الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (مسألة: الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء عليهم السلام الروافض.
وخالف الروافض.
وخالف المعتزلة إلا في الصغائر.
ومعتمدهم التقبيح العقلي.
والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام؛ لدلالة المعجزة على الصدق.
وجوَّزه القاضي غلطًا، وقال:«دلت على الصدق اعتقادًا» .
وأما غيره من المعاصي، فالإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسة، والأكثر على جواز غيرها).
أقول: لما فرغ من مباحث الكتاب، شرع في مباحث
السنة
.
والسنة لغة: الطريقة، فسنة كل واحد ما عهد منه المحافظة عليه، كان من الأمور الحميدة أو لا.
قلت: وتطلق شرعًا على المشروع.
ففي صحيح ابن حبان، عن عبد الرحمن بن شماسة قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام وعليه جلوس، فقال الناس وراءه: سبحان الله، فلم يجلس، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين وهو جالس، فقال: «إني
سمعتكم تقولون سبحان الله كيما أجلس، وليس تلك سنة، إنما السنة الذي صنعته».
وتطلق السنة في اصطلاح الفقهاء: على ما كان من العبادات نفلًا منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشافعية.
وعند المالكية: على ما أمر به عليه السلام وواظب عليه وأظهره، ولم يوجب سواء سماه كذلك، كقوله عليه السلام:«سننت لكم خمسا» أو لا، كسنن الوضوء، وسنن الصلاة، وسنن الحج، وصوم عاشوراء، وزكاة الفطر، والعمرة.
والاصطلاحان مخالفان للغوي.
أما الأول: فلصدق السنة شرعًا على ما صدر منه ولم يواظب عليه.
أما الثاني: فلاشتراط إظهاره والأمر به، مع أن ذلك موجود في بعض ما لم يسموه سنة، ومفقود في بعض ما سموه سنة.
وتطلق السنة في اصطلاح الأصوليين: على ما صدر عنه عليه السلام من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو، وهو المراد هنا، وينحصر ذلك في أقواله عليه السلام
وأفعاله وتقاريره، أما الأقوال فسيأتي الكلام عليها وعلى جهة دلالتها فيما يشترك فيه الكتاب والسنة، والكلام هنا فيما يختص بالأفعال والتقارير، ويشتمل على مقدمة وثلاث مسائل:
أما المقدمة ففي عصمة الأنبياء، ولما كان الاستدلال بالسنة يتوقف على حجيتها، وحجيتها تتوقف على عصمة النبي، لا جرم قدّم ذلك على المسائل.
فنقول: ذهب أكثر الأشاعرة وطائفة كثيرة من المعتزلة إلى أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء قبل البعثة معصية، كبيرة كانت أو صغيرة.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يمتنع ذلك، وهو مختار القاضي عياض، على أنه قال:«تصور المسألة كالممتنع / فإن المعاصي إنما تكون بعد تقرر الشرع؛ إذ لا يعلم كون الشيء معصية إلا من الشرع» .
وقال بعض أصحابنا: «[الامتناع] سمعًا؛ إذ لا مجال للعقل، لكن دليل السمع دلّ بعد ورود الشرع على أنهم كانوا معصومين قبل البعثة» .
وذهب الروافض إلى امتناع ذلك كله عليهم عقلا، ووافقهم أكثر المعتزلة في امتناع وقوع الكبائر منهم عقلا قبل البعثة، ومعتمد الفريقين التقبيح العقلي؛ لأن صدور المعصية منهم مما يحقرهم في النفوس، وينفر الطباع عن اتباعهم، وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل، فيكون قبيحًا عقلًا، وقد تقدم الكلام على فساده.
وأما بعد النبوة، فالإجماع على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام؛ لأن المعجزة دلَّت على صدقهم فيما يبلغونه عن الله، فلو جاز تعمد الكذب عليهم لبطلت دلالة المعجزة على الصدق؛ إذ من دلَّ القاطع على صدقه فيما يبلغه عن المرسل، يمتنع عليه فيه الكذب.
وأما جواز صدور الكذب عنهم في الأحكام غلطًا أو نسيانًا، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وطائفة كثيرة من أصحابنا؛ لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة.
وجوَّزه القاضي وقال: «إن المعجزة إنما دلَّت على صدقهم فيما يصدر عنهم قصدًا واعتقادًا» .
قال القاضي عياض: «لا خلاف في امتناعه سهوا أو غلطا، لكن عند الأستاذ بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله صدق، وعند القاضي أبي بكر الباقلاني بدليل الشرع» .
وأما غير المذكور من المعاصي القولية والفعلية، فالإجماع على عصمتهم من تعمد الكبائر وصغائر الخسة، خلافًا لبعض الخوارج.
وأما إتيان ذلك نسيانًا أو غلطًا، فقال الآمدي:«اتفق الكل على جوازه سوى الروافض» .
وهذا الذي ذكر لا يصح، بل اتفقوا على امتناعه، فقال القاضي والمحققون:«بدليل السمع» .
وقال الأستاذ، وطائفة كثيرة منا، ومن المعتزلة:«وبدليل العقل أيضًا» .
وأما الصغائر التي لا خمسة فيها فجوَّزها عمدًا أو سهوًا الأكثرون،
وبه قال أبو جعفر الطبري من أصحابنا، ومنعته طائفة من المحققين من الفقهاء والمتكلمين عمدًا وسهوًا.
قالوا: لاختلاف الناس في الصغائر؛ ولأن جماعة ذهبوا إلى أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة؛ ولأن الله تعالى أمر باتباعهم، وأفعالهم يجب الاقتداء بهم عند أكثر المالكية وبعض الشافعية والحنفية، فلو جازت منهم المعصية لكنا مأمورين باتباعها.
واعلم أن الخلاف في هذا القسم في الجواز العقلي، وفي الجواز السمعي أيضا، وكثير مما وقع فيه خلاف من هذه التفاصيل هو من باب الظنون،
فالاعتماد فيه على ما يساعده من الأدلة الظنية نفيًا أو إثباتًا، وذلك مستوفا في علم الكلام، وإنما اقتصر المصنف على الحكم ولم يذكر الدليل؛ لأن هذه المسألة من مبادئ هذا العلم.
