الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى التكليف بالمحال، وهذا بخلاف ما وقته العمر، فإنه لو أخّره ومات عصى وإلا لم يتحقق الوجوب؛ لأن البقاء إلى سنة أخرى ليس بغالب على الظن، ولهذا قال أبو حنيفة: لا يجوز تأخير الحج إلى سنة أخرى، وهو أحد قولي المالكية.
قلت: وفي هذا الاستثناء نظر؛ لأن مَنْ عصّاه مما أخّر عنده مع ظن السلامة، والشافعي الذي لم يعص الشاب لكونه أخّر مع ظن السلامة.
قال: (مسألة:
ما لا يتم الواجب إلا به
مقدورًا شرطًا واجب.
والأكثر: وغير الشرط، كترك الأضداد في الواجب، وفعل ضد في المحرم، وغسل جزء الرأس.
وقيل: لا فيهما.
لنا: لأو لو يجب الشرط لم يكن شرطًا، وفي غيره: لو استلزم الواجب وجوبه لزم تعلق الموجب له، ولم يكن معلق الوجوب لنفسه، ولامتنع التصريح بغيره، ولعصى بتركه، ولصح قول الكعبي في نفي المباح،
ولوجبت نيته.
قالوا: لو لم يجب لصح دونه، ولما وجب التوصل إلى الواجب، والتواصل واجب بالإجماع.
وأجيب: إن أريد بـ «لا يصح» و «واجب» لابد منه، فمُسلَّم.
وإن أريد مأمور به، فأين دليله؟ .
وإن سُلّم الإجماع، ففي الأسباب بدليل خارجي).
أقول: ما لا يتم الواجب إلا به، إما أن يكون وجوبه مشروطًا بذلك الشيء أو لا.
والأول: لا خلاف في أن تحصيل الشرط ليس بواجب، وإنما الواجب المشروط إذا حصل الشرط، وهذا كإيجاب الحج مشروطًا بالاستطاعة.
والثاني: وهو ما كان وجوبه مطلقًا غير مشروط وجوبه بذلك الغير، بل مشروط وقوعه فقط به، فهذا إن كان غير مقدور للمكلف كحضور الإمام الجمعة، وتمام العدد فيها، فإن ذلك غير مقدور لآحاد المكلفين، فلا خلاف أنه ليس بواجب إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق.
أما إن كان مقدورًا للمكلف، يتأتى الفعل دونه عقلًا وعادة، لكن الشارع جعله شرطًا للفعل، كما إذا قال: أوجبت الصلاة وشرط في صحتها
الطهارة، فهو عند المصنف واجب وإلا فلا.
وقال أكثر الأصوليين: ما لا يتم الواجب إلا به مطلقًا واجب، سواء كان الشرط سببًا كالنار للإحراق، أو غير سبب إلا أنه مشروط الوقوع عقلا بذلك الشيء، كترك ضد الواجب الذي لا يتم الواجب إلا به، أو فعل ضد المحرم الذي لا يتم ترك الحرام إلا به، أو كان الإتيان به طريقًا إلى الإتيان بالواجب عادة، كغسل جزء الرأس لغسل الوجه، فإنه لا يمكن عادة غسل الوجه بدون جزء من الرأس، أو كان الإتيان به طريقًا إلى العلم بالإتيان بالواجب، كالإتيان بخمس صلوات إذا ترك واحدة منها لم يعرفها.
وقيل: وجوب الشيء مطلقًا لا يوجب وجوب شيء من شرط أو غيره.
وقيل: إن كان ما لا يتم الواجب إلا به سببًا بإيجاب الشيء يوجب سببه، وإن كان شرطًا / فلا، وهو مذهب الواقفية.
احتج لمختاره: بإنه لو لم يجب الشرط بوجوب المشروط، لزم ألا يكون الشرط شرطًا، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأنه إذا لم يجب جاز تركه، فإذا تركه فالفعل إما أن يكون حنيئذ مأمورًا به أوْ لا، والثاني باطل، وإلا لكان وجوبه مقيدًا بوقت وجود الشرط وهو خلاف الفرض.
