المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال: ‌ ‌(القياس: التقدير والمساواة. وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ٤

[يحيى بن موسى الرهوني]

فهرس الكتاب

- ‌(القياس:

- ‌(مسألة: المختار: انخرام المناسبة بمفسدة تلزم

- ‌(مسألة القائلون بالجواز قائلون بالوقوع

- ‌(مسألة: النص على العلة لا يكفي في التعدي دون التعبد بالقياس

- ‌(مسألة: القياس يجري في الحدود والكفارات

- ‌(مسألة: لا يصح القياس في الأسباب

- ‌(مسألة: لا يجري القياس في جميع الأحكام

- ‌(الاستدلال:

- ‌(الاستصحاب:

- ‌(شرع من قبلنا

- ‌(مذهب الصحابي

- ‌(الاستحسان:

- ‌(المصالح المرسلة:

- ‌(الاجتهاد:

- ‌(مسألة: اختلفوا في تجزئ الاجتهاد

- ‌(مسألة: المختار: وقوع الاجتهاد ممن عاصره ظنا

- ‌(مسألة: الإجماع على أن المصيب في العقليات واحد

- ‌(مسألة: القطع: لا إثم على المجتهد في حكم شرعي اجتهادي

- ‌(مسألة: تقابل الدليلين العقليين محال

- ‌(مسألة: لا يستقيم لمجتهد قولان متناقضان

- ‌(مسالة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوع من التقليد

- ‌(مسألة: المختار أنه عليه السلام لا يقر على خطأ في اجتهاده

- ‌(مسألة: المختار: أن النافي مطالب بالدليل

- ‌(التقليد، والمفتي، والمستفتي

- ‌(مسألة: لا تقليد في العقليات

- ‌(مسألة: غير المجتهد يلزمه التقليد

- ‌(مسألة: الاتفاق على استفتاء من عرف بالعلم والعدالة

- ‌(مسألة: يجوز خلو الزمان عن مجتهد

- ‌(مسألة: إفتاء من ليس بمجتهد بمذهب مجتهد

- ‌(مسألة: للمقلد أن يقلد المفضول

- ‌(مسألة: ولا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقا

- ‌(الترجيح:

الفصل: قال: ‌ ‌(القياس: التقدير والمساواة. وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة

قال: ‌

‌(القياس:

التقدير والمساواة.

وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة حكمه.

ويلزم المصوبة زيادة في نظر المجتهد؛ لأنه صحيح وإن تبين الغلط والرجوع، بخلاف المخطئة.

وإن أريد الفاسد معه، قيل: تشبيه).

أقول: لما فرغ من الأدلة الثلاثة وما يتعلق بها من المشاركات الثلاثة والثنائية، شرع في الدليل الرابع الذي هو القياس، ويشمل على مقدمة وخمسة أبواب.

أما المقدمة: فهي تعريفه وبيان أركانه.

والقياس لغة: التقدير- يقال: قست الثوب بالذراع إذا قدرته- والمساواة، ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، أي يساويه [دون] ذلك، فيتوقف على أمرين يقدر أحدهما بالآخر، وإنما قيل في الشرع: قاس عليه؛ لأنه ضمن فيه معنى البناء والحمل، لأن الانتقال من صلة إلى صلة للتضمن أي من الباء إلى على.

وفي الاصطلاح: مساواة فرع لأصل في علة حكمه.

ولما كان القياس من أدلة الأحكام، فلابد من حكم مطلوب به وله محل ضرورة، والمقصود إثباته فيه لثبوته في محل آخر يقاس هذا به، فكان هذا

ص: 5

فرعا وذلك أصلا، لحاجته/ إليه وابتنائه عليه، ولا يمكن ذلك في كل شيئين بل إذا كان بينهما أمر مشترك-ولا كل مشترك- بل المشترك الذي يوجب الاستواء في الحكم بأن يستلزم الحكم، ونسميه علة الحكم، فلابد أن نعلم علة الحكم في الأصل، ونعلم ثبوت مثلها في الفرع لا عينها لاستحالته، وبذلك يحصل ظن مثل الحكم في الفرع وهو المطلوب، ولم يعتبر المصنف تماثل الحكمين، لأنه تابع للقياس لا نفسه.

والمراد بالفرع: صورة لم يظهر للمجتهد حكمها بخصوصية دليل من نص أو إجماع، بل يكون حكمها مبنيا على حكم صورة أخرى.

والمراد بالأصل: صورة ظهر للمجتهد حكمها بخصوصية دليل من نص أو إجماع. فيندفع ما قيل إن الفرع تتوقف معرفته على معرفة القياس؛ لأنه الذي ساوى أصلا في علة حكمه، والأصل هو الذي يساويه الفرع في علة حكمه فيلزم الدور، إذ لا نسلم أن معرفة الأصل والفرع من -حيث ذاتيهما- متوقفة على معرفة القياس، لجواز أن يعلم كل منهما من حيث ذاته، ولا تعلم المساواة بينهما، وتعريفه بهما إنما هو من حيث ذاتيهما، لا من حيث إنهما فرع وأصل.

واعلم أن المراد من المساواة المذكورة، المساواة في نفس الأمر، قاس المجتهد أم لا؛ لأن القياس اسم لهذا الدليل وليس مصدرا لفعل القائس، فيختص بالقياس الصحيح عند من يرى ما لا مساواة فيه في نفس الأمر قياسا فاسدا.

وأما من يرى أن كل مجتهد مصيب، فالقياس الصحيح عنده ما حصلت

ص: 6

فيه المساواة في نظر المجتهد، سواء حصلت في نفس الأمر أم لا، حتى لو تبين غلطه ووجب رجوع عنه، فإن ذلك لا يقدح في صحته عندهم قبل ظهور الدليل الصحيح وإن زالت صحته الآن، بخلاف المخطئة فإنهم لا يرون ما ظهر غلطه والرجوع عنه محكوما بصحته إلى زمان ظهور غلطه، بل فيما كان فاسدا وتبين الآن أنه كان فاسدا.

فإذا المصوبة لا يشترطون المساواة إلا في نظر المجتهد، فحقهم أن يقولوا: مساواة فرع لأصل في علة حكمه في نظر المجتهد، فإن أردنا دخول القياس الفاسد مع الصحيح لم نشترط المساواة في الواقع وفي نظر المجتهد، وقلنا بدلها: تشبيه فرع بأصل في علة حكمه، ومع زيادة "في نظر المجتهد" -على مذهب المصوبة- فيشمل القسمين على المذهبين، لأن التشبيه قد يكون بين المتساوين في علة الحكم وفي /الواقع أو عند المجتهد، وقد يكون بين غيرهما، وعلى الأول يتناول الصحيح على المذهبين، وعلى الثاني يتناول الفاسد على المذهبين، فيتبين أن المراد في التشبيه المشابهة، فلا يرد قول من قال: التشبيه فعل القائس فلا يتناول ما هو في الواقع قياس ولم ينظر فيه.

قال: (وأورد: قياس الدلالة، فإنه لا تذكر فيه علة.

وأجيب: بأنه إما غير مراد، وإما أنه يتضمن المساواة فيها.

وأورد: قياس العكس، مثل:"لما وجب الصيام في الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر"، عكسه:"الصلاة لما لم تجب فيه بالنذر، لم تجب بغير نذر".

وأجيب: بالأول، أو بأن المقصود: مساواة الاعتكاف فيه بغير نذر

ص: 7

في اشتراط الصوم له بالنذر، بمعنى: لا فارق، أو بالبر، وذكرت الصلاة لبيان الإلغاء، أو قياس الصوم بالنذر على الصلاة بالنذر).

أقول: أورد على عكس الحد قياس الدلالة، فإن شرطه أن لا تذكر فيه علة، لأنه قسيم قياس العلة، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة الدالة على الشدة، فإن الرائحة ليست بعلة- لا في الواقع ولا في نظر المجهد- بل العلة الشدة المطربة الملزومة للرائحة المذكورة- مع أنه قياس-.

[وفيه نظر؛ إذ المحدود القياس الذهني].

الجواب: إما بأن المحدود قياس العلة، فإن القياس إذا أطلق إنما يراد به قياس [العلة]، ولا يطلق لقياس الدلالة إلا مقيدا، وإما بأنه يتضمن المساواة في العلة، ومرادنا ما هو أعم من المساواة الضمنية أو المصرح بها، وهذا أولى لأنه بعد تقسيم القياس إلى قياس العلة وقياس الدلالة، فالمحدود المشترك واللازم المذكور مساو للملزوم –أعني الشدة- فالمساواة فيها تستلزم المساواة في العلة، فاندفع ما قيل: إن الاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات.

وأورد الأصل على عكس الحد قياس العكس وهو: ما أثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض علته، كما لو قال المالكي أو الحنفي: "لما وجب الصيام

ص: 8

في الاعتكاف بالنذر، وجب بغير نذر قياسا على الصلاة، لما لم تجب في الاعتكاف بالنذر، لم تجب بغير النذر"، فالحكم في الأصل عدم الوجوب بغير نذر، والعلة عدم وجوبه بالنذر، والمطلوب في الفرع وجوبه بغير نذر والعلة وجوبه بالنذر، فهذا لا يصدق عليه الحد، إذ لا مساواة بين الفرع والأصل في العلة ولا في الحكم، مع أنه قياس.

مثال آخر: قال [المغيرة] في كتاب الزكاة من المدونة، فيمن عنده عشرة دنانير حال عليها الحول، فأنفق بعضها واشترى بالبعض سلعة: إن عليه الزكاة، سواء أنفق قبل الشراء أو بعده، فإنه يحسب ما أنفق ويزكى إن كان المجموع مما باعها به وما أنفق نصابا، كما لا يحسب ما أنفق قبل الحول قبل الشراء أو بعده، كذلك لا /يترك أن يحسب ما أنفق بعد الحول قبل الشراء أو بعده.

الجواب أولا: بأنه ليس من القياس المحدود.

وثانيا: بأنه مساواة من وجهين:

أحدهما: أن المقصود مساواة الاعتكاف بغير نذر الصوم، في أن الصوم شرط في الاعتكاف بنذر الصوم، وتقريره: إما بإلغاء الفارق –وهو النذر- لأنه غير مؤثر كما في الصلاة، إذ وجوده وعدمه سواء، فتبقى العلة الاعتكاف المشترك، وإما [بالسير] وهو: أن العلة إما الاعتكاف، أو

ص: 9

الاعتكاف بالنذر، أو غيرهما، وكونه بالنذر لا يصح علة ولا جزء علة؛ لأنه غير مؤثر، بدليل ثبوته في الصلاة بدون الحكم، فإذا الصلاة لم تذكر للقياس عليها، بل لبيان إلغاء الفارق، أو لإلغاء أحد أوصاف السبر، فلا تجب المساواة لهما، فلا يضر عدمهما، فيكون الاعتكاف بنذر الصوم أصلا والاعتكاف بغير نذر الصوم فرعا، والحكم وجوب اشتراط الصوم فيهما، والعلة الاعتكاف، فيصدق حد القياس عليه، وينعكس.

قلت: وفيه نظر؛ لأن ما كان بمعنى لا فارق، هو القياس في معنى الأصل، والذي بالسبر قياس العلة، ولابد أن يصرح فيه بالعلة، وهذا لم يصرح بها فيه.

الوجه الثاني: أنه قياس للصيام بالنذر على الصلاة بالنذر في أنها تجب به في الاعتكاف، ولا تأثير للنذر في وجوبها، فكذا الصيام، ويلزمه بدون النذر، كما يجب مع النذر إجماعا، وإلا لكان للنذر فيه تأثير، فالذي فيه القياس حصل فيه المساواة، والذي فيه عدم المساواة لازم له ولا يضر، فالصلاة أصل، والصوم فرع، والعلة كونهما عبادتين، والحكم عدم صيرورته شرطا بالنذر. وقد يجاب عنه: بأنه ملازمة، والقياس لبيان الملازمة والمساواة حاصلة على التقدير.

وحاصلة: لو لم يشترط لم يجب بالنذر واللازم باطل، ثم تبين الملازمة بالقياس على الصلاة، بأنها لما لم تكن شرطا لم تجب بالنذر، ولا شك أن على تقدير عدم وجوبه بالنذر، فالمساواة حاصلة بينها وبين الصوم، وإن لم تكن حاصلة في نفس الأمر.

ص: 10

قال: (وقولهم: بذل المجتهد في استخراج الحق، وقولهم: الدليل الموصول إلى الحق، وقولهم: للعلم عن نظر، مردود بالنص، والإجماع، وبأن البذل حال القياس، والعلم ثمرة القياس.

أبو هاشم: حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه، ويحتاج بجامع.