قال: (مسألة: فعله صلى الله عليه وسلم ما وضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود والأكل والشرب، أو تخصيصه كالضحى، والوتر، والتهجد، والتخيير، والمشاورة، والوصال، والزيادة على أربع فواضح.
وما سواهما، إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة، مثل: صلُّوا، وخذوا عني، وكالقطع من الكوع، والغسل إلى المرافق، اعتبر اتفاقًا.
وما سواه، إن علمت صفته فأمته مثله.
وقيل: في العبادات.
وقيل: كما لو لم يعلم.
وإن لم يعلم، فالوجوب، والندب، والإباحة، والوقف.
والمختار: إن ظهر قصد القربة فندب، وإلا فمباح).
أقول: لما فرغ من المقدمة، شرع في المسائل.
المسألة الأولى: في أحكام أفعال النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته، وهذه العبارة خير من عبارة معظم الشراح حيث قالوا: الأولى في أن أفعاله هل هي كدليل شرع مثل ذلك الفعل بالنسبة إلينا؛ إذ [لا] نزاع في شرعية ما
عد الوصال، والزيادة على أربع، إنما النزاع في حكم ذلك بالنسبة إلينا.
واعلم أن الفعل الصادر عن الرسول، إما أن يكون من مقتضى طبع الإنسان وجبلته أو لا، والأول: كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، ولا نزاع في أن حكمه وحكم أمته في هذا القسم الإباحة.
والثاني: إما أن يتضح تخصصه عليه السلام بحكم ذلك الفعل أوْ لا.
والأول: كوجوب الضحى، ووجوب الوتر، ووجوب المشاورة، ووجوب التخيير، ووجوب التهجد، وإباحة الوصال له، وإباحة الزيادة على أربع نسوة، أما وجوب الأولين، ففي مستدرك الحاكم على الصحيحين:«ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى» ) ، وضعفه الأكثرون؛ لأن في روايته أبا جناب
يحيى بن أبي حية الكلبي.
وأما وجوب المشاورة، فبقوله تعالى:{وشاورهم في الأمر} ، ووجوب التهجد بقوله تعالى:{ومن الليل فتهجد به نافلة لك} ، والتخيير بقوله تعالى:{قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا} الآية.
وأما الوصال ففي الصحيحين: نهى عن الوصال، قالوا: إنك تفعله، فقال:«إني لست كأحدكم» .
وأما الزيادة على أربع فبقوله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} ، وكنّ أكثر من أربع إجماعًا، فهذا القسم أيضًا واضح أن أمته ليست فيه مثله اتفاقًا.
والثاني من القسم الثاني: إن اتضح أن الفعل بيان لمجمل، ودلَّ قولٌ على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل، فلا نزاع في أن حكم ذلك الفعل حكم ذلك المجمل؛ لأنه داخل في الأمر بذلك المجمل؛ إذ المراد من ذلك المجمل هو ما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال:«صلوا كما رأيتموني أصلي» ، يدل على أن فعله بيان لقوله تعالى:{أقيمُوا الصَّلاةَ} ، وكذا «خذوا عني مناسككم» ، يدل على أن أفعاله في الحج بيان لقوله تعالى:{ولله على الناس حج البيت} ، والحديث الأول خرَّجه البخاري، والثاني خرَّجه مسلم ولكن بلفظ:«لتأخذوا مناسككم فأني لا أدري لعلي لا أحد بعد حجي هذا» ، وخرَّجه النسائي ولفظه:«أيها الناس خذوا عني مناسككم» الحديث.
وإن اتضح أنه بيان لظاهر بقرينة لولاها لحمل على ظاهره، كالقطع من الكوع، وكغسل اليدين مع المرفقين، فأمته مثله؛ إذ البيان تابع للمبين في
الوجوب؛ لأن اليد على ما يأتي ظاهر إلى المنكب، والمغيا بإلى ظاهر في عدم دخول ما بعدها، والنبي عليه السلام لما قطع عند الحاجة إلى القطع بعد قوله تعالى:{فاقطعوا أيديهما} كانت قرينة الحال بيانا.
وروى البيهقي، قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقًا من المفصل، وكذا غسل / المرفق، لما غسل اليد دلّ على أنه المراد من قوله:{وأيديكم إلى المرافق} .
وفي مسلم من حديث أبي هريرة: ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم قال:«هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» .
واعلم أن هذا المثال الأخير قد يتمشى على قول من قال: إن (إلى) للاشتراك بين دخول ما بعدها وعدم دخوله، وليس بمختار المصنف.
قال في شرح المفصل: «ووجوب المرافق ليس من الآية، وإنما حمل على ذلك من السنة بدليل» ، لكن في كون غسله المرافق قرينة حالية على أن ذلك هو المراد من قوله:{وأيديكم} نظر؛ لجواز أن يكون فعل ذلك إطالة للغرة كما يقول الشافعي، أو للاحتياط حتى يتحقق تعميم الواجب.
ومن قال بوجوب ذلك من أصحابنا، فبناء على أصلنا الذي يأتي في أن أفعاله عليه السلام بالنسبة إلينا على الوجوب إذا ظهر قصد القربة، لا بناء على ما بنى المصنف عليه.
وجماعة من أصحابنا لا يقولون بوجوب غسل المرافق، فلا يصح قوله:(اعتبر اتفاقًا).
وإنما قال: والغسل إلى المرافق، ولم يقل: مع المرافق مع أنه مراده، يدل عليه قوله في المنتهى:«والغسل للمرافق اتباعًا للآية» .
ومثل الآمدي بالتيمم إلى المرافق، وهو أحسن.
وهنا بحث، وهو أن أفعاله عليه السلام المروية عنه في الصلاة، استدل الفقهاء بكثير منها على الوجوب لا لأن الفعل يدل على الوجوب، بل لأنهم يرون {أقيموا الصلاة} خطاب بمجمل بّين الفعل، والفعل المبين للمجمل المأمور به يدخل تحت الأمر، فيدل مجموع ذلك على الوجوب، فإذا وجدت أفعال غير واجبة، فلابد من دليل يدل على عدم الوجوب.
