورين عند الاختلاف، وإلا فكل مجتهد أهل لأن يتبعه المقلد.
ثم هو معارض بما روي عنه عليه السلام أنه قال: «سألت ربي فيما اختلف أصحابي من بعدي، فأوحى إليّ يا محمد! إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى» .
وبما روى أنه قال: «خذوا شطر دينكم عن الحميراء» .
وتقرير المعارضة: أنه أباح الاقتداء بغير الأربعة، وبغير الشيخين عند مخالفة غيرهم، فلو كان إجماعهم حجة لم تجز مخالفتهم والاقتداء بغيرهم، ولكان قول أحد الصحابة أو قول عائشة حجة، فدلَّ على أن المراد بهذه الأحاديث أهلية اتباع المقلد.
قلت: وفي المعارضة نظر؛ أما أولًا: فلأن الحديث الأول ضعيف، والثاني منكر لا يوقف له على سند، ثم لو صحا لكانا مخصوصين بغير ما خالف فيه الأربعة والشيخان، جمعًا بين الأدلة.
قال: (مسألة: لا يشترط عدد التواتر عند الأكثر.
لنا: دليل السمع، فلو لم يبق إلا واحد، فقيل: حجة لمضمون السمعي.
وقيل: لا؛ لمعنى الإجماع).
أقول: أكثر الأصوليين على أنه لا يشترط في المجمعين بلوغ عدد التواتر، وذهب بعض من استدل على حجية الإجماع بدليل العقل كإمام الحرمين، وبعض من استدل بالأدلة السمعية إلى اشتراطه.
والدليل على المختار: أن الأدلة الدالة على حجية الإجماع عقلية كانت أو سمعية، لا تختص بما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر، أما العقلي؛ فلما قدم المصنف.
وأما السمعي؛ فلأن لفظ الأمة والمؤمنين يعم ما بلغ المجمعون فيه عدد التواتر وما قصر عنه، ولا وجه لتخصيص المصنف الاستدلال بالسمعي، ومن هنا وهم بعض الشراح، فقال: «من احتج على حجية الإجماع بدليل
العقل، يلزمه الاشتراط» ، وذهل عما تقدم للمصنف.
واحتج من اشترط عدد التواتر: بأنهم حينئذ لا يعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن إجماعهم على حكم، وهو ضعيف؛ لأنا نعلم صدقهم بالأدلة الدالة على عدم اجتماعهم على الخطأ، كانوا عدد التواتر أو أقل؛ لأنهم جميع مجتهدي الأمة، ولولا ذلك الدليل ما نفع كونهم عدد التواتر؛ لأن كل واحد أخبر عن اجتهاد نفسه، فلم يخبروا عن شيء واحد محسوس.
فلو لم يبق من المجتهدين إلا واحد، فقيل: قوله حجة لمضمون السمعي، وهو أنه لا يخرج الحق عن هذه الأمة وإن لم يوجبه صريح السمعي لعدم صدق سبيل المؤمنين وإجماع الأمة.
وقيل: ليس بحجة؛ لأن الإجماع يشعر بالاجتماع، والاجتماع وسبيل المؤمنين هو المنفي عنه الخطأ.
قال: (مسألة: إذا أفتى واحد وعرفوا به، ولم ينكره أحد قبل استقرار المذاهب، فإجماع أو حجة.
وقال الشافعي: ليس إجماعًا ولا حجة، وعنه خلافه.
وقال الجبائي: إجماع بشرط انقراض العصر.
ابن أبي هريرة: إن كان فتيا لا حكمًا.
لنا: سكوتهم ظاهر في موافقتهم، فكان كقولهم الظاهر، فينهض دليل السمع.
المخالف: يحتمل أنه لم يجتهد، أو وقف، أو خالف فتروّى، أو وقّر، أو هاب.
فلا إجماع ولا حجة.
قلنا: خلاف الظاهر؛ لأن عادتهم ترك السكوت.
الآخر: دليل ظاهر لما ذكرناه.
الجبائي: انقراض العصر يضعف الاحتمال.
ابن أبي هريرة: العادة في الفتيا لا في الحكم.
أجيب: بأن الفرض قبل استقرار المذاهب.
وأما إذا لم ينتشر فليس بحجة عند الأكثر).
أقول: إذا ذهب واحد من المجتهدين إلى حكم في مسألة، وعرف الباقون ولم ينكر أحد، فإن كان بعد استقرار المذاهب فيها، لم يدل السكوت على الموافقة قطعًا؛ إذ لا عادة بإنكاره، وقصاراه أنه وافق بعض من ذهب فيها إلى مذهب، وإن كان قبل استقرارها حالة البحث عن المذاهب والنظر فيها، فإجماع إن علم أن سكوتهم رضا، وإلا فهو حجة.
ولما كان العلم برضاهم غير معلوم، جزم في المنتهى فقال:«حجة وليس بإجماع قطعي» .
وهذا مذهب أبي هاشم، ومختار المصنف.
وعن الشافعي: ليس إجماعًا ولا حجة، وعنه خلافه، بمعنى أنه إجماع.
وهذا منقول عن بعض أصحابه، إذ لم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه حجة وليس بإجماع، وعكسه لا يصح.
وقال الجبائي: «إجماع بشرط انقراض عصرهم من غير نكير» .