والأول: إما أن يكون الفعل ممكن الحصول عند عدم الشرط أو لا، والثاني باطل؛ لأنه تكليف بما لا يطاق فيلزم الأول، فلا يكون الشرط شرطًا إذ الشرط ما يمتنع المشروط عند عدمه.
قيل عليه: إن هذا الدليل يطرد في غير الشرط الشرعي، وأيضًا: إن عنى أن الأمر بالمشرط دال على الأمر بالشرط، فدليل لا يفيده، وجاز أن يكون الشرط واجبًا بأمر آخر، وإن عنى غيره فليس محل النزاع، وأيضًا: يرد عليه ما أورده هو على الخصوم.
وجوابه: إن أريد بوجوبه أنه لابد منه في الإتيان بالمشروط فمُسلّم، وإن أريد بالإيجاب الشرعي فالملازمة ممنوعة.
واحتج على الجزء الثاني بوجوه:
الأول: لو استلزم الواجب المطلق وجوب غير الشرط مما لا يتم الواجب إلا به، لزم تعقل لموجب له، لاستحالة طلب ما لا شعور له به، واللازم باطل، لأنّا نقطع بإيجاب الفعل مع الذهول عما يتوقف عليه.
الثاني: لو استلزم الواجب المطلق وجوب غير الشرط ما لا يتم الواجب
إلا به، لم يكن تعلق الوجوب داخلا في حقيقة الوجوب، أما الملازمة: فلأنه لو وجب ما توقف عليه الشيء ولم يتعلق به خطاب طلب، لم يكن التعلق داخلًا في حقيقة الوجوب.
وأما بيان بطلان التالي: فلأن التعلق جزء حقيقة الوجوب، فكلما تعلق به خطاب طلب، مع المنع من النقيض فهو واجب، وما لم يتعلق به كذلك فهو غير واجب.
وله تقرير آخر وهو يرجع إلى معنى ما احتج به في الحسن والقبح على الجبائية، بأن يقال: استلزم الواجب وجوبه لم يكن تعلق الوجوب بغير الشرط لنفس الوجوب أو لنفس ذلك الغير؛ لتوقف تعلق الوجوب به على تعلقه بملزومه، واللازم باطل؛ لأن الوجوب طلب وتعلق الطلب بالمطلوب لا يتوقف على غيرهما لأنه نسبة، والنسبة لا تتوقف على غير المنتسبين.
الثالث: لو استلزم الواجب وجوبه لامتنع التصريح بغير الوجوب؛ لأنه يناقض الحكم بكون الواجب مستلزمًا لوجوبه، والتالي باطل؛ للقطع بأنه يصح أن يقول الشارع: أوجبت عليك غسل الوجه، وما أوجبت عليك غسل شيء من الرأس.
الرابع: لو استلزم الواجب وجوبه لعصى المكلف بتركه، واللازم باطل، أما الملازمة: فواضحة، وأما بطلان التالي: فلأن تارك غسل الوجه يعصي بتركه غسل الوجه، لا بترك غسل جزء الرأس.
الخامس: لو استلزم الواجب وجوبه لزم نفي المباح، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأن فعل الواجب الذي هو ترك الحرام لا يتم إلا به فيجب، وأنه
باطل إجماعًا.
السادس: لو استلزم الواجب وجوبه لوجبت نيته؛ لأنه عبادة شرعية فيفتقر إلى نية، واللازم باطل إجماعًا.
وهذه الوجوه كلها ضعيفة.
أما الأول: فإنما يلزم تعقل الموجب له أن لو كان الوجوب بالأصالة، أما إذا كان بالتبعية فلا. سلمنا: لكن إن أردت بتعقل الموجب له تعقله مجملا منعنا بطلان التالي؛ فإنه يعلمه حسب ما أوجبه، وإن أردت أنه يلزم تعقله مفصلا / الملازمة. سلمنا: لكنه منقوض بوجوب الشرط.
وعلى الثاني: إن أراد بالتعلق لنفسه التعلق بالأصالة، منعنا انتفاء التالي.
قوله: لأن تعلق الطلب بالمطلوب لا يتوقف على غيرهما.