وفيه نظر، وهو أن يقال: يتبين ذلك المجمل بأول الأفعال، فالفعل الواقع بعده إذا كان فيه زيادة لا يكون بيانًا لوقوع البيان بالأول، فيبقى الثاني فعلًا مجردًا لا يدل على الوجوب، اللهم إلا أن يدل دليل على وقوع ذلك الفعل المستدل به بيانًا، فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجود ذلك الدليل، بل قد يقوم الدليل على أن هذا الثاني ليس ببيان، كرواية من روى فعلًا، وكان حين وجوب الصلاة غير مميز، ثم ميز بعد زمان فروى فعلًا، وكذا إذا روى متأخر الإسلام فعلا رواه بعد إسلامه، فإن هذا مقطوع بتأخره، فلا يكون بيانًا، وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة.
وقد يجاب عنه بجواب جدلي، وهو أن يقال: دلّ الحديث المعين على وقوع هذا الفعل، والأصل عدم غيره نوعًا، فتعين أن يكون نوعه بيانًا.
وهذا قد يقوى إذا وجد فعل ليس فيه ما قام الدليل على عدم وجوبه، فأما إذا كان فيه شيء من ذلك فإذا جعلناه بيانًا بدلالة الأصل على عدم
غيره، ودلّ الدليل على عدم وجوبه، لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت به أولًا، مع أنه إذا كان نوعه بيانًا لا يلزم أن يكون الزيادة في الفعل [المتأخر] بيانًا؛ إذ لم يتعين الشخصي للبيان.
وأما ما سوى الأقسام الثلاثة، فإن علمت صفة الفعل من: وجوب، أو ندب، أو إباحة في حقه، بنص أو أمارة، فأمته مثله، وهو مذهب الأكثر؛ لأنا متعبدون بالتأسي به في فعله على صفته.
وقيل: إن ذلك الفعل إن كان عبادة فأمته مثله، وإلا فلا، وهو قول أبي / علي بن خلاد.
وقيل: حكم ما علمت صفته، حكم ما لم تعلم صفته.
وأما ما لم يعلم صفته، فاختلفوا فيه على خمسة مذاهب:
الوجوب: وحكاه ابن خويز منداد، وأبو الفرج عن مالك، وقال به
الأبهري، وابن القصار، وأكثر المالكية.
وابن سريج، والاصطخري، وابن خيران، وابن أبي هريرة
من الشافعية، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة، وجماعة من المعتزلة.
الثاني الندب، وهو مختار إمام الحرمين.
الثالث الإباحة، وحكاه الآمدي عن مالك.
وقيل بالوقف، وهو مختار الغزالي.
الخامس مختار المصنف: إن ظهر أنه فعله تقربًا فندب في حقنا، وإلا فمباح في حقنا.
وقال الباجي: «إن ظهر قصد القربة فواجب، وإن لم يظهر قصد القربة فمباح» .
وقال بعض أصحابنا: «إن لم يظهر قصد القربة فندب» .
قال: (لنا: أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته، وقوله تعالى:{فلما قضى زيد منها وطرًا} إلى آخرها.
وإذا لم تعلم، وظهر قصد القربة، ثبت الرجحان، فلزم الوقوف عنده، والوجوب زيادة لم تثبت.
وإذا لم يظهر، فالجواز والوجوب والندب زيادة لم تثبت.
وأيضًا: لما نفى الحرج بعد قوله تعالى: {زوجناكها} ، فهمت الإباحة مع احتمال الوجوب والندب).
أقول: لما فرغ من تلخيص محل النزاع وتقرير المذاهب، شرع في الاحتجاج لمختاره في القسمين الآخرين:
الأول منهما: ما علمت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة، واختار أن أمته مثله، عبادة كان أو لا، واحتج على ذلك بوجهين:
الأول الإجماع: فإن الصحابة كانوا يرجعون في الحوادث إلى فعله عليه السلام، المعلوم صفته من وجوب أو ن دب أو إباحة، كرجوعهم إلى وجوب الغسل من التقاء الختانين عند قول عائشة:«فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» .
وكتقبيل الحجر الأسود؛ لتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم إياه، ورجوعهم إلى جواز
تقبيل الصائم لتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وإلى غير ذلك من الوقائع من غير نكير، وذلك يقتضي علمهم بمساواته فيه، والأصل عدم شيء آخر علموا به غير الفعل، ولا بحثوا عنه، أو لاكتفوا به من غير بحث عن الفعل.
الوجه الثاني من التمسك: قوله تعالى: {فلما قضى زيد} الآية، علل نفي الحرج في نكاح أزواج الأدعياء، بتزويج النبي صلى الله عليه وسلم زوجة دعيه، ولولا مساواتهم له في علمت صفته، لم يكن للتعليل معنى؛ لأنه حينئذ لا يلزم من نفي الحرج عنه نفيه عنهم، ودلّ أيضًا على أن الإباحة في حقهم ليس بالإباحة الأصلية، ثم الآية إنما تقوم حجة على ابن خلاد، ولا تنهض حجة على المذهب الثالث، أو لا تدل على التأسي في كل فعل علمت صفته، بل على التأسي في المباح فقط.
ثم احتج لمختاره في القسم الآخر، وهو ما لم تعلم صفته.
ووجهه: أنه إن ظهر قصد القربة، ثبت رجحان الفعل على الترك؛
لانتفاء الحرمة أو الكراهة وإلا لم يفعله، وانتفاء تساوي طرفيه وإلا لما قصد به القربة، فبقي للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو رجحان الفعل على الترك، فيلزم الوقوف عنده، وخاصة الوجوب وهو المنع من الترك زيادة لم تثبت والأصل عدمها، فتعين الندب / لامتناع وجود المشترك بدون فرد من أفراده.
قلت: وهذا ينهض في حقه عليه السلام، وفي حقنا يكون الأمر كذلك إما بالأدلة الدالة على طلب الطاعة، أو لأنه بالدليل المذكور صار مما علمت صفته في حقه، وقد تقدم أن ما هذا شأنه فأمته مثله، واحتمال أنه من خصائصه من الأمور النادرة، فيلحق بالأعم الأغلب.
لا يقال: الثابت رجحان الفعل، وهو أعم من أن يكون مع جواز الترك أو لا مع جوازه، فخصوصية الندب زيادة لم تثبت بعين ما ذكر؛ لأنا نقول: جواز الترك وإن كان زيادة لكن هي الأصل، لا أن الأصل عدمها.
أما إذا لم يظهر قصد القربة فمباح؛ لانتفاء الحرمة والكراهة، وإلا لم يفعله، والوجوب والندب زيادة لم تثبت والأصل عدمها، هذا أيضًا في حقه، وأما في حقنا، فإما بالإباحة الأصلية، أو لأنه في حقه مما علمت صفته بالدليل المذكور، وأمته فيما علمت صفته مثله بالدليل المتقدم.