وقال ابن أبي هريرة: «إن كان القول فتيا فإجماع، وإن كان حكمًا فلا إجماع ولا حجة» .
لا يقال: موضوع المسألة إذا أفتى واحد، فهذا ترديد في الواقع؛ لأنا بيّنا أن المراد هناك إذا ذهب واحد.
احتج المصنف لمختاره: بأن سكوت أهل عصره عن الإنكار عنه والبحث معه في مأخذه على عادة النظار، يدل ظاهرًا على موافقتهم وإلا لما
ستكوا عادة، فتيا كان ذلك أو حكمًا؛ إذ الكلام قبل استقرار المذاهب، فحينئذ يكون كقولهم الظاهر غير القطعي الدلالة، فينتهض دليل السمع فإنه سبيل المؤمنين، وقول كل الأمة ظاهرًا، فإن علم رضاهم بقرائن كان إجماعًا وإلا فهو حجة؛ لأن العمل بالظاهر واجب.
احتج المخالف، وهو القائل ليس إجماعًا ولا حجة.
أما أنه ليس بإجماع؛ فلأن رضاهم لا يعلم إلا بقولهم، فيكون على هذا خلاف في حال، أو يكون عدم الإنكار لكون المجتهد تعارضت عنده الأدلة ويرى التخيير عند تعادلها كما يقول الشافعي وأحمد، فلا يكون إجماعًا تحرم مخالفته؛ إذ لا يلزم حينئذ من العلم برضاهم حرمة المخالفة؛ لأن سكوته لموافقة ما خُير فيه، ويكون على هذا خلاف.
وأما أنه ليس بحجة؛ فلأن من سكت قد يكون لكونه يرى أن كل مجتهد مصيب، وقد يكون لم يجتهد بعد، أو اجتهد فتوقف، أو خالف رأيه رأي المفتي لكنه تروى في إظهار المخالفة لاحتمال رجحان مأخذ مخالفه، أو وقّره فلم يخالفه تعظيما له، أو هابه كما حكي عن ابن عباس في مسألة العول لأنه سكت أولًا ثم أظهر الإنكار، فقيل له في ذلك، فقال:«إنه - يعني عمر - كان رجلًا مهيبًا» ، ومع [قيام] هذه الاحتمالات لا يدل السكوت على الموافقة.
أجاب المصنف: بإن هذه الاحتمالات خلاف الظاهر، لما علم من عادتهم من ترك السكوت في مثله، كقول معاذ لعمر حين أراد أن يجلد الحامل:«ما جعل الله لك على ما في بطنها سبيلا، فقال: لولا معاذ لهلك عمر» .
ولم يتعرض المصنف للشق الآخر؛ لأن تصور وقوعه ظاهر، وإثبات الوقوع عسير.
والحق أن عادتهم ترك السكوت حيث يعلم أو يظن بطلان مذهب المخالف، أما مع هذه الاحتمالات فلا.
ولو سكت المصنف عن قوله: (لأن عادتهم ترك السكوت)، واجتزأ بقوله:(قلنا: خلاف الظاهر) كان أحسن؛ لأن هذه الاحتمالات لا تنفي الظهور؛ لأن السكوت أظهر في الموافقة، ونحن لم ندع القطع.
احتج للمخالف الآخر، وهو القائل بأنه إجماع، ولهذا قال:(الآخر) لأنه قدم حجة المخالف الأول.
وتوجيهه: سكوتهم دليل ظاهر في موافقتهم، فكان إجماعًا.
وجوابه: أن الظهور لا يكفي في كونه إجماعًا، نعم يكفي في حجيته، وإنما سكت المصنف عن الجواب لظهوره، ومن جعل هذا حجة للقائل بأنه حجة لا إجماعًا وحمل قوله أول المسألة على ذلك، يلزمه التكرار؛ لأنه غير مذهبه وعين ما استدل به.
ومن جعله دليلًا على أحد شقي المنفصلة، كأنه قال: لنا في أنه إجماع سكوتهم، ولنا في كونه حجة كذا، وفصل بينهما بشبه المخالف لكونها واردة على كونه إجماعًا، لا على كونه حجة، فأظهر فسادًا، مع أن غير المصنف احتج للقائل بأنه إجماع بما ذكر المصنف، فتعين الحمل عليه مع قربه.
احتج الجبائي: بأن الاحتمالات قبل انقراض العصر قوية فلا إجماع، وأما بعده فضعيفة فلا يكون إجماعًا، وسكت المصنف عن جوابه لظهوره؛ لأن ضعفها لا يوجب القطع بينها، مع أنه لا يضعف كل احتمال سبق.
نعم لو كان المدعى أنه حجة بشرط انقراض العصر، تَمَّ له.
احتج لابن أبي هريرة: العادة في الفتيا أنها تخالف ويبحث عليها بخلاف الحكم، فإن كل حاكم يحكم بما يراه فيتبع ولا يخالف، ويلزم المصير إليه كما في عصرنا، وأيضًا الحاكم يهاب بخلاف المفتي.
أجاب: بأن ذلك بعد استقرار المذاهب، أما قَبْلُ فالفتيا والحكم سواء، عادتهم الإنكار كقضية معاذ مع عمر وغيرها.
