المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ لا تكليف إلا بفعل - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٢

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: ‌ لا تكليف إلا بفعل

القضاء وبين وقوع التكليف بالشيء ولا صحة التكليف به ربط عقلي حتى يلزم من التكليف وجوب القضاء، ولهذا قد يجب الأداء دون القضاء كالجمعة، وبالعكس كصوم الحائض.

قال: (مسألة:‌

‌ لا تكليف إلا بفعل

، فالمكلف به في النهي كف النفس، وعن أبي هاشم وكثير نفي الفعل.

لنا: لو كان لكان مستدعى حصوله ولا يصح؛ لأنه غير مقدور له.

وأجيب: بمنع أنه غير مقدور له، كأحد قولي القاضي.

وردّ: بأنه كان معدومًا واستمر، والقدرة تقتضي أثرا عقلًا، وفيه نظر).

أقول: ذهب أبو هاشم وأتباعه إلى أن متعلق النهي نفي الفعل، أي ألا يفعل، وذهب أكثر المتكلمين إلى أن كل مكلف به فعل، فالمكلف به في النهي فعل أيضًا، وهو كف النفس عن الفعل، وهو مختار المصنف.

واحتج عليه: بأن نفي الفعل لو كان مكلفًا به، لكان مستدعى حصوله من المكلف، واستدعاء حصوله منه فرع تصور وقوعه منه لما مرّ، ولا يتصور وقوع نفي الفعل منه لأنه غير مقدور له؛ لأنه نفي محض، والنفي

ص: 119

المحض لا يكون مقدورًا، فإذن لا يتصور وقوعه منه، فلا يكلف به؛ لأن شرط المطلوب إمكانه.

واعترض: بأنّا لا نسلم أنه غير مقدور؛ لأن القدرة نسبتها إلى الطرفين على السواء، فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا لم يكن الفعل مقدورا، وإنما يلزم ما ذكرتم لو كان عدما محضا وليس كذلك؛ لأنه عدم مضاف، ولهذا يمدح العقلاء من ترك الزنا وإن لم يخطر ببالهم كف النفس، وهذا أحد قولي القاضي.

وردّ بوجهين:

الأول: أنه كان معدومًا قبل واستمر، وما ثبت قبل القدرة لا يكون أثرًا للقدرة المتأخرة عنه.

الثاني: أن القدرة لابد لها من أثر عقلا، والعدم لا يصلح أثرًا؛ لأنه نفي محض وعدم صرف، وإنما مدح من ترك الزنا لكف النفس وهو وجودي، ونمنع المدح مع عدم الخطران.

ثم قال: وفيه نظر؛ وهو أنّا لا نسلم أن استمراره لا يصلح أثرًا للقدرة إذ يمكنه أن لا يفعل فيستمر، وإن فعل فلا يستمر، وأيضًا: يكفي في / طرف النفي أثرًا أنه لم يشأه فلم يفعل؛ لأن البقاء على العدم من قدرة المكلف، والعدم الأول غير العدم المقارن للقدرة، فيكون المقارن لها أثرًا لها.

قيل على الملازمة: إن أردت بكونه مستدعى حصوله، مطلوب إيجاده من المكلف فلا ملازمة ممنوعة، وإن أردت مطلوب إبقاءه، فنفي التالي

ص: 120

ممنوع، والمصنف استعمل هنا وأجيب مكان واعترض.

قال: (مسألة: قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه، ومنع الإمام والمعتزلة له.

فإن أراد الشيخ: أن تعلقه لنفسه فلا ينقطع بعده أيضًا، وإن أراد أن تنجيز التكليف باق فتكليف بإيجاد الموجود وهو محال، ولعدم صحة الابتلاء، فتنتفي فائدة التكليف.

قالوا: مقدور حينئذ باتفاق، فيصح التكليف.

قلنا: بل يمتنع بما ذكرناه).

أقول: اختلفوا في تعلق التكليف بالفعل هل حال وجوده أو قبله؟ .

فقال الأشعري بالأول، وقال إمام الحرمين والمعتزلة بالثاني.

وكلام المصنف يشعر بأن الشيخ يقول بالتكليف قبل الشروع في الفعل؛ لأن عدم الانقطاع يستلزمه وهو لا يقول به على ما ذكر الإمام عنه، من أن التكليف لا يتوجه عنده إلا عند المباشرة، والثابت قبلها الإعلام بأنه سيصير مكلفا، على أن قول المصنف قبل هذا: ولأن المكلف لا قدرة له إلا حال الفعل، وهو حينئذ غير مكلف، فقد كلف غير مستطيع، يقتضي أنه يقول بالتكليف قبل الفعل، وبانقطاعه حال حدوث الفعل، فليتأمل.