لا يقال: ما ذكرتم من الأصل معارض بالغالب، وهو أن أفعاله التي ليست بجبلية الغالب عليها الوجوب أو الندب، لأنا نمنع الغلبة.
وأيضًا: فهمت الإباحة مع احتمال الوجوب والندب عند رفع الحرج من
قوله تعالى: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج} ، ولولا رجحانها لم تفهم، وإلا لكان ترجيحًا للمساوي أو المرجوح، وهذا التقرير أسعد بما في المنتهى؛ إذ لم يجعل الآية دليلًا مستقلًا، بل قال: «ويوضحه أنه لما نفى الحرج
…
» إلى آخره.
وعلى هذا لا يعترض بأنه جعله أولى مما علمت صفته، وثانيًا مما لم تعلم صفته؛ لأن الآية تكون دليلًا على رجحان الإباحة في حقه عليه السلام مع احتمال الوجوب أو الندب، ثم أمته مثله كما تقدم.
قال: (الموجب: {وما آتاكم الرسول فخذوه} .
أجيب: بأن المعنى: «وما أمركم» ؛ لمقابلة «وما نهاكم» .
قالوا: {فاتبعوه} .
أجيب: في الفعل على الوجه الذي فعله، أو في القول، أو فيهما.
قالوا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ، أي لمن كان يرجوا الله فله فيه أسوة حسنة.
قلنا: معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله.
قالوا: خلع نعله فخلعوا، وأقرهم على استدلالهم، وبين العلة.
قلنا: بقوله: «صلوا» ، أو لفهم القربة.
قالوا: لما أمرهم بالتمتع تمسكوا بفعله.
قلنا: لقوله: «خذوا» ، أو لفهم القربة.
قالوا: لما اختلف الصحابة في الغسل بغير إنزال، سأل عمر عائشة فقالت:«فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» .
قلنا: إنما استفيد من: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» ، أو لأنه بيان {وإن كنتم جنبًا} ، أو لأنه شرط الصلاة، أو لفهم الوجوب.
قالوا: أحوط، كصلاة ومطلقة لم تتعينا.
والحق أن الاحتياط فيما ثبت وجوبه أو كان الأصل كالثلاثين، فأما ما احتمل لغير ذلك فلا).
أقول: أخذ الآن يحتج للقائلين بالوجوب فيما لم تعلم صفته، واحتج لهم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الكتاب فبثلاث آيات:
الأولى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} ، ووجه التمسك بها أنه أمر بأخذ ما آتاناه، وما فعله فقد آتانا، والأمر للوجوب، والأخذ الامتثال مجازًا، ومن ذلك فعله الذي لم تعلم صفته فيجب امتثاله.
وإنما قلنا: إن فعله مما أعطاناه، لأن الصحابة فهموا ذلك عن / ابن مسعود، وأنه رأى محرمًا عليه قميص فقال له: انزع عنك هذا، فقال الرجل: اقرأ عليّ في ذلك آية، فقرأها.
الجواب أولًا: أن الآية نزلت في الغنائم، وحمل اللفظ على الحقيقة
أولى؛ لأن ما فعله إنما يصدق عليه أنه معطي بطريق المجاز، والمعطي من الغنائم يصدق عليه {وما آتاكم الرسول} بطريق الحقيقة.
سلمنا أن الحقيقة غير مرادة، لكن لا يصار إلى المجاز الأقرب، والمراد من قوله تعالى:{وما آتاكم الرسول فخذوه} أي ما أمركم، لمقابلته لقوله: وما نهاكم رعيًا للمطابقة، والأمر لا يتناول الفعل، فلا يكون الفعل الذي لم تعلم صفته واجبًا.
وأيضًا: لا نسلم وجوب جميع ما أتى به؛ لأن إيجاب ما ليس بواجب تناقض، فالمراد بعضه وهو ما كان واجبًا، فيتوقف الاستدلال بها عليه، وهل النزاع إلا فيه؟ .
الآية الثانية: قوله تعالى: {فاتبعوه} والأمر ظاهر في الوجوب، فيكون امتثال متابعته واجبة؛ إذ المتابعة هي الإتيان بمثل فعله.
أجاب: بأن حقيقته اتباع شخص النبي وهو غير مراد، وحينئذ احتمل أن يكون فاتبعوه في الفعل على الوجه الذي فعله، أو في القول، أو فيهما؛ لأن الآية مطلقة لا عامة، وحينئذ لا تجب متابعته في فعل لم تعلم صفته.
أما على التقرير الأول والثالث؛ فلأن المتابعة في الفعل أن يفعله المتبع على الوجه الذي فعله المتبوع، إما من وجوب، أو ندب، أو إباحة، ولا يتصور ذلك فيما لم تعلم صفته.
وأما على التقرير الثاني؛ فلأنه لا يلزم من وجوب المتابعة في القول وجوبها في الفعل، فضلا عن قول لم تعلم صفته، ولأنه إذا فعله على الندب
أو الإباحة ونحن لا نعلم على أي وجه فعله، فلو حكمنا بوجوبه مع كونه غير [واجب، مستلزم لاعتقاد كونه غير واجب] ، لوجوب اعتقاد الشيء على ما هو عليه، لزم التناقض.
الآية الثانية: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ووجه التمسك بها أن التأسي لازم لرجائنا الله واليوم الآخر؛ لأن {لمن كان يرجوا الله} يدل من لكم، فمعناها لقد كان لمن يرجوا الله واليوم الآخر الله واليوم الآخر، وملزوم الحرام حرام، ولازم الواجب واجب فهي في معنى قضية شرطية، من كان يرجوا الله فله فيه أسوة [حسنة].
وأيضًا: ظاهرة في التهديد على عدم التأسي، فيكون التأسي واجبًا.
لا يقال: لا تدل على عموم المتابعة؛ إذ لا عموم للأسوة، فيحمل على المتابعة في أقواله أو أفعاله التي علمت صفتها؛ لأن نقول: لا تحمل على معين لعدم دلالة اللفظ عليه، ولا على واحد مبهم، لكونه على خلاف الغالب من خطاب الشرع، فحمله على الجميع أولى إظهارًا لشرفه عليه السلام.