قلنا: في التعلق بالأصالة، أما في التعلق بالفرعية فلا، وتعلق الوجوب بالمقدمة بالفرعية، فإنه إنما يتعلق الوجوب بها بواسطة تعلقه بملزومه، وإن أراد أن تعلق الوجوب الفرعي بالمقدمات ليس من مقتضى الوجوب منعناه، فإن الوجوب الأول تعلق بالشيء ثم نشأ منه الوجوب فتعلق [الوجوب] الثاني الفرعي بالمقدمات بلا واسطة غير الوجوب، فظهر ضعفه على التقريرين مع أنه منقوض بالشرط.
وعلى الثالث: أن غسل جزء الرأس ليس واجبًا على كل أحد؛ إذ الوجوب عندهم إنما يتحقق على العاجز عن الإتيان بالوجه دون جزء الرأس لا
القادر، فإذن الملازمة ممنوعة في القادر، ونفي التالي في العاجز، ثم هو منقوض بوجوب الشرط.
وعلى الرابع: أن تركه يوجب ترك الواجب بالذات فيكون سببًا للعصيان، مع أنه منقوض بوجوب الشرط، [ولا يخفى فساده، إذ المصنف قائلًا بوجوب الشرط].
وعلى الخامس: أنه إنما يلزم نفي المباح لو لم يحصل ترك الحرام إلا به، أما إذا حصل بغيره فلا. سلمنا: ونمنع بطلان التالي، فإن المباح يحصل بترك الحرام، فيكون من هذا الوجه واجبًا.
وعلى السادس: نمنع الملازمة إن أراد بوجوب النية القصد إليه بخصوصه، ونمنع نفي التالي إن أراد وجوب النية في الجملة.
احتج الأكثرون بوجهين:
الأول: لو لم يجب ما يتوقف عليه الواجب شرطًا كان أو غيره، لصح الفعل الواجب دونه، والتالي باطل، أما الملازمة: فلأن الآتي به حينئذ يكون آتيًا بجميع الواجب، والإتيان بجميع الواجب يوجب الصحة، وبطلان التالي باتفاق.
الوجه الثاني: لو لم يجب ما يتوقف عليه الواجب شرطًا كان أو غيره، لما وجب التوصل إلى الواجب، لكن التوصل إلى الواجب واجب بالإجماع، والتوصل إلى الواجب به.
وأجاب المصنف عنهما: بأنكم إن أردتم بقولكم في الاستثنائية الأولى: «لا يصح دونه» أنه لابد منه في الإتيان بالمأمور به، فنفي التالي مُسلّم والملازمة ممنوعة؛ لأنّا لا نسلم أن ذلك لو لم يكن مأمورًا به لصح الفعل دونه.
وإن أردتم بقولكم: «لا يصح دونه» ، أنه مأمور به فهو ممنوع، إذ لا دليل عليه، والترديد في المقدم أو لا؛ لأن إرادة ما لابد منه والمأمور به من لا يصح بعيد، مع أن الاستفسار إنما يكون فيه إجمال، ولا إجمال في «لا يصح دونه» ، والأولى أن يقال: إن أريد «بلا يصح دونه» أنه لا يسقط القضاء دونه، فالملازمة ممنوعة، ونفي التالي مُسلّم.
وإن أريد به أنه لا يوافق الأمر، لكون هذه الأشياء أيضًا مأمورًا بها، فالملازمة مسلمة ونفي التالي ممنوع.
وتقرير جواب الثاني: أن يقول: إن أردتم بقولكم في الاستثنائية التوصل واجب، كان لابد منه في التوصل إلى الواجب. سلمنا بطلان التالي، ومنعنا الملازمة.
وإن أردتم أن التوصل بهذه الأشياء مأمور به فهو ممنوع، وأين دليلكم عليه؟ .
فإن قيل: الإجماع على وجوب التوصل بهذه الأشياء، يدل على كونها مأمورًا بها.
قلنا: لا نسلّم صحة الإجماع، ولن سلّم ففي الأسباب وحدها، بدليل خارجي لا لنفس وجوب الفعل، والدليل الخارجي إما الإجماع، أو أن الأمر
بالشيء أمر بأسبابه.
