المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(المحكوم فيه: الأفعال - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٢

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: ‌(المحكوم فيه: الأفعال

كان في حق المكلف لولاه ثبتت الحرمة في حقه، فهو الرخصة، وإلا فهو‌

‌ العزيمة

، ويلزم عليه أن يكون الإطعام في الظهار رخصة، ثم الرخصة قد تكون واجبة كأكل الميتة للمضطر، وقد تكون مندوبًا كقصر المسافر الصلاة، وقد تكون مباحة كفطر المسافر في رمضان، واستعمل المصنف اللف والنشر.

والعزيمة: ما لزم العباد بإلزام الله تعالى، صرح به في المنتهى، فيختص حسب الاقتضاء بالواجب، ولا يتوهم من تركها هنا أنها تقابل الرخصة.

وعُلم مما ذكر أنهما من خطاب الاقتضاء والتخيير لا من خطاب الوضع.

قال: ‌

‌(المحكوم فيه: الأفعال

.

مسألة: شرط المطلوب الإمكان، ونسب خلافه إلى الأشعري، والإجماع على صحة التكليف مما علم الله تعالى أنه لا يقع.

لنا: لو صح التكليف بالمستحيل، لكان مستدعى حصوله، ولا يصح أنه لا يتصور وقوعه، واستدعاء حصوله فرعه؛ لأنه لو تصور مثبتًا، لزم تصور الأمر على خلاف ماهيته، وهو محال.

فإن قيل: لو لم يتصور، لم تعلم إحالة الجمع بين الضدين؛ لأن العلم بصفة الشيء فرع تصوره.

ص: 99

قلنا: الجمع المتصور جمع المختلفات، وهو المحكوم بنفيه عن الضدين، ولا يلزم من تصوره منفيًا تصوره مثبتًا.

فإن قيل: يتصور ذهنًا للحكم عليه، ولا في الخارج.

قلنا: لإيكون الخارج مستحيلا، والذهني بخلافه، وأيضًا: يكون حكمًا بالاستحالة على ما ليس بمستحيل، وأيضًا: الحكم على الخارج يستدعي تصور الخارج).

أقول: لما فرغ من الحكم وأبحاثه، شرع في المحكوم فيه، وهي أفعال المكلفين.

واعلم أن الأفعال إن كانت ممتنعة لذاتها، فلا يجوز طلبها والتكليف بها عند المحققين، ونسب خلافه إلى الأشعري، ونقله صاحب الإحكام عنه قولًا، أما إن كانت الأفعال ممكنة لذاتها، سواء كانت ممتنعة للغير وهو الذي عَلِم الله أنه لا يقع أولا، فالإجماع على صحة التكليف بها.

واحتاج على مختاره: بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان المستحيل مستدعى حصوله في الخارج، أما الملازمة: فلأن التكليف به هو طلبه، وهو استدعاء حصوله، وأما بطلان التالي: فلأن المحال لذاته غير متصور الوقوع

ص: 100

وكلما هو غير متصور الوقوع يمتنع طلبه.

أما الأولى: فلأنه لو تحقق تصور وقوعه خارجًا في نفس الطالب، لزم تصور الشيء على خلاف ماهيته؛ لأنها لما كانت مستلزمة للوقوع في الخارج يكون تصور وقوعها في الخارج مخالفها لها؛ لأن التصور حصول صورة الشيء في الذهن، فيكون تصور وقوعها في الخارج حصول صورتها في الخارج في الذهن، وإذا لم يكن لوقوعها في الخارج تحقق، لاستحالة تكون صورته الحاصلة في الذهن غير مطابقة له، ويستحيل على الله تصور الأمر على خلاف ماهيته؛ لأنه جهل متصور ذاته مع عدم ما يلزم فإنه يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته، وإنا لو تصورنا أربعة ليست بزوج، وكلّ ما ليس بزوج ليس بأربعة، فقد تصورنا أربعة ليست بأربعة، وأما الكبرى؛ فلأن استدعاء الحصول [فرع تصوره، فإذا انتفى انتفى، وقرر أيضًا ببطلان اللازم بوجه آخر وهو: لو كان المستدعي الحصول] لكان متصور الوقوع لكنه محال؛ لأنه لو تصور صبوته فيه لزم تصور المحال على خلاف ماهيته؛ لأن ماهيته هي ما يمتنع في الخارج، فما أمكن فيه لا يكون مستحيلا، فلا يكون المستحيل مستحيلا، فيكون قوله: وهو محال لكونه خلاف المقدر، لا أنه محال لذاته. وما قيل من أنه منقوض بما علم الله أنه لا يقع فباطل؛ لأنه يتصور وقوعه نظرًا إلى ذاته؛ لأنها لا تنافي الوقوع.

قلت: وفي هذا الدليل نظر، أما أولًا: فإنا نمنع، إذ لا يلزم من

ص: 101

التكليف استدعاء الحصول؛ لجواز أن يكون للابتلاء، حتى يثاب بسبب البِشْر ويعذب بسبب الكراهة، كما صرح به المصنف في غير موضع.

سلمنا: ونمنع بطلان التالي، ولا يلزم من استدعاء الحصول تصور كونه ثابتا في الخارج الذي هو محال، واللازم من استدعاء الحصول تصور المحال فقط، ولا يلزم من تصوره تصور كونه ثابتًا في الخارج، حتى يلزم تصور الأمر على خلاف ماهيته، ويكفي في الحكم تصور المحكوم عليه بوجه.

ثم أورد المصنف معارضة في المقدمة الصغرى من بطلان اللازم، وتوجيهها: لو لم يتصور وقوع المحال، امتنع التصديق بإحالة وقوع الجمع بين الضدين؛ لأن التصديق بثبوت الشيء للشيء فرع تصور ثبوت ذلك الشيء، فالحكم بإحالة وقوع الجمع بين الضدين فرع تصور وقوع الجمع بين الضدين، والمراد بالعلم في الموضعين التصديق؛ لأن العلم قد يخص به.

أجاب: بأنّا لا ندعي انتفاء تصور المستحيل مطلقًا، بل انتفاء تصوره مثبتًا وهو أخص، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، وما ذكرتم يستدعي تصوره مطلقًا لا تصوره مثبتًا.

وبيانه: أن المتصور هو الجمع بين المختلفات كالسواد والحلاوة، وهو المحكوم بنفيه عن الضدين، فنحن لا نتصور الضدين أولًا ثم نحكم على اجتماعهما بالاستحالة، بل العقل يحكم سلب الاجتماع المتصور بين المختلفات، كالاجتماع المتصور بين السواد والحركة في الجسم المتحرك عن الضدين، وسلب الاجتماع عن الضدين لا يتوقف على تصورهما مجتمعين.

وقوله: (العلم بصفة الشيء فرع تصوره) ممنوع؛ لأن النسب

ص: 102

والإضافات لا تفعل في أنفسها ويصدق ثبوتها لغيرها.

سلمنا: ولا يلزم من سلب الشيء عن الغير ثبوت ذلك الغير؛ لأن السالبة لا تستدعي وجود موضوع.

سلمنا: والإحالة صفة للاجتماع المطلق المتصور بين المختلفات، والمراد أن مثل ذلك الاجتماع يستحيل في الضدين.

وقوله: (لا يلزم من تصوره منفيا تصوره مثبتا) لدفع قول من قال: تصور السلب يتوقف على تصور الإيجاب، كما في العدم والملكة، إذ سلب الشيء عن الشيء لا يتوقف على ثبوته له، بل يتوقف على تصور ثبوته فقط، وتصور العام لا يستلزم تصور الخاص، ويلزم من انتفاء الجمع بين المختلفات عن الضدين انتفاء الجمع المطلق عنهما؛ لأنه إذا لم يكن للمطلق وجود إلا في اجتماع الأمور المختلفة، لزم من انتفاء اجتماعهما انتفاء الجمع المطلق.

ثم قوله: (العلم بصفة [الشيء فرع تصوره) إنما يصح إذا اعتبر في الصفة إضافتها إلى الشيء، كإحالة الجمع بين الضدين في مثالنا، إذ العلم بصفة] الشيء مطلقًا، كالعلم بالزوجية مثلا التي هي صفة الأربعة لا تتوقف على تصور الأربعة، بخلاف الحكم بزوجية الأربعة فإنه يتوقف على تصورها.

لا يقال: فعلي هذا لا يناقض قولنا: الضدان لا يجتمعان، قولنا: الضدان يجتمعان، لعدم اتحاد الموضوع؛ لأن الحكم عليه نفيًا جمع المختلفات

ص: 103

الغير / متضادة، والمحكوم بثبوته جمع المتضادة، لأنّا نقول: أعم كما تقدم، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص.

واعلم أن بحث المصنف يستلزم عدم عموم تعلق علم الله تعالى، والحق العموم.

ثم أورد المصنف أيضًا معارضة أخرى في المقدمة، وتوجيهها أن يقول: اجتماع الضدين مقصود هـ نا، لأنا نحكم عليه بالحكم الثبوتي بأنه معدوم ومستحيل، وثبوت الشيء لغيره فرع ثبوته في نفسه فهو ثابت، وإذ ليس في الخارج فهو في الذهن، وذلك كاف في طلبه، ولا يلزم تصور الشيء على خلاف ماهيته.

ثم أجاب عنه من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الذهني يكون ممكنًا إذ المقدر وقوع الجمع فيه، والخارج يكون مستحيلا، ولا نزاع في التكليف بالأول، إنما النزاع في التكليف بالممتنع لذاته في الخارج، فلا يكون المستحيل هو المتصور.

الثاني: أن الحكم بالاستحالة يكون على المتصور، وقد ذكرتم أن ذلك هو الذهني وهو غير مستحيل، ضرورة أن المحال ممكن الوقوع في الذهن وإن كان ممتنعًا في الخارج، فقد حكمتم بالاستحالة على ما ليس بمستحيل.

الثالث: أن تصوره ذهنًا لا يكفيكم ولا يضرنا؛ لأن حكم الذهن على الخارج بالامتناع يستدعي تصوره للخارج؛ لأنه لو لم يتصور وقوعه في الخارج استحال الحكم باستحالته فيه، وقد بينّا أنه لا يتصور؛ لأنه تصور

ص: 104

للأمر على خلاف ماهيته.

قيل: في الأجوبة نظر:

أما الأول: فلأن معنى قولنا: اجتماع الضدين محال في الخارج، ليس هو أن ما يصدق عليه اجتماع الضدين في الخارج فهو محال في الخارج، كما في قولنا: كل إنسان حيوان في الخارج، بل معناه: أن اتصاف الضدين بالاجتماع المطلق في الخارج م حال، وهذ لا يقتضي وجود الموضوع في الخارج، فإنه من القضايا الذهنية لا الخارجية.

وأما الثاني: فلأن الخصم لا يسلم أن المستحيل لذاته هو يمتنع تصوره.

وأما الثالث: فلأن الحكم على المستحيل الخارجي بما ذكرنا من التغير لا يستدعي تصوره في الخارج.

قال: والجواب الحق أن يقال: الجمع المتصور جمع المختلفات

إلى آخره.

قلت: الأول والثاني غير موجهين؛ لأن ما ادعى وجود الموضوع في الخارج، ولا قال في الجواب: إن المستحيل لذاته هو ما يمتنع تصوره.

قال: (المخالف: لأولم يصح لم يقع؛ لأن المعاصي مأمور، وقد علم الله أنه لا يقع، وأخبر أنه لا يؤمن، وكذلك من علم بموته، ومن نسخ عنه قبل تمكنه؛ ولأن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل، فقد كلف غير مستطيع؛ ولأن الأفعال مخلوقة لله تعالى، ومن هذين نسب تكليف المحال للأشعري.

ص: 105

وأجيب: بأن ذلك لا يمنع تصور الوقوع؛ لجوازه منه، فهو غير محل النزاع، وبأن ذلك يستلزم أن التكاليف ك لها تكليف بالمستحيل.

قالوا: كلّف أبا جهل تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به ومنه ألا يصدقه، فقد كلّفه بأن يصدقه في أن لا يصدقه، وهو مستلزم أن لا يصدقه.

والجواب: أنهم كلّفوا تصديقه، وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم كإخبار نوح، ولا يخرج الممكن عن الإمكان بخبر أو علم.

نعم، كلّفوا بعد علمهم لانتفت فائدة التكليف ومثله غير واقع).

أقول: احتج المجوز بوجهين:

الأول: لو لم يصح لم يقع واللازم باطل، أما الملازمة: فلانعكاس كل ما وقع فهو ممكن بعكس النقيض إلى الملازمة، وأما بطلان التالي فمن وجوه: الأول: أن العاصي بترك الفعل مأمور علم أنه لا يقع، وخلاف معلوم الله تعالى محال، وإلا لزم جهله تعالى عن ذلك، فيكون الممتنع مأمورًا به.

وأيضًا: الكافر مكلف بالإيمان، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يؤمن، لقوله تعالى:{سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ، فوقوع الإيمان فيهم محال، وإلا لزم كذب خبره تعالى، فيكون التكليف بالممتنع واقعًا.

ومنها: أنه تعالى كلف من علم بموته قبل تمكنه من الفعل [المأمور به، وهو حينئذ يمتنع منه الفعل، وكذلك كلف من نسخ عنه قبل تمكنه من الفعل

ص: 106

مع أنه يمكنه] الإتيان بالفعل امتثالًا.

ومنها: أن المكلف لا قدرة له على الفعل إلا حال صدور الفعل، إذ لو وجدت القدرة قبل الفعل لكان لها متعلق موجود، لاستحالة كون المعدوم مقدورًا، فيكون الفعل قبل صدوره ممتنعًا، ضرورة عدم قدرته عليه وهو مكلف إذ ذاك؛ لأن استدعاء الفعل مقدم عليه، إذ لا يتصور إلا في المستقبل ضرورة امتناع إيجاد الموجود، فهو حال التكليف غير مستطيع.

ومنها: أن أفعال العبادة مخلوقة لله تعالى بدليل: {والله خلقكم وما تعملون} ، ولأنها لو كانت مخلوقة للعبد لكان خالقا لها بالطبع وهو باطل إجماعا، أو بالاختيار فيكون عالما بتفاصيل الحركات والسكنات الصادرة منه، لأنه لابد وأن يكون مريدًا لتفاصيل ما صدر عنه وإلا لم تكن بالاختيار ويلزم من كونه مريدًا لها أن يكون عالما بها وليس كذلك، فلا تكون مخلوقة [له] ، فتكون مخلوقة لله تعالى، فيكون التكليف بها تكليف بما لا قدرة للعبد عليه؛ لامتناع وقوع ما وقع بقدرة الله بقدرة العبد.

ومن قول الأشعري: إن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل، وإن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى، فنسب إليه القول بالتكليف بالمحال، وإلا فهو لم يصرح به.

ص: 107

والجواب: إن علم الله تعالى وإخباره بعدم وقوع الفعل، وكون الفعل مع القدرة، وكون الأفعال مخلوقة لله تعالى، لا يمتنع تصور وقوع الفعل من المكلف؛ لجواز تصور الوقوع منه فهو غير محل النزاع، إذ النزاع فيما يمنع تصور وقوعه لا فيما يمتنع وقوعه لخبر أو علم أو غيرهما، فهي تجوز صدورها بحسب الذات من المكلف وإن امتنعت لأمر خارجي، ولا نزاع فيه.

الثاني: أن ما ذكرتم يبطل المجمع عليه فيكون باطلا؛ لأنه يستلزم أن تكون التكاليف كلها تكليف بالمستحيل، أما كون القدرة مع الفعل وكون الأفعال مخلوقة لله تعالى تستلزم كل واحد منها ذلك فواضح، وأما استلزام العلم ذلك، فلوجوب وجود الفعل أو عدمه لوجوب تعلق العلم بأحدهما، وأيًّا ما كان يتعين ويمتنع الآخر، فالتكليف إما بالواجب أو بالممتنع، وكلاهما تكليف بالمحال، وأما الأخبار والموت والنسخ فلا يعم، وكون كل تكليف تكليف بالمستحيل باطل؛ لأن بعض من جوز التكليف بالمحال لم يقل بوقوعه، ومن قال بالوقوع لم يعمم، وغير المجوز أوضح.

قيل: لا يصح منع الإجماع [مسندًا] ، إذ القائل بهذين - ويكون ما علم الله وقوعه أو أخبر عنه واجبًا، ويكون ما علم عدمه أو أخبر عنه ممتنعًا - يقول: إن التكاليف كلها تكليف بالمحال، [أما عندنا؛ فلأن شرط المطلوب الإمكان، وأما عندهم؛ فلأن إيمان من علم الله أنه لا يؤمن ممكن بحسب ذاته، ودعوى امتناعه لذاته عناد.

ص: 108

قلنا: وفيه نظر؛ لأن المستدر يهم أن المجيب ألزمه أن التكاليف كلها تكليف بالمحال لذاته يمنع الاستلزام، ولا يبقى غير الجواب الأول].

[سلمنا الإجماع؛ لكن ظني لا يعارض القواطع.

قلت: وفيه نظر؛ لأن الأشعري قائل بهذين، ومجوز للتكليف بالمحال، ومانع للتكليف به في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به، وفي مسألة تكليف الغافل، وقوله:«الإجماع ظني» نمنعه].

فإن قيل: في الثالث والرابع نظر؛ لأن التكليف عند الأشاعرة إنما يتوجه حال المباشرة على ما حكى الإمام في المحصول، وقبل ذلك لا لأمر بل هو إعلام، فإنه في الزمان الثاني يصير مأمورا به بالمباشرة، فلم يكلف من علم بموته ومن نسخ عنه قبل تمكنه.

قلت: لو صح ذلك لم يعص أحد لعدم التكليف.

قيل على الخامس: لا نسلم أنها لو كانت قبله لوجد لها متعلق. سلمنا، لكن التكليف مع عدم الاستطاعة إنما يلزم لو كلف حال عدم القدرة بالإتيان بالمأمور به إذ ذاك، أما إذا كلف حال عدم القدرة بالإتيان به حال القدرة فلا؛ ولأنه يلزم كون قدرة الباري تعالى مع الفعل لا قبله فتكون حادثة.

ص: 109

وردَّ: بأن القدرة حاصلة قبل صدور الفعل، وشرط تأثيرها في الفعل الإرادة والداعية، وإذا انتفى الشرط المشروط، فلا تكون القدرة على وجه تؤثر حاصله، وهو المراد بنفي حصول القدرة، ولا يلزم حدوث قدرته تعالى؛ لأن القدرة الأزلية تحدث كل شيء أراده الله تعالى بالإرادة الأزلية في زمان اقتضت الحكمة البالغة حصوله فيه.

وقوله: «إنما كلف بالمحال بالإيقاع في ثاني حال» [باطل]؛ لأن الإيقاع المكلف به في ثاني حال، إن كان نفس الفعل، فالتكليف به محال كالتكليف بالفعل، وإن كان غيره عاد الكلام إليه، بأن نقول: التكليف به إنما يتوجه عند الشروع فيه، على أن المسألة مشكلة؛ لأن الفعل قبل القدرة المستجمعة لشرائط التأثير يمتنع صدوره، وعندها يجب صدوره، فيلزم على مذهب المعتزلة كون الممتنع مكلفًا به، وعلى مذهب الأشاعرة كون الواجب مكلفًا به، وأنه لا يعصي أحد.

احتجوا ثانيا: بأنه لو لم يخير لم يقع، بيان بطلان التالي: أن الله تعالى كلف أبا جهل بالإيمان، وهو تصديق الرسول في جميع ما جاء به، ومما جاء به أنّ أبا جهل لا يصدقه، فقد كلفه بأن يصدقه في أن لا يصدقه، وتكليفه أن يصدقه في هذا الخبر المستلزم ألا يصدقه وإلا لزم كذب خبر الله تعالى، فيكون تكليفًا بالتصديق حالة امتناع التصديق، وهو تكليف [بالجمع بين الضدين] ، لكونه مكلفًا بتصديق هذا الخبر لأنه مما جاء به، وهذا الخبر

ص: 110

يستلزم ألا يؤمن لاستحالة خلف خير الله تعالى.

والجواب: أنهم لم يكلفوا إلا تصديقه وهو ممكن في نفسه متصور وقوعه، لكنه مما علم الله أنه لا يقع، وإخبار الله لرسوله كإخباره لنوح في قوله:{أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ، لا أنه عليه السلام أخبر أبا جهل بذلك، ولا يخرج الممكن عن الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي بخبر أو علم، فهو غير محل النزاع، ويصح أن يضاف إلى الفاعل، أي إخبار الرسول الأمة كإخبار الله نوحًا، مع أنهم كانوا مكلفين بالإيمان، ووجه التشبيه أنه إذا كان إخبار نوح المؤكد بأن لم يخرج الممكن عن إمكانه بعدم إخراج خبر الرسول مع عدم تأكيده أولا، ولو تركه لكان أحسن؛ لأن قضية إخبار نوح كقضية أبي جهل، والخصم استدل بكل منهما، فله أن يمنع في كل منهما.

ومما أجيب به عن هذا السؤال: أنّا لا نسلم أن من الإيمان تصديقه في كل ما أخبر عنه، بل في كل ما علم أنه خبر عنه، فلا يلزم بالتكليف بصدق هذا الخبر إلا إذا علم أنه خبر الله تعالى، ولو علم ذلك لعلم صدق الرسول، ولو علم صدقه لم يوجد هذا الخبر منه تعالى لاستلازمه الكذب، وإذا لم يوجد لم يكلف بتصديقه، فالتكليف بهذا الخبر يستلزم عدم التكليف به، فلا يكون مكلفا به، وأيضًا: من الإيمان تصديقه في كل ما أخبر به تصديقا إجماليًا، أي يعتقد على سبيل الإجمال أن كل خبر من أخباره تعالى صدق، ويلزم منه التكليف بصدق هذا الخبر تصديقًا إجماليًا، وهو لا يستلزم

ص: 111

مشروط بوجود العلم بهذا الخبر وهو غير مكلف [به] لما تقدم، وأيضًا: لا نسلم أن أبا جهل مأمور بالإفيمان بعد نزول أنه لا يؤمن؛ لجواز أن يكون الإخبار بأنه لا يؤمن لتضمنه التكليف ناسخًا في حقه التكليف الأول.

ثم قال المصنف: «نعم لو كلفوا بعد علمهم» ، وهو جواب عن سؤال مقدر تقريره: لو صح التكليف بما علم وقوعه، لصح التكليف بما علم المكلف انتفاء وقوعه، وأنت لا تقول به.

وأجاب: بالفرق، وهو أن الذي لا أقول به في التكليف بالممتنع للغير، هو ما لو كلفوا بعد علمهم بامتناع الوقوع منهم، لكن لا استحالة التكليف به لينهض نقضًا، بل لانتفاء فائدة التكليف التي هي الامتثال والابتلاء، ومثل هذا التكليف الذي لا يشتمل على فائدة غير واقع، بل غير جائز شرعًا، وقد منع المصنف جوازه في قوله:(وأجيب بانتفاء فائدة التكليف).

قال: (مسألة: حصول الشرط الشرعي ليس شرطًا في التكليف قطعا، خلافا لأصحاب الرأي.

وهي مفروضة في تكليف الكفار بالفرع.

والظاهر الوقوع.

لنا: لو كان شرطًا لم تجب صلاة على محدث وجنب، ولا قبل النية، ولا الله أكبر قبل النية، ولا اللام قبل الهمزة، وذلك باطل قطعًا).

أقول: لا يشترط في التكليف بالفعل أن يكون شرطه حاصلا حالة

ص: 112

التكليف، بل يجوز التكليف بالفعل وإن لم يحصل شرطه شرعًا، خلافا للحنفية، وأبي حامد الإسفرائيني من الشافعية، ولأحد قولي المالكية.

والمسألة [مفروضة في بعض جزئيات محل النزاع، وهو تكليف الكفار بالفروع، مع انتفاء شرطها وهو الإيمان، حتى يعذب بالفروع كما يعذب بالإيمان].

وهذه مسألة مترجمة في أكثر الكتب بالكفار مخاطبون بفروع الإسلام، وهو أحسن، وإن كان ابن برهان قد خطأهم أيضًا محتجًا بأن الكافر

ص: 113

منهي عن الصلاة، فلا يكون مخاطبًا بها.

قال: وإنما كلف بالتوصل إلى فروع الإيمان، وهذا مقتضب من البرهان.

وإنما قلنا: إنه أحسن؛ إذ لا خلاف أن المسلم لو بقي محدثًا إلى آخر عمره، عُوقب على ترك الصلاة إجماعًا.

وقيل: إن الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر؛ إذ الانتهاء ممكن الشيء شرعًا لا وجوده، فخرج عنه الممكن من الأداء الزائل بالنوم، فإنه شرط في التكليف بأدائه وليس شرطا في التكليف بوجوبه، فإنه يجب عليه الصلاة بدخول الوقت، ولذلك وجب القضاء ولا يجب الأداء، وخرج التمكن من الفهم الذي ليس حاصلا للصبي والمجنون، ولهذا لم يكلفا بأداء الصلاة بعد دخول الوقت، فهما وإن كانا شرطين شرعيين لكن مما يتوقف / وجود الشيء عليهما، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى التفصيل؛ لأن المذكور شرطان عقليان لا شرعيان.

واعلم أن ما ذكر يشكل بالنقاء من الحيض والنفاس، فإنه شرط شرعي

ص: 114

وحصوله شرط في التكليف بالصلاة، وهذا إنما جاء من تعميمه، والكلام معمم في الجواز والوقوع، أما الجواز فقطعي، وأما الوقوع فالظاهر الوقوع. احتج المصنف: بأنه لو كان حصول الشرط الشرعي شرطًا في التكليف بالمشروط لم تجب صلاة على محدث وجنب؛ لانتفاء شرطها وهو الطهارة، ولم تجب الصلاة قبل النية لأنها شرطها وقد انتفت، ولا الله أكبر قبل النية، ولا اللام من الله أكبر قبل الهمزة؛ لأنها شرط في وجوب اللام؛ لأن الشرع راعى الترتيب في الحروف كما روعي في اللغة، واللازم باطل.

لا يقال: نمنع بطلان التالي، وسنده أنّ أبا هاشم يقول: لو بقي المسلم محدثًا إلى آخر عمره، لقي الله تعالى وهو غير مخاطب بالصلاة؛ لأّنا نقول: معناه أنه غير مخاطب بالأداء لا أنها غير واجبة، بحيث لا يعاقب بتركها؛ لأن ذلك خرق للإجماع، فهو مخاطب في الزمان الأول بفعل فيه الإيمان، والعبادات في الثاني.

واعلم أن هذا لا يعيد إلا إذا ادعى الخصم العموم، أما في المسألة المفروضة فلا، إلا أن يكون بالقياس عليه.

قال: (قالوا: لو كلّف بها لصحت منه.

قلنا: غير محل النزاع.

قالوا: لو صح لأمكن الامتثال، وفي الكفر لا يمكن، وبعده يسقط.

ص: 115

قلنا: يسلم، ويفعل كالمحدث).

أقول: احتج الخصوم بوجهين:

الأول: لو كلف الكافر بالفروع لصحت منه، واللازم باطل، أما الملازمة: فلأن الصحة موافقة الأمر، وأما بطلان اللازم: فبالاتفاق.

أجاب: بمنع اللزوم، وما ذكرتم ليس محل النزاع، إذ لا نقول: إنه مأمور به حالة كفره، نعم يصح منه أن يؤمن ويفعل كالمحدث، فهو مكلف بها حالة الكفر، وبأدائها بعد شرطها، أو نقول: معنى صحة تكليفهم أنهم يعاقبون بترك الفروع كما يعاقبون بترك الإيمان، وإنما يلزم ما ذكرتم لو كلف بأدائها حالة الكفر، وهذا أولى من الأول؛ لأن المصنف ذكر الأول جوابًا عن شبهتهم الثانية، وفي بعض النسخ (غير محل النزاع) ، أي نمنع الملازمة فإنه يجوز التكليف عقلا مع عدم الصحة شرعًا، وبه صرح في المنتهى.

الثاني: لو كلف بها لأمكن الامتثال، أما الملازمة: فلأن الإمكان شرط التكليف، وأما بطلان التالي؛ فلأن الامتثال حالة الكفر مستحيل لعدم شرطه، وأما بعده فلا يمكن لسقوط الأمر عنه، والامتثال فرعه.

والجواب: أنه في الكفر ممكن لذاته، بأن يسلم ويفعل كالمحدث، غايته أنه مع الكفر لا يمكن وذلك ضرورة بشرط المحمول، ولأننا في الإمكان الذاتي كقيام زيد وقت عدم قيامه فإنه ممكن، وإن امتنع بشرط عدم قيامه، ثم

ص: 116

الامتثال بعد الكفر لا يمتنع لذاته، وإنما [امتنع] بسبب إخبار الشرع بسقوطها عنهم ترغيبًا لهم في الإسلام بخلاف المرتد، ثم شرع يحتج للوقوع.

قال: (الوقوع: {ومن يفعل ذلك} ، {ولم نك من المصلين} .

قالوا: لو وقع لوجب القضاء.

قلنا: القضاء بأمر جديد، فليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته ربط عقلي).

أقول: مما يدل على وقوع تكليف الكفار بالفروع قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} ، ووجه التمسك بها، أن الله تعالى حكم بتضعيف العذاب بفعل ذلك أي بجميع ما تقدم، ومنه الزنا، وقتل النفس، ولولا أنه محرّم عليه ومنهي عنه لما أثم بفعله، وهذا لا ينهض على جواز التكليف بالنواهي دون الأوامر، لا يقال: استحقاق العذاب بالترك وحده وتحقيقه ذلك، وهي إشارة إلى البعيد.

سلمنا: ويكون العذاب بفعل الكل، ولا يلزم من حرمة الكل حرمة كل واحد.

سلمنا: لكن المراد المؤمنون؛ لأنَّا نقول: لو لم يكن للباقي مدخل في العذاب، لكان ذكره معه قبيحًا، ولو لم يكن كل واحد حرامًا، لكان غير الحرام منضما إلى الحرام في الوعيد، وهو باطل.

ص: 117

فإن قيل: تضاعف العذاب بسبب الترك، والمباح شرط لاستحقاق العقاب.

قلنا: بعيد، وأيضًا: إذا كان له مدخل في استحقاق العقاب لا يكون مباحا، ولفظ {من} ظاهر في عموم الآية الثانية، قوله تعالى:{ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} ، صرح بتعذيبهم بترك الصلاة ولم يكذبهم، وحمل المصلين على المعتقدين خلاف الظاهر، وحمل المصلين على المسلمين بدليل «نهيت عن قتل المصلين» ، يردّه {ولم نك نطعم المسكين} ، ويرده {وكنا نكذب بيوم الدين} .

احتجوا على عدم الوقوع: بأنه لو وقع التكليف بها لوجب قضاؤها؛ لأن ما يقتضي وجوب الشيء يقتضي وجوبه قضائه.

والجواب: منع الملازمة؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، فليس بين

ص: 118