المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهو قيام الطلب بالمتكلم قبل التلفظ، فزيدٌ قائمٌ يدل على - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٢

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: وهو قيام الطلب بالمتكلم قبل التلفظ، فزيدٌ قائمٌ يدل على

وهو قيام الطلب بالمتكلم قبل التلفظ، فزيدٌ قائمٌ يدل على الحكم الموجود في الذهن وهو إسناد القيام إلى زيد بالإثبات، ويسمى هذا الحكم كلام النفس، وهو متعلق بأمر آخر من حيث المطابقة واللامطابقة، ويسمى ذلك الأمر النسبة الخارجية، وكذا طلب القيام حكم فيه بنسبة لها خارجي وهو نسبة طلب القيام إلى المتكلم في الزمان الماضي، وهذه النسبة خارجة عن الحكم النفسي، تعلق بها النفسي بالمطابقة واللامطابقة، بخلاف قم فإنه متعلق بالنفسي ولا متعلق له خارجي.

قال: (ويسمى غير الخبر إنشاء وتنبيهًا، ومنه: الأمر، والنهي، والاستفهام، والترجي، والتمني، والقسم، والنداء).

أقول: يسمى عند المصنف غير الخبر من الكلام: إنشاء وتنبيهًا.

والمنطقيون يقسمون‌

‌ الإنشاء

إلى: ما دلَّ على الطلب لذاته، إما للفهم وهو الاستفهام، أو لغيره الإنشاء إلى: ما دلَّ على الطلب لذاته، إما للفهم وهو الاستفهام، أو لغيره كالأمر والنهي، وإلى غيره، ويعدون منه التمني والترجي، والقسم والنداء، ويسمعون هذا القسم بالتنبيه، وبعضهم يجعل التمني والنداء من الطلب.

قال: (والصحيح أن بعت واشتريت وطلّقت التي يقصد بها الوقوع إنشاء؛ لأنها لا خارج لها؛ ولأنها لا تقبل صدقًا ولا كذبًا.

ص: 309

ولو كان خبرًا لكان قاضيًا ولم يقبل التعليق؛ ولأنا نفرق بينه وبين غيره ضرورة، ولذلك لو قال للرجعية: طلقتك، سئل).

أقول: لما أشار إلى حقيقة الخبر والإنشاء، تعرض لصيغ العقود، نعنى إذا قصد بها إحداث الحكم؛ إذ لا نزاع أنها في اللغة إخبار، وفي الشرع تستعمل أيضًا إخبارًا، وإنما النزاع إذا قصد بها إيقاع الشيء.

قال قوم: هي إخبار ولم تنقل.

والصحيح عند المصنف: أنها نقلت إلى الإنشاء لوجوه أربعة:

الأول: أنها غير محكوم فيها بنسبة خارجية، فإنَّ «بعت» لا يدل على بيع آخر غير الذي يقع بهذا اللفظ، فلا يكون إخبارًا.

الثاني: أن خاصة الخبر هو احتمال الصدق والكذب غير موجود فيه؛ إذ لو حكم بأحدهما كان خطأ قطعًا، واحتمال الصدق والكذب وإن لم يصح تعريف الخبر به عنده، لكنه خاصة مساوية.

لا يقال: ليست بمساوية؛ لأنه يقال: قسم كاذب، وقسم صادق،

ص: 310

والقسم إنشاء، لأن إطلاق الصدق والكذب عليه بطريق المجاز.

الثالث: لو كان خبرًا لكان ماضيًا، أما الملازمة؛ فلوضع الصيغة له من غير ورود معنى عليه، ولأنه لا يكون مستقبلا وإلا لم تقع، كما لو قال: سأطلقك.

وأما بطلان التالي؛ فلأنه لو كان ماضيًا لم يقبل التعليق؛ لأن التعليق توقيف دخول الشيء في الوجود على دخول غيره فيه، وما دخل في الوجود لا يمكن توقيف دخوله فيه على دخول غيره فيه، لكنها قابلة للتعليق لاعتبار القائل: طلقتك إن فعلت، كذا في الشرع اتفاقًا.

لا يقال: بالشرط انقلب إلى الاستقبال، فصار مثل: إن جاء زيد أكرمتك، فلا يكون إنشاء.