قال: (مسألة: يجوز أن يحَّرم واحدًا لا بعينه، خلافا للمعتزلة، وهي كالمخير).
أقول: لما فرغ من أحكام الوجوب، شرع في أحكام الحرام، وذكر فيه مسألتين:
الأولى: هل يجوز أن يحرم واحد لا بعينه من أشياء؟ .
قال الأشاعرة بأنه جائز، ومنع المعتزلة.
احتج الأشاعرة: بأنه لا يمتنع عقلًا أن يقول السيد لعبده: لا تُكلم زيدًا أو عمرًا، فقد حرّمت عليك كلام أحدهما لا بعينه.
والحاصل أن له ترك كلام أيهما شاء جميعا وبدلا، وليس له أن يجمع بينهما، فلم يحرم عليه كلام كل واحد، ولا كلام واحد بعينه.
وطريقهم في الاعتراض وطريق الأصحاب في الجواب كما سبق في الواجب المخير.
قلت: والأقرب ما ذهبوا إليه هنا؛ لأنه لو حرم واحد لا بعينه، وهو القدر المشترك الموجود في كل واحد من المعينات، حرم كل واحد ولا كذلك في الواجب المخير.
قال: (مسألة: يستحيل كون الشيء الواحد واجبًا حرامًا منه جهة واحدة، إلا عند بعض من يجوز تكليف المحال.
وأما الشيء الواحد له جهتان، كالصلاة في الدار المغصوبة.
فالجمهور: تصح.
والقاضي: لا تصح، ويسقط الطلب عندها.
وأحمد وأكثر المتكلمين: لا تصح ولا يسقط.
لنا: القطع بطاعة العبد وعصيانه، فأمره بالخياطة ونهيه عن مكان مخصوص للجهتين.
وأيضًا: لأو كان لكان لاتحاد المتعلقين؛ إذ لا مانع سواه اتفاقا، ولا اتحاد كان، الأمر للصلاة والنهي للغصب، واختيار المكلف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما).
أقول: المسألة الثانية: هل يجوز أن يكون الشيء الواحد واجبًا حرامًا معا؟ .
واعلم أنه إن كان واحدًا بالشخص، فإن اتحدت فيه الجهة، لم تكن من الجهة الواحدة واجبًا حرامًا معًا؛ لأنه محال قطعًا لتقابل حديهما، إلا على رأي بعض من جوز التكليف بالمحال، وهم الذين يجوزونه عقلًا وشرعًا.
وأم الذين يمنعونه شرعًا تمسكًا بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} ، فلا.
أما الواحد بالجنس فجائز فيه ذلك، بأن يجب فرد ويحرم فرد، كالسجود لله واللصنم، ومنعه بعض المعتزلة، وقالوا: المنهي عنه قصد تعظيم الصنم، لا السجود من حيث هو سجود؛ لأنه مأمور به.
أما الواحد بالشخص له جهتان، يجب بأحدهما ويحرم بالآخر، وذلك كالصلاة في الدار المغصوبة، تجب لكونها صلاة، وتحرم لكونها غصبًا، وكل من الجهتين معقولة بدون الأخرى.
فمذهب أكثر الفقهاء وأكثر الأشاعرة: جواز كونها واجبة حراما للجهتين، وتصح الصلاة إذا أتى المكلف بها فيها وهو مختار المصنف.
وذهب القاضي إلى أنه لا يجوز ذلك، لكن قال: يسقط الطلب حذارًا
من مخالفة الجميع في سقوط القضاء، وقال:«عندها» لا بها؛ لجواز سقوط الفرض عندما ليس بفرض وإن كان حرامًا، كن شرب شيئًا يحدث الجنون فجُنَّ، فإنه تسقط عنه العبادة عند هذه المعصية لا بها؛ إذ الإتيان بما يكون نفسه سببًا لإسقاط الواجب يكون إتيانًا بالمأمور به، فما لا يكون مأمورًا به كالمعصية لا يسقط بنفسه الفرض، وقد يقال: يسقط الفرض بغير المأمور به كما قيل في الموسع.