ثم قال المصنف مستفسرًا: إن أراد الشيخ بعدم انقطاع التكليف أنّ

ص: 121

الخطاب متعلق بالفعل لنفس الخطاب، لزم ألا ينقطع التكليف بالفعل بعد الفراغ وهو خلاف الإجماع؛ لأن المتعلق بالشيء لنفسه لا ينقطع لبقاء المقتضي للتعلق وهو الخطاب القديم الممتنع العدم، وإن أراد الشيخ أن تنجيز التكليف بالفعل باق حال حدوث الفعل، لزم أن يكون المكلف مطلوبًا بإيجاد الموجود وهو محال.

وأيضًا: يلزم أن تنتفي فائدة التكليف وهو اختبار العبد بالبشر والكراهة، إذ لا اختبار حال الشروع، وإنما يتصور حالة التردد في الفعل والترك، أما عند تحقق الفعل فلا، ولا فائدة للتكليف إلا الامتثال أو الابتلاء، وقد انتفيا.

ولقائل أن يقول: مراد الشيخ أن المكلف حال حدوث الفعل مكلف بالإتيان بالكل المجموعي، لا بإيجاد كل واحد من أجزاء الفعل، فلا يكون التكليف حال حدوث الفعل تكليفًا بإيجاد الموجود؛ لأن كل المجموعي لم يوجد حال حدوث الفعل، والابتلاء صحيح؛ لأن المكلف لم يأت بتمام الفعل بعد؛ لجواز أن يبدو له، وأيضًا: نمنع انحصار فائدة التكليف في الأمرين.

لا يقال: ما وجد من الفعل قد انقطع التكليف به، فيكون تعلق التكليف بالباقي لا بالمجموع، لأنّا نقول: التكليف بالذات تعلق بالمجموع من حيث هو، وبأجزائه بالعرض، فما لم يوجد المجموع لا ينقطع التكليف؛ لأن المأتي به من الأجزاء مشروطا في الامتثال به الإتيان بالباقي.

سلمنا أنه تكليف بإيجاد الموجود، ولا نسلم استحالته؛ لأن وجوبه

ص: 122

بالغير لا يخرجه عن التكليف به.

احتج الأشعري: بأن الفعل حال حدوثه مقدور بالاتفاق، سواء قلنا: متقدم القدرة على الفعل كما هو مذهب المعتزلة، أو وجودها مع وجوده كما هو مذهب الشيخ، وكل ما هو مقدور يصح / التكليف به.

أو نقول: الفعل أثر القدرة فيوجد معها، وإذا كان مقدورًا يصح التكليف به، إذ لا مانع إلا عدم القدرة، وقد انتفى.

أجاب: بأنّا لا نسلم أن المقدور يصح التكليف به، وأنه لا مانع إلا عدم القدرة، بل ما ذكرنا من لزوم التكليف بإيجاد الموجود وانتفاء الابتلاء مانع.

قال بعض فضلاء الشارحين: وهذه المسألة موضع نظر وبحث، فعليك بالتأمل.

قلت: وهو حق، والنظر أولا في موضوعها، وفي معارضتها لما تقدم، وفي اضطراب النقل عن الشيخ، واستلزام ما نقل الإمام عنه ألا يعصى أحد أبدا، وفي أدلتها.

قال: (المحكوم عليه: المكلف.

مسألة: الفهم شرط التكليف.

وقال به بعض من جوز المستحيل لعدم الابتلاء.

ص: 123

لنا: لو صح لكان مستدعًا حصوله منه طاعة كما تقدم، ولصح تكليف البهيمة، لأنهما في عدم الفهم سواء.

قالوا: لو لم يصح لم يقع، وقد اعتبر طلاق السكران، وقتله، وإتلافه.

وأجيب: بأن ذلك ليس بتكليف، بل من قبيل الأسباب، كقتل الطفل، وإتلافه.

قالوا: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} .

قلنا: يجب تأويلها، إما بمثل:«لا تمت وأنت ظالم» ، وإما على أن المراد الثمل؛ لمنعه التثبت كالغضب).

أقول: لما فرغ من المحكوم فيه، شرع في الأصل الرابع وهو المحكوم عليه، وذكر أحكامه في ثلاث مسائل:

الأولى: فهم المكلف للتكليف شرط في صحة تكليفه عند المحققين، وكل من منع تكليف المحال اشترطه؛ لأن الامتثال بدون الفهم محال، واشترطه أيضًا بعض من جوز التكليف بالمحال؛ لأن التكليف بالمحال قد يكون للابتلاء وهو معدوم عند عدم الفهم، وبعض من جوز التكليف بالمحال جوز تكليف الصبي والمجنون.