لأنا نقول: لو كان كذلك لما وقع الطلاق، وكما لو قال: سأطلقك، ولاحتمل الصدق والكذب.

الرابع: إنا نقطع بالفرق بينه خبرًا وإنشاء، وكذلك لو قال للرجعية: طلقتك، سئل، فإن أراد الإخبار لم يقع، وإن أراد الإنشاء وقع، فلو لم يكن اللفظ محتملا لهما لما سئل؛ لأنها إذا تعينت للإخبار [ينبغي كان أن لا يقع].

قال بعض الفضلاء: واعلم أن من قال إنها إخبار، لم يقل إنها إخبار عن خارج، بل عما في الذهن، فارجع النظر فيما استدل به، هل ثبت المتنازع فيه أم لا؟ .

ص: 311

قال: (الخبر: صدق وكذب؛ لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا. الجاحظ: إما مطابق مع الاعتقاد ونفيه، أو لا مطابق مع الاعتقاد ونفيه، والثاني فيهما ليس بصدق ولا كذب، لقوله تعالى {أفترى على الله كذبًا أم به جنة} ، فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له، سواء قصد أم لم يقصد الجنون.

قالوا: قالت عائشة: «ما كذب ولكنه وهم» .

وأجيب: بتأويل ما كذب عمدًا.

وقيل: إن كان معتقدًا فصدق وإلا فكذب، لقوله:{إن المنافقين لكاذبون} .

وأجيب: لكاذبون في شهادتهم وهي لفظية).

أقول: لما فرغ من تعريف الخبر، شرع في تقسيمه، وهو مقسم أولًا إلى صدق وكذب، ولا واسطة بينهما عند الجمهور؛ لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا، والأول الصدق، والثاني الكذب.

وقال الجاحظ: الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق، والمطبق إما مع اعتقاد أنه مطابق أو لا، سواء اعتقد عدم المطابقة أو لم يعتقد شيئًا،

ص: 312

والأول صدق، والثاني بقسيمه واسطة، وألا مطابق إما مع اعتقاد اللامطابقة أو لا، سواء اعتقد المطابقة أو لم يعتقد بها، والأول الكذب، والثاني بقسيمه واسطة.

وإليه أشار المصنف بقوله: (والثاني فيهما ليس بصدق ولا كذب).

احتج الجاحظ بقوله تعالى: {أفترى على الله كذبًا أم به جنة} ، ووجه الاستدلال: أن المراد الحصر فيهما، أي في كونه افتراء أو كلام مجنون فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقًا؛ لأنهم لا يعتقدون كونه صدقًا وقد صرحوا بنفي الكذب عنه حيث جعلوه قسيمه، وما ذاك إلا لأن المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد.

والجواب: أن المراد افترى أو لم يفتر فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له، والكاذب عن غير قصد يكون مجنونًا، أو المراد: أقصد فيكون كاذبًا، أو لم يقصد فلا يكون خبرًا؛ لاشتراط القصد في الخبر عند قوم.

والحاصل أن الافتراء أخص من الكذب، ومقابله قد يكون كذبًا، وإن سلّم فلا يكون خبرًا.

احتجوا ثانيًا: بما في الصحيحين، أن عائشة لما سمعت حديث ابن عمر أن الميت ليعذب ببكاء أهله، قالت:«ما كذب ولكنه وهم، إنما قال عليه السلام: إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه» .

ص: 313

وجه الاستدلال: أن غير المطابق إذا لم يعتقد عدم مطابقته لا يكون كذبًا لنفيها الكذب عنه، وليس صدقًا اتفاقًا، فثبتت الواسطة.

الجواب: أنها ما نفت الكذب، إنما نفت كذبًا خاصًا، وهو الكذب المتعمد.

وقال بعض من حصر الخبر في الصدق والكذب: إن كان المخبر معتقدًا لم يخبر به فصدق، وإلا فكذب، ولا عبرة فيهما بمطابقة الواقع ولا بعدمها.

هذا ظاهر كلام المصنف، وهو قول معروف من خارج.