وقول القاضي: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما، حسن، إلا أن "حمل" ثمرته، وإثبات الحكم فيهما معا ليس به، فبجامع كاف.

وقولهم: ثبوت حكم الفرع فرع القياس: فتعريفه به دور.

وأجيب: بأن المحدود القياس الذهني، وثبوت الفرع الذهني والخارجي ليس فرعا له).

/أقول: هذه تعريفات ذكرها الأصوليون للقياس مزيفة.

منها: قولهم: "بذل الجهد في استخراج الحق"، وهو غير مطرد لبذل الجهد في استخراج الحق من النص والإجماع؛ لأنه قد يحتاج إلى اجتهاد في صيغ العموم، والمفهوم، والإيماء، والإشارة، ورد المطلق إلى المقيد، وتخصيص العام، وتصحيح السند وغير ذلك، وبأن البذل حال القائس وهو غير القياس؛ فإن الدليل المنصوب من جهة الشارع نظر فيه القائس أو لا.

ص: 11

ومنها: قولهم: ["والعلم عن نظر"]، وهو أيضا غير مطرد، بالعلم الحاصل عن نظر في نص أو إجماع.

وأيضا: العلم ثمرة القياس، فتعريفه به دور، ولا يطرد أيضا.

ومنها: ما ذكره أبو هاشم، وهو:"حمل الشيء على غيره، بإجراء حكمه عليه"، وهو منقوض بحمل بلا جامع، لصدق الحد دون المحدود، إذ لا تتحقق حقيقته لا صحيحا ولا فاسدا، فيحتاج إلى قيد، وهو أن يقال:"بجامع"، محافظة على طرده، مع أن الحمل فعل القائس.

ومنها: ما عرفه به القاضي أبو بكر، قال:"حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لها، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما".

فقوله: "معلوم على معلوم"، يتناول جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم وممكن ومستحيل، ولهذا لم يقل: حمل شيء.

وقوله: "في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما"، ليتناول القياس في الحكم الثبوتي، وفي الحكم العدمي.

وقوله: "بأمر جامع بينهما

. إلى آخر"، يتناول الحكم الشرعي نحو: العدوانية، والوصف الفعلي نحو: العمدية، ونفيها كما يقال في الخطأ: ليس بعمد ولا عدوان، فلا قصاص كقتل الصبي.

ص: 12

قال: (وهو حسن)، يعني عند الأصوليين، وزيفه المصنف من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الحمل ثمرة القياس، [إذ المراد من الحمل إثبات الحكم، وإثبات الحكم ثمرة القياس، وهو فعل فيدور، ولا يطرد أيضا.

الثاني: أنه يشعر بأن إثبات الحكم] فيهما جميعا بالقياس، وليس كذلك فإن الحكم في الأصل بالنص أو الإجماع.

وأيضا: القياس فرع على ثبوت حكم الأصل، فلو كان ثبوت حكم الأصل بالقياس لزم الدور.

وثالثها: أن قوله: "بجامع"، كاف في التمييز، ولا حاجة إلى تفصيل الجاحد في الحد.

قال: (وقولهم: ثبوت حكم الفرع)، اختلف الشراح في وجه إيراده فأكثرهم على أنه مما أورد على حد القاضي، وهو ظاهر الإحكام، مع أن الإيراد للآمدي، ثم أجاب عنه المصنف.

ومنهم من قال: إنه اعتراض على بعض الأصوليين الذين عرفوا القياس بثبوت حكم الفرع.

ومنهم من قال –وهو الأظهر-: إن المصنف صرح بأنهم عدلوا عن ذكر حكم الفرع إلى حكم شيء أو معلوم؛ لأنه دور.

ص: 13

وفيه دعوى بطلان حد المصنف.

وقلنا: أظهر؛ لأنهم لم يعرفوه به، قصاراه أنه عرفه به واحد، وكذا إنما اعترض على القاضي بالدور الآمدي فقط.

والمصنف قال: وقولهم: "وإن كان سياق قوله أولى"، وقولهم:"بذل الجهد"، وقولهم:"الدليل الموصل" /وقولهم: "العلم [عن نظر"]، يرشد إلى الثاني، والمصنف أشار إلى تقريره.

وجوابه، إما تقريره بأن ثبوت حكم الفرع فرع القياس ومتأخر عنه، فيتوقف عليه، فتعريفه به دور.

والجواب: أن ثبوت حكم الفرع الخارجي فرع القياس الخارجي، والمعرف إنما هو القياس الذهني، أي الماهية العقلية للقياس، وتقييده بالذهني باعتبار حصوله ووجوده في الذهن، لا باعتبار أن المحدود القياس من حيث إنه في الذهن، إذ ذاك نوع من القياس.

وحكم الفرع الذهني أي تعقل حقيقته، وكذا الخارجي وهو حصول الحكم الجزئي، ليس شيء منها فرع القياس الذهني، أي يتوقف على ماهيته القياس، والذي توقف عليه القياس المعروف هو تصور ثبوت حكم لفرع الخارجي، فلا دور.

قال: (وأركانه: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع.

ص: 14

الأصل: الأكثر: محل الحكم المشبه به، وقيل: دليله، وقيل: حكمه.

والفرع: المحل المشبه، وقيل: حكمه.

والأصل: ما ينبني عليه غيره، فلا بعد في الجميع، ولذلك كان الجامع فرعا للأصل، أصلا للفرع).

أقول: أركان الشيء أجزاؤه التي لا يحصل إلا بحصولها، داخلة في حقيقته محققة لهويته، ولما فرغ من تحقيق ماهية القياس، شرع في بيان أركانه وهي أربعة محققة على تفسير الفقهاء والمتكلمين.

وأما على رأي الإمام فخر الدين فهي ثلاثة.

وأما حكم الفرع فهو ثمرة القياس ومتأخر عنه، فلا يكون ركنا له.

أما الأصل: فهو المحل المشبه به عند الأكثر، وبه قال الفقهاء، والغزالي.

وقال المتكلمون: الأصل: الدليل المثبت للحكم في ذلك المحل المشبه به.

وقال الإمام فخر الدين: "إن الأصل حكم المحل المشبه به".

ص: 15

فإذا قلنا: "النبيذ مسكر فيحرم قياسا على الخمر، بدليل حرمة الخمر".

فالأصل الخمر، أو حرمة الخمر.

وأما الفرع: فقيل على الأول: إنه المحل المشبه، وعلى الثالث: إنه حكمه، ولم يقل أحد إنه دليله، وكيف يقال ودليله القياس؟

واعلم أن التفسير للفرع هنا إنما هو الفرع الواقع في كلام الأصوليين، لا الفرع الذي هو ركن القياس، إذ لا يكون حكم الفرع ركنا له.

ولما كان الأصل ما ينبنى عليه الشيء، فلا بعد في الكل؛ لأن الحكم في الفرع ينبني على الحكم في الأصل، وعلى مأخذه، وعلى محله، فالكل مما ينبني عليه حكم الفرع –بوسط أو بغير وسط- فلا بعد في التسمية، والأول أولى لافتقار الحكم ودليله إلى المحل من غير عكس، والثاني في الفرع أولى لأنه ينبني على الغير ويفتقر إليه دون المحل، والمحل إنما سمي فرعا مجازا.

والاصطلاح المتعارف بين الفقهاء: أن الأصل والفرع هما المحلان، وعلى هذا يفرع المصنف الأحكام.

ولأجل أن الأصل ما ينبني عليه غيره، قال بعض العلماء: الجامع أصلا /للحكم في الفرع والحكم فرع له، إذ يعلم ثبوته بثبوته وهو فرع للأصل فإن حكم الأصل أصل للجامع، والجامع فرع له، إذ يستنبط منه بعد العلم بثبوته.

قال: (ومن شرط حكم الأصل أن يكون شرعيا، وألا يكون منسوخا، لزوال الاعتبار الجامع).

ص: 16

أقول: لما فرغ من المقدمة، شرع في الأبواب.

الباب الأول في شروط القياس: وهي لا تخرج عن شروط أركانه.

وأما شروط حكم الأصل فذكر منها ستة:

الأول: أن يكون حكم الأصل شرعيا؛ لأن المطلوب إثبات حكم شرعي في محل آخر للمساواة في علته، ولا يتصور إلا بذلك، وهو مبني على أن القياس لا يجري في اللغة ولا في العقليات من الصفات والأفعال.

وتظهر فائدته فيما إذا قاس النفي، فإذا لم يكن المقتضي ثابتا في الأصل كان نفيا أصليا، والنفي الأصلي لا يقاس عليه النفي الطارئ، وهو حكم شرعي، ولا الأصلي لثبوته بدون القياس.

الثاني: ألا يكون منسوخا ليمكن بناء الفرع عليه لأن الحكم إنما يتعدى من الأصل إلى الفرع بناء على اعتبار الشارع للوصف الجامع في الأصل حيث أثبت الحكم به، ولما زال الحكم مع ثبوت الوصف، على أنه لم يبق معتبرا في نظره فلا يتعدى الحكم، إذ لم يبق الاستلزام الذي كان دليلا للثبوت، كما لو قال:"لا تدخر لحوم الهدايا فوق ثلاث، قياسا على لحوم الأضاحي".

الثالث: أن لا يكون مثبتا بالقياس، خلافا للحنابلة، والبصري.

لنا: أن العلة الجامعة بين حكم الأصل وأصله، إن اتحدت مع الجامعة بين حكم الأصل وفرعه، كقول الشافعية في السفرجل: "مطعوم فيكون

ص: 17

ربويا، قياسا على التفاح"، ثم يقيس لتفاح –في تحريم الربا- على البر بواسطة الطعم، فذكر الوسط –وهو التفاح-[زائد]، لإمكان قياس أحد الطرفين على الآخر، وإن لم تتحد العلة في القياسين فسد القياس؛ لأن العلة الأولى التي في القياس [الأول] وهي الجامعة بين الوسط وفرعه، لم يثبت اعتبارها؛ لأنها ليست بموجودة فيما هو أصل للوسط، والثانية في أصل الأصل غير موجودة في الفرع الأخير، فلا مساواة بينهما في العلة المعتبرة فلا تعدية، كما لو قال: "الجذام عيب يثبت به الفسخ في البيع، فيثبت به الفسخ في النكاح، قياسا على القرن والرتق"، فيمنع الخصم كون القرن والرتق يثبت بهما فسخ النكاح، فيقول: "لأنهما مفوتان للاستمتاع كالجب"، فقوات الاستمتاع هو الذي ثبت لأجله الحكم في القرن والرتق وأنه غير موجود في الجذام، والثابت في الجذام –وهو كونه يوجب للمشتري خيار الفسخ –لم يثبت اعتباره/ في حكم الوسط، هذا إن كان الأصل فرعا يوافقه المستدل ويخالفه المعترض.

أما لو كان المقيس عليه فرعا يخالفه المستدل ويوافقه المعترض، كما لو قال الحنفي –في صوم بنية النفل-:"أن صائم أتى بما أمر به فيصح، قياسا على فريضة الحج"، أي إذا أتى به بنية النفل وهو لم يحج حجة

ص: 18

الإسلام، فإن الحنفي لا يقول بصحة فريضة الحج بنية النفل بل خصمه هو القائل به، فهذا فاسد لأنه معترف ضمنا [ببطلانه] في الأصل والاعتراف ببطلان إحدى مقدمات دليله اعتراف ببطلان دليله، ولا يسمع من المدعي ما هو معترف ببطلانه، ولا يمكن من دعواه إن لم يعترف بحكم الأصل.

فإن أورده الحنفي إلزاما للشافعي بناء على أصله.

قيل: إنما يتوجه لو بين في الفرع وجود ما هو علة في الأصل المقيس عليه عند المعترض، [وأما إذا بين ما ليس علة عند المعترض] فلا يتوجه الإلزام والظاهر أن هذا فرع عما إذا أتى بالحج بمطلق النية.

على أن الآمدي في "منتهى السول" جعل ذا شرطا آخر، فقال:"الشرط الخامس: أن يكون أصل المقيس مما يقول المستدل".

قال: (ومنها: ألا يكون معدولا به عن سنن القياس، كشهادة خزيمة، وأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات.

ص: 19

ومنه ما لا نظير له، كان له معنى ظاهر كترخص المسافر، أو غير ظاهر كالقسامة).

أقول: الرابع: أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن سنن القياس –أي طريقة- لتعذر التعدية، بل يجب أن يكون موافقا للأصول والقواعد الشرعية معقولا حكمته.

فقد يكون مما لا يعقل معناه كشهادة خزيمة وحده، فإنه على خلاف قاعدة الشهادة التي استقرت في الشرع، ولم تعقل حكمته، فلا يلحق به صحابي آخر وإن كان على رتبته في المعنى المناسب في الدين والصدق.