ص: 124

احتج المصنف لمختاره بوجهين:

الأول: لو صح تكليف من لا فهم له، لكان مستدعى حصول الفعل منه على سبيل الطاعة والامتثال كما تقدم، ومجرد الحصول بدون الامتثال لا يكفي؛ لأنه يكون اتفاقيًا؛ ولأن كل مكلف مأمور بالطاعة وهي موافقة الأمر، وذلك يتوقف على الفهم، ولقوله عليه السلام:«الأعمال بالنيات» ، ولا يتصور ممن لا شعور له بالأمر قصد الفعل امتثالا للأمر.

فقوله: (طاعة) تنبيه على أن الفعل يجوز أن يصدر عن الصبي والمجنون، لكن ذلك غير كاف في سقوط التكليف، بل لابد من قصد الامتثال؛ لئلا يتوهم أن ذلك إذا جاز فربما علم الله تعالى وقوعه منه فكلف به، ولا يكون تكليف المحال، فلابد من قصد إيقاعه طاعة إلا في الواجب الأول، وهو النظر المعرف لوجوب معرفة الله، فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة، مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به، ولا إرادة الطاعة لأنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى لزم التسلسل.

لا يقال: الدليل العقلي إن لم يصح لا اعتداد به، وإن صح لم يصح استثناء بعض الصور.

ص: 125

لأنا نقول: ما كلف به إن كان مما يجوز أن يعلم قبل الإتيان به، كان العلم به شرطا في الامتثال وإلا فلا، والحاصل أن العلم بالمكلف به شرط في التكليف به، إذا لم يكن العلم به منافيًا للتكليف به كما في المعرفة.

واعلم أن هذا الدليل لا ينهض إلا على منع التكليف بالمحال، ولهذا قيل: هذه المسألأة من تفاريع التكليف بالمحال.

الثاني: لو صح تكليف من لا فهم له، لصح تكليف البهيمة، أما الملازمة: فلأنه لا مانع في البهيمة إلا عدم الفهم، وليس بمانع لتحققه في صورة النزاع، وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الإنسانية التي بها يتهيأ الصبي والمجنون لفهم الخطاب إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون شرط في التكليف.

احتج الآخرون بوجهين:

الأول: لو لم يصح لم يقع، أما الملازمة: فواضحة، وأما بطلان التالي: فلأن السكران لا فهم له، وقد اعتبر طلاقه، وقتله، وإتلافه.

أجاب: بأن ذلك ليس من باب التكليف، بل من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وهو من خطاب الوضع والإخبار، يجعل تلفظه بالطلاق علامة على نفوذه عند من يراه، كما جعل زوال الشمس علامة على دخول وقت الصلاة، كقتل الطفل وإتلافه، فإن وجوب الضمان ليس مما يتعلق بفعل الصبي بل بماله وذمته، فإنها أهل لذلك، والإنسانية المتهيأ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ بخلاف البهيمة، كما أن وجوب الدية على العاقلة ليس من باب التكليف، إذ ليسوا مكلفين بفعل الغير لاستحالته، بل فعل الغير

ص: 126

سبب لثبوت الفهم عليهم، فكذا فعل الصبي سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمته، بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال، أو لخطابه بعد البلوغ ولا استحالة فيه، وإنما المستحيل أن يقال لمن لا فهم له: افهم.

فإن قيل: قتله قصاصًا إذا قتل لا يكون من خطاب الوضع، بل من خطاب التكليف.

قلت: إذا صدر منه الفعل المقتضي عليه عرفًا بالعمد، علم أنه عاقل، إذ لا يتصور القصد إلا من عاقل، فلهذا قتل، وإلا فنمنع قتله.

وقول من قال من العلماء: إذا كان السكران لا يفرق بين الأرض والسماء، لم يلزمه من الأحكام إلا القتل قصاصًا، محمول على ما ذكرنا [لقول غيره: إذا كان لا يميز بين الأرض والسماء، لا يكلف إلا بقضاء الصلاة].

الثاني: لو لم يصح لم يقع، أما الوقوع فلقوله تعالى:{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} ، فقد نهى من لا عقل له وهو السكران عن الصلاة حالة السكر.

أجاب: بان الآية يجب تأويلها لأجل القاطع المتقدم، ولها تأويلان:

أحدهما: أن المراد النهي عن السكر عند إرادة الصلاة؛ لأن ذلك كان قبل نزول تحريم الخمر، مثل أن يقال: لا تمت وأنت ظالم، فإن المنهي عنه

ص: 127

الظلم عند الموت، لا الموت حالة الظلم، أو يحمل السكران على الذي أخذ في مباديء النشاط وزال عنه غلبة الخمر، وسمي سكرانًا تسمية للشيء باسم ما كان عليه، يدل عليه {حتى تعلموا ما تقولون} أي حتى يتكامل العقل فيكم، وإنما نهى عن الصلاة في تلك الحالة وإن فهم الخطاب لعدم تثبته في تلك الحالة، وعدم محافظته على أركان الصلاة والخشوع فيها، كالغضبان يقال له: اسكت حتى تعلم ما تقول، أي حتى يتكامل علمك، وليس الغرض نفي العلم عنه بالكلية.