وحمل جل الشراح كلام المصنف على قول آخر، وهو وإن كان موجودًا أيضًا لبعضهم، لكن بعيد من كلام المصنف.

فقالوا: إن كان مطابقًا والمخبر معتقد مطابقته فصدق، وإلا فكذب.

وهذا القول الأخير يوافق قول الجاحظ في تفسير الصدق، وأما الكذب فهو بهذا التفسير أعم، لصدق الكذب عند هؤلاء على ما هو واسطة عند الجاحظ.

واحتج صاحب هذا القول بقوله تعالى: {إن المنافقين لكاذبون} .

ص: 314

كذبهم في قولهم: {إنك لرسول الله} مع مطابقته للخارج، وما ذاك إلا لكونه لم يطابق اعتقادهم.

الجواب: لا نسلم أنه كذبهم في إخبارهم عن الرسالة، بل كذبهم في شهادتهم؛ لأن الشهادة عرفًا أن يشهد الشاهد بالمطابق معتقدًا، وشهادتهم عبارة عن تصديقهم رسالته، ولا خلاف في اعتبار الاعتقاد في صحة التصديق، فكأنهم قالوا: نعتقد أنك رسول الله، فأخبر الله بكذبهم، أو لأنهم زعموا أن شهادتهم مستمرة غيبة وحضورًا، فكذبهم الله.

وهذه المسألة لفظية لا يجدي البحث فيها كبير نفع؛ لأنه راجع إلى اصطلاح.

قال: (وينقسم إلى ما يعلم صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما لا يعلم واحد منهما.

فالأول: ضروري بنفسه كالمتواتر، وبغيره كالموافق للضروري، ونظري كخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والموافق للنظر.

والثاني: المخالف لما علم صدقه.

والثالث: قد يظن صدقه كخبر العدل، وقد يظن كذبه كخبر الكذاب، وقد يشك كخبر المجهول، ومن قال: كل خبر لم يعلم صدقه فكذب؛ لأنه لو كان صدقًا لنصب عليه دليلًا، كخبر مدعي الرسالة، فاسد بمثله في النقيض، ولزوم كذب كل شاهد، وكفر كل مسلم، وإنما كذب المدعي كالعادة).

ص: 315

أقول: هذا تقسيم آخر للخبر، وهو ينقسم إلى ما يعلم صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما لا يعلم واحد منهما.

الأول: قسمان: ضروري، ونظري.

والضروري: إما ضروري بنفسه، أي بنفس الخبر وهو المتواتر، وإما أن يكون استفيد العلم الضروري بمضمونه من غير الخبر، ومثّله في المنتهى بخبر يوافق قضية ضرورية.

والنظري: كخبر الله، وخبر رسوله، وخبر أهل الإجماع، والخبر الموافق للنظر الصحيح في القطعيات، كقولنا: العالم حادث، فإن هذا كله قد علم صدقه بالنظر.

القسم الثاني: ما علم كذبه، وهو كل خبر مخالف لما علم صدقه، أي مناف بالاعتبارات السابقة، فلا يرد.

القسم الثالث: ما لا يعلم واحد منهما، وهذا قد يظن صدقه كخبر العدل، وقد يظن كذبه كخبر الكذاب، وقد يشك في صدقه وكذبه كخبر مجهول الحال.

وقال بعض الظاهرية: كل خبر لا يعلم صدقه فهو كذب قطعًا؛ لأنه لو كان صدقًا لنصب عليه دليلًا، كخبر مدعي الرسالة، فإنه إذا كان صدقًا أيَّد صدقه بدلالة المعجزة، وهو فاسد، لجريان مثل هذا الدليل في نقيض ما أخبر به إذا أخبر آخر، فيلزم اجتماع النقيضين.

ص: 316

وقرر بوجه آخر، وهو أن يقال: هو صادق، لأنه لو كان كاذبًا لنصب دليلًا على كذبه، كخبر مدعي الرسالة، فإنه إذا كان كاذبًا لا ينصب عليه معجزة، فعدم نصبها دليل على كذبه.

وأيضًا: يلزم العلم بكذب كل شاهد إذا لم يقم دليل قاطع على صدقه، والعلم بكذب كل مسلم في دعوى إسلامه إذ لا دليل على ما يقبله، وذلك باطل إجماعًا؛ للحكم على وفق الشهادة، وللحكم بالإسلام.