ثم أجاب المصنف: أن معنى التأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله، فيتوقف إثبات الوجوب علينا على العلم بالوجوب عليه، والفرض أنه لم تعلم صفته بالنسبة إليه.
وتمسكوا من السنة بدليلين:
الأول: ما رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ولفظه عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعله، فخلع الناس نعالهم، فلما / انصرف قال:«لما خلعتم، قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا»
الحديث، قررهم النبي صلى الله عليه وسلم على استدلالهم، وبين العلة في خلعه نعله، فلولا أن فعله الذي لم تعلم صفته واجب لأنكر عليهم العمل في الصلاة، بل بين
وجه الخصوصية.
وجوابه: أنهم فهموا وجوب الخلع من قوله عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، فجوزوا نسخ جواز الصلاة بالنعال، لا على أنهم رجعوا إلى الفعل لكونه بيانًا لـ {أقيموا الصلاة} ؛ لتأخر هذا عن صلوات كثيرة وقد تقدم ما فيه.
أو نقول: إنما خلعوا على طريق الندب، لفهمهم أن ذلك قربة.
ولو قدم هذا المنع لمكان أولى مع كونه أيضًا أقوى، لاحتمال أن يكون «صلوا كما رأيتموني أصلي» قاله بعد قضية الخلع، وإن كان الراجح أنه قاله عند شروع الصلاة.
الثاني من السنة: في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حجة الوداع من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل من إحرامه، وأن يجعل حجه عمرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه، وأن الناس استعظموا ذلك، فقال:«لولا أن معي الهدي لأحللت» .
والمراد بالتمتع هنا فسخ الحج في العمرة.
ووجه التمسك: أنهم اتبعوا فعله وإلا لعصوا، ثم لم ينكر، بل بين العلة وهي كون الهدي معه.
الجواب: أنهم إنما تمسكوا بفعله لقوله: «خذوا عني مناسككم» لا من فعله فقط، أو من فهم القربة، فرأوه ندبًا لا واجبًا.
وفي الجوابين نظر؛ لأن الأول يقتضي أنهم فهموا أن الفعل بيان، والأمر بالنسخ يرده، الثاني أنه بعيد؛ إذ لا يترك واجب أو مندوب لمندوب آخر، على أن الثاني كلام على المستند.
وتمسكوا بالإجماع، ووجه التمسك به: أن الصحابة لما اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال، سأل عمر عائشة رضي الله عنهما فقالت:«فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا» ، فرجعوا إلى وجوب الغسل، فلو لم يتقرر عندهم أن فعله واجب لما رجعوا إلى وجوب الغسل، وهذا الحديث على هذا النسق لم أره، وفي مسند أحمد عن أُبيّ بن كعب أن عمر بعث إلى عائشة يسألها عن ذلك، فقالت:«إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل» ، وخرجه الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة، قالت: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله
فاغتسلنا».
وخرج مسلم عن أبي موسى أنه سأل عائشة عما يوجب الغسل، فقالت: على الخبير [بها] سقطت، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل» .
والجواب: أنا لا نسلم أن وجوب الغسل مستفاد من حكاية فعله عليه السلام بل من قوله عليه السلام: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» وسؤال عمر عائشة ليعلم هل فعله موافق لهذا الخبر أو هو موافق لظاهر: «إنما الماء من الماء» ، أو إنما رجعوا لأنهم رأوا فعله بيان لقوله تعالى:{وإن كنتم جنبا} ، ولا نزاع في وجوب الغسل إذا كان بيانًا لمجمل، أو إنما رجعوا من حيث أن الغسل شرط الصلاة بالنسبة إليه واجب وأمته فيها مثله لقوله عليه السلام:«صلوا كما رأيتموني أصلي» ، أو لأنهم فهموا / من
حكاية عائشة وجوب الغسل بقرينة، فيرجع إلى ما علمت صفته.
والجواب الثالث: وقع في المنتهى؛ ولأن الغسل مما يتعلق بالصلاة وأمته فيها مثله، وهو خير ما هاهنا؛ لأنه إنما يكون شرطًا بتقدير كونه جنابة، والنزاع فيه.
وتمسكوا أيضًا بدليل منتزع من القياس، توجيهه:
أن فعله الذي لم تعلم صفته دائر بين الوجوب والندب والإباحة، فحمله على الوجوب أحوط ليؤمن الإثم، كما لو نسي صلاة من الخمس لا يدريها فإن الخمس تجب احتياطًا، وكما لو طلق واحدة من نسائه ثم نسيها، فإنه يجب عليه الكف عن جميعهن لأنه أحوط؛ لئلا يقع في الحرام.
أجاب المصنف: بأنا نمنع أن كل احتياط واجب، بل الاحتياط المأمور به فيما ثبت وجوبه كما في الصلاة المنسية، أو كان ثبوته هو الأصل كثوم ثلاثين إذا غمي هلال شوال، إذ الأصل بقاء رمضان.
أما إذا احتمل لغير ما ذكر مما ثبت وجوبه أو كان الأصل فلا، كالصوم يوم الشك في هلال رمضان، ولما ثبت الوجوب في المقيس عليه عملنا بالاحتياط ولم نعمل في المقيس لعدم الوجوب.
لا يقال: الاحتياط حيث يندفع به ضرر يثبت الوجوب، وهنا بتقدير أن يكون واجبًا وحمل على الإباحة وترك حمل الإثم؛ لأنا نقول: قد يكون من خصائصه، ويكون حرامًا علينا فنأثم أيضًا.
قال: (الندب، الوجوب يستلزم التبليغ، والإباحة منتفية لقوله
تعالى: {لقد كان لكم} ، وهو ضعيف.
الإباحة: هو المتحقق، فلزم الوقوف عنده.
أجيب: إذا لم يظهر قصد القربة).
أقول: لما فرغ من أدلة القائلين بالوجوب، احتج لمن قال بالندب.
وتوجيهه: أن فعله عليه السلام الذي لم تعلم صفته لا يكون حرامًا ولا مكروهًا، وإلا لم يأته.
والوجوب باطل؛ لاستلزامه التبليغ دفعًا للتكليف بما لا يطاق، لكنه لم يبلغه وإلا لعلمت صفته، والإباحة منتفية بقوله تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} في معرض المدح، ولا مدح على المباح، وقوله:{حسنة} ، ولا حسنة في المباح فتعين الندب.