فإنه علم أن القاعدة لم يخرج منها إلا هذا الفرد، وعلم قصد التخصيص فلا يلحق به غيره.

وكأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات، فإنها وإن لم تكن على خلاف قاعدة مستقرة في الشرع، لكن لا تعقل حكمتها.

ومن المعدول به عن سنن القياس: ما لا يوجد له ما يساويه في العلة، سواء كان له معنى ظاهر كترخص المسافر، إذ علته السفر وهو معنى مناسب للرخصة لما فيه من المشقة والوجد، والوصف غير موجود في محل آخر، أو لم يكن له معنى ظاهر كخمسين يمينا في القسامة غلظ لحقن الدماء، وكونها خمسين غير ظاهر المعنى.

ص: 20

قال: (ومنها: ألا يكون ذا قياس مركب/، وهو أن يستغني بموافقة الخصم في الأصل مع منعه علة الأصل، أو منعه وجودها في الأصل.

فالأول: مركب الأصل، مثل:"عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب".

فيقول الحنفي: العلة جهالة المستحق من السيد او الورثة، فإن صحت بطل الإلحاق، وإن بطلت منع حكم الأصل، فم ينفك عن عدم العلة في الفرع.

أو منع الأصل الثاني مركب الوصف، مثل تعليق الطلاق، فلا يصح قبل النكاح، كما لو قال:"زينب التي أتزوجها طالق"، فيقول الحنفي: العلة مفقودة في الأصل، فإن صحت بطل الإلحاق، وإلا منع حكم الأصل، فما ينفك عن عدم العلة في الأصل، أو منع الأصل.

فلو سلم أنها العلة وأنها موجودة، أو أثبت أنها موجودة، انتهض الدليل عليه لاعترافه، كما لو كان مجتهدا.

وكذلك لو أثبت الأصل بنص ثم أثبت العلة بطريقها على الأصح.

لنا: لو لم يقبل، لم تقبل مقدمة تقبل المنع.

ومنها: ألا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع).

أقول: الخامس: أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب، وهو أن يستغني المستدل عن إثبات حكم بالدليل لموافقة الخصم له فيه، مع كون الخصم مانعا بعلة المستدل، وذلك إما يمنعه لعلته، وإما يمنعه لوجودها فيه، والأول يسمى مركب الأصل، والثاني مركب الوصف.

ص: 21

قالوا: وسمى مركبا لاختلافهما في تركيب الحكم، فالمستدل يركب العلة على الحكم، أي يستنبطها منه، والمعترض يقول: الحكم فرع العلة ولا طريق إلى إثباته بسواها، ولذلك يمنع الحكم عند إبطالها.

والأظهر: أنه سمي مركبا لإثباتهما الحكم كل بقياس، إذ ليس بمنصوص عليه ولا مجمع عليه فقد اجتمع قياساهما، وإلا لقال: ألا يكون مركبا أو ذا تركيب، ثم إن الأول اتفقا فيه على الحكم، وهو الأصل بالاصطلاح، والثالث دون الوصف الذي يعلل به المستدل فسمي مركب الأصل، والثاني اتفقا فيه على الوصف الذي يعلل به المستدل وإن اختلفا في وجوده، فسمي مركب الوصف بأدنى مناسبة، تمييزا له عن صاحبه.

مثال الأول: كما لو قال المستدل في الحر يقتل عبدا: فلا يقتل به الحر كالمكاتب، فيقول الحنفي: العلة في عدم قتله بالمكاتب جهالة المستحق للقصاص من السيد بتقدير العجز عن أداء الكتابة، أو ورثة المقتول بتقدير أدائه، والجهالة غير ثابتة في العبد، فإن صحت هذه العلة بطل إلحاق العبد به لعدم مشاركته في العلة، وإن بطلت منعت حكم الأصل، وقلت: يقتل الحر بالمكاتب لعدم المانع، إذ ليس الحكم المذكور بمجمع عليه ولا منصوص عليه فالخصم لا ينفك عن عدم العلة في الفرع، كما لو كانت هي الجهالة/، أو منع الحكم في الأصل، كما لو كانت كونه عبدا، وعلى التقديرين لا يتم القياس.

مثال مركب الوصف: ما لو قال في تعليق الطلاق قبل النكاح: تعليق للطلاق فلا يصح قبل النكاح، كما لو قال:"زينب التي أتزوجها طالق"،

ص: 22

فيقول الحنفي: العلة عندي –وهي كونه تعليقا- مفقودة في الأصل، فإن قوله:"زينب التي أتزوجها طالق" تنجيز لا تعليق، فإن صح هذا بطل إلحاق التعلق به لعدم الجامع، وإلا منع حكم الأصل، وهو عدم الوقوع في قوله:"زينب التي أتزوجها طالق"، لأني إنما منعت الوقوع لأنه تنجيز، ولو كان تعليقا لقلت به، فالخصم لا ينفك عن منع الأصل إذا لم يكن التعليق ثابتا فيه، أو منع حكم الأصل إذا كان ثابتا، وعلى التقديرين لا يتم القياس.

قيل: يجب أن يقيد منع الأصل فيهما بما إذا كان مجتهدا، أما المقلد فلا إذ ليس له تخطئة إمامه لاحتمال ألا يكون ما عينه المعترض هو مأخذ إمامه، وبتقدير أن يكون هو، لا يلزم من عجزه عن تقديره عجز إمامه، بل يجب على المعترض تصويب إمامه في الأصل وإن لزمه تخطئته في الفرع؛ لأن تخطئته في الفرع أولى من تخطئته في الأصل، لأن تخطئته في الأصل تستلزم التخطئة في الفرع من غير عكس.

وصرح الآمدي في المنتهى به، قال: إنما يمنع حكم الأصل إذا كان مجتهدا، ثم الخصم لا يعجز عن إظهار قيد يختص بالأصل يدعي أن ذلك هو العلة عنده بعد الموافقة على الحكم، ولا سبيل إلى دفعه بالدليل على أن علتك هي العلة عندي، بل لو قال علة غير ذلك ولم يعنيه سمع، فإذا طريق ثبوت ذلك هو تسليمه.

فإن سلم المعترض المناظر في مركب الأصل ما جعل المستدل علة، وسلم أن العلة موجودة في الأصل في مركب الوصف، انتهض الدليل عليه لاعترافه بصحة الموجب وثبوته، وإلا فالمستدل إن ثبت وجودها في الأصل بدليل من

ص: 23

عقل أو حس أو شرع، فينتهض عليه ويلزم القول بموجبه، كما لو كان مجتهدا في طلب الحكم لنفسه وغيره مناظر وظن ذلك، فإنه لا يكابر نفسه، فكذلك المناظر إذا عرض له ما يحصل به الظن لموافقة صاحبه عليه، فيبعد ترك ما ظن لتضافرهما.

وقيد بالمجتهد؛ لأن المقلد قد يعتقد أن إمامه يدفع ما تمسك به.

أما لو لم يكن حكم الأصل مجمعا عليه في الواقع، ولا بين المتناظرين، فإن أثبت المستدل حكم الأصل بنص، ثم أثبت العلة بطريق من طرقها، قبل منه على الأصح، وقيل: لا يقبل لما فيه من الانتقال.

لنا: لو لم يقبل، لم يقبل في المناظرة مقدمة تقبل المنع؛ لأن من منع ذلك إنما منعه خشية الانتشار والانتقال، فلا يحصل المقصود من المناظرة، وهذا لا يختص بحكم الأصل/ بل هو ثابت في كل مقدمة تقبل المنع، وربما فرق بأن هذا الحكم شرعي مثل الأول، فيستدعي ما يستدعي الأول، بخلاف المقدمات الأخر.

السادس: أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع، وإلا لم يكن جعل احدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس.

وقد يدفع بأن دلالة الدليل قد تكون على حكم الأصل أقوى.

قال: (ومن شروط علة الأصل: أن تكون بمعنى الباعث، أي مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم، لأنها لو كانت مجرد أمارة –وهي مستنبطة من حكم الأصل- كان دورا.

ومنها: أن تكون وصفا وضابطا لحكمة، لا لحكمة مجردة، لخفائها أو

ص: 24

لعدم انضباطها، ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح).

أقول: أما شروط علة الأصل: فقد اتفقوا على جواز التعليل بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، [سواء] كان الوصف معقولا كالرضى، أو محسوسا كالقتل، أو عرفيا كالحسن والقبح، وسواء كان موجودا في محل الحكم كما مر من الأمثلة، أو ملازما له غير موجود فيه، كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد.

واختلفوا في شروط، وذكر المصنف أربعة وعشرين:

الأول: أن تكون بمعنى الباعث، اشترطه المعتزلة، وأكثر الفقهاء، واختاره الآمدي، والمصنف.

وجمهور الأشاعرة لا يشترطونه، ويرونه يجر إلى التحسين العقلي، وأنه لو كانت علة أحكامه البواعث، لزم أن يكون مستكملا بالغير.

وفسر الأشاعرة علة الحكم بمعرفة دون الموجب له والداعي [للشارع] إليه؛ لأن الحكم لما كان خطاب الله الذي هـ كلامه القديم، امتنع تعليله بشيء من العلل.

ص: 25

وفيه نظر؛ لأن المعلل تعلقه، والخلاف في المستنبطة، أما المنصوصة فاتفقوا على جواز التعليل بها وإن كانت مجرد أمارة.

وصرح المصنف به بعد هذا، فقال:"والمختار جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعث، وأما الأمارة فاتفاق". ومعنى الباعث: أن تكون مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من الحكم، من تحصيل مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها؛ لأنها لو كانت [مجرد] أمارة لم يكن لها فائدة ولا تعرف الحكم، وإنما يعرف بها الحكم إذا لم تكن منصوصة أو مجمعا عليها، وإلا عرف الحكم بنص أو الإجماع لا بها، فإذا قال:"حرمت الخمر معللة بالإسكار"، كان تصريحا بحرمة الخمر، فلا يكون [قد عرف] بالعلة.

بقي أن يعرف بها وهي مستنبطة وحينئذ يلزم الدور، لأن المستنبطة لا تعرف إلا بثبوت الحكم، فلو عرف ثبوت الحكم بها لزم الدور.

ودفع الأشاعرة الدور: [بأنها مستنبطة من حكم الأصل، معرفة لحكم الفرع. ورد: بأنها لا تكون معرفة لحكم الفرع دون حكم الأصل]، وإلا لم يتحقق القياس الذي هو مساواة فرع لأصل في علة حكمه.

وقيل: معرفة للحكم.

رده أيضا: أن حكم الأصل إنما يعرف عليه الوصف، لإفضاء الوصف إلى الحكمة المقصودة، فما لم يشتمل/ الوصف على الحكمة، لم يكن الحكم

ص: 26

معرفا لعليته إلا بالمقارنة الصرفة، فحصوله في الفرع بوصف المعرفية يتوقف على المقارنة المتوقفة على المعرفية ويلزم الدور.

والحق: أن حصوله في الفرع بوصف المعرفية يتوقف على المقارنة في الأصل، والمقارنة [المتوقفة على المعرفية المقارنة] في الفرع.

قيل في رده أيضا: الوصف إن لم يعرف حكم الأصل [لم يعرف حكم الفرع، وإلا لم يكن للأصل مدخل في الفرع؛ لأن ثبوت الوصف في الفرع لا يتوقف على حكم الأصل]، وكذا معرفته لحكم الفرع، ضرورة كونه غير معرف لحكم الأصل، فثبت أنه يكون معرفا لحكم الأصل، فيكون حكم الأصل مفرعا عليه، والوصف مستنبط من حكم الأصل فيكون فرعا لحكم الأصل، فيلزم الدور.

والحق: أن معرفته لحكم الفرع يتوقف على حكم الأصل، لتوقف المعرفية المذكورة على مقارنة الوصف لحكم الأصل، المتوقفة على ثبوت حكم الأصل، فيكون لحكم الأصل مدخل.

الشرط الثاني: أن يكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه، حتى يكون ضابطا للحكمة –لا مجرد حكمة- وذلك لخفائها، كالرضى فيضبط بصيغ العقود، لكونها ظاهرة منضبطة، أو لعدم انضباطها، كالمشقة فإنها تختلف كثيرا بحسب الأشخاص والأحوال والأزمان، وليس لكل مرتبة ضابط، ولا يمكن تعيين مرتبة منها، إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها،

ص: 27

فنيطت بالسفر، فلو وجدت حكمة مجردة وكانت ظاهرة منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها، جاز اعتبارها وربط الأحكام بها على الأصح؛ لأنا نعلم قطعا أنها هي لمقصودة للشارع واعتباره المظنة لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها، جاز اعتبارها قطعا.