وأما القياس على خبر مدعي الرسالة فلا يصح؛ لأنه ما كذب لعدم العلم بصدقه، بل للعلم بكذبه؛ لأنه الرسالة بخلاف العادة، والعادة تقضي بكذب المخالف لها من غير دليل.

قال: (وينقسم إلى: متواتر، وآحاد.

فالمتواتر: خبر / جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه.

وقال: «بنفسه» ليخرج ما علم صدقهم فيه بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه عادة وغيرها.

وخالف السمنية في إفادة المتواتر العلم، وهو بهت.

فإنا نجد العلم ضرورة بالبلاد النائية، والأمم السابقة، والأنبياء، والخلفاء بمجرد الإخبار، وما يوردونه من أنه كأكل طعام واحد، وأن الجملة مركبة من الواحد، ويؤدي إلى تناقض المعلومين، وإلى تصديق اليهود والنصارى في لا نبي بعدي، ولأنا نفرق بين ضروري وبينه ضرورة، وبأن الضروري يستلزم الوفاق، مردود).

ص: 317

أقول: هذا تقسيم آخر للخبر إلى: متواتر، وآحاد.

فالمتواتر: خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه.

وقال: (بنفسه) ليخرج خبر جماعة علم صدقهم لا بنفس الخبر، بل إما بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك الخبر عنه عادة، فإن من القرائن ما لا يلزم الخبر من أحوال في الخبر والمخبر والمخبر عنه، ولذلك يتفاوت عدد التواتر، وإما بغير القرائن كالعلم بمخبره ضرورة أو نظرًا.

وقال جل الشراح: بالقرائن الزائدة على الأمور اللازمة للمتواتر عادة، وعقلًا، وحسًا.

فالعادية، كالتي يكون على المخبر بموت والده من البكاء والتفجع. وقد تكون عقلية، كخبر جماعة تقضي البديهة أو الاستدلال صدقه. وقد تكون حسية، كالتي تكون على من يخبر بعطشه.

ثم الجمهور على أن المتواتر بشرائطه يفيد العلم بصدقه.

ص: 318

وخالف السمنية في ذلك، وهم قوم من الهند.

قال: (وهو بهت) أي مكابرة، فإنا نجد العلم الضروري بالبلاد النائية كمكة وبغداد، والأمم الخالية كالصحابة، وما ذاك إلا بالأخبار قطعًا.

وقد أوردوا عليه شكوكًا منها: أن اجتماعهم على نقل الخبر كاجتماع الخلق الكثير على طعام واحد، وأنه ممتنع عادة.

ومنها: أنه يجوز الكذب على كل واحد، فيجوز على الجملة؛ إذ لا ينافي كذب الواحد كذب الآخرين قطعًا، ولأنها مركبة من الآحاد، فإذا فرض كذب كل واحد، فقد كذب الجميع قطعًا، فلا يحصل العلم.

ومنها: أنه لو أفاد العلم لأدى إلى تناقض المعلومين، إذا أخبر جمع كثير بشيء وجمع كثير بنقيضه.

ومنها: أنه يلزم تصديق اليهود والنصارى فيما نقلوه عن موسى وعيسى أنه قال: لا نبي بعدي، وذلك ينافي نبوة محمد عليه السلام.

ومنها: أنه لو أفاد العلم الضروري، لما حصل لنا الفرق بين الضروري وبينه؛ إذ لا تفاوت في الضروريات.

ومنها: أن الضروري يستلزم الوفاق، وهو منتف لمخالفتنا.

والكل مردود إجمالًا وتفصيلًا.

أما إجمالًا: فلأنه تشكيك في الضروريات، فلا يسمع.

ص: 319

وأما تفصيلًا: فالجواب عن الأول: أنه قد علم وقوعه والفرق وجود الداعي، وأيضًا: وجود العادة هنا وعدمها ثمة ظاهر.

وعن الثاني: أن حكم الجملة يخالف حكم الواحد، فإن الواحد جزء العشرة بخلاف العشرة، والعسكر يجتمع من الأشخاص وهو يفتح البلاد دون آحاد الأشخاص.