قلت: وقول المصنف: (المراد الثمل) فيه نظر؛ لأن الثمل عند أهل اللغة هو الذي بلغ نهاية السكر، ولا يصح حمله على المنشي أيضًا؛ لأن قوله تعالى:{حتى تعلموا ما تقولون} يرده، إذ المنتشي آيل إلى إتلاف العقل لا إلى تكامله.

قال: (قولهم: الأمر يتعلق بالمعدوم، لم يرد تنجيز المكلف، وإنما أريد التعلق العقلي.

لنا: لو لم يتعلق به لم يكن أزليا؛ لأن من حقيقه التعلق وهو أزلي.

قالوا: أمر ونهي وخبر من غير محل موجود محال.

قلنا: محل النزاع، وهو استبعاد، ومن ثم قال ابن سعيد: إنما يتصف

ص: 128

بذلك فيما لا يزال.

وقال: القديم الأمر المشترك.

وأورد: أنها أنواعه، فيستحيل وجوده.

قالوا: يلزم التعدد.

قلنا: التعدد باعتبار المتعلقات لا يوجب تعددًا وجوديًا).

أقول: اختص أصحابنا بأن الأمر يتعلق بالمعدوم، وأنكر عليهم ذلك سائر الفرق.

وقالوا: إذا امتنع في النائم والغافل فالمعدوم أجدر، وإنما يلزم ذلك لو أراد أصحابنا تنجيز التكليف حال العدم، ولا يريدونه، لتوقفه على الفهم المتوقف على وجود المكلف، بل أرادوا التعلق العقلي، وهو أن المعدوم الذي علم الله أنه سيوجد بشرائط التكليف، توجه عليه حكم في الأزل بما يفهمه ويعقله فيما لا يزال، من غير تجدد طلب ولا استحالة فيه بعد تحقق كلام النفس، كما يكون الولد بعد وجوده وبلوغه مكلفًا بتوصيه أبيه التي كان أوصى إليه بها قبل ولادته، ويحقق كلام النفس أن من يريد أن يأمر أو ينهى

ص: 129

أو يخبر يجد في نفسه قبل التلفظ معناها، ثم يعبر عنه بلفظ أو إشارة أو كتابة، فذلك المعنى هو كلام النفس، وما عبر عنه به من لفظ هو الكلام الحسي ومغايرتهما بينة، إذا المعبر قد يختلف باختلاف الأشخاص والبلاد والأزمان دون المعنى، وغير العلم، إذ الكلام النفسي مع قصد الخطاب دون العلم، وأيضًا: ليس في العلم اقتضاء ولا إخبار ولا نداء ولا استخبار، وغير الإرادة لأن الأمر قد يوجد بدون الإرادة كما سيأتي، والكلام بالحقيقة هو النفسي الذي لا يتغير، وأما اللفظي فيتغير، وقد أخبر الله عن مقالات الأمم بغير لغاتها.

احتج المصنف: بأنه لو لم يتعلق الأمر بالمعدوم بالمعنى المذكور، لم يكن الأمر أزليًا، أما الملازمة: فلأن التعلق بالغير جزء حقيقة الأمر أو لازمه؛ لأنه طلب وهو يستدعي مطلوبًا عقلًا، فلو انتفى التعلق بالمعدوم انتفى الأمر أزلا لانتفاء الكل، أو الملزوم بانتفاء الجزء اللازم، وأما بطلان اللازم: فلما تقرر في علم الكلام من أزلية كلامه تعالى.

ثم أورد للمعتزلة نقضًا على الاستثنائية بأن قول: لا نسلم أنه أزلي لاستحالة وجود الأمر والنهي والخبر بدون متعلق موجود، ويصح أن يورد معارضة، أي لو كان كل من الأمر والنهي والخبر أزليًا، لكانا له متعلق موجود، لاستحالة كل منهما بدون متعلق موجود، واللازم باطل، إذ لا موجود في الأزل إلا الله تعالى.

ثم أجاب: بأنّا لا نسلم أن وجود كل منها بدون متعلق موجود خارجي

ص: 130

محال؛ لأن هذا محل النزاع، غاية ما في الباب أن ذلك مستبعد، والاستبعاد لا يدل على الاستحالة، ولئن سلمنا أن هذه الأشياء تقتضي متعلقا موجودًا في الأعيان، لم لا يكون المتعلق ذاته تعالى، وحينئذ يزول الاستبعاد.

قولهم: إخباره تعالى لنفسه أزلًا عبث، على [أن] الحكم مبني على التحسين العقلي وقد أبطلناه، ولو سلم فأمر الله تعالى أزلا ليس عبارة عن التكلم بصيغة افعل حتى يعد الأمر بدون المأمور سفهًا، بل عن الطلب القائم بذاته تعالى كما هو مذهب أهل السنة، أي يكون طالبًا من العباد إذا صاروا موجودين بالغين عاقلين الإتيان بالمأمور به، وإذا كان كذلك لا يلزم من الأمر / عند عدم المأمور سفه، كما لا يلزم من طلب التعلم في نفس الوالد من ابن سيولد سفه، وتحقيقه: أنه قد تقرر في علم الكلام أنه تعالى منزه عن الزمان، فلا يكون له ماض ولا مستقبل ولا حال، بل نسبه سائر الأزمنة إليه على السواء، [فجميع الأزمنة] من الأزل إلى الأبد بالقياس إليه كامتداد واحد، وكل قوم في زمانهم بالنسبة إليه كالحاضر في زمانهم، وإن كان بعضهم إلى بعض سابقًا، ألا ترى إلى قوله تعالى:{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} الآية، فأخبر عما سيوجد في القيامة بأنه موجود لما كان لا مستقبل بالنسبة إليه.

والكلام النفسي إنما يكون مع مخاطب نفسي، وإذا صار المخاطب حسيًا

ص: 131

نزل الكلام حسيا، ولما كان الكلام النفسي ليس إلا المعاني المعقولة، لم يقع الخطاب بها إلا مع مخاطب معقول ضرورة، فجاز أن يكون الخطاب به مع مخاطب معقول يوجد في زمان آخر قبل أو بعد، ويكون ذلك الخطاب بحسب وقته وحاله، وإنما يستقبح ذلك في الكلام الحسي، إذ يجب فيه المخاطب الحسي.

ثم قال المصنف: ومن ثم قال ابن سعيد: إنما يتصف بذلك فيما لا يزال، يعني ولأجل أنه مستبعد، أو لأجل لزومها من غير متعلق.

قال عبد الله بن سعيد الكلابي من أهل السنة: كلام الله تعالى لا يتصف بأنه أمر أو نهي أو خبر إلا فيما لا يزال، وهو نقيض الأزل عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف، فهي عنده من صفات الأفعال بمثابة اتصافه فيما لا يزال بكونه خالقًا ورازقًا، فهو في نفسه كلام لنفسه أمر ونهي وخير وخطاب وتكليم لا لنفسه، بل بالنسبة إلى المخاطب وحال تعلقه به.

أورد عليه: لا يعقل من الكلام إلا المذكور، وإذا كان حادثًا لزم حدوث الكلام.

أجاب ابن سعيد: بأن القديم هو المشترك بين هذه الأقسام.

وأورد عليه: أن الجنس لا وجود له إلا في نوع، وإذا لم تكن الأنواع

ص: 132

أزلًا لا يكون المشترك أزلًا.

وكأن المصنف ما ارتضاه ولهذا قال: (وأورد).

قيل في دفعه: لا نسلم حدوث المشترك؛ لجواز أن يوجد في ضمن فرد قديم لا يقتضي متعلقًا سوى ذاته.

وفيه نظر؛ لأن الفرد القائم بذاته لا يخلو عن أحد المذكورات، إذ المطلق لا وجود له استقلالا، ثم هذا المعنى غير متصور؛ إذ لا يعقل معنى أزلي لا يكون من هذه الأقسام، وأيضًا: الكلام لا يمكن بدون الخطاب، ففيه خطاب المعدوم والشبهة باقية.

قيل: يمنع ابن سعيد كونها أنواعه، بل عوارضه بحسب التعلق، ويجوز خلوه عن التعلق، ولا يحصل التعلق من حقيقته.

وفيه نظر؛ لأنه لا يعقل إلا متعلقًا، فإن قال: من حقيقة الأمر التعلق، ولا يكون من حقيقة الكلام المشترك، حتى يكون موافقًا لما تقدم.

قيل: المطلق لا وجود له استقلالًا.

قال المعتزلة أيضًا: تعلق الأمر بالمعدوم فرع قدم الكلام بأقسامه وأنه محال، لاستلزامه تعدد القديم باعتبار أنواعه، وأنه باطل، إذ كلام الله تعالى واحد، كما أن علمه واحد.

أجاب: بأن التعدد هنا بحسب المتعلقات، وهو تعدد اعتباري لا يوجب

ص: 133

تعددًا وجوديًا، كالإبصار وصف واحد لا يتعدد في الوجود بكثرة المبصرات، إنما يتعدد تعلقه والوصف واحد، فهو في نفسه خبر، إذ الأمر تعريف الغير أنه لو فعل استحق المدح ولو ترك استحق الذم، والنهي بالعكس، فالخبر إن تعلق بالشيء الذي وجب فعله سمي أمرا، وإن تعلق بما حرم فعله سمي نهيا، وإن تعلق بما لا طلب فيه سمي خبرا، فهي أسماء من جهة متعلقاته، كأسماء الرب من جهة أفعاله، فكما أنها لا توجب تعدد في ذاته، كذلك هذه لا توجب تعددا في كلامه.

قلت: واعلم أن هذا الرأي وإن كان مختار الأشعري، حيث قال: الكلام صفة واحد، وكونه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا خصائص لتلك الصفة، وأن حقيقة الكلام عنده أنه خبر عن المعلوم، فعندي فيه نظر؛ لأن اعتبار الكلام لغة وعرفا وعقلا بالنسبة إلى ما وضع له لا إلى ما يفضي [إليه] مدلوله باعتبار، ولو اعتبر مثل ذلك لجاز أن يقال: الخبر نهي عن الغفلة وأمر يفهم [معناه] ، وحينئذ يرتفع الوقوف عن الوعد والوعيد، لاحتمال معنى آخر غير ما يفهم؛ ولأن الخبر يحتمل الصدق والكذب، ويقترن بأحد الأزمنة، وله متعلق في الخارج دون الأمر والنهي.

وأيضًا: كون كلامه ليس واحدا منها، ثم يصير واحدًا منها أبعد؛ لأن الأمر مثلا الذي هو طلب الفعل، كيف يقال: إنه كان معنى آخر ثم انقلب

ص: 134

إلى الأمر، وكون المشترك هو ذلك الشيء الذي يصير تارة هذا وتارة هذا يمتنع أن يوجد بدون واحد من أقسامه، فالأولى التزام التعدد، وهو قول جماعة من الأشاعرة، قالوا: هي خمس صفات: الخبر، والأمر، والنهي والاستخبار، والنداء.

قال: (مسألة: يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه عند وقته، فلذلك يعلم قبل الوقت.

وخالف الإمام والمعتزلة، ويصح مع جهل الآمر تفاقًا.

لنا: لو لم يصح لم يعص أحد أبدًا؛ لأنه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة، أو أحادثة.

وأيضًا: لو لم يصح لم يعلم تكليف؛ لأنه معه وبعده ينقطع، وقبله لا يعلم، فإن فرضه موسعًا فرضناه زمنًا زمنًا، فلا يعلم أبدا وذلك باطل.

وأيضًا: لو لم يصح لم يعلم إبراهيم وجوب الذبح، والمنكر معاند.

قال القاضي: والإجماع على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن.

المعتزلة: لو صح لم يكن الإمكان شرطًا فيه.

وأجيب: بأن الإمكان المشروط أن يكون مما يتأتى فعله عادة عند وقته واستجماع شرائطه، والإمكان الذي هو شرط الوقوع محل النزاع، وبأنه يلزم أن لا يصح معه جهل الآمر.

قالوا: لو صح لصح مع علم المأمور.

ص: 135

وأجيب: بانتفاء فائدة التكليف، وهذا يطيع ويعصي بالعزم، والبشر، والكراهة).

أقول: إذا كان الآمر عالما بفوات شرط وقوع الفعل عند دخول وقته، كأمر الله تعالى لزيد بالصوم غدًا مع علمه أنه يموت في الغد، فالجمهور على صحة التكليف به خلافا للمعتزلة، هكذا حكى سيف الدين ولم يذكر موافقة الإمام للمعتزلة.

وقول المصنف قبل هذا: والإجماع على صحة التكليف بما علم الله أنه لا يقع، ينفي هذا الخلاف فانظره.

ويحقق مذهب الجمهور: أن التكليف يعلم قبل دخول الوقت، وإن لم يعلم وجود شرطه وتمكنه من الفعل في الوقت، ولو كان تحقق انتفاء الشرط مناف للتكليف، لم يعلم التكليف قبل وقته؛ لجواز أن يكون مما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته، فلولا أنه يصح التكليف على ذلك التقدير، لما علم المكلف قبل الوقت أنه مكلف مع تجويزه ذلك.

قيل في تقريره: ضرورة توقف العلم قبل الوقت بكونه مكلفًا به على

ص: 136

العلم بتحقق شرط وقوع الفعل عند الوقت، وفيه نظر؛ إذ لا يتوقف التكليف عليه، لجوازه مع جهل الأمر عند الكل، ومدار هذا الخلاف على أن فائدة التكليف الامتثال فقط فلا يصح، أو هو مع الابتلاء فيصح التكليف وينبني عليه: لو أفسد الصوم عمدًا ثم مات في يومه أو جن فعليه الكفارة على مذهب الجمهور، إذ ليس الغرض الامتثال فقط، وعلى مذهب المعتزلة لم يكن مأمورًا فلا كفارة، أما إن جهل الآمر تحقق الشرط عند الوقت صح اتفاقًا، وإن تحقق المأمور انتفاء عند الوقت امتنع اتفاقًا.