وقيل: لا يجوز وإلا لوقع، ولم تعتبر المظآن بدونها، وقد اعتبر كما في الملك المترف في السفر، وصاحب الصنعة الشاقة في الحضر.

الجواب: أن ذلك لانتقاء حكمة كذلك مما يقصده الشارع في أحكامه والمظنة لا يجب اطرادها وانعكاسها.

قال: (ومنها: ألا تكون عدما في الحكم الثبوتي.

لنا: لو كان عدما لكان مناسبا، أو مظنة مناسب.

وتقرير الثانية: أن العدم المطلق باطل، والمخصص بأمر إن كان وجوده منشأ مصلحة فباطل، وإن كان منشأ مفسدة فمانع، وعدم المانع ليس علة، وإن وجوده ينافي المناسب لم يصلح عدمه مظنة لنقيضه؛ لأنه إن كان ظاهرا تعين بنفسه، وإن كان خفيا فنقيضه خفي، ولا يصلح الخفي مظنة للخفي، وإن لم يكن فوجوده كعدمه.

وأيضا: لم يسمع أحد يقول: العلة كذا أو عدم كذا.

واستدل: بأن لا علة عدم، فنقيضه وجود.

ص: 28

وفيه مصادرة، وقد تقدم مثله، فالواضح تعليل الضرب بانتقاء الامتثال.

قلنا: بالكف).

أقول: الشرط الثالث: أن لا تكون علة الحكم الثبوتي عدما، ولا نزاع في تعليل الثبوتي بالثبوتي، كالإسكار للتحريم، والعدمي بالعدمي، كعدم نفاذ التصرف لعدم العقل، والعدمي بالوجودي، كعدم نفاذ التصرف للمسرف.

وأما عكسه: فاختلفوا فيه، والمختار منعه.

لنا: لو كان العدمي علة للثبوتي لكان مناسبا أو مظنة مناسب، واللازم باطل، أما الملازمة؛ فلما تقدم من أنها لابد أن تكون بمعنى الباعث وحينئذ إما أن يكون نفس الباعث هو المناسب، أو أمر يشتمل عليه وهو المظنة.

أما بطلان اللازم؛ فلأن العدم المعلل به إما عدم مطلق وواضح، إذ لا يعلل به لعدم تخصصه بمحل وحكم واستواء نسبته إلى الكل، وإما عدم مخصص بما يضاف إليه، فذلك الأمر الذي أضيف إليه العدم إما أن يكون منشأ مصلحة أو منشأ مفسدة أو لا.

ص: 29

فإن كان منشأ لمصلحة، فلا يكون عدمه علة، لأنه تفويت لتلك المصلحة، ولا يصلح مقصودا للشارع فلا يكون مناسبا ولا مظنة مناسب.

وإن كان منشأ مفسدة فهو مانع، فعدمه عدم مانع، وعدم المانع لا يكون علة، وإن لم يكن كذلك، فإما أن يكون وجوده ينافي وجود المناسب أو لا، فإن كان بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب، فلابد أن يستلزم عدمه وجود المناسب لتحصل الحكمة به، وحينئذ يكون هو نقيض المناسب، وهذا لا يصلح أن يعلل به؛ لأن نقيض ذلك الأمر إن كان ظاهرا أغنى عن المظنة بنفسه وكان هو العلة بالحقيقة، وإن كان خفيا فنقيضه وهو ذلك الأمر خفي فعدم ذلك الأمر خفي، لأن النقيضين سيان في الجلاء والخفاء، لأنا كما نعلم وجود المحسوسات ضرورة، نعلم عدمها كذلك، فيكون عدم نقيضه خفيا، والخفي لا يصلح مظنة للخفي، وإن لم يكن منافيا للمناسب فالمناسب يحصل عند وجوده كما يحصل عند عدمه، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة لا خصوصية لأحدهما به، فلا يكون عدمه خاصة مظنة، فلا يصلح علة وقد فرضناه علة، هذا خلف.

مثاله: ما لو قيل: "ساب النبي عليه السلام يقتل لعدم إسلامه" فيقال: إن كان في قتله مع الإسلام مصلحة فيلزم من اعتبار عدمها تفويتها، وإن كان فيه مفسدة فغايته أن الإسلام مانع فما المقتضى لقتله؟ وإلا فإما أن ينافي مناسبا للقتل هو الكفر مثلا، فإن كان الكفر ظاهرا فليقل: يقتل لأنه كافر، وإن كان خفيا فالإسلام كذلك فعدمه كذلك، فلا فرق بين معرفة الكفر ومعرفة عدم الإسلام في الخفاء وإن كان لا ينافي مناسبا، إذ ليس الكفر هو

ص: 30

المناسب ولذلك تقول: يقتل/ وإن تاب، فالمناسب أمر آخر يجتمع مع الإسلام، فالإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة فلا يكون عدمه مظنة.

وفيه نظر من وجوه: الأول: منع الملازمة بما مر في الشرط الأول.

الثاني: لا حاجة إلى هذا التقسيم، بل كان يقول: إن كان منشأ مصلحة فباطل، وإن كان منشأ مفسدة فمانع، وإلا فلا اعتبار لوجوده وعدمه في الحكم، وإلا لكان وجوده أو عدمه منشأ لأحدهما، إذ العلة الباعثة شأنها ذلك، مع أن الثالث قسم الثاني، فلا يكون قسيما له.

الثالث: منع كون أحد المتقابلين في حكم الآخر في الجلاء والخفاء، إذ قد يكون أحد الضدين أجلى من الآخر.

الرابع: أنا نختار الثالث، ولم لا يجوز أن يكون المناسب هو العدم بعينه كالقتل لعدم الإسلام في مسألتنا، إذ فيه المصلحة المقصودة، وهو التزام الإسلام خوفا من القتل.

الخامس: نختار الرابع، قوله:"وجوده كعدمه" نمنعه، إذ عدمه يستلزم المقصود، ووجوده –وإن لم يناف- فلا يستلزم.

السادس: أن الدليل المذكور يجري في تعليل العدمي بالعدمي.

السابع: يقتضي أن لا يعلل بأمر وجودي أيضا لأن الوجود المطلق لا يكون علة، والوجود المضاف تردد فيما أضيف إليه إلى آخره، [وفي هذا الأخير نظر].

ص: 31

ولنا أيضا: أن لم يسمع أحد يقول: العلة كذا أو عدم كذا، مع كثرة السبر والتقسيم، ولو كان صالحا لسمع ولو قليلا. وفيه نظر من وجهين: الأول: أنه قد سمع، إذ لا فرق بين قولنا: علة الإجبار عدم الإصابة أو البكارة، وعلة الحجر الجنون أو عدم العقل، فالتعليل بالعبارات الوجودية عن العلل العدمية واقع.

سلمنا، ولا يلزم من عدم السماع دليل الامتناع، وإلا لامتنع التمسك بدليل أو تأويل لم يسمع، وقد مر بطلانه.

[وقد استدل أيضا: بأن العلة وجودية فلا يتصف بها العدم، بيان أنها وجودية: أن نقيضها لا علة وهو عدم لصدقه على المعدوم فهي وجود، وإلا كان النقيض عدميين، وقد مر تقريره في مسألة الحسن والقبح مع جوابه.

وكون إثبات الوجود بصورة السلب مصادرة لكونه يجوز أن يكون ثبوتيا أو منقسما، ثم إنه يقتضي أن لا يكون العدم علة العدم.

قالوا: صح تعليل الضرب بانتقاء الامتثال، مع أن الضرب ثبوتي وانتفاء الامتثال عدمي. قلنا: بل التعليل بالكف عن الامتثال، وهو ثبوتي].

قال: (وألا يكون العدم جزءا منها.

قالوا: انتقاء معارضة المعجزة جزء من المعرف لها، وكذلك الدوران وجزؤه عدم.

قلنا: شرط الإجزاء).

أقول: الشرط الرابع: أن لا يكون العدم جزءا من علة الحكم

ص: 32

الثبوتي، واستغنى عن الاحتجاج عليه بما تقدم، لأن المركب من الوجود والعدم عدم.

واحتج الآخرون: بأن معرفة أن المعجزة معجزة أمر وجودي، وهو معلل بالتحدي بالمعجزة مع انتفاء المعارضة [وانتفاء المعارضة] بمثلها فهذه علة جزؤها عدم، وما جزؤه عدم فهو عدم وقد علل به الوجودي، وكذلك الدوران علة لمعرفة كون المدار علة وهي وجودية، والدوران عدمي لأنه عبارة عن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم فأحد جزأيه عدم فهو عدم.

الجواب: أن العدم في الصورتين شرط للأمر الوجودي.

واعلم أن من لم يشترط كون العلة /باعثة، يجوز أن تكون العلة عدما في الحكم الثبوتي، إذ لا امتناع في ذلك، بأن ينصب الشارع عدما مضافا على حكم، أما من شرط كونها باعثة، فلابد من أن تكون عنده وجودية إذ الباعث أو الداعي لابد أن يكون موجودا.

قال: (وألا تكون المتعدية المحل ولا جزءا منه، لامتناع الإلحاق بخلاف القاصرة، والقاصرة بنص أو إجماع صحيحة باتفاق.

والأكثر على صحتها بغيرها، كتعليل الربا في النقدين بجوهريتهما.

خلافا لأبي حنيفة.

لنا: لأن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها، وهو المعنى بالصحة، بدليل صحة المنصوص عليها.

ص: 33

واستدل: موقوفة على تعديتها، لم تنعكس على الدور.

والثانية: اتفاق.

وأجيب: بأنه دور معية.

قالوا: لو كانت صحيحة لكانت مفيدة، والحكم في الأصل بغيرها، ولا فرع.

رد: بجريانه في القاصرة بنص، وبأن النص دليل الدليل، وبأن الفائدة معرفة الباعث والمناسب فيكون ادعى إلى القبول، وإذا قدر وصف آخر متعد، لم يتعد إلا بدليل على استقلاله).

أقول: الشرط الخامس: أن لا تكون العلة المتعدية نفس المحل ولا جزءا منه، يعني جزءا خاصا به، إذ لا يتصور تعديتها، وأما الجزء المحمول الأعم فيجوز، ولا يسميه المتكلم جزءا بل وصفا، وهذه العبارة فيها قلق، إذ لا تكون متعدية ومحلا حتى يشترط ألا تكون محلا، وعبارة الآمدي أسد حيث قال: اتفق الكل على أن تعديه العلة شرط صحة القياس، وعلى صحة العلة القاصرة إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها.

ص: 34

أما لو كانت القاصرة بمناسبة أو سبر، فالأكثر على صحتها، كتعليل الربا في الذهب والفضة بجوهرية الصمنية، أي بكوهما جوهريا الثمن، وهو وصف قاصر، هكذا قال الآمدي، وهو الذي ذكره المصنف في كتابه في الفقه، حيث قال:"العلة غلبة الثمنية، وقيل الثمنية".

ومنع أبو حنيفة، والبصري التعليل بالقاصرة المستنبطة.

لنا: أن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها لأن المفروض –وهو معنى صحة العليل بها- بدليل صحة المنصوص عليها اتفاقا، وإن لم يفد النص إلا الظن إذا كان آحادا أو ظني الدلالة، فلو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها، ما جاز ذلك.

ومن هنا تعلم أن الصواب جوهرية الثمنية [لأنه مناسب]، لا نفس الجوهرية إذا ليس بمناسب.

واستدل: لو كانت صحة علية المستنبطة موقوفة على تعديتها، ولم تكن تعديتها موقوفة على صحتها لامتناع الدور، لكن تعديتها تتوقف على صحتها اتفاقا.

/الجواب: منع الملازمة، إذ اللازم دور المعية ولا محدور فيه؛ لأنه دور التقدم، إذ الصحة والتعدية معلولا العلة فحصولهما معا، فالعلة إذا وجدت في الفرع حصلت الصحة والتعدية معا، إذ التقدير أن صحة العلة مشروط

ص: 35

بوجودها في الفرع، ومع وجودها في الفرع حصلت التعدية، ومتى لم تحصل العلة في الفرع، لم تحصل الصحة.

أو نقول: التعدية شرط العلة، بمعنى وجود الوصف في غيره، ومشروط بها، بمعنى وجود الحكم [به] في غيره، فهو غلط نشأ من الاشتراك.

قالوا: لو كانت القاصرة المستنبطة صحيحة، لكانت مفيدة، لأن ما لا فائدة فيه لا يحكم بصحته شرعا لكنها غير مفيدة؛ لأن فائدتها منحصرة في إثبات الحكم بها وهو منتف، أما في الأصل فلأنه بالنص أو الإجماع، والفرع الفرض ألا فرع.