وعن الثالث: تواتر النقيضين محال عادة.

وعن الرابع: أن نقل اليهود والنصارى لو حصل شرائط التواتر لحصل العلم.

وعن الخامس: أن الضروريات تتفاوت في الجلاء بحسب الإلف والاستئناس، لا لاحتمال النقيضين.

وعن السادس: أن الضروري لا يستلزم الوفاق لجواز العناد، وإلا ورد عليكم خلاف السوفسطائية، على أن بعضها إنما يرد على من يقول: يفيد العلم الضروري.

قال: (والجمهور على أنه ضروري.

والكعبي والبصري على أنه نظري.

ص: 320

وقيل: بالوقف.

لنا: لو كان نظريًا لافتقر إلى توسط المقدمتين، ولساغ الخلاف فيه عقلًا.

أبو الحسين: لو كان ضروريًا لما / افتقر، ولا يحصل إلا بعد علم أنه من المحسوسات، وأنهم عدد لا حامل لهم، وأن ما كان كذلك ليس بكذب، فيلزم النقيض.

وأجيب: بالمنع، بل إذا حصل علم أنهم لا حامل لهم، لا أنه مفتقر إلى سبق علم ذلك، فالعلم بالصدق ضروري، وصورة الترتيب ممكنة في كل ضروري.

قالوا: لو كان ضروريًا لعلم أنه ضروري ضرورة.

قلنا: معارض بمثله، ولا يلزم من الشعور بالعلم ضرورة الشعور بصفته).

أقول: القائلون بأن المتواتر يفيد العلم اختلفوا، هل العلم الحاصل منه ضروري أو نظري؟ .

فجمهورهم على أنه ضروري.

وذهب الكعبي، وأبو الحسين البصري، والدقاق، وإمام الحرمين إلى

ص: 321

أنه نظري، ومال الغزالي إلى أنه قسم ثالث، فقال:«ليس ضروريًا، بمعنى أنه حاصل من غير واسطة، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، بل يحتاج إلى واسطة لكنها حاضرة في الذهن، ولا يفتقر إلى ترتيبها ولا إلى الشعور بها، كما هو شأن القضايا الفطرية القياس» .

وتوقف الشريف المرتضى من الشيعة، والآمدي.

احتج الجمهور: بأنه لو كان نظريًا لافتقر إلى توسط المقدمتين؛ لأن النظري يفتقر إلى النظر وهو ترتيب قضايا، واللازم باطل، لأنا نعلم قطعًا علمنا بما ذكرنا من المتواترات مع انتفاء ذلك.

وأيضًا: لو كان نظريًا لساغ الخلاف فيه، ولو ادعى ذلك مدع لم يعد بهتًا ومكابرة كغيره من النظريات.

ص: 322

قيل على الأول: إن أردت بتوسط المقدمتين بالفعل على فهم مخصوص متخيل أو ملفوظ، منعنا الملازمة، وإن أردت توسطهما بالقوة، منعنا بطلان التالي.

وردَّ: بأنا نريد الأول، وكل نظري فحصوله بالفعل يتوقف على وسط بالفعل.

قيل على الثاني: إنما يسوغ الخلاف في العلوم النظرية التي لا تكون مقدماتها ضرورية، وليس للمحيب أن يقول إنها نظرية؛ لأنه كلام على المستند، مع أنه يلزم أن يكون العلم نظريًا، وهو مردود بما سيأتي من أنه إنما يكون نظريًا لو توقف على العلم بالمقدمتين، بل العلم بهما يحصل من العلم بالخير.

احتج أبو الحسين، وصرح المصنف باسمه لفائدتين:

إحداهما: أنه إذا أطلق البصري فإنه يريد أبا عبد الله، فتبين هنا أن المراد أبو الحسين.

الثانية: أنه مخترع هذه الحجة، وتقريرها: لو كان ضروريًا لما احتاج إلى توسط المقدمتين، واللازم باطل؛ لأن العلم لا يحصل إلا بعد العلم أن المخبر عنه محسوس فلا يشتبه، وأن المخبرين جماعة لا داعي لهم إلى الكذب، فإن كل ما كان كذلك فليس بكذب، فيلزم النقيض وهو كونه صدقًا.