واعلم أن المخالف يمنع علم المكلف بالتكليف قبل الوقت، وقد صرحوا بذلك، والوجه الذي أورد المسألة عليه في المنتهى أحسن، حيث قال:«يعلم التكليف قبل وقت الامتثال وإن لم يعلم تمكنه منه عنده، وحاصله صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقته عند وقته» .

احتج لمختاره بثلاث أوجه:

الأول: لو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته، لم يعص أحد من المكلفين بترك فعلٍ أبدًا، والتالي باطل إجماعًا، بيان اللزوم: أن وقوع كل فعل مشروط بإرادة قديمة، وهي الإرادة العامة بذاته تعالى عند أهل الحق، أو بإرادة حادثة، وهي إرادة العبد عند المعتزلة، فإذا ترك الفاعل

ص: 137

الفعل إما لعدم إرادة الله تعالى له، أو لعدم إرادة العبد، فقد علم الله تعالى عدم إرادة وقوع ذلك الفعل منه، فيكون عالما بانتفاء شرط وقوع ذلك الفعل، فلا يكون مكلفا به، فلا يعص بتركه، مع أن علم الله تعالى بوقوعه منه من الشرائط، فتارك الفعل يكون غير مكلف به لانتفاء شرط وقوعه منه وهو علمه تعالى بوقوع منه.

الثاني: لو لم يصح التكليف به، لم يعلم تكليف به، واللازم باطل اتفاقا، بيان اللزوم: أن التكليف ينقطع مع الفعل عند الإمام والمعتزلة، وينقطع بعده اتفاقًا، سواء فعل أو عصى، فلا يعلم [التكليف]؛ لأن العلم بالشيء الموجود يتوقف على وجوده.

وقيل: الفعل لا يعلم لجواز أن يكون مما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه، فلا يكون مكلفًا به.

قيل: لا يلزم من انقطاع التكليف بعد حدوث الفعل ألا يعلم تكليف؛ لجواز أن يعلم بعد الإتيان بالفعل أنه / كان مكلفًا به قبل.

قلت: [وأيضًا] وجوب الشروع في العبادة بنية الفرض إجماعًا، ينفي عدم علمه بالتكليف إلا بعد الفراغ.

قوله: (فإن فرضه متسعًا) اعتراض على الملازمة؛ أي يعلمه قبل الفعل

ص: 138

إذا كان الوقت متسعًا، فإنه إذا انقضى من الوقت المقدر الذي يتمكن المكلف من الإتيان بالفعل الواجب ولم يأت به، فقد علم المكلف التكليف بالفعل؛ لأن ذلك كاف في تحقق التكليف.

أجاب: بأنا نردد في كل جزء، فمع الفعل في ذلك الجزء أو بعد الفعل ينقطع التكليف قبل الفعل أيضًا؛ لجواز ألا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر، فلا يأثم بالترك، فلا تكليف.

وقرر أيضًا على وجه يكون إبطال الحجة مطلقًا، لا بالنسبة إلى الواجب الموسع بأن نقول: لا نسلم أنه إذا لم يعلم التكليف مع الفعل وقبله وبعده لا يعلم؛ لجواز أن يعلم في الجملة غير مقيد بالقبل والبعد والمع، وهو معنى قوله:(فإن فرضه متسعًا) يعني تكليفًا في الجملة.

أجاب: بأنه محال؛ لامتناع التكليف في شيء من الأزمنة المعينة، ويستحيل وجود المطلق في الخارج بدون معين من المعينات، والأول أقرب إلى لفظه، وإن كان الثاني أولا؛ إذ لا يضر المستدل لبطلان مذهبهم في المضيق.

الثالث: لو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته، لم يعلم إبراهيم عليه السلام وجوب الذبح، أما الملازمة: فلانتفاء شرط وقوعه، وهو علم الله تعالى بوقوعه وعدم النسخ، والله تعالى علم انتفاء شرط وقوع الذبح من إبراهيم لولده، فلو لم يكن مكلفًا بالذبح لم يكن عالمًا به؛ لأن العلم لا يكون على خلاف الواقع، وقد علم قطعا، وإلا لم يقدر على الذبح، ولم يحتج إلى فداء، ومن أنكر علم إبراهيم بوجوب ذبح ولده فهو معاند.

ص: 139

ويقرر بوجه آخر وهو: [أنه] لو لم يصح لم يقع، ولو لم يقع، لم يعلم إبراهيم وجوب الذبح.

احتج القاضي على المختار: بأن الإجماع منعقد قبل ظهور المخالف على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن من الفعل؛ لأنهم أجمعوا أن كل عاقل بالغ مأمور بالطاعة منهي عن المعصية، قبل التمكن بما أمر به ونهى عنه، وأنه متقرب بالعزم على فعل الطاعة، وأنه يجب عليه الشروع في العبادات الخمس بنية الفرض، وأن الصاد له عن ذلك [الفرض] عاص، وهذا كله مع عدم الأمر والنهي محال، فلو لم يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه، لم يتحقق الوجوب والتحريم قبل التمكن من الفعل؛ لجواز ظهور انتفاء شرط الوقوع.

وقولهم: لم لا يجوز أن يكون الإجماع إنما هو بتقدير بقاء المكلف إلى وقت الوقوع خلاف الظاهر، وكذا قول الإمام: يجوز أن يكون الإجماع على ظن الآمر، بناء على أن الغالب بقاء المكلف وتمكنه، لا على تيقن الأمر، بل هو أبعد.

قلت: واعلم أن مذهب المعتزلة يستلزم تكليف ما لا يطاق؛ لأن التكليف عندهم قبل الفعل، وهم صرحوا أنه لا يعلم التكليف إلا بعد الفعل، فيكون تكليفًا للغافل وهم منعوه، ويلزمهم عدم الدخول في العبادة

ص: 140

بنية الفرض، إذ لا يعلم التكليف حينئذ / وهو خلاف الإجماع، على أن السهروردي حكى في وجوب نية الفرض في الصلاة خلافًا.

احتج المعتزلة بوجهين:

الأول: لو صح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه، لم يكن إمكان المكلف شرطًا في التكليف، أما الملازمة: فلأن الفعل الذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ليس بممكن؛ لأن العلم بعدم الشرط يستلزم العلم بعدم المشروط، فما علم عدم شرط وقوعه غير ممكن الوقوع، وشرط المطلوب إمكانه لما مرّ.

ثم أجاب عنه بجواب تفصيلي بالنقض، تقرير الجواب:

أن الإمكان الذي هو شرط في التكليف، أن يكون الفعل مما يتأتى عادة عند حضور وقته واستجماع شرائطه، وهو الإمكان الذاتي، وهو غير الإمكان الذي هو شرط الامتثال، وهو استجماع شرائط المكلف به بالفعل، فإن ذلك شرط في الامتثال لا في التكليف، وليس الغرض من هذا التكليف الامتثال بل الابتلاء، فأن عنيت بقولك: لم يكن الإمكان شرطًا فيه الإمكان الأول، منعنا الملازمة، وعدم الشرط لا ينافي الإمكان الذاتي، وإن أردت الإمكان الثاني سلمنا الملازمة، ونمنع بطلان التالي، فإنه غير محل النزاع، فإن الإمكان الذي هو شرط الوقوع أي الامتثال ليس شرطا في التكليف عندنا.

ص: 141

وأما النقض فتوجيهه: لو صح ما ذكرتم، يلزم ألا يصح التكليف مع جهل الآمر بانتفاء الشرط عند الوقت، والتالي باطل إجماعًا، أما الملازمة: فلأن الفعل إذا كان شرط وقوعه منتفيًا عند وقته يكون ممتنعًا، لوقوع علم الآمر انتفاء الشرط أو جهله، وإذا كان ممتنع الوقوع لا يكلف به.

وفيه نظر؛ لأنه مع جهل الأمر قد يصد الآمر امتثال المكلف بالمكلف به، بخلاف ما إذا علم انتفاء شرط الوقوع، فإنه لا يقصد ذلك فافترقا.

أو يقول الخصم: هذه خصت بالإجماع، فيبقى الدليل متناولًا سواها.

احتجوا ثانيا: بأنه لو صح مع علم الآمر بعدم الشرط، لصح مع علم المأمور بذلك، واللازم باطل إجماعًا، أما الملازمة: فلأنه لا مانع إلا كونه غير متصور حصوله منه، ولا يصلح مانعًا كما في صورة النزاع.

أجاب: بالفرق، وهو انتفاء فائدة التكليف في محل الوفاق، إذ فائدة التكليف إما الامتثال أو الابتلاء، وإذا علم المأمور انتفاء الشرط يمتنع الفعل ولا يصح منه العزم، فلا يطيع ولا يعصي، بخلاف ما إذا جهل صور علم الآمر فإنه يمكنه الفعل لو وجد الشرط، فيصير مطيعًا بالعزم على الفعل، وعاصيًا بالعزم على الترك، ومطيعًا بالبشر، وعاصيا بالكراهة.

لا يقال: يجوز أن يشتغل العالم بالممتنع قصد امتثال الأمر فقط، لا إلى إيجاد المأمور به فلا فرق؛ لأنّا نقول: وإن جاز فهو من الممكن الأقلي، فلذلك هجر، [واتفق على عدم الصحة].

ص: 142