والحق إنه قول ضعيف.
قال الإمام في البرهان: «الأعذار التي ينقطع الخطاب بها محصورة، والمصير إلى سقوط الأمر عن متمكن من الامتثال ابتداء ودوامًا بسبب معصية لابسها، لا أصل له في الشريعة» .
ذهب أحمد، وحكاه ابن العربي في رواية عن مالك، والجبائي
وابنه، وأهل الظاهر، والزيدية إلى / أنه لا يجوز ذلك، ولا تصح الصلاة المأتي بها في دار الغصب، ولا يسقط الطلب بها ولا عندها.
احتج المصنف لمختاره بوجهين:
الأول: أنّا نقطع بجواز ذلك عقلا، فإنّ السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الجلوس في مكان مخصوص، فخاط العبد ذلك الثوب في نفس المكان المنهي عنه، قطعنا بأنه مطيع بالخياطة عاص بالجلوس في المكان، فكذا الصلاة المأتي بها في الدار المغصوبة، يكون ممتثلًا بها من حيث كونها صلاة، منهيًا عنها من حيث هي في دار مغصوبة، فيحسن ثوابه لأجل الصلاة، وعقابه لأجل الغصب.
ولما استبعد بعض الشافعية هذا، قال: يسقط الفرض ولا يترتب عليها ثواب.
الوجه الثاني: لو لم تصح لكان عدم صحتها لاتحاد متعلقي الأمر والنهي، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأنه لا مانع سواه اتفاقا، وأما بيان بطلان التالي: فلأنه لا اتحاد، فإن متعلق الأمر الصلاة، ومتعلق النهي الغصب، وكل منهما يتعقل انفكاكه عن الآخر، وقد اختار المكلف جمعهما مع إمكان عدمه، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلقا الأمر والنهي، حتى لا يبقيا حقيقتين مختلفتين فيتحد المتعلق.
قيل: إن أردتم بالاتحاد كون الشيء الواحد متعلق الأمر والنهي من جهة واحدة، فالملازمة ممنوعة.
قولكم: إذ لا مانع سواه نمنعه؛ لأن من الموانع عندنا كون النهي الواحد متعلقهما باعتبار جهتين: إحداهما مأمور بها لذاتها، والأخرى منهيا عنها لذاتها، وإن أردتم ما يشمل الأمرين، منعنا بطلان التالي.
قيل أيضًا: الجهتان وإن كانتا متغايرتين لكنهما في مسألة النزاع متلازمتان؛ لأن شغل الحيز جزء الحركات والسكنات المخصوصتين، وهي أجزاء ماهية الصلاة، فيكون فعل الصلاة متوقفًا عليها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيكون المحرم واجبًا ويلزم التكليف بالمحال، وأنتم لا تقولون به.
وردَّ: بأن ذلك وارد في أمر السيد لعبده بالخياطة ونهيه عن مكان مخصوص، فما كان جوابكم هنالك هو جوابنا هنا، ثم إنه لا يتوجه على من قال بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به إذا كان شرطًا شرعيًا دون غيره؛ لأن الموقوف عليه غير شرعي.
سلمنا: ولا نسلم أن كل من قال بصحة هذه الصلاة لا يقول بالتكليف بالمحال، وأيضًا: شغل الحيز على وجه العدوان ليس جزءًا من الحركات والسكنات التي هي أجزاء الصلاة، وجزء الصلاة ما هو أعم من ذاك، وما ذكرتموه [هو جزء الغصب المحرم، فما هو جزء الواجب لا يكون محرمًا،
وما هو محرم لا جزءًا من الواجب، وأيضًا: الصلاة] من مقولة الوضع، والغصب من مقولة الأين، فلا اتحاد ولا تلازم.