الجواب: نمنع أن العلم بصدق الخبر المتواتر متوقف على العلم بهذه

ص: 323

الأمور، بل إذا حصل العلم بصدقه، علم بعده أنهم عدد لا حاصل لهم، فالعلم بالصدق ضروري يحصل بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب، ولا ينافيه صورة الترتيب، فإن وجوده يوجب الاحتياج إليه فإنها ممكنة في كل ضروري؛ لأنك إذا قلت: الأربعة زوج، فلك أن تقول: إنها منقسمة بمتساويين، وكل منقسم بمتساويين زوج، وكذا الكل أعظم من الجزء، لك أن تقول: لأن الكل فيه جزء آخر، وكل ما كان كذلك فهو أعظم.

قالوا: لو كان ضروريًا لعلم بالضرورة أنه ضروري كغيره من الضروريات.

الجواب أولًا: بالمعارضة، وهو أنه لو كان نظريًا، لعلم كونه نظريًا بالضرورة كغيره من النظريات.

وثانيًا: نمنع الملازمة، وأن كون العلم ضروريًا ونظريًا صفتان له، ولا يلزم من الشعور بالعلم ضرورة الشعور بصفته من كونه ضروريًا أو نظريًا.

قال: (وشرط المتواتر تعدد / المخبرين تعددًا يمنع الاتفاق والتواطؤ، مستندين إلى الحس، مستوين في الطرفين والوسط، وفيه عالمين غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد الجميع فباطل، وإن أريد البعض فلازم مما قيل، وضابط العلم بحصولها حصول العلم، لا أن ضابط حصول العلم سبق العلم بها.

وقطع القاضي بنقص الأربعة، وتردد في الخمسة.

وقيل: اثنا عشر.

وقيل: عشرون.

ص: 324

وقيل: أربعون.

وقيل: سبعون.

والصحيح: يختلف.

وضابطه: ما حصل العلم عنده، لأنا نقطع بالعلم من غير علم بعدد مخصوص لا متقدمًا ولا متأخرًا، ويختلف باختلاف قرائن التعريف وأحوال المخبرين في الاطلاع عليها، وإدراك المستمعين والوقائع.

وشرط قوم الإسلام، والعدالة، لإخبار النصارى بقتل المسيح.

وجوابه: اختلال في الأصل والوسط.

وشرط قوم ألا يحويهم بلد.

وشرط قوم اختلاف النسب، والدين، والوطن.

والشيعة: المعصوم دفعًا للكذب.

واليهود: أهل الذلة فيهم دفعًا للتواطؤ لخوفهم، وهو فاسد.

وقول القاضي وأبي الحسين: كل عدد أفاد خبرهم علمًا بواقعة لشخص، فمثله يفيد بغيرها لشخص صحيح أن يتساويا من كل وجه، وذلك بعيد عادة).

أقول: ذكر العلماء في المتواتر شروطًا صحيحة وشروطًا فاسدة.

أما الصحيحة فثلاثة، كلها في المخبرين لنا:

ص: 325

الأول: تعددهم تعددًا يبلغ في الكثرة إلى أن يمنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب عادة.

الثاني: كونهم مستندين في أخبارهم إلى الحس لا إلى دليل العقل، فإنه في مثل حدوث العالم لا يفيد قطعًا.

الثالث: استواء الطرفين والوسط في ذين الأمرين.

وشرط قوم كونهم عالمين بما أخبروا به، وهو غير محتاج، لأنه إن أريد جميعهم فباطل، لأنه قد يكون بعضهم ظانًا ومع هذا يحصل العلم، وإن أريد علم البعض فلازم من قولنا: مستندين إلى الحس.

ثم من زعم أن العلم الحاصل منه نظري يشترط تقدم العلم بهذه الشروط، وأما من يقول إنه ضروري، فالضابط عنده في حصولها حصول العلم بصدقه، فإذا علم ذلك علم وجود الشرائط، لا أن ضابط حصول العلم بصدقه سبق العلم بها كما يقول من يرى أنه نظري.

قيل: في كونها شروط نظر؛ لأنه يحصل العلم بخبر الواحد وإن لم يخبر عن محسوس.

ص: 326

ردّ: بأن ذلك حصل بالقرائن، وقد احترز عنه في تعريف المتواتر، فكان المعنى: ضابط العلم بحصولها حصول العلم من نفس الخبر.

ثم اختلفوا في أقل عدد يحصّل العلم.

فقطع القاضي أبو بكر بنقص الأربعة، وإلا لما احتيج إلى تزكيتهم في شهادة الزنا، وتردد في الخمسة.

ويرد عليه: أن وجوب التزكية مشترك، إلا أن يقول: قد يفيد العلم فلا تزكية وقد لا يفيد فيعلم كذب واحد، فالتزكية ليعلم عدالة الأربعة، وقد يفرق بين الخبر والشهادة؛ إذ الاجتماع في الشهادة مظنة التواطؤ.

وقيل: اثنا عشر، عدد نقباء موسى؛ لأنهم جعلوا كذلك ليحصل العلم بخبرهم.

وقيل: عشرون لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون} وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به عن إسلامهم أو عن جهادهم. وقيل: أربعون من قوله تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من

ص: 327

المؤمنين} وكانوا أربعين، فلو لم يحصّل قولهم العلم لما اقتصر عليهم.

وقيل: سبعون؛ لاختيار موسى لهم للعلم بخبرهم إذا رجعوا.

وقيل: غير منحصر في عدد مخصوص، لا متقدمًا كما يقول من رأى أنه نظري، ولا متأخرًا كما رأى من قال إنه ضروري.

ولا سبيل إلى العلم به عادة؛ لأنه يتقوى الاعتقاد بتدريج كما يحصل كمال العقل بتدريج / خفي، والقوة البشرية قاصرة عن ضبط ذلك، ويقطع أيضًا أنه يختلف بالقرائن التي تتفق في التعريف غير زائدة على المحتاج إليها في ذلك عادة من الجزم، وبغرس آثار الصدق باختلاف اطلاع المخبرين على مثلها عادة، وباختلاف إدراك المستمعين وفطنتهم، وباختلاف الوقائع في عظمها وحقارتها، وتفاوت كل واحد منها يوجب العلم بخبر عدد أقل أو أكثر لا يمكن ضبطه، فكيف إذا تركبت الأسباب، فإذن نمنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم به؛ إذ المرجوع فيه إلى الوجدان.

ومن الناس من شرط في المخبرين الإسلام، والعدالة وإلا لأفاد إخبار

ص: 328

النصارى بقتل المسيح العلم.

وجوابه: عدم حصول شرط التواتر، لقصورهم عن عدد التواتر في المرتبة الأولى والوسطى، ولو أخبر أهل قسطنطينية بموت حاكمهم لحصل لنا العلم.

وشرط قوم ألا يحويهم بلد خشية التواطؤ، وهو فاسد؛ إذ لو أخبر أهل جامع بسقوط الإمام عن المنبر، حصل العلم بذلك.

وشرط قوم اختلاف النسب والوطن والدين خوف التواطؤ أيضًا، وهو فاسد؛ لأنهم إن وصلوا إلى رتبة لا يمكن اتفاقهم على الكذب، لم يحتج ما ذكرتم، وإلا لم يفد لعدم شرطه.

وشرط الشيعة أن يكون فيه قول الإمام المعصوم، وإلا لم يمتنع الكذب، وهو فاسد؛ لأن المفيد حينئذ قوله لا قولهم.

وشرط اليهود أن يكون أهل الذلة في المخبرين، فإنه يمتنع تواطؤهم عادة، لخوفهم أن يعاقبوا على الكذب، بخلاف أهل العزة فإنهم لا يخافون فجاز أن يتجرؤوا على الكذب، وهو فاسد، ولو صحَّ لهم هذا الشرط لثبت غرضهم من إبطال العلم بالخبر المتواتر بمعجزات محمد وعيسى عليهما السلام حيث لم يدخلوا في الإخبار بها مع أنهم هم أهل الذلة، والقطع بحصول العلم بخبر العظماء والأشراف أسرع لشرفهم عن رذيلة الكذب، وقلة مبالاة أهل

ص: 329