قال المصنف: وهو ضعيف، ولم يبين ضعفه.
ووجهه: أنا لا نسلم أنه ليس بواجب.
قولكم: الواجب يستلزم التبليغ ولم يبلغ.
قلنا: بلغ بالفعل، وقال تعالى:{واتبعوه} .
سلمنا، لكن المندوب أيضًا يستلزم التبليغ.
سلمنا، ولا نسلم أن الإباحة منتفية.
وحسن التأسي في المباح أن يؤتي به على الوجه الذي فعله عليه السلام.
ثم لما فرغ من الاحتجاج للقائل بالندب، احتج للقائل بالإباحة.
وتوجيهه: الإباحة متحققة لانتفاء الحرمة والكراهة وإلا لم يفعله، والوجوب والندب لا دليل عليهما، فالوقوف عند المتحقق ونفي غيره هو الحق.
والجواب: أن ذلك حق فيما لم يظهر فيه قصد القربة، أما ما ظهر فيه قصد القربة فنمنع أنه لا دليل على الندب؛ لأن ظهور قصد القربة دليل رجحان الفعل؛ لأن المباح لا يقصد به القرية.
قال: (مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره قادرًا، فإن كان كمضي كافر إلى كنيسة، فلا أثر للسكوت اتفاقًا، وإلا دلّ على الجواز.
فإن سبق تحريمه فنسخ، وإلا لزم ارتكاب محرم / وهو باطل.
فإن استبشر فأوضح.
وتمسك الشافعي في القيافة بالاستبشار وترك الإنكار، لقول المدلجي وقد بدت له أقدام زيد وأسامة:«إن هذه الأقدام بعضها من بعض» .
وأورد: أن ترك الإنكار لموافقة الحق، والاستبشار بما يلزم الخصم على أصله؛ لأن المنافقين تعرضوا لذلك.
وأجيب: بأن موافقة الحق لا تمنع إذا كان الطريق منكرًا، وإلزام الخصم حصل بالقيافة، فلا يصح مانعًا).
أقول: المسألة الثانية من السنة: في تقريره عليه السلام، هل يكون دليلا على جوازه أم لا؟ .
اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا علم بفعل صدر عن المكلف ولم ينكر عليه مع القدرة على الإنكار، فإن كان ذلك الفعل مما بين الرسول عليه السلام تحريمه
فلا فائدة للإنكار؛ إذ فاعله غير متبع له، كمضي كافر إلى كنيسة، فلا دلالة لسكوته على الجواز اتفاقًا.
وإن لم يكن كذلك، دلّ على جواز في حق فاعله، وفي حق غيره قياسًا عليه.
فإن كان مما سبق تحريمه فسكوته نسخ لذلك التحريم، وإنما دلّ ذلك على الجواز؛ لأنه لو لم يكن ذلك جائزًا لأنكره عليه السلام، وإلا لزم أن يرتكب النبي صلى الله عليه وسلم المحرم؛ لأن تقرير المحرم محرم، لكن ارتكاب النبي عليه السلام [المحرم] باطل.
أما لو انضم إلى ترك الإنكار الاستبشار فأوضح في الجواز، وبذلك تمسك الشافعي في القيافة في إثبات النسب بترك الإنكار والاستبشار في قضية المدلجي.
وهي ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تري أن مجززًا
نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» ، واعترض أبو بكر من أصحابنا هذا الاستدلال على الشافعي، وإن كان مالك يقول بالقيافة في الأمة يطؤها السيدان في طهر، وله قول في العمل بها في الحرائر أيضًا.
ووجه الاعتراض: أن النبي عليه السلام إنما لم ينكر لأنهم وافقوا الحق، إذ «الولد للفراش» ، فلو أنكر عليهم لتوهم أنه عليه السلام ينفيه عنه، لا
أنه قرر أن النسب يثبت بالقيافة، وإنما استبشر لأن المنافقين أنكروا أن يكون ابنه، لبياض زيد وسواد أسامة، وهم يعتقدون القيافة، والنبي عليه السلام تأذى من قول المنافقين، فلما قال مجزز ما قال وهم يعتقدون حكم القيافة، لزمهم على أصلهم الذي هو القيافة أن يكون ابنه، وأن يكونوا كاذبين فيما تخرصوا، فاستبشر بما يلزمهم مما يسلمونه.
وردَّ المصنف اعتراض القاضي: بأن القيافة إذا لم تكن طريقًا لإثبات النسب لم يجز للنبي ترك إنكارها وإن كانت موافقة للحق؛ لأن موافقة الحق لا تمنع الإنكار إذا كان الطريق منكرًا؛ لأنه سكوته لأجل حقية الشيء يوهم حقية طريقه، والاستبشار ليس لإلزام الخصم لأنه لو كان أصله باطلا لأنكره إذ الإنكار لا يدفع الإلزام؛ لأن الإلزام حصل بمجرد قول القائف، فلا يدفع إنكاره عليه السلام ما ألزمهم على أصلهم، فلما لم ينكر دلّ على الجواز.
قال: (مسألة: الفعلان لا يتعارضان، كأكل وصوم، لجواز الأمر في وقت، والإباحة في آخر، إلا أن يدل دليل على تكرير الأول له أو لأمته، فيكون الثاني ناسخًا).
أقول: المسألة الثالثة: في أن أفعاله عليه السلام هل تتعارض أم لا، وهل تتعارض مع أقواله؟ وهما بحثان، ولهذا جعلهما في المنتهى مسألتين.
والتعارض بين شيئين: تقابلهما على وجه يمنع كل واحد مقتضى
الآخر، ثم الفعلان إما أن يكونا متماثلين أو لا.
والثاني إما أن يمكن الجمع بينهما أو لا.
والثاني إما أن تناقض أحكامهما أو لا.
والأول: كصلاة الصبح في وقتين مختلفين.
الثاني: كالصلاة والصوم.
والثالث: كصلاة الظهر والعصر، ولم يتعرض المصنف لهذه الثلاثة لظهور حكمها.
الرابع: إذا صام في وقت وأكل في مثله، ولا تعارض أيضًا في الحقيقة؛ لأن الفعل لا عموم له من حيث هو؛ إذ لا يقع في الأعيان إلا مشخصًا، فلا يكون كليًا حتى ينافي فعلًا آخر، فجاز أن يكون واجبًا في وقت ومباحًا في آخر، فلا يكون الثاني رافعًا لمقتضى الأول لعدم عمومه.
وشرط التناقض اتحاد الزمان، اللهم إلا أن يدل على وجوب تكرار الأول، فالثاني ناسخ في حقه، لكن لو دلّ دليل على وجوب التأسي به في الأول ووقع الثاني قبل التأسي، ودلّ دليل على وجوب تكرار التأسي به في الثاني كان نسخًا في حق الأمة، فإن دلّ دليل على وجوب تكرار الأول للأمة كان الثاني نسخًا في حق الأمة أيضًا، أعني نسخًا لحكم الدليل الدال على التكرار، لا لحكم الفعل لعدم اقتضائه التكرار، ورفع حكم قد وقع محال، وإطلاق النسخ والتخصيص على الفعل مجاز، وهذا [إذا] دلّ
دليل على وجوب تأسي الأمة به في الثاني، وإلا فلا معارضة في حقهم.
لكن لو رأى النبي عليه السلام شخصًا تلبس في مثل هذا الوقت بضد ذلك الفعل وأقره عليه، كان ذلك تخصيصًا للفاعل إن لم يكن الشخص فعله قط، وإلا كان نسخًا لمقتضى الدليل الدال على تعميم الحكم على الأمة في حق ذلك الشخص.
قال: (فإن كان معه قول ولا دليل على تكرار ولا تأس، والقول خاص به وتأخر، فلا تعارض.
فإن تقدم، فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا.
فإن كان خاصًا بنا، فلا تعارض تقدم أو تأخر.
فإن كان عامًا لنا وله، فتقدم الفعل أو القول له ولأمته كما تقدم.
إلا إن يكون العام ظاهرًا فيه، فالفعل تخصيص كما سيأتي).
أقول: المبحث الثاني: في أفعاله هل تتعارض مع أقواله؟ .
اعلم أن الفعل إذا كان معه قول يعارضه لا يخلو إما أن لا يدل دليل على وجوب تكرار الفعل في حقه، ولا على وجوب تأسي الأمة به فيه.
أو يدل الدليل على وجوب كل واحد منهما، أو يدل الدليل على وجوب تكرره فقط، أو بالعكس.
فهذه أربعة أقسام، كل منها إما أن يكون القول خاصًا به، أو بالأمة،
أو عامًا لنا وله، وعلى التقادير الثلاثة إما أن يتقدم الفعل، أو يتأخر، أو يجهل التاريخ.
القسم الأول: وقد علمت أن أصنافه الأول ثلاثة.
الأول منها: أن يكون القول مختصًا به، فإن تأخر القول مثل أن يقول بعد أن فعل الفعل: لا يحل لي مثل هذا الفعل في مثل ذلك الوقت، فلا تعارض أصلًا، لا في حقه ولا في حقنا، وهو ظاهر.
وإن تقدم القول مثل أن يقول: لا يحل لي كذا في وقت كذا، ثم يفعله في ذلك الوقت، فهو نسخ قبل التمكن عندنا، ولا يجوز صدور مثل / هذا عند المعتزلة.
وإن جهل التاريخ، فحكمه حكم ما دلّ الدليل على وجوب تكرره في حقه، ووجوب تأسي الأمة به والقول خاص به وجهل التاريخ؛ فلهذا لم يتعرض له المصنف استغناءً بذكره ثمة.
أما لو كان [الفعل خاصًا بنا، فلا تعارض أصلًا، تقدم الفعل أو تأخر لعدم التوارد.
أما لو كان القول عامًا نتأوله، فعمومه إن كان] بطريق النص، كما لو قال: حرم عليّ وعلى الأمة كذا، فحكم تقدم الفعل أو القول له أو للأمة كما تقدم، ففي حقه إن تأخر القول فلا تعارض، وكذا في حقنا.
وإن كان الفعل متأخرًا، فهو نسخ قبل التمكن في حقه عندنا، ولا يجوز عند المعتزلة مثل هذا، ولا تعارض في حقنا.
أما لو كان العموم بطريق الظهور، مثل أن يقول: يحرم على المسلمين كذا، فبالنسبة إلينا كما تقدم، وبالنسبة إليه يكون الفعل تخصيصًا لذلك القول، كما سيأتي في العموم من أن فعله عليه السلام يخصص العموم.
والضمير المجرور من قوله: (إلا أن يكون العام ظاهرًا فيه) يحتمل أن يعود على العموم، أو على النبي عليه السلام.
قال: (فإن دلّ دليل على تكرر وتأس، والقول خاص به، فلا معارضة في الأمة.
وفي حقه المتأخر ناسخ.
فإن جهل.
فثالثها المختار: الوقف للتحكم.
فإن كان خاصًا بنا، فلا معارضة فيه.
وفي الأمة المتأخر ناسخ.
فإن جهل، فثالثها المختار يعمل بالقول؛ لأنه أقوى لوضعه كذلك، ولخصوص الفعل بالمحسوس، وللخلاف فيه، ولإبطال القول به جملة، والجمع ولو بوجه أولى.
قالوا: الفعل أقوى؛ لأنه يبين به القول، مثل: صلوا، وخذوا عني، أو كخطوط الهندسة وغيرها.
قلنا: القول أكثر، وإن سلّم التساوي، فيرجح بما ذكرناه، والوقف
ضعيف للتعبد بخلاف الأول.
فإن كان عامًا، فالمتأخر ناسخ.
فإن جهل، فالثلاثة).
أقول: القسم الثاني: أن يدلّ دليل على وجوب تكرره في حقه، وعلى وجوب تأسي الأمة به فيه، والاحتمالات التسع قائمة فيه.
فإن كان خاصًا به فلا معارضة في الأمة؛ لأن القول لم يتناولهم، وفي حقه إن تأخر القول فهو ناسخ للتكرار، وإن تقدم فالقول ناسخ، مثل التمكن عندنا في حقه، وبعد التمكن ناسخ عندنا [وعند المعتزلة].
وإن جهل التاريخ.
فقيل: يعمل بالقول؛ لأن الفعل يحتاج إلى القول في بيان وجهه.
الثاني: يجب العمل بالفعل؛ لأنه أقوى.
الثالث وهو المختار: الوقف حتى يتبين المتأخر؛ إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فالجزم بوجوب العمل بأحدهما عينًا تحكم.