أما لو لم ينتشر وهو فيهم وعرفوا به في صدر المسألة، فعدم الإنكار لا يدل على الموافقة، وبه قال الأكثر؛ لاحتمال أن لا يكون للباقين قول فيها لعدم خطور المسألة ببالهم، أو يكون لهم قول مخالف ولم ينقل لعدم اشتهار المسألة، أو لهم قول موافق، وهذه الاحتمالات متساوية لا ترجيح، لاحتمال الموافقة على الآخرين.
قال: (مسألة: انقراض العصر غير مشروط عند المحققين.
وقال أحمد وابن فورك: يشترط.
وقيل: في السكوتي.
وقال الإمام: إن كان عن قياس.
لنا: دليل السمع.
واستدل: بأنه يؤدي إلى عدم الإجماع للتلاحق.
وأجيب: بأن المراد عصر المجمعين الأولين؛ إذ لا مدخل للاحق).
أقول: انقراض عصر المجمعين غير مشترط في انعقاد إجماعهم، بل إذا حصل اتفاقهم ولو في لحظة انعقد الإجماع، انقرضوا أم لا، وحرمت مخالفته عليهم وعلى من نشأ بعدهم، وهذا [هو] مذهب المحققين.
وقال أحمد وابن فورك باشتراطه.
وقيل: إن كان الإجماع سكوتيًا اشترط انقراض العصر، وإلا فلا.
[ولو لم يذكر هذا القول لكان معروفًا من المسألة السابقة.
وقال إمام الحرمين: إن كان سند لإجماع قياسًا اشترط وإلا فلا].
احتج للمختار: بأن الأدلة السمعية الدالة على حجية الإجماع تدل على
أنه لو اتفقت كلمة المجتهدين ولو في / لحظة، انعقد الإجماع لوجوب عصمتهم؛ إذ الحجة في اتفاقهم لا في موتهم.
واستدل لمختاره: بأنه لو يشترط انقراض العصر لما تحقق إجماع؛ لتلاحق المجتهدين، فلا ينقرض أهل العصر الأول إلا وقد نشأ آخرون يعتبر وفاقهم وانقراض عصرهم، ثم لا ينقرض عصرهم إلا وقد نشأ آخرون كذلك، وهلمَّ جرًا.
والجواب: أما على مذهب من يرى من المشترطين أن فائدة اعتباره موافقة من أدرك عصر المجمعين الأولين، فالمراد من انقراض العصر عند هؤلاء انقراض عصر المجمعين الأولين المتفقين عند نزول الحادثة، لا انقراض عصر من يتجدد بعدهم، فإذا انقرض عصرهم ولم يظهر خلاف منهم ولا من التابعين المدركين عصرهم، انعقد الإجماع.
وأما على مذهب أحمد الذي يرى أن فائدة الاشتراط جواز رجوع بعضهم لا اعتبار موافقة من أدرك عصرهم، فواضح.
وإليه أشار المصنف بقوله: (إذ لا مدخل للاحق) ، فبموتهم من غير رجوع تحقق الإجماع، ثم المخالف في عصر المجمعين على مذهب المشترطين لا يكون خارقًا، أما على مذهب أحمد؛ فلأن الإجماع لم ينعقد؛ إذ الأمر موقوف، وعلى مذهب الآخرين تجوز له المخالفة.
قال: (قالوا: يستلزم إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه.
قلنا: بعيد، وبتقديره، فلا أثر له مع القاطع كما لو انقرضوا.
قالوا: لو لم يشترط لمنع المجتهد من الرجوع عن الاجتهاد.
قلنا: واجب لقيام الإجماع.
قالوا: لو لم تعتبر مخالفته لم تعتبر مخالفة من مات لأن الباقي كل الأمة.
قلنا: قد التزمه بعض، والفرق أن هذا قول من وجد من الأمة، فلا إجماع).
أقول: احتج المشترطون بوجوه:
تقرير الأول: أن عدم اشتراطه يؤدي إلى إلغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه، وذلك يؤدي إلى إبطال النص بالاجتهاد.
أجيب: بأن وجوده بعد البحث من جميعهم وعدم الاطلاع عليه حالة الإجماع بعيد، ولو قدر فلا يعمل به؛ لأن القاطع وهو الإجماع خالفه، كما لو اطلع عليه بعد الانقراض، فما هو جواب لكم جواب لنا.
لا يقال: تالي الشرطية ملازمة، وهي لزوم الإلغاء على تقدير الاطلاع وهو ضروري، فلا تمتنع الملازمة ويتعين منع بطلان التالي.
لأنا نقول: الاطلاع على نص كذلك محال، والمحال جاز أن يستلزم المحال، فكأنه يقول: لا نسلم لزوم الانتفاء لتوقفه على تقدير بعيد أو ممتنع.
قالوا ثانيًا: لو لم يشترط انقراض العصر، لمنع المجتهد عن الرجوع عن اجتهاده؛ لأنه إذ تغير اجتهاده وقد انعقد الإجماع باجتهاده الأول، فلا يُمَكّن من العمل باجتهاده الثاني لأنه مخالفة للإجماع، لكن المجتهد غير ممنوع من الرجوع عن الاجتهاد إجماعًا، فيلزم بطلان المقدم.
أجيب: بمنع بطلان التالي، فإن الرجوع عن الاجتهاد إنما هو عند عدم
الإجماع، أما عند وجود الإجماع فالمنع عن الرجوع عن الاجتهاد واجب؛ إذ يمتنع الرجوع عن القطعي إلى الظني، بخلاف الرجوع عن الاجتهاد الظني إلى اجتهاد ظني.
قالوا ثالثًا: لو لم تعتبر مخالفته إذا رجع بناء على أنهم حين الإجماع كل الأمة، لم يعتبر مخالفة من مات؛ لأن الباقين المجمعين كل الأمة، فيكون إجماعًا، واللازم باطل.
أجاب: بأن عدم اعتبار / مخالفة من مات مختلف فيه، فمن قال به منع بطلان التالي، ومن لم يقل به يمنع الملازمة ويفرق بأن القول لا ينعدم بانعدام قائله، فقول المخالف الميت يتحقق حالة الإجماع، فلا ينعقد إجماع على وجود المخالف بخلاف ما نحن فيه، قد وجد فيه قول كل الأمة حين لم يوجد قول يخالفه، وإذا انعقد فلا عبرة بما يحدث بعده من قول بعضهم أو غيرهم.
قال: (مسألة: لا إجماع إلا عند مستند؛ لأنه يستلزم الخطأ؛ ولأنه يستحيل عادة.
قالوا: لو كان عن دليل لم تكن له فائدة.
قلنا: فائدته سقوط البحث، وحرمة المخالفة.
وأيضًا: فإنه يجب أن يكون عن غير دليل، ولا قائل به).
أقول: الجمهور على أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند، دليلًا كان أو أمارة.
وشذَّ قوم فقالوا: يجوز انعقاده عن توفيق لا توقيف، بأن يوفقهم الله
تعالى لاختيار الصواب من غير مستند.
حجة الجمهور: أن الفتوى في الدين من غير دليل أو أمارة خطأ؛ لكونه قولا بالتشهي، فلو اتفقوا على حكم بغير سند كانوا مجمعين على الخطأ؛ لأن كل واحد مخطئ، والمجتمع من المخطئ مخطئ؛ ولأن اتفاق الكل لا عن مستند مستحيل عادة، كالاجتماع على أكل طعام واحد.
احتجوا: بأنه لو وجب كونه عن مستند، لم يكن لإثبات حجية الإجماع فائدة، هكذا صرح به في المنتهى؛ إذ الغرض من إثبات حجيته إثبات الحكم وهو ثابت بالمستند.
أو نقول: لم يكن لفعله فائدة
…
إلى آخره.
أجاب أولًا: بمنع الملازمة، وأن فائدته سقوط البحث عن ذلك الدليل ووجه دلالته على الحكم، وحرمة المخالفة لانعقاد الإجماع، وقد كانت قبله جائزة وفاقًا.
وثانيًا: أنه يقتضي أنه يجب أن يكون لا عن دليل، لعدم الفائدة بعين ما ذكر، ولم يقل أحد أن عدمه شرطه، بل قالوا: وجود ليس بشرط.
قال: (مسألة: يجوز أن يجمع عن قياس.
ومنعت الظاهرية الجواز، وبعضهم الوقوع.
لنا: القطع بالجواز، والظاهر الوقوع، كإمامة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير، وإراقة نحو الشيرج).
أقول: مذهب مالك وجمهور العلماء جواز انعقاد الإجماع عن قياس. ومنعه ابن جرير، والظاهرية.
واختلف القائلون بالجواز في وقوعه، والظاهر الوقوع.
لنا: القطع بجوازه؛ لأنه لو فرض لم يلزم منه محال لذاته كغيره من الأمارات، كخبر الواحد، والمتواتر، والظني الدلالة؛ إذ لا مانع يقدر إلا كونه مظنونًا.
وأما الوقوع، فكإمامة أبي بكر، أجمع عليها قياسًا على تقديم النبي عليه السلام له في الصلاة، وكتحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه، وكإراقة نحو الشيرج إذا وقعت فيه فأرة قياسًا على السمن.
وإذا ثبت الجواز والوقوع، كان حجة يحرم مخالفته، خلافًا لمن قال لا يحرم مخالفته.
وإنما قال المصنف: (والظاهر الوقوع) لاحتمال أن تكون الإجماعات المذكورة عن نصوص لم تنقل إلينا.
قال: (مسألة: إذا أجمعوا على قولين، وأحدث قول ثالث، منعه
الأكثر، كوطء البكر.
قيل: يمنع الرد، وقيل: مع الأرش، فالقول مجانًا ثالث.
وكالجد مع الأخ، قيل: المقاسمة، وقيل: المال كله، فالحرمان ثالث. وكالنية في الطهارة، قيل: تعتبر، وقيل: في البعض، فالتعميم بالنفي ثالث.
وكالفسخ بالعيوب الخمسة، قيل: يفسخ بها، وقيل: لا، فالفرق ثالث.
وكأم مع زوج أو زوجة وأب، قيل: ثلث المال، وقيل: ثلث ما بقي، فالفرق ثالث.
والصحيح التفصيل: إن كان الثالث / يرفع ما اتفقا عليه فممنوع، كالبكر وكالجد وكالطهارات، وإلا فجائز كفسخ النكاح ببعض، وكالأم فإنه يوافق في كل صورة مذهبًا.
لنا: أن الأول مخالفة الإجماع بخلاف الثاني، كما لو قيل: لا يقتل مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب، وقيل: يقتل ويصح، لم يمنع: يقتل ولا يصح وعكسه باتفاق).
أقول: إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين، واستقر رأيهم فيها على القولين فقط، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث أم لا؟ .
منعه الأكثر.
قال في الإحكام: كما لو قال بعض أهل العصر: إن الجارية البكر إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبًا، أن ذلك يمنع الرد، وقال البعض: يردها مع الأرش، فالقول بالرد مجانًا ثالث.
وكما لو قيل في الجد مع الأخ: المال كله للجد، وقال البعض بالمقاسمة، فالقول بحرمان الجد ثالث.
وكما إذا قال بعضهم بوجوب النية في الطهارات، وقال بعضهم في التيمم فقط، فالقول بعدم اعتبارها مطلقًا ثالث.
وكذا لو قال بعضهم: يجوز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة، وهي: الجنون، والجذام، والبصر، والجب في الرجل، والقرن والرتق في المرأة، وقال البعض: لا يفسخ بشيء منها، فالقول بالفسخ
ببعضها دون البعض ثالث.
وكذا لو قال بعضهم في زوج وأبوين، أو زوجة وأبوين: للأم ثلث الأصل في المسألتين، وقال البعض: ثلث ما بقي فيها، فالقول بأن لها ثلث الأصل في مسألة، وثلث ما بقي في الأخرى، ثالث.
واختار صاحب الإحكام والإمام فخر الدين والمصنف التفصيل، وهو أن القول الثالث إن كان رافعًا لما اتفق عليه القولان فممنوع، كمسألة البكر فإن الردّ مجانًا اتفقا على منعه، وكمسألة الجد مع الأخ، فإنهما اتفقا على عدم حرمان الجد، وكعدم النية في التيمم، فإنهما اتفقا على اعتبارها فيه.
أما لو كان القول الثالث لا يرفع ما اتفقا عليه جاز، كفسخ النكاح ببعض العيوب دون بعض؛ فإنه يوافق قولا في صورة والقول الآخر في أخرى، وكالأم؛ فإنه يوافق أيضًا في كل صورة مذهبًا.
احتج المصنف: بأن التفصيل في القسم الأول يستلزم مخالفة الإجماع على امتناع الرد مجانًا المعلوم من منع الرد مطلقًا، ومن منع الرد بدون الأرش، ومخالفة الإجماع حرام، بخلاف القسم الثاني؛ فإنه لا يخالف مجمعًا عليه ولا مانع سواه.
ويوضحه مثال وهو: أنه إذا قال بعضهم: لا يقتل مسلم بذمي، ولا يصح بيع الغائب، وقال البعض الآخر: يقتل المسلم بالذمي، ويصح بيع الغائب.
فلو قال ثالث حدث بعدهما: يصح بيع الغائب، ولا يقتل مسلم بذمي، أو يقتل المسلم بالذمي، ولا يصح بيع الغائب، لم يمتنع اتفاقًا.
وهذا الاتفاق ذكره الآمدي، وظاهر المحصول خلافه؛ لأنهما مسألتان خالف في إحداهما بعضًا وفي الأخرى بعضًا، وإنما الممنوع مخالفة الكل فيما اتفقوا عليه.
وإذا وضح في مسألتين فكذا في الواحدة، والسر فيه أن العمل بـ «يقتل ولا يصح» لا يستلزم خطأ الأمة في شيء من المسألتين، بخلاف الردّ مجانًا فإنه يستلزم خطأ الأمة فيه ضرورة.
والتفصيل في المسألتين وإن كان يستلزم بطلان كل واحد من المجوعين، لكنه لا يترتب عليه عمل، ولهذا قيل: يجوز إجماع الأمة على الخطأ / بحيث لا يضيع الحق في البين، كما لو قال شطر الأمة: القياس ليس بحجة والقدرية كفار، وقال الباقون: حجة وليسوا كفارًا، فإن الحق لم يضع في الأمة في كل واحد من القولين مع أن الخطأ يشملهم، بخلاف جواز إجماعهم بحيث يضيع الحق من البين لا يجوز، وهذا بخلاف اتفاقهم على الشيء الواحد لو جوزنا مخالفته.
قال: (قالوا: فصل ولم يفصل أحد، فقد خالف الإجماع.
قلنا: عدم القول به ليس قولا ينفيه، وإلا امتنع القول في واقعة تتجدد، ويتحقق بمسألة الذمي والغائب.
قالوا: يستلزم تخطئة كل فريق وهم كل الأمة.
قلنا: الممتنع تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه).
أقول: احتج المانعون مطلقًا: بأن التفصيل في القسم الثاني خرق للإجماع فلا يجوز كما في القسم الأول؛ لأنه فصل بين العيوب الخمسة ولم يفصل أحد من الفريقين، وكذلك في مسألتي الأم.
أجاب: لا نسلم اتفاقهم على عدم التفصيل؛ لأن عدم القول بالتفصيل ليس قولًا بعد التفصيل، وإنما يمتنع القول بما قالوا بنفيه لا بما لم يقولوا بثبوته؛ إذ لو كان عدم القول بالشيء قولا بنفيه، لامتنع القول في كل واقعة تتجدد إذا لم يقولوا فيها بحكم، وهو باطل اتفاقًا.
ويتحقق ما ذكرنا من أن عدم القول بالفصل ليس قولًا بعد الفصل بمسألتي الذمي والغائب، حيث جوزوا الفصل وإن لم يقل أحد من الفريقين به.
قالوا ثانيًا: القول بالتفصيل يستلزم تخطئة كل فريق في مسألة وهم كل الأمة، والأدلة السمعية تأباه.
الجواب: أن المنفي تخطئة كل الأمة فيما اتفقوا عليه، وأما فيما لم يتفقوا
عليه، بأن يخطئ فقط في مسألة والبعض الآخر في غيرهما مما لم يخطئ فيه الأول فلا يمتنع، وإلا لامتنع أيضًا في مسألتي الذمي والغائب بعين ما ذكر، وهو باطل اتفاقًا، فتكون الأدلة على أن الأمة لا تجتمع على الخطأ مخصوصة بما ذكر.
قال: (الآخر: اختلافهم دليل على أنها اجتهادية.
قلنا: ما منعناه لم يختلفوا فيه، ولو سلم فهو دليل قبل تقرر إجماع مانع منه.
قالوا: لو كان لأنكر لما وقع، وقد قال ابن سيرين في مسألة الأم مع زوج وأب بقول ابن عباس، وعكس آخر.
قلنا: لأنها كالعيوب الخمسة، فلا مخالفة لإجماع).
أقول: احتج الآخر أي المخالف وهو القائل بجواز التفصيل مطلقًا: بأن اختلافهم في المسألة دليل على أنها اجتهادية يسوغ فيها العمل بكل ما أدى إليه الاجتهاد، فكيف يجعل الخلاف مانعًا منه؟ ، والقول الثالث نشأ عن الاجتهاد فيجوز.
الجواب: متى يكون الاختلاف دليلًا على جواز الاجتهاد، إذ أدى الاجتهاد إلى أحد القولين، أو أدى إلى غيرهما؟ .
الثاني ممنوع والأول مسلّم، وما منعناه من الرد مجانًا لم يختلفوا في منعه، ولو سلّم أن الاختلاف دليل على جواز الاجتهاد مطلقًا، فهو دليل على جواز الاجتهاد ما لم يتقرر إجماع مانع منه، كما لو اختلفوا هم ثم أجمعوا
وهكذا هنا؛ لأن تقرر القولين منهم فيها إجماع منهم على أنه لا يجوز فيها الاجتهاد لغيرهم.
وقد يقال: كون هذا الإجماع مانعًا عين المتنازع فيه.
والأظهر أنه أجاب على كل من المذهبين، وأن هذا من جانب الأكثر لاقتضائه عدم التفصيل في القسم الثاني وأن فيه مخالفة الإجماع - وقد تقدم جوازه، وأنه لا مخالفة فيه للإجماع.
احتجوا ثانيًا: بأنه لو لم يجز لأنكر لما وقع، وقد وقع ولم ينكر.
أما الملازمة؛ فلما عرف من عادة السلف من عدم ترك السكوت عن الباطل، وأما بطلان التالي، فلأن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين، وفي مسألة زوجة وأبوين، وقال ابن عباس:«للأم ثلث الأصل في المسألتين» ، وقال غيره من الصحابة:«للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوج أو الزوجة» ، ثم أحدث التابعون قولًا آخر، فقال ابن سيرين بقول ابن عباس في مسألة الزوج، وبقول الجماعة في مسألة الزوجة، وعكس تابعي
أجاب: بأنه إنما لم ينكر لأنه كالعيوب الخمسة، فالقول الثالث فيهما لم يرفع ما اتفقا عليه، بل وافق في كل صورة مذهبًا.
قال: (مسألة: يجوز إحداث قول آخر أو دليل آخر عند الأكثر.
لنا: لا مخالفة لهم فجاز.
وأيضًا: لو لم يجز لأنكر، ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات.
قالوا: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} .
قلنا: مؤل فيما اتفقوا عليه، وإلا لزم المنع في كل متجدد.
قالوا: {يأمرون بالمعروف} .
قلنا: معارض بقوله: {وينهون عن المنكر} ، فلو كان منكرًا لنهوا عنه).
أقول: إذا استدل أهل العصر بدليل أو تأولوا تأويلًا، فهل لمن بعدهم
إحداث دليل آخر أو تأويل آخر لم ينص عليه الأولون؟ .
لا يخلوا أن يكون الدليل الآخر أو التأويل الآخر قادحًا في الأول أو لا فإن كان قادحًا لم يجز اتفاقًا، وإن لم يكن قادحًا فالأكثر على جوازه.
لنا: أنه قول بالاجتهاد ولا مخالفة فيه للإجماع؛ لأن عدم القول ليس قولًا بالعدم فجاز.
وأيضَا: لو لم يجز لأُنكر لّما وقع؛ لأن عادتهم إنكار ما لا يجوز، ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لما تقدم، شائعًا ذائعًا ولم ينكر عليهم وإلا لنقل، بل يمدحون به ويعدون ذلك فضلا.
احتج المانع بحجتين، تقريره:
الأولى: أنهم اتبعوا غير سبيل المؤمنين؛ لأن سبيلهم ما تقدم وهذا غيره فلا يجوز؛ لقوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} .
أجاب: بأنه وإن كان ظاهرًا فيما ذكرتموه لكنه تأول وأن المراد، ويتبع غير سبيل المؤمنين فيما اتفقوا عليه لا ما لم يتعرضوا له، وهم هنا لم يتركوا التأويل الأول ولا الدليل الأول، بل ضموا إليه غيره، وإنما تأولناها للزوم
المنع في كل واقعة تتجدد بعين ما ذكر، وهو باطل.
وفيه نظر؛ لأن ما نحن فيه سبيل لهم، ولا سبيل لهم هناك.
لا يقال: كلام المجيب تأويل آخر غير ما لأهل العصر الأول وهو عين المتنازع فيه.
لأنا نمنع أنه ليس تأويلًا لأهل العصر الأول، مع أنه كلام على المستند.
قالوا ثانيًا: {تأمرون بالمعروف} خطاب مشافهة، والمعروف مفرد محلى بالألف واللام فيعم، فيأمرون بكل معروف، فلو كان هذا الدليل الثاني أو التأويل الثاني معروفًا لأمروا به، وإذا لم يكن معروفًا لا يجوز المصير إليه.
الجواب: المعارضة بقوله تعالى: {وتنهون عن المنكر} ، فلو كان منكرًا لنهوا عنه بغير ما ذكر، والحق أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر يعلمون بهما.
قال: (مسألة: اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول بعد أن استقر خلافهم، قال الأشعري، وأحمد، والإمام، والغزالي: ممتنع.
وقال بعض المجوزين: حجة.
والحق: أنه بعيد إلا في القليل، كالاختلاف في أم الولد.
ثم قال: وفي الصحيح أن عثمان كان ينهى عن المتعة.
قال البغوي: ثم / صار إجماعًا).
[أقول]: إذا اختلف أهل العصر الأول في مسألة على قولين، واستقرَّ خلافهم وبقاؤهم علينا إلى أن انقرضوا.
فقال أحمد، والأشعري، وجمع من المالكية، وجمع من الشافعية، وجمع من الحنفية: يمتنع اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول.
وقال جمع من المالكية، والشافعية، والحنفية: إنه جائز.
ثم اختلف المجوزون، فقال بعضهم: إنه حجة.
وقال البعض: لا يكون حجة.
ثم قال المصنف: الحق أن الاتفاق من العصر الثاني بعيد بعد استقرار خلاف العصر الأول؛ لأنه لا يكون إلا عن جلي، وبعيد غفلة المخالف عنه إلا أن يكون المخالف قليلًا فإنه لا يبعد، وهذا كمخالفة علي رضي الله للصحابة في بيع أمهات الأولاد، ثم أجمع من بعدهم على المنع، لكن حكى البغوي في شرح السنة [أن عليًا رجع.
وأيضًا: لا إجماع؛ لأن للشافعي قولا بالجواز.
قال: وفي الصحيح أن عثمان كان ينهى عن المتعة - يريد التمتع - في الحج، وفي كتاب الحج من صحيح مسلم: «كان عثمان ينهى عن المتعة وكان عليّ يأمر بها، فقال عثمان لعليّ كلمة، ثم قال عليّ: لقد علمت أنا
نهينا على عهد النبي عليه السلام، فقال: أجل ولكنا كنا خائفين».
ثم أجمع أهل العصر الثاني على جواز التمتع على ما ذكر البغوي، قال في شرح السنة] بعد أن ذكر النهي عن عثمان ومعاوية:«وروي عن عمر أيضًا، وهذا اختلاف محكي، وأكثر الصحابة على جوازها، واتفقت الأملة عليه» ، هذا لفظه فيه، وجل الشراح قالوا:«متعة النكاح» ، وليس في الصحيح عن عثمان نهي عنها، وإنما هو عن عمر، وبعض الشراح قال:«إلا في القليل» ، أي في المسائل القليلة.
قال: (الأشعري: العادة تقضي بامتناعه.
وأجيب: بمنع العادة، والوقوع.
قالوا: لو وقع لكان حجة فيتعارض الإجماعان؛ لأن استقرار اختلافهم دليل إجماعهم على تسويغ كل منهما.
وأجيب: بمنع الإجماع الأول، ولو سلّم فمشروط بانتفاء القاطع، كما لو لم يستقر خلافهم).
أقول: احتج الشافعي ومن قال بقوله بحجتين:
الأولى: أن العادة تقضي بامتناع اتفاق العصر الثاني على ما استقر فيه خلاف العصر الأول؛ إذ اتفاق جميع مجتهدي العصر الثاني على أحد القولين مع أن لكل من القولين دليلًا ممتنع عادة.
الجواب: منع قضاء العادة؛ لجواز أن يكون مأخذ أحد القولين جليًا فصار أهل العصر الثاني إليه، وأيضًا: لو امتنع لم يقع، وقد وقع لما مرّ.
قالوا ثانيًا: لو كان ممكنًا لم يلزم من فرض وقوعه محال، أما الملازمة فبينة، وأما بطلان التالي؛ فلأنه لو وقع لكان حجة لتناول الأدلة له فيتعارض الإجماعان؛ إجماع هؤلاء على عدم تسويغ القول الآخر، وإجماع الأولين على تسويغ كل منهما، وتعارضهما يستلزم تخطئة أحدهما وهو ممتنع سمعًا.
الجواب: لا نسلم الإجماع الأول؛ إذ كل فرقة تجوز ما تقول به وتنفي الآخر، لا سيما إن قلنا المصيب واحد، فلا يجمعون على الخطأ، ولو سلم إجماعهم على تسويغ كل منهما فذلك مشروط بعدم قاطع يمنع منه، وقد وجد وهو الإجماع، فلا تعارض، وهذا كما لو لم يستقر خلاف أهل العصر الأول، فإن إجماعهم على جواز الأخذ بكل من القولين قبل استقرار خلافهم مشروط بانتفاء الإجماع القطعي على أحد القولين، فإذا حصل الإجماع زال شرط الإجماع الأول، وزوال الشرط موجب لزوال المشروط، فما هو جوابكم هناك فهو جوابنا هنا، ولهم أن يفرقوا بأن ذلك تجويز ذهني؛
بأنه يمكن أن يكون ما يجب العمل به هـ ذا وذاك مع تجويز وجودي، بمعنى أنه يجوز العمل بهما جميعًا معًا.
لا يقال: لو جاز أن يكون مشروطًا بعدم الإجماع، لجاز أن ينعقد الإجماع على خلاف الإجماع الأول، ويقال: إن ذلك كان مشروطًا بعدم إجماع ثان.
لأنا نقول: ذلك يؤدي إلى بطلان أصل الإجماع.
ثم أهل الإجماع شرطوا ذلك في الإجماع على قولين، ومنعوا منه في الإجماع على قول واحد لأنهم انتقوا عن ظني إلى قطعي، وليس فوق القطعي شيء ينتقلون إليه، على أن للسائل أن يمنع انعقاد الإجماع على المنع فيما ذكر؛ لأنه إنما انعقد عليه في نفس الأمر، لا على تقدير جواز الاشتراط المتنازع فيه، الذي هو محال عنده.
قال: (المجوز: وليس بحجة، لو كان حجة لتعارض الإجماعان، وقد تقدم.
قالوا: لم يحصل الاتفاق.
وأجيب: بأنه يلزم إذا لم يستقر خلافهم.
قالوا: لو كان حجة لكان موت الصحابي المخالف يوجب ذلك؛ لأن الباقي كل الأمة الأحياء.
أجيب: بالالتزام، والأكثر على خلافه).
أقول: احتج المجوز لوقوعه المانع لحجيته بثلاثة أوجه:
الأول: لو كان حجة لتعارض الإجماعان، وقد تقدم تقريرًا أو جوابًا وإنما لم يستدل على الجواز ابتداء لظهوره.
قالوا ثانيًا: لم يحصل اتفاق الأمة لأن فيه قولًا مخالفًا؛ إذ القول لا ينعدم بموت قائله، فلا إجماع.
أجاب: بأنه منقوض باتفاق العصر الثاني؛ إذ لم يستقر خلاف أهل العصر الأول مع أنه حجة، وما ذكرتم مطرد فيه.
وقد يفرق بأن ما لم يستقر عليه رأي، ليس قولًا لأحد عرفًا.
قالوا ثالثًا: لو كان حجة لكان موت بعض الصحابة المخالفين للباقين يوجب أن يكون قول الباقين؛ لأن الباقين كل الأمة الأحياء في ذلك العصر وهو المعتبر؛ إذ لا عبرة بالميت.
الجواب: منع بطلان اللازم كما سبق في مسألة انقراض العصر وإن كان مخالفًا لمذهب الأكثر، وعلى رأي الأكثرين الفرق بأن قول المخالف الذي مات قول من وجد في العصر الأول، فوجب اعتباره في إجماعهم، وقول المخالف من أهل العصر الأول ليس قولَ مَنْ وجد العصر الثاني، فلا يعتبر إجماعهم.
قال: (الآخر: لو لم يكن حجة لأدى إلى أن تجتمع الأمة الأحياء على الخطأ، والسمعي يأباه.
أجيب: بالمنع، والماضي ظاهر الدخول، فتحقق قوله بخلاف من لم يأت).
أقول: احتج المخالف الآخر، وهو المجوز لوقوعه القائل بحجيته: لو لم يكن حجة لأدى إلى أن تجتمع كل الأمة الأحياء في عصر على الخطأ، والأدلة السمعية تأباه.
الجواب: منع بطلان اللازم؛ لأن الأحياء ليسوا كل الأمة، ومن مات ظاهر الدخول في الأمة لأن له قولًا محققًا لا يموت بموته.
فإن قيل: فليعتبر من لم يأت أيضًا.
قلنا: من لم يأت لا هو محقق ولا قوله، فلا عبرة به.
قال: (مسألة: اتفاق العصر عقيب الاختلاف إجماع وحجة وليس ببعيد، وأما بعد استقراره، فقيل: ممتنع.
وقال بعض المجوزين: حجة، وكل من اشترط انقراض العصر.
قال: إجماع، وهي كالتي قبلها، إلا أن كونه حجة أظهر؛ لأنه لا قول لغيرهم على خلافه).
أقول: إذا اختلف أهل عصر ثم اتفقوا عقب الاختلاف فإجماع وليس ببعيد؛ لجواز وقوعهم على سند جلي بعد اختلافهم، وأما اتفاقهم بعد استقرار خلافهم، فقيل: ممتنع، وإليه ذهب الصيرفي، والأكثر على