قيل أيضًا: لا نسلم أن الصلاة المذكورة مأمور بها؛ لأنها بعد الجمع بينها وبين كونها في الدار المغصوبة، صارت هذه الصلاة منهيًا عنها، ولا يمكن حصول الصلاة بدون تلك الهيئة، فتكون الصلاة منهيًا عنها، فلم يأت بالمأمور به، وأيضًا: الخياطة إن أمر بها سواء كان في الحيز الممنوع منه أو لا، فلا يكون شغل الحيز ممنوعًا منه فافترقا، وإن أمر بها في الجملة ومنع عن شغل المكان المخصوص وشغله بالخياطة، فهذه الخياطة ممنوع منها، ولكن يعد ممتثلا؛ لأنها فعل حقيقي لا يبطل بالمنع منه بخلاف الصلاة.
وردَّ: بأن الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة مأمور بها من حيث هي صلاة، لا مع قيد كونها في الدار المغصوبة، ومنهي عنها / مع ذلك القيد، فتكون الهيئة الحاصلة بعد الجمع مأمورًا بها من حيث هي هيئة الصلاة المطلقة، منهيًا عنها من حيث هي هيئة لهذه الصلاة، فالنهي عن الصلاة لأجل خصوصية لها، لا يوجب النهي عنها نفسها من حيث هي؛ لأن تلك الخصوصية ليست جزءًا للصلاة من حيث هي [لازمة لها لجواز تحقق الصلاة من حيث هي دون تلك الخصوصية، وإذا كانت الصلاة من حيث] هي مأمور بها غير منهي عنها وقد أتى المكلف بها، كان آتيًا بالمأمور به،
ضرورة أنه أتى بالمقيد، ومن أتى بالمقيد فقد أتى بالمطلق.
وعن الثاني: بأنه لا فرق بين الخياطة في المكان المخصوص والصلاة في دار الغصب، وما ذكر من الفرق فضعيف؛ لأن المنع ليس عن الصلاة حتى يلزم أن لا يكون الآتي بها ممتثلًا، بل المنع عن الكون في الدار المغصوبة وهو أعم، وورود المنع من هذه الجملة لا يخلوا من أن يكون موجبًا لعدم وقوع الفعل على وجه الامتثال أو لا، وأيًّا ما كان لا فرق.
قال: (واستدل: لو لم تصح، لما ثبتت صلاة مكروهة، ولا صيام مكروه، لتضاد الأحكام.
وأجيب: بأنه إن اتحد الكون منع، وإلا لم يفد، لرجوع النهي إلى وصف منفك.
واستدل: لو لم تصح لما سقط التكليف.
قال القاضي: وقد سقط بالإجماع؛ لأنهم لم يأمروهم بقضاء الصلوات.
وردَّ: بمنع الإجماع مع مخالفة أحمد، وهو أقعد بمعرفة الإجماع).
أقول: هذان دليلان على صحة المذهب المختار، لأنهما مزيفان عند المصنف.
تقرير الأول: لو لم تصح الصلاة في الدار المغصوبة، لما ثبت صحة صلاة مكروهة ولا صيام مكروه، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأنه كما يضاد الوجوب التحريم، كذلك يضاد الكراهة، بيان بطلان التالي: أن
الصلاة في معاطن الإبل، وفي الحمام، وفي المقبرة مكروهة، وكذا صوم يوم الشك.
الجواب: إن متعلق الوجوب والكراهة وإليه أشار بالكون من باب إطلاق اسم اللازم على الملزوم؛ لأن فعل العبد يستلزم الكون، إن اتحدا منعنا صحة صلاة مكروهة وصيام مكروه، فلا يتحقق في التالي، وإن تعددا منعنا الملازمة، وما ذكروه في بيانها غير مفيد للفرق، وهو أن النهي يرجع إلى وصف منفك عن الصلاة وعن الصوم، كالتعرض لنفار الإبل، ولخوف الرشاش في الحمام، ولأجزاء الموتى في المقبرة، ولعدم تمييز النفل عن الفرض في الصوم، فلا يلزم من اجتماع الكراهة والوجوب فيما له جهتان يمكن انفكاك إحداهما عن الأخرى، فيما اجتماع الوجوب والتحريم فيما له جهتان متلازمتان، لأن النهي عن الشيء لذاته يضاد وجوب أصله، والنهي عن الشيء لوصفه المفارق لا يضاد وجوب أصله.
قيل: جهة الوجوب في الصلاة في دار الغصب [هي] الصلاة المطلقة، والكون في الدار المغصوبة الذي هو الوصف المنهي عنه جائز الانفكاك عن الصلاة المطلقة، وإن كانت الصلاة المشخصة غير منفكة عنه، وإذن لا فرق بين الصلاة المكروهة والصلاة في دار الغصب.
وردَّ: بأن الوصف المنهي عنه في الصلاة المكروهة وصف منفك عن الصلاة المشخصة؛ لجواز وجود الصلاة في تلك الأمكنة مع عدم ما نهي لأجله، بخلاف الوصف المنهي عنه في الصلاة في الدار المغصوبة، فإن الصلاة المشخصة لا تنفك عنه، وفيه نظر؛ لأن الفرق من هذه الجهة لا يفيد؛ لأن متعلق الوجوب في الدار المغصوبة هو الصلاة المطلقة لا المشخصة، والوصف المنهي عنه منفك عنها.
تقرير الثاني: لو لم تصح لما سقط التكليف بها، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأنها إذا لم تصح لا يكون الآتي بها آت بالمأمور به، فلا يسقط التكليف بالمأمور به بالإتيان بالمأمور به. وأما بطلان التالي: لإلما حكاه القاضي من الإجماع على سقوط التكليف بها، والذي يحقق الإجماع أن السلف لم / يأمروا بالطلب بقضاء صلواتهم المؤداة في الأماكن المغصوبة.
الجواب: منع التالي، وما احتج به على الإجماع بعيد لمخالفة أحمد
وهو أقعد بمعرفة الإجماع، فلو كان هناك إجماع لاطلع عليه ولم يخالفه، لا كما قيل: لا ينعقد دونه؛ إجماع عصر قبله أو بعده، وللقاضي منع الملازمة، والسند ما تقدم.
قال: (قال القاضي والمتكلمون: لو صحت لاتحد المتعلقات؛ لأن الكون واحد، وهو غصب.
وأجيب: باعتبار الجهتين كما سبق.
قالوا: لو صحت لصح يوم النحر بالجهتين.
وأجيب: بأن صوم يوم النحر غير منفك عن الصوم بوجه، فلا يتحقق فيه جهتان، وبأن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدد إلا بدليل خاص فيه).
أقول: احتج القاضي والمتكلمون: بأنها لو صحت لاتحد متعلقا الأمر والنهي، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأن كون جزآ الحركة والسكون وهما جزآ الصلاة، فهذا الكون جزء هذه الصلاة فيكون مأمورًا به، ثم إنه بعينه الكون في الدار المغصوبة فيكون منهيًا عنه، فلو كانت صحيحة لكان مأمورًا بها، لأن الصحة موافقة الأمر، فيكون ذلك الكون مأمورًا به فيتحد الأمر والنهي، وأما بطلان التالي: فلامتناع التكليف بالمحال.
الجواب: منع الملازمة؛ لأن متعلق الوجوب الكون باعتبار كونه صلاة ومتعلق الحرمة الكون باعتبار كونه غصبًا، والتغاير بين الشيئين كما يقع بتعدد النوع كالإنسان والفرس، وبتعدد الشخص كزيد وعمرو، يقع بسبب
اختلاف صفات الشخص المحكوم عليه بالمتعاملين، والمحكوم عليه بأحد الحكمين هو الذات مع إحدى صفتيها، والمحكوم عليه بالحكم الآخر الذات مع الصفة الأخرى، كالمحكم بمدح زيد لكرمه وذمه لشحه.
احتجوا أيضًا: بأنها لو صحت لصح [صوم] يوم النحر، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأنه لا مانع إلا اتحاد المتعلقين، واعتبار الجهتين يدفعه؛ إذ الصوم من حيث هو متعلق الأمر، والصوم المضاف متعلق النهي، وأما بطلان التالي: فبالاتفاق.
وأجاب المصنف عنه من وجهين:
الأول: منع الملازمة، بأن نقول: صوم يوم النحر لا ينفك عن الصوم لأن المضاف يستلزم المطلق، بخلاف الصلاة والغصب يمكن انفكاك كل منهما عن الآخر، وحاصلة تخصيص الدعوى بما يجوز انفكاك الجهتين فيه كما في الصلاة في دار الغصب، بخلاف ما ذكرتم، وإنما يكون نظيره لو ثبت النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة.
الوجه الثاني: أن نمنع الملازمة أيضًا، فإن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدد إلا بدليل خاص فيه؛ لأن نهي التحريم يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه، واعتبار تعدد الجهتين يقتضي جواز الإتيان به وهما متنافيان، فإذن لا يجوز اعتبارهما في نهي التحريم إلا بدليل خاص، وقد قام في الصلاة في الدار المغصوبة على اعتبار الجهتين، حيث لم يأمروهم بقضاء الصلوات بخلاف ما ذكرتم.
قيل: الأمر ورد بالصوم المطلق، والنهي عن الصوم المقيد فاستويا.
قلنا: الأمر ورد بالصلاة منفردة، [والنهي عن الغصب منفردًا] بخلاف هنا، فإن الأمر وإن ورد بالمطلق والنهي عن المضاف، لكن لا ينفك المأمور به عن المنهي عنه في هذه الصورة.
قال: (وأما من توسط أرضًا مغصوبة، فحظ الأصولي بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معًا بالخروج، وخطأ أبي هاشم.
وإذا تعين الخروج للأمر، قطع بنفي المعصية به.
وقول الإمام باستصحاب حكم المعصية ولا نهي، بعيد.
ولا جهتين لتعذر الامتثال).
أقول: لما فرغ بما له جهتان يمكن انفكاك إحداهما / عن الأخرى، شرع فيما له جهتان لا يمكن انفكاك إحداهما عن الأخرى، كخروج من توسط أرضًا مغصوبة.
واعلم أن حظ الأصولي بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معًا بالخروج، فإنه تكليف بالمحال.
أما كون الشيء الواحد مأمورًا به عينًا، أو منهيًا عنه عينًا فلا حظ للأصولي فيه، بل هو حظ الفقه، فمن توسط أرضًا مغصوبة، فليس من حظ الأصولي أن يقول: يجب عليك الخروج، أو يحرم عليك، فإن ذلك حظ الفقيه، وحظ الأصولي أن يبين استحالة تعلق الأمر والنهي معًا بالخروج عنهما، لاستلزامه التكيف بالممتنع.
وحظ الأصولي أيضًا بيان خطأ أبي هاشم في قوله بتعلقهما معًا بالخروج، حيث قال:«يكون عاصيًا بالإقامة والخروج معًا» ، فإذن يكون الخروج مأمورًا به؛ [لأن الإقامة إذا كانت عصيانًا يكون منهيًا، فيكون الخروج مأمورًا به، لكنه] معصية، فهو منهي عنه، وبيان خطأ هذا المذهب:
أولًا: أنه يخالف أصول المعتزلة في وجوب رعاية الأصلح للعباد على الله تعالى، ومن الأصلح ألا يسدّ عليهم باب التوبة، وما ذكره يفضي إلى سدّه، وكل واحد من المكث والخروج وإن كان غصبًا، لكن يتعين التكليف بالخروج لما فيه من تعليل الضرر، كالنزع من الفرج الحرام، وكشرب الخمر لمن غص بلقمة، لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبًا نظرًا إلى دفع أعلاهما، ووجوب ضمان ما أفسد عند خروجه لا يدل على حرمة الخروج، وإذا تعين الخروج للأمر يجب القطع بنفي المعصية بسبب الأمر، لكونه ممتثلًا مطيعًا، والمطيع لا إثم عليه فلا عصيان، وأيضًا: هو في الخروج غير مختار لكونه متبعا للأمر، لكن إذا خرج بما هو شرط في الخروج من السرعة، وسلوك أقرب الطرق وأقلها ضررا، وأن يقصد بالخروج مفارقة الغصب؛ لأنه لو قصد بالخروج التصرف في ملك الغير لم تنتف المعصية، كما إذا قصد بالنزع من الفرج الالتذاذ.
وقال إمام الحرمين: «هو مأمور بالخروج وليس خارجًا عن العدوان؛