أما لو كان خاصًا بنا، فلا معارضة في حقه بحال، وفي حق الأمة إن
تأخر الفعل فهو ناسخ، ونعني إذا كان دليل التأسي خاصًا بهذه الصورة، وإلا قدم القول، وكان الفعل مختصًا به عليه السلام.
وإن تأخر القول كان ناسخًا في حقنا، إن كان دليل التأسي خاصًا، وإلا فالفعل مختص به - ولا معارضة - والقول لنا.
وإن جهل التاريخ.
فقيل: يعمل بالقول وهو المختار، وقيل: بالفعل، وقيل: بالوقف.
احتج للمختار بأربعة أوجه:
الأول: أن القول أقوى دلالة [على مدلوله] من الفعل؛ لأنه وضع لذلك، بخلاف الفعل فإن فهم الشيء عنه إنما يكون بقرينة.
ولأن القول أعم؛ لأنه ينبئ عن المعقول والمحسوس، والفعل عن المحسوس فقط، فيكون أعم فائدة وكان أولى.
وأيضًا: القول لم يختلف في كونه دالًا، والفعل مختلف فيه، فالمتفق أولى، وأيضًا: العمل بالفعل يبطل مقتضى / القول.
أما في حقه فلعدم تناول القول له، وأما في حق الأمة فلوجوب العمل بالفعل حينئذ، والعمل بالقول لا يبطل الفعل؛ لأنه يبقى العمل بالفعل بالنسبة إلى الرسول، فإذا عملنا بالقول أمكن الجمع ولو من وجه، بخلاف إعمال الفعل، والجمع مهما أمكن أولى من إبطال أحد الدليلين.
واحتج القائلون بوجوب العمل بالفعل:
قالوا: الفعل أقوى دلالة من القول؛ لأن القول يبين بالفعل، يدل على ذلك «صلوا كما رأيتموني أصلي» و «خذوا عني مناسككم» بيانًا لآية الحج وآية الصلاة، وكخطوط الهندسة وغيرها مما جرت به العادة للتعليم، مما لا يفي القول به، ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة.
أجاب: بأن غايته أنه وجد البيان بالفعل، لكن البيان بالقول أكثر فيكون راجحًا.
سلمنا التساوي، لكن البيان بالقول أرجح بما ذكرنا؛ لأن الدليلين من جنس واحد إذا تعارضا، فقيام دليل آخر على وفق أحدهما مرجح.
لا يقال: يصار إلى الوقف كما في حقه عليه السلام للاحتمالين.
لأنا نقول: نحن متعبدون بالعمل، والتوقف في إبطال العمل ونفي للتعبد به، بخلاف الأول وهو التوقف في حقه لعدم تعبدنا به.
أما لو كان عامًا لنا وله، فإن تأخر القول فهو ناسخ للتكرار في حقه، وناسخ لوجوب التأسي في حقنا، وإن تأخر الفعل وكان قبل التمكن من مقتضى القول، فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا، إلا أن يتناوله القول ظاهرًا، فإن فعله عليه السلام يكون تخصيصًا.
وإن جهل التاريخ، فقيل: يعمل بالفعل، وقيل: بالقول، وقيل: بالوقف، والمختار: تقديم القول.
لكن تقرير الدليل الرابع من مرجحات العمل بالقول فيه دقة، أنه يبطل حكمه في حقهم، وفي حقه يبطل الدوام فقط؛ لأنه فعل مرة.
قال: (فإن دلّ دليل على تكرره في حقه لا على تأسي الأمة به، والقول خاص به أو عام، فلا معارضة في الأمة.
والمتأخر ناسخ في حقه.
فإن جهل فالثلاثة.
فإن كان خاصًا بالأمة، فلا معارضة).
أقول: القسم الثالث: أن يدل دليل على وجوب تكرره فقط.
فإن كان خاصًا به فلا معارضة في حق الأمة مطلقًا؛ لعدم تناول الفعل لهم، والمتأخر ناسخ في حقه إن كان قولًا.
وإن كان فعلًا وكان قبل التمكن من مقتضى القول، كان ناسخًا في حقه عندنا، وإلا فلا معارضة، إلا أن يدل دليل على تكرر مقتضى القول، فيكون أيضًا ناسخًا في حقه.
وإن كان خاصًا بالأمة فلا معارضة أصلًا.
وإن كان عامًا لنا وله، فلا معارضة في حق الأمة وفي حقه كما تقدم، إلا أن يكون ظاهرًا فيه، فيكون فعله المتأخر تخصيصًا.
وإن جهل التاريخ فالثلاثة.
والمختار: الوقف في حقه.
قال: (فإن دلّ دليل على تأسي الأمة دون تكرره في حقه، والقول خاص به وتأخر، فلا معارضة.
فإن تقدم، فالفعل ناسخ في حقه.
فإن جهل، فالثلاثة.
فإن جهل خاصًا بالأمة فلا معارضة في حقه، والمتأخر ناسخ في الأمة.
فإن جهل، فالثلاثة.
فإن كان القول عامًا، فكما تقدم).
أقول: القسم الرابع: أن يدل الدليل على وجوب التأسي فقط.
فإن كان القول خاصًا به وتأخر، فلا معارضة.
أما في حقه؛ فلعدم وجوب تكرره، وأما في حقنا؛ فلعدم تناول القول لنا.
وإن تقدم القول، فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا في حقه.
وإن جهل التاريخ، فالثلاثة، والمختار: الوقف.
وفيه نظر؛ فإنه لا تعارض مع تقدم الفعل، فيعتقد مقتضى القول حكمًا بتقديم الفعل؛ لئلا يقع التعارض المستلزم للنسخ.
وإن كان خاصًا بالأمة، فلا معارضة في حقه، وفي حق الأمة المتأخر ناسخ مطلقًا.
فإن جهل، فالثلاثة، والمختار: العمل بالقول.
فإن كان عامًا لنا وله، فكما تقدم.
أما في حقه فلا تعارض إن تقدم الفعل، وإن تأخر وكان قبل التمكن، فهو نسخ في حقه عندنا، إلا أن يكون العام ظاهرًا فيه، فالفعل تخصيص.
وفي حق الأمة إن تأخر القول فهو ناسخ، وكذا إن تقدم.
وإن جهل، فالثلاثة، والمختار: العمل بالقول.