الجواب: النقض بالقاصرة بنص، لجريان هذا الدليل فيها، وأنه جائز اتفاقا.

الثاني: لا نسلم أن الحكم في الأصل بغير العلة، بل بالعلة، والنص دل على كونه دليلا، فإذا قال:"جوهر الثمن ربوي"، فقد عرف كون النقدين ربويين بكون الربوية معللة بجوهرية الثمنية، والنص دل على ما يثبت به الحكم.

الثالث: لا نسلم حصر الفائدة في معرفة الحكم، بل من الفوائد معرفة الباعث والمناسب بإنه الحكم، إذا عرف أنه كذلك كان أدعى إلى الإذعان

ص: 36

والقبول من التعبد المحض.

ومن فوائده: أنه إذا كانت علة وقدر في محلها وصف آخر متعد، جاز أن يكون جزء علة فلا تعدية، وأن يكون كلا مستقلا فتحصل التعدية، وإذا جاز الأمران فلا تعدي إلا بدليل يدل على استقلاله.

فإن قيل على الجواب الأول: خرجت المنصوصة بالإجماع.

وعلى الثاني: لو عرفت حكم الأصل وهي مستنبطة منه لزم الدور.

وعلى الثالث: أن الفائدة الأولى مبنية على تعليل أحكامه بالبواعث.

وفيه ما سبق، والثانية مدفوعة بالترجيح بالتعدية، وقد قال بعد هذا: فإن ادعى أن المستنبطة كذلك، ترجح سبر المستدل بموافقة التعدية.

وقال أيضا: والأكثر تعديا على غيره.

قلت: المراد من الأول نقض الدليل فلا يفيد العلم، والثاني لا دور؛ لأن المتأخر على حكم الأصل العلم بكونها علة، وهي معرفة أن حكم الأصل لأجلها، لا أنها معرفة نفس حكم الأصل.

وقد صرح بهذا بعد، ؟ فقال:"قالت الشافعية: حكم الأصل ثابت بالعلة والمعنى أنها الباعثة على حكم الأصل".

والثالث: أن الفائدة الأولى بناء على مختاره من أن العلل الشرعية المستنبطة بمعنى الباعث، وأما الفائدة الثانية فلا تندفع بما قال؛ لأن التعدية

ص: 37

يترجح بها الدليل عند المعارضة؛ لأنها كافية في الدلالة على العلية.

وقوله: "وترجيح سبر المستدل"؛ لأن السبر دليل، فلما عارضه السبر الآخر، ترجح سبر المستدل بموافقته التعدية، ولئلا يلزم التعبد بالحكم، ولهذا قال بعد هذا:"فإن ترجح بالتوسعة منع الدلالة"، أي منع إفادة التعدية الاستقلال، ويدل عليه أيضا قوله:"ولا يكفي رجحان المعنى ولا كونه متعديا، لاحتمال الجزئية".

قال: (وفي النقض، وهو وجود المدعى علة في الأصل مع تخلف الحكم.

ثالثها: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة.

ورابعها: عكسه.

وخامسها: يجوز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط.

والمختار: إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع أو عدم شرط، لأنها لا تثبت علتها إلا ببيان أحدهما؛ لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن لذلك، فلعدم المقتضي، فإن كانت منصوصة فبظاهر عام فيجب وتقدير المانع.

لنا: لو بطلت لبطل المخصص.

وأيضا: جمعا بين الدليلين، ولبطلت القاطعة، كعلل القصاص والجلد وغيرهما).

أقول: الشرط السادس: أن تكون مطردة، أي كلما وجدت وجد الحكم، وعدمه نسمى نقضا، ويسميه القدماء تخصيص العلة، وهو أن

ص: 38

يوجد الوصف الذي يدعي أنه علة في محل، مع عدم الحكم فيه.

وقد اختلف في جواز النقض، أي كونه قادح في العلة حتى يبقى معه ظن العلية على ستة مذاهب:

الأول: يجوز مطلقا.

الثاني: لا يجوز مطلقا.

الثالث: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة.

الرابع: يجوز في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط، ولا يجوز في المنصوصة مطلقا.

الخامس: يجوز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا عدم شرط، ولا يجوز في المنصوصة مطلقا، هذا في الحقيقة عكس الثالث.

ومختار المصنف: التفصيل فيهما، وهو أنها إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع [أو عدم شرط؛ لأن علية المستنبطة المتعدية لا تثبت عند التخلف إلا

ص: 39

ببيان أحدهما؛ لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن] لمانع ولا عدم شرط فهو لعدم المقتضى قطعا، فلو كان الوصف مقتضيا لثبت الحكم في صورة النقض لكن لم يثبت فليس مقتضيا، والمراد من البيان في قوله:(إلا ببيان أحدهما) مدلوله اللغوي، وهو الظهور. واعلم أن دعواه مركبة من الصحة عند وجود المانع وفقدان الشرط، ومن عدم الصحة عند عدم المانع ووجود الشرط.

واستدل على الثاني مطلقا فقط وترك الأول لظهوره؛ لان الاستنباط دل على العلية بالمناسبة أو بالسبر مع الاعتبار، وأمكن صرف نفي الحكم إلى المانع لئلا يلغى، فيجب الحمل عليه جمعا بين الدليل الدال على العلية والدال على مانعية المانع.

أما إن كانت منصوصة، فإن كان النص قطعيا امتنع التخلف، وحينئذ يجب أن تكون بظاهر عام؛ لأن الخاص بمحل الحكم لا يتناول صورة النقض، وإذا كان كذلك فيجب تخصيصه بغير صورة النقض لأن ذلك النص عام يدل على العلية في محل النقض وغيره، وعدم الحكم الخاص يدل على عدم العلية في محل النقض، وإذا تعارض عام وخاص فقد علمت أن الواجب تخصيص العام جمعا بينهما، ويجب تقدير مانع يمنع من العلية في صورة النقض وإن كنا لا نعلمه بعينه، لئلا يلزم الحكم بدون العلة، فإن فيه إبطال العلة لما ذكرنا أن عدم الحكم بدونهما لعدم المقتضي فيبطل الانتفاء.

وحاصل هذا المذهب: أنه لابد من مانع أو عدم شرط، لكن في المستنبطة يجب العلم بعينه، وإلا لم نظن العلية، وفي المنصوصة لا يجب،

ص: 40

ويكفي في ظن العلية تقديره، وفي الصورتين لا تبطل العلية بالتخلف.

لنا: لو بطلت العلية بالتخلف لبطل المخصص، بيان اللزوم: أنه ليس إلا تخصيص عموم دليل كونها علة، وخصوصية هذا المدلول ملغاة قطعا فانتفى الفرق.

ولنا أيضا: أنه جمع بين الدليلين، دليل الاعتبار إذ يعمل به في غير صورة النقض، ودليل الإهدار إذ يعمل به في صورة النقض.

وأيضا: لو بطلت لبطلت العلل المتفق عليها، كعلة القصاص –وهو القتل العمد العدوان- بالتخلف في الوالد، وكذا شرب الخمر علة للجلد، مع التخلف في الغصة، وإنما حملنا القاطعة على المتفق عليها لاستحالة التخلف عن القطعية؛ لأن التخلف إن لم يكن لدليل فظاهر، وإن كان لدليل ظني فلا يعارض القاطع ولا يكون بقاطع، وإلا لتعارض قطعيان.

قيل: لا يلزم من بطلان الضعيف بالنقض بطلان القوي.

ورد: بأن الأقوى أشد مناسبة لعدم التخلف.

قال: (أبو الحسين: النقض يلزم منه مانع أو انتفاء شرطه، فتبين أن نقيضه من الأولى.

قلنا: ليس ذلك من الباعث، ويرجع النزاع لفظيا.

قالوا: لو صحت للزم الحكم.

وأجيب: بأن صحتها كونها باعثة، لا لزوم الحكم فإنه مشروط.

قالوا: تعارض دليل الاعتبار ودليل الإهدار.

قلنا: الانتفاء للمعارض لا ينافي الشهادة.

ص: 41

قالوا: يفسد كالعقلية.

أجيب: بأن العقلية بالذات، وهذه بالوضع).

أقول: احتج القائلون بأن النقض يفسد مطلقا: بما قال أبو الحسين منهم: النقض إنما يصح مع وجود مانع أو انتفاء شرط، وإلا فهو كاشف عن عدم المقتضي، فقد بين النقض، أن عدم المانع ووجود الشرط جزء من العلة؛ لأن المستلزم هو العلة مع ذلك، فلا تكون الأولى تمام العلة، فيقدم النقض في علتها.

الجواب: أن المراد من العلة وليس نقيض كل /من وجود المانع وانتفاء الشرط من العلة الباعثة وإن كان جزءا من العلة المستلزمة، وعلى هذا يرجع النزاع لفظيا، فإن فسرت بالباعث على الحكم جاز النقيض، وإن فسرت بالمستلزم لم يجز النقض.

وهذا الجواب إنما يتم لو انحصرت العلة في الباعثة، وليس كذلك؛ لأن المنصوصة –وإن كانت مجرد أمارة- فيصح التعليل بها اتفاقا، ومنه يعلم ضعف الشبهة الثانية في قوله:(أجيب: بأن صحتها كونها باعثة).

قالوا: لو صحت مع النقض لزم الحكم في صورة النقض؛ لأن من ضرورة صحة العلية لزوم المعلول لعلته.

الجواب: منع كونه من لوازم الباعث، ووجود الحكم مشروط بعدم المانع ووجود الشرط.

ص: 42

قالوا: تعارض دليل العلية وهو وجود الحكم معه، ودليل الإهدار وهو التخلف عنه، فيتساقطان فلا يعمل بدليل العلية.

الجواب: لا نسلم أن التخلف دليل الإهدار، فإن انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض لا يبطل شهادة النص أو الاستنباط.

قالوا: التخلف يفسد العلة كما يفسد العلية العقلية.

الجواب: بالفرق، بأن العلة العقلية مقتضية لمعلولها بالذات، على أنه جائز فيها عند فوات القائل، أما العلل الشرعية فاقتضاؤها لمعلولاتها بواسطة وضع الشارع، سواء كانت دواعي أم مقدمات.

قال: (المجوز في المنصوصة: لو صحت المستنبطة مع النقض لكان لتحقيق المانع، ولا يتحقق غلا بعد صحتها، فكان دورا.

وأجيب: بأنه دور معية.

والصواب: أن استمرار الظن بصحتها عند التخلف يتوقف على المانع وتحقق المانع ويتوقف على ظهور الصحة فلا دور.

كإعطاء الفقير يظن أنه لفقره، فإن لم يعط آخر توقف الظن، فإن تبين مانع عاد، وإلا زال.

قالوا: دليلها اقتران، فقد تساقطا، وقد تقدم).

أقول: القائلون بجوازه في المنصوصة دون المستنبطة، قالوا: لو

ص: 43

صحت المستنبطة مع النقض لكان لتحقق المانع.

أما الملازمة؛ فلأن التخلف مع عدم المانع يكون لعدم المقتضي.

وأما بطلان اللازم؛ فلأن المانع إنما يتحقق بعد صحة العلية، إذ لو لم تصح كان عدم الحكم لعدمها، ولا أثر لما يتصور مانعا فيتوقف الصحة على المانع، والمانع على الصحة، ويلزم الدور.

والجواب: أن المستحيل دور التقدم لا دور المعية، وهذا دور معية، إذ غايته امتناع انفكاك كل عن الآخر، وأما أن الصحة متقدمة على المانع أو العكس فلا.

وليس بصواب؛ إذ لا تعلم المانعية إلا بعد العلم بالاقتضاء، ولا يعلم الاقتضاء مع التخلف إلا بعد العلم بالمانعية.

والصواب: أن ظن العلية مستفاد من المناسبة أو السبر، فيظن ذلك حتى بتحقق التخلف، وعند التخلف إن وجد أمر ينتسب إله ذلك –لصلاحيته لذلك-/ حكمنا على ذلك الأمر بأنه مانع، واستمر ظن الصحة، وإلا زال الظن.

فإذا استمر الظن بصحتها [عند] التخلف يتوقف على وجود المانع، وكونه مانعا يتوقف على ظهور الصحة لا على استمرار الظن بالصحة.

مثاله: لو أعطى فقيرا ظننا أن الإعطاء للفقير، فإذا لم يعط فقيرا آخر،

ص: 44

توقف الظن بكون الفقر هو العلة، فإن تبين مانع –كفسقه مثلا- عاد الظن أنه كان لفقره، وهنا لم يعط معه لأجل الفسق، وإن لم يتبين، زل ظن كونه للفقر، وهذا يشكل إذا كان العلم بالتخلف مقارنا لا متأخرا.

والصواب: أن المانعية [كونه] بحيث إذا جامع علة باعثة منعها مقتضاها، والفسق للإعطاء كذلك، وجد الباعث أم لا، ووجود المانع المتوقف عليه العلة هو هذا القدر، لا كونها مانعا بالفعل الذي هو متوقف على العلية، فلا دور.

قالوا: دليل المستنبطة اقتران الحكم بها، وقد شهد لها بالاعتبار في صورة، وعليها بالإهدار في محل النقض، فيتساقطا.

الجواب: أن الانتفاء للمعارض لا ينافي الشهادة.

قال: (المجوز في المستنبطة: المنصوصة دليلها نص عام فلا يقبل.

أجيب: إن كان قطعيا فمسلم.

وإن كان ظاهرا وجب قبوله.

الخامس: المستنبطة بدليل ظاهر، وتخلف الحكم مشكك، فلا يعارض الظاهر.

وأجيب: تخلف الحكم ظاهر أنه ليس بعلة، والمناسبة والاستنباط مشكك.

والتحقيق: أن الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر.

قالوا: لو توقف كونها أمارة على ثبوت الحكم في محل آخر،

ص: 45

لا نعكس فكان دورا أن تحكما.

وأجيب: بأنه دور معية.

والحق: أن استمرار الظن بكونها أمارة يتوقف على المانع أو ثبوت الحكم، وهما على ظهور كونها أمارة).

أقول: القائلون بالجواز في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط دون المنصوصة [قالوا]: المنصوصة دليلها نص عام وإلا لما تصور تخلف الحكم عنها.

وحينئذ يتناول محل النقض صريحا فثبت فيه العلية صريحا، فلا يقبل النقض إذ يلزم إبطال النص، بخلاف المستنبطة فإن دليلها الاقتران مع عدم المانع ولا تخلف عنه.

الجواب: أن النص العام إن كان قطعيا فمسلم أنه لا يقبل التخصيص، وإن كان ظاهرا وجب قبوله وتقدير المانع.

الخامس: القائل بالجواز في المستنبطة وإن لم يكن مانع ولا فوت شرط، قالوا: المستنبطة علة بدليل ظاهر يوجب ظن العلية وهو المناسبة، والتخلف مشكك فلا يوجب ظن عدم العلية، إنما يوجب الشك فيه؛ لأن احتمال تخلف الحكم لعدم كون الوصف علة مساو لاحتمال تخلفه لمعارض، والظن لا يرفع بالشك، فالتخلف لا يبطل/ العلية.

ص: 46

الجواب: المعارضة، وهو أن التخلف دليل ظاهر على عدم العلية، ودليل المستنبطة مشكك، إذ التخلف يحتمل أن يكون للمعارض أو لعدم المقتضي احتمالا مساويا.

ولما كان هذا الجواب جدليا، قال:(والتحقيق: أن الشك في أحد المتقابلين يوجب الشك في الآخر)، فإذا كان التخلف مشككا في عدم العلية كان مشككا في العلية، إذ حقيقة الشك احتمال المتقابلين على السواء، فإذا قوله:"العلة مظنونة بدليلها وعدم العلة مشكوك فيه بدليله" كلام متناقض.

واعلم أن عند التعارض يحصل الشك في الطرفين، وعند الانفراد يوجب كل الظن، والشك إنما نشأ من التعارض، لا أن مقتضى أحدهما الظن والآخر الشك إذا انفردا حتى يقدم عند الاجتماع ما مقتضاه الظن فيعمل به؛ لأن الظن والشك متضادان، فلا يجتمعان في محل واحد.

قالوا: لو توقف كونها أمارة للحكم في صورة الاقتران على ثبوت الحكم في صورة التخلف لانعكس، فيتوقف ثبوت الحكم في صورة التخلف على كون المستنبطة أمارة للحكم في صورة الاقتران ولزم الدور، وإن لم ينعكس لزم التحكم.

وأجيب: بأنه دور معية لا دور توقف كما سبق، وليس بحق.

والجواب الحق: أن المناسبة دلت على علية الوصف ابتداء، فإذا أمعن

ص: 47

النظر فيما هو شرط العلية من أحد الأمرين، إما ثبوت الحكم معه في جميع الصور، أو وجود المانع من ثبوته، إذ لو [انتفيا فلا علة]، فإن علم تحققه استمر الظن وإلا زال، فاستمر كونها أمارة يتوقف على أحدهما، وهما على ظن كونها أمارة، وهو ابتداء ظنه، فلا دور.

قال: (وفي الكسر وهو: وجود الحكمة المقصورة مع تخلف الحكم.

المختار: لا يبطل، كقول الحنفية في العاصي بسفره: مسافر فيترخص كغير العاصي، ثم بين المناسبة بالمشقة.

فيعترض: بصنعة شاقة في الحضر.

لنا: أن العلة السفر، لعسر انضباط المشقة، ولم يرد النقض عليه.

قالوا: الحكمة هي المعتبرة قطعا، فالنقض وارد.

قلنا: قدر الحكمة المساوية في محل النقض مظنون، ولعله لمعارض والعلة موجودة في الأصل قطعا، فلا يعارض الظن القطع حتى لو قدرنا وجود قدر الحكمة أو أكثر قطعا، وإن بعد أبطل، إلا أن يثبت حكم آخر أليق بها، كما لو علل القطع بحكمة الزجر، فيعترض بالقتل العمد العدوان، فإن الحكمة أزيد لو قطع.

فيقول: ثبت حكم أليق بها تحصل به وزيادة، وهو القتل).

أقول: الشرط السابع عند بعضهم أن تكون الحكمة مطردة أي كلما وجدت الحكمة وجد الحكم، فإذا وجدت في محل بدون الحكم سمي

ص: 48

كسرا.

والمختار: أنه لا يبطل العلية مثاله: ما لو قال الحنفي في المسافر العاصي

بسفره: / "مسافر فيترخص بسفره كغير العاصي" ثم بين مناسبة السفر للترخص بما فيه المشقة المقتضية للترخص، فيعترض: بصنعة شاقة في الحضر.

لنا: أن العلة السفر ولم يرد النقض عليه، فوجب العمل بمقتضى العلة.

بيان أن العلة السفر: أنه وإن كان المقصود المشقة، لكن يعسر ضبطها وليس كل قدر منها يوجب الترخص، وإلا لسقطت العبادات، وتعيين القدر الموجب لذلك متعذر، فضبط بوصف ظاهر منضبط هو السفر، فجعل أمارة لها، ولا معنى للعلة إلا ذلك.

قالوا: الحكمة هي المعتبرة بالذات، واعتبار الوصف إنما هو بالتبعية فالنقض وارد على العلة؛ لأنه إذا وجدت الحكمة المعينة ولم يوجد الحكم، على أن تلك الحكمة غير معتبرة، فكذا الوصف المعتبر بتعينها، فإن المقصود إذا لم يعتبر فالوسيلة أجدر.

الجواب: أن قدر الحكمة –كالمشقة في مثالنا- يختلف، ولابد في ورود النقض من وجود حكمة في محل النقض مساوية لحكمة الأصل فإن عدم اعتبار الأضعف لا يوجب عدم اعتبار الأقوى وذلك غير متيقن، ولعله أقل حكة، ولعله معارض، ومع المعارض ينقض قدر الحكمة أو يبطل فلذلك لم يعتبره

ص: 49

الشارع، والعلة موجودة في الأصل قطعا، ولا يصلح التخلف الظني معارضا للقطعي، نعم لو علم وجود قدر الحكمة أو أكثر، وإن بعد تحققه –لعسر الاطلاع على قدر الحكمة- أبطل العلية لأن القاطع إذا عارض قاطعا تساقطا.

ومن هنا تعلم أن قوله: (وهو وجود الحكمة) أي جنسها لا قدرها، أو وجود قدرها ظنا، وقوله:(وإن بعد) موافقا لقوله: (ولو أمكن اعتبارها جاز).

وقوله: (أبطل) معناه: إذا لم يكن مانع أو عدم شرط [يدل عليه.

قوله: (ولعله لمعارض)، وإلا فهو نقض، والنقض عنده إنما يبطل إذا لم يكن المانع ولا عدم شرط]، لكن إنما يبطل إذا لم يثبت حكم آخر في محل النقض أليق بالحكمة من الحكم المتخلف، كما لو علل قطع اليد قصاصا بحكمة الزجر، فيعترض الخصم بالقتل العمد العد=وان، فإن الحكمة فيه أزيد لو قطع، ومع ذلك لا يقطع، فيقول المعلل: ثبت حكم أليق بحكمة الزجر تحصل حكمة الزجر بذلك وزيادة، فإن القتل يحصل به إبطال اليد وغيرها.

قال: (وفي النقض المكسور: وهو نقض بعض الأوصاف.

المختار: لا يبطل، كقول الشافعي في بيع الغائب: بيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح، مثل: بعتك عبدا.

ويعترض: بما لو تزوج امرأة لم يرها.

ص: 50

لنا: أن العلة المجموع فلا نقض، فإن بين عدم تأثير كونه مبيعا، كان كالعدم/ فيصبح النقض، ولا يفيد مجرد ذكره دفع النقض).

أقول: الشرط الثامن عند بعضهم: أن لا يتخلف الحكم عن بعض أوصاف العلة، فإن تخلف عنه سمي نقضا مكسورا، ولا يتحقق إلا في العلة المركبة، ووجه تركبه من النقض والكسر، كأنه قال: الحكمة المعتبرة تحصل باعتبار هذا البعض، وقد وجد في المحل ولم يوجد الحكم.

والمختار: لا يبطل العلية، مثاله: ما لو قال الشافعي في منع بيع الغائب: "بيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصح، كما لو قال: بعتك عبدا من غير تعيين"، فيقول المعترض:"منقوض بما لو تزوج امرأة لم يرها"، ‘ذ الجهل بالصفة عند العاقد حال العقد موجود، مع أن العقد صحيح، فقد حذف قيد كونه مبيعا، ونقض ما بقي.

لنا: أن العلة المجموع فلا نقض عليه إذ لا يلزم من عدم علية البعض عدم عليه الجميع، هذا إذا اقتصر على نقض البيع، أما لو أضاف إليه إلغاء المتروك فإن بين مثلا عدم تأثير كونه مبيعا وأن الباقي مستقل بالمناسبة، كان وصف كونه مبيعا كالعدم فيرد النقض، فإن قال: له فائدة وهي دفع النقض.

قيل: مجرد ذكره لا يصيره جزءا من العلة، والاحتراز بذكره يتوقف على أن له مدخلا في التأثير، وقد مر بطلانه، وأيضا فائدة الاحتراز عن النقض وإمكانه متوقفة على كونه جزء العلة، حتى لو لم يكن جزءا كانت العلة ما وراءه والنقض وارد عليها، وكونه جزء العلة يتوقف على إمكان

ص: 51

الاحتراز به عن النقض فيدور.

قال: (وأما العكس -وهو انقاء الحكم لانتقاء العلة-: فاشتراطه مبني على منع تعليل الحكم بعلتين لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله، ونعني انتفاء العلم أو الظن، إذ لا يلزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه).

أقول: الشرط التاسع: أن تكون العلة منعكسة، أي كلما عدم الوصف عدم الحكم.

والحق: أن اشتراطه مبني على تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين؛ لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفي الوصف، ولا ينتفي الحكم لوجود الوصف الآخر، وإذا لم يجز فثبوت الحكم دون الوصف يدل على أنه ليس علة له، وإلا لانتفى بانتفائه، لوجوب انتقاء الحكم عند انتقاء دليله، ونعني انتفاء العلم أو الظن لانتفاء الحكم، إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشيء انتفاؤه، وإلا لزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه، وأنه باطل، نعم يلزم انتفاء العلم أو الظن بالصانع.

وفيه نظر؛ إذ المراد من الحكم: الحكم الثابت علينا لا الصفة القديمة، فمناط الحكم عند المصوبة: العلم أو الظن، فإذا انتفيا انتفى /الحكم، وعند المخطئة: ينتفي الحكم أيضا، لئلا يلزم التكليف بالمحال.

ص: 52

قال: (وفي تعليل الحكم الواحد بعلتين أو علل: كل مستقل.

ثالثها للقاضي: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة.

ورابعها: عكسه.

ومختار الإمام: يجوز ولكن لم يقع.

لنا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع، فإن اللمس والبول والمذي والغائط والريح، يثبت بكل واحد منها الحدث، والقصاص والردة يثبت بكل منها القتل.

قولهم: الأحكام متعددة، ولذلك ينتفي في قتل القصاص، ويبقى في الآخر.

قلنا: إضافة الشيء إلى أحد دليله لا يوجب تعددا، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط.

وأيضا: لو امتنع لامتنع تعدد الأدلة لأنها أدلة).

أقول: لما كان اشتراط الانعكاس فرع تعدد العلة، شرع في بيانه.

واعلم أنهم اختلفوا في تعليل الحكم الواحد بعلتين أو علل، كل واحدة

ص: 53

مستقلة، فقيل: جائز، كانت العلل منصوصة أو مستنبطة.

وقيل: بالمنع مطلقا.

وثالثها للقاضي: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة، ومال إليه الغزالي.

ورابعها: يجوز في المستنبطة دون المنصوصة.

ثم القالون بجوازه عقلا، اختلفوا في جوازه شرعا، فأكثرهم على جوازه، وقال إمام الحرمين: إنه ممتنع شرعا.

[والذي ذكره المصنف أعم].

واعلم أن محل الاخلاف عند الآمدي: الواحد بالشخص، قال: وأما الواحد بالنوع فلا خلاف في تعليله بعلتين، وعند الإمام فخر الدين

ص: 54

والبيضاوي: الخلاف في الواحد بالنوع، ومختارهما: الجواز في المنصوصة دون المستنبطة.

وكلام المصنف محمول على الواحد بالنوع لوجهين:

الأول: أن أدلته إنما تدل على تعليل الواحد بالنوع بعلتين، لا الواحد بالشخص.

الثاني: أنه يذكر بعد هذا تعليل الواحد بالشخص بعلتين، وهو قوله:"القائلون بالوقوع إذا اجتمعت، فالمختار كل واحدة علة".

احتج المصنف على جوازه مطلقا بوجهين:

الأول: لو لم يجز لم يقع، أما الملازمة؛ فلأن ما لا يجوز لا يقع، وأما بطلان التالي؛ فلأنه واقع، إذ الحدث حكم واحد معلل باللمس والبول والمذي والغائط، وهي علل مستقلة، لثبوت الحدث بكل واحدة منها، وهو معنى الاستقلال، وكذا القتل حكم واحد وهو معلل بالقصاص والردة.

قالوا: الأحكام فيما ذكرتم متعددة، والعلل متعددة، أما الحدث فلأنه لو كان حدث البول واللمس واحد، لارتفع أحدهما بارتفاع الآخر، وليس كذلك، إذ لو نوى أحدهما لم يرتفع الآخر. وكذا القتل بالقصاص غير القتل بالردة، [ولذلك ينتفي أحدهما ويبقى الآخر، فينتفي قتال القصاص بالعفو ويبقى قتل الردة]، وينتفي قتل الردة بالإسلام ويبقى الآخر، ويحقق تعددهما/ واختلافهما: أن الأول حق الآدمي، والثاني حق الله.

ص: 55

قلنا: لو تعددت الأحكام بإضافتها إلى العلل، لتعددت بإضافتها إلى الأدلة لأنها أدلة، واللازم باطل؛ لأن إضافة الحكم إلى أحد الدليلين مرة وإلى الآخر أخرى لا يوجب تعددا في الحكم، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط، فكان يتصور أن ينتفي أحدهما ويبقى الآخر، ولو نوى بعض أحداثه غير متعرض لغيره لارتفع الكل، ولا تعدد في القتل، بل في استناده، والزائل بالعفو استناده إلى القتل العمد العدوان، والزائل بالإسلام استناده إلى الردة، لا نفس القتل فإنه باق، وليس إلا إبطال حياة واحد، وهو واحد بالنوع وإن اختلفت الإضافة، وذلك راجع إلى التعدد بالشخص.

قال الغزالي: الحائض المحرمة المعتدة يحرم وطؤها، ولا يمكن أن يحال تحريم الوطء على أحد هذه الأسباب دون باقيها، لمساواة كل منها الآخر في الاعتبار في التحريم، ولا يقال بتعدد التحريمات، فإنها لا تختلف بالنوع والحقيقة، وما اتحدت حقيقته لا تعداد فيه، فتبين من قول الغزالي أن المنفي التعدد بالنوع وكذا قول المصنف، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط –يعني بالنوع- وإلا فهما مختلفان بالشخص.

وكذا قوله: (إضافة الشيء إلى أحد دليله لا يوجب تعددا)، يعني نوعها، وإلا فمدلول الأدلة كلي.

فتبين أن الدليل إنما دل على تعليل الواحد بالنوع بعلتين، على أنه لا ينهض على المانع في المستنبطة؛ لأن العلل المذكورة منصوصة.

الثاني: ولو امتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين، لامتنع تعدد الأدلة

ص: 56

الشرعية؛ لأن العلل الشرعية أدلة لا مؤثرات، وهذا أيضا إنما ينهض على تعليل الحكم الواحد بالنوع إذ مدلول الأدلة كلي، على أنه قد يقال: الباعثة أخص من مطلق الدليل، ولا يلزم من امتناعه امتناع الأعم.

قال: (المانع: لو جاز، لكانت كل واحدة مستقلة غير مستقلة؛ لأن معنى استقلالها: ثبوت الحكم بها.

أجيب: بأن معنى استقلالها: أنها إذا انفردت استقلت، فلا تناقض في التعدد.

قالوا: لو جاز لاجتمع المثلان، فيستلزم النقيضين؛ لأن المحل يكون مستغنيا غير مستغن، وفي الترتيب تحصيل الحاصل.

قلنا: في العلل العقلية، فأما مدلول الدليلين فلا.

قالوا: لو جاز لما تعلق الأئمة في علة الربا بالترجيح؛ لأن من ضرورته صحة الاستقلال. وأجيب: بأنهم تعرضوا للإبطال لا للترجيح.

ولو سلم، فالإجماع على اتحاد العلة هنا، وإلا لزم جعلها أجزاء).

أقول: احتج المانع مطلقا بوجوه ثلاثة:

الأول: لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين/ أو علل كل مستقل، لكانت كل واحدة من تلك العلل مستقلة بالتعليل غير مستقلة به، والتالي باطل للتناقض، وأما الملازمة؛ فلأن معنى استقلالها: ثبوت الحكم بها دون

ص: 57

غيرها، كما قال في المنتهى، وكذا في الأخرى، فيستلزم عليه كل واحدة عدم علية الأخرى ويتناقض.

أجيب: لا نسلم أن معنى استقلالها ثبوت الحكم بها دون غيرها مطلقا، بل ذلك معنى استقلالها إذا انفردت لا مطلقا، على معنى: أنها انفردت ثبت الحكم بها دون غيرها، ولا تناقض في تعدد العلل بهذا المعنى، وإنما يلزم التناقض لو كان معنى استقلالها ثبوت الحكم بها دون غيرها عند التعدد.

أيضا: وبما ذكرنا يندفع ما قيل: إنه بعد هذا نختار أن كل واحدة مستقلة عند الاجتماع، وهذا الجواب يشعر بخلافه.

الثاني: لو جاز تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين مستقلتين أو علل، لزم اجتماع المثلثين، أما الملازمة؛ فلجواز اجتماعها في محل واحد، وكل منها توجب مثل ما توجب الأخرى فموجباهما مثلان، وقد اجتمعا في المحل.

وأما بطلان اللازم؛ فلأن اجتماع المثلين في محل يوجب اجتماع النقيضين؛ لأن المحل يكون مستغنيا في ثبوت الحكم له بكل واحدة عن كل واحدة، فيكون مستغنيا غير مستغن عنها، وقرر امتناع اجتماع المثلين في الحكمة بأنهما لو اجتمعا في محل لاتحدا بحسب العوارض، كما اتحدا بحسب الماهية؛ لأن نسبة جميع العوارض إليهما على السوية ضرورة أن محلهما واحد فكل ما يعرض عارضا لأحدهما يكون عارضا للآخر، إذ عروضه لأحدهما دون الآخر ليس أولى من العكس، فيكون أحدهما غير الآخر، فلا يكون المثلان مثلين، ويستلزم اجتماعهما في محل واحد مترتبة، وتحصيل الحاصل أيضا مع ذلك. والحق: أنه لا يحتاج في لزوم الاستغناء وعدمه إلى توسط

ص: 58

اجتماع المثيلن.

الجواب: إنما يلزم ما ذكرتم في العلل العقلية الموجبة لمعلولاتها، أما في مدلول دليلين كالحكم الشرعي –الذي هو مدلوله العلتين- فلا نسلم ذلك، وإلا لامتنع تعدد الأدلة بعين ما ذكرتم.

لا يقال: المعرف يوجب التعريف، فيعود المحذور.

لأنا نقول: التعريف معلول نوعي، وهو ما يحصل بعض جزئئياته بعلة، وبعضها بأخرى. قلت: وهذا الدليل يصعب الانفصال عنه على مختار المصنف؛ لأن الخصم إنما التزم المحال عند اجتماعهما، فيكون المعلول واحدا بالشخص، ومدلول الدليلين كلي، مع أن العلة عنده الباعثة، وهي العلية الفاعلية فيحصل شرع الحكم بها، فما يحصل بالأخرى إما مثله أو عينه.

نعم لو قلنا: العلة عند الاجتماع المجموع، اندفع السؤال ولم يلزم اجتماع المثلين، كما في العلل العقلية لو اجتمع النار والشعاع، وفي الترتيب.

أيضا: العلة هي الأولى، والثانية امتنع تأثيرها لعدم المحل.

الثالث: لو جاز تعليل الحكم بالنوع بعلتين، لما تعلق الأئمة في علل الربا بترجيح بعض علله –من القوت أو الطعم أو الكيل- على بعض.

أما الملازمة؛ فلأن من ضرورة تعليل الحكم الواحد بعلتين، صحة استقلال كل واحدة بالعلية المنافي للترجيح، المستلزم عدم اعتبار المرجح [المستلزم عدم استقلاله، وقررت بوجه آخر، أي من ضرورة الترجيح صحة استقلال كل واحدة بالعلية] إذ الترجيح بعد التعارض، ولا تعارض إلا

ص: 59

بين أمرين كل منهما في قوة الآخر أو قريب منه، فكان يجب –لو جاز التعدد- أن يقولوا به، ولا يتعلقوا بالترجيح لتعيين واحد ونفي ما سواه، والتقرير الثاني ظاهر المنتهى، وهو الذي يساعده [].

الجواب الثاني: لا نسلم أنهم تعلقوا بالترجيح، بل تعرضوا لتعيين ما يصلح علة مستقلة ونفي ذلك عن غيره بالإبطال.

سلمنا أنهم تعرضوا للترجيح، ولا نسلم أنهم إنما تعرضوا له لامتناع التعليل بعلتين، بل لانتفاء الإجماع على اتحاد العلة في الربا في الطعام، ولا يمكن اتحاد العلة يكون المجموع على، وإلا لزم جعل العلل المذكورة أجزاء وهو خلاف الإجماع، وهو رجوع إلى منع اللازمة.

قال: (القاضي: لا بعد في المنصوصة، وأما المستنبطة فتستلزم الجزئية لرفع التحكم، فإن عنيت بالنص، رجعت منصوصة.

وأجيب: بأنه ثبت الحكم في محال أفرادها، فتستنبط.

العاكس: المنصوصة قطعية والمستنبطة وهمية فقد تساوى الإمكان، وجوابه واضح.

الإمام وقال إنه النهاية القصوى وفلق الصبح: لو لم يكن ممتنعا شرعا لوقع عادة ولو نادرا، لأن إمكانه واضح، ولو وقع لعلم، ثم ادعى تعدد الأحكام فيما تقدم).

ص: 60

أقول: احتج القاضي –وهو المجوز في المنصوصة دون المستنبطة-:

بأنه لا بعد في أن ينص الشارع على أن كل واحد منها علة مستقلة لأنها أمارات ولا يمتنع نصب أمارتين على حكم واحد، بل قد وقع كما سبق.

وأما المستنبطة فلا/؛ لأن المستنبط من الحكم أوصافا يصح أن يكون كل منها علة للحكم، فإن عين بالنص علية كل منها رجعت العلة منصوصة والتقدير بخلافه، ولا يثبت الحكم بكل واحدة وإلا لكان مستغنيا بكل واحدة عن كل واحدة، ولا بواحدة معينة للزوم التحكم، فتعين أن يكون المجموع علة.

الجواب: إنما يلزم أن تكون كل واحدة جزء علة، لو لم يثبت الحكم بكل واحدة على انفرادها، أما إذا ثبت فلا؛ لأنه مستنبط أن كل واحدة علة، وإلا لما ثبت الحكم بها عند الانفراد، فيثبت ذلك عند الاجتماع، ولا تناقض لأنها علامات. قلت: وهذا الدليل في سند المستنبطة صحيح، ولكن لا يلزم من الامتناع تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين.

والحق: امتناعه وإن كان المصنف يختار خلافه، على أنه اضطرب قوله لأنه قال بعد هذا:(وألا تكون المستنبطة بمعارض في الأصل)، إلا أن يحمل قوله:"القائلون بالوقوع إذا اجتمعت" على المنصوصة.

احتج المانع في المنصوصة دون المستنبطة: بأن المنصوصة قطعية بتعيين

ص: 61

الشارع، فيمتنع اجتماعها كالعلل العقلية، وأما المستنبطة فعليتها وهمية أي ظنية لأن عليتها مرجوحة، فتكون كل منهما مساوية للأخرى في استناد الحكم إليها، لإمكان كون كل واحد علة دون الأخرى.

وجوابه واضح وهو: منع كون المنصوصة قطعية، ومنع كون المستنبطة وهمية.

واحتج الإمام: بأنه لو لم يكن ممتنعا شرعا لوقع ولو على سبيل الندور أما الملازمة؛ فلأن إمكانه عقلا واضح، ولو وقع لعلم عادة، ثم ادعى لتصحيح مذهبه تعدد الأحكام فيما تقدم.

قال: (القائلون بالوقوع إذا اجتمعت، فالمختار: كل واحدة علة.

وقيل: جزء.

وقيل: واحدة لا بعينها.

لنا: لو لم تكن لكانت جزءا، أو كانت العلة واحدة.

والأول باطل لثبوت الاستقلال، والثاني للتحكم.

وأيضا: لو امتنع لامتنع تعدد الأدلة، لأنها أدلة.

القائل بالجزء: لو كانت مستقلة لاجتمع المثلان، وقد تقدم.

وأيضا: لزم الحكم؛ لأنه إن ثبت بالجميع فهو المدعى، وإلا لزم التحكم.

وأجيب: بأنه يثبت بالجميع كالأدلة العقلية والسمعية.

القائل لا بعينها: لو لم تكن كذلك لزم التحكم أو الجزئية فيتعين).

ص: 62

أقول: القائلون بوقوع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين مختلفتين اختلفوا إذا اجتمعت في محل حتى يكون واحدا بالشخص، فقيل: كل واحدة علة، وقيل: المجموع علة، وقيل: العلة واحدة لا بعينها، ونعني إذا حصلت في /المحل دفعة، وإلا فالعلة هي الأولى.

واحتج المصنف على ذلك: بأنه لو لم تكن كل واحدة، لكان المجموع علة، أو كانت العلة واحدة لا بعينها، أما الملازمة فواضحة، وأما بطلان التالي، فلأنها لو كانت جزءا لم تكن مستقلة، وقد ثبت الاستقلال، [وأما الثاني؛ فلأنه –مع تساويها- تحكم محض.

وفيه نظر؛ إذ ثبوت الاستقلال] حالة الانفراد لا حالة الاجتماع، والتحكم إنما يلزم لو قلنا واحدة معينة.

الثاني. لو لم تكن كل واحدة علة عند الاجتماع، لامتنع اجتماع الأدلة على مدلول واحد؛ لأن العلل الشرعية أدلة، وقد علمت ما فيه.

احتج القائل بأن كل واحدة علة جزءا: بأنه لو كانت كل واحدة علة لزم اجتماع المثلين، ولو كانت واحدة لزم التحكم، وقد مر تقريره وجوابه وقد عرفت ما فيه.

وأيضا: لو لم يكن الجميع علة لزم التحكم؛ لأن الحكم إن ثبت بالمجموع فهو المدعى، وإن ثبت بواحدة لزم التحكم.

الجواب: أنه يثبت بواحدة لا بعينها، ولا تحكم.

ص: 63

وأيضا: جواب المصنف وهو: أنه يثبت بالجميع، أي بكل واحدة كما يثبت المدلول بالأدلة السمعية والعقلية، وفيه ما سبق.

احتج القائل بأن العلة واحدة لا يعينها: بأنه لو لم تكن كذلك لزم الجزئية، وإلا كان المجموع علة، وهو باطل لثبوت الاستقلال، أو التحكم إن كانت العلة واحدة معينة.

الجواب: منع الملازمة، لجواز ثبوته بالجميع، وأنت تعلم مما سبق القوي من هذه الشبه والضعيف.

قال: (والمختار: جواز تعليل حكمين بعلة بمعنى الباعث، وأما الأمارة فاتفاق.

لنا: لا بعد في مناسبة وصف واحد لحكمين مختلفين.

قالوا: يلزم تحصيل الحاصل؛ لأن أحدهما حصلها.

وأجيب: بأنه إما أن تحصل الأخرى، أو لا تحصل إلا بهما).

أقول: لما فرغ من تعليل الحكم الواحد بعلتين، شرع في تعليل حكمين بعلة واحدة. واعلم أن العلة إن كانت منصوصة لم يختلفوا في جواز تعليل حكمين بها إذ لا امتناع في نصب علامة واحدة على حكمين مختلفين، كجعل طلوع الفجر علامة على وجوب الصوم والصلاة وهو المعنى بقوله:(وأما الأمارة فاتفاق).

/أما العلة بمعنى الباعث، فالمختار جوازه، إذ لا بعد في مناسبة وصف

ص: 64

واحد لحكمين مختلفين غير متضادين، كالسرقة للقطع زجرا لغيره، وله من العود والتغريم جبرا لصاحب المال، وكالزنا المثبت للجلد وللتغريب المحصل للزجر التام.

وشرط قوم اتحاد حكمهما، وهو الشرط العاشر.

واحتجوا عليه: بأنه لو جاز لزم تحصيل الحاصل؛ لأن معنى مناسبته للحكم: حصول مصلحة عند الحكم، والحكم الواحد قد حصل المصلحة المقصود منه، فلو أثبت حكما آخر لحصل المصلحة المقصودة.

أيضا: وأنه تحصيل الحاصل.

الجواب: المنع، لجواز أن يحصل الحكم الآخر مصلحة أخرى كالسرقة أو أن المصلحة المقصودة لا تحصل إلا بهما كما في الزنا.

قال: (ومنها: أن لا تتأخر عن حكم الأصل.

لنا: لو تأخر لثبت الحكم بغير باعث، وإن قدرت أمارة فتعريف المعرف.

ومنها: أن لا تعود على الأصل بالإبطال، وألا تكون المستنبطة بمعارض في الأصل.

وقيل: ولا في الفرع.

وقيل: مع ترجيح المعارض، وألا تخالف نصا أو إجماعا، وألا تتضمن المستنبطة زيادة على النص.

وقيل: إن نافت مقتضاه، وأن يكون دليلها شرعيا، وألا يكون دليلها متناولا حكم الفرع بعمومه أو بخصوصه، مثل: "لا تبيعوا الطعام

ص: 65

بالطعام"، أو: "من قاء أو رعف".

لنا: تطويل بغير فائدة، ورجوع.

قالوا: مناقشة جدلية).

أقول: الحادي عشر: ألا يكون ثبوتها متأخرا عن ثبوت حكم الأصل، كعليل إثبات الولاية للأب على الصغير بالجنون، فإن الولاية ثابتة قبل الجنون، ولا يعارض هذا بكون المستنبطة فرع حكم الأصل، إذ لا تأخر بالزمان.

لنا: لو تأخرت العلة –بمعنى الباعث- عن الحكم، لثبت الحكم بغير باعث وكذا في الأمارة، إذ لا فائدة فيها إلا تعريف الحكم، وقد عرف، فيكون تعريفا للمعرف؛ لأن حكم الأصل عرف بالنص.

وقد يقال: تعريف حكم الفرع مع أن تعاقب الأمارات لا يمتنع، وتعريف المتأخر المتقدم كذلك، كالعالم للصانع.

الثاني عشر: ألا تعود على الأصل بالإبطال؛ لأن كل علة استنبطت من حكم فأبطلته فهي باطلة لأنها فرعه، وبطلان الأصل يستلزم بطلان الفرع، كما مر في تأويلات الحنفية.

الثالث عشر: ألا تكون المستنبطة لها معارض في الأصل، لا وجود له في الفرع، قال الآمدي في منتهى السول: إلا على مذهب من جوز تعليل

ص: 66

الحكم الواحد بعلتين، وهذا مناسب لم يأتي له في المعارضة، ومخالف لظاهر قوله:(فالمختار: كل واحدة علة)؛ لأن احتمال الجزئية على مختاره مدفوع لأنه يستنبط/ استقلالها من محل انفرادها، إلا أن يتأول ذاك على المنصوصة، وذا على المستنبطة.

وقيل: ولا بمعارض في الفرع، فإن ثبت فيه علة أخرى توجب خلاف ذلك الحكم –بالقياس على أصل آخر- فإن الوصف المعارض أبطل اعتبارها، ويأتي له في المعارضة في الفرع ما يقتضي صحة هذا الشرط.

وقيل: بل الشرط ألا يكون معارض في الأصل راجحا، أو معارض في الفرع، راجحا، أما لو لم يكن راجحا لم يبطل، وإنما يحوج إلى الترجيح وهو دليل الصحة.

وفيه نظر؛ لأن المعارض المساوي يمنع العلة.

وبعضهم جعل قوله: (وقيل: مع ترجيح المعارض) راجعا إلى الآخر.

وبعضهم جعل قوله (ولا في الفرع) بعض الشرط، أي لا يكون المعارض في الأصل ولا في الفرع.

الرابع عشر: ألا تخالف نصا ولا إجماعا، كما لو قيل:"الملك يصوم في الكفارة زجرا له، ولا يعتق لسهولته عليه"، وعليك ملاحظة ما سبق في معارضة القياس الخبر، وفي تخصيص العموم بالقياس.

الخامس عشر: ألا تتضمن المستنبطة زيادة على النص –أي حكما في

ص: 67

الأصل –غير ما أثبته النص؛ لأنها إنما تعلم بما أثبته النص، كما لو قال:"لا تبيعوا الطعام بالطعام، إلا سواء بسواء"، فيعلل الحرمة بالوزن حتى يحرم في النقدين، مع أن النص لم يدل عليه.

وقيل: إن كانت الزيادة منافية لحكم الأصل؛ بحيث تكر على الأصل بالبطلان، وإلا جاز.

قيل: المراد أن النص إنما دل على علية وصف، والاستنباط زاد قيدا على ذلك الوصف لم يجز التعليل به.

السادس عشر: أن يكون دليل العلة شرعا، إذ لو كان عقليا أو لغويا لم يكن حكم الأصل شرعا.

السابع عشر: ألا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع، لا بعمومه ولا بخصوصه.

والأول: كما لو قاس الذرة على البر في الربوية وعلل بالطعم، فمنع.

فاحتج بقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا ساء بسواء"

وترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته، فالنص يتناول الذرة بعمومه.

ص: 68

والثاني: كما لو قال في القيء: "خارج نجس، فينتقض الوضوء قياسا على البول"، فمنع أنه خارج نجس.

فاحتج بقوله عليه السلام: "من قاء فليتوضأ" فإن النص خاص بالقيء.

لنا: أنه طويل بغير فائدة، ورجوع عن القياس إلى النص؛ لأن إثبات حكم الفرع بالقياس يتوقف على إثبات العلة بالدليل العام أم الخاص، والدليل بعينه يدل على حكم الفرع من غير توسط، والقياس يدل على حكم الفرع بتوسط، فإثباته تطويل بلا فائدة.

وأيضا: الحكم/ إنما ثبت بذلك الدليل لا بالعلة، فيكون رجوعا عن القياس إلى النص.

قالوا: مناقشة جدلية، إذ المقصود الظن بأي طريق حصل، فلا معنى لتعيين الطريق.

قلنا: رجوع عن القياس.

واعلم أنه ربما كان النص مخصصا، والمستدل أو المعترض لا يراه حجة إلا في أقل الجمع، فإذا كان العام الدال على حكم الفرع مخصصا، لم يمكنه التمسك بالعام في إثبات الحكم، ويمكنه التمسك به في إثبات العلة، ثم يعمم الحكم في جميع مواردها، فلا يكون عريا عن الفائدة.

ص: 69

قال: (والمختار: جواز كونه حكما شرعيا، إن كان باعثا على حكم الأصل، لتحصيل مصلحة، لا لدفع مفسدة، كالنجاسة في علة بطلان البيع).

أقول: اختلفوا في تعليل الحكم الشرعي، فقيل: جائز مطلقا؛ إذ أحد الحكمين قد يكون دائرا مع الآخر، كجواز البيع لصحة الرهن، وسيأتي أن الدوران لا يفيد العلية.

وقيل: بالمنع مطلقا –وهو الثامن عشر- محتجا بأن الحكم المجعول علة إن تقدم لزم النقض، وإن تأخر لم يجز لما مر، وإن قارن فتحكم، إذ ليس جعل هذا علة بأولى من العكس.

الجواب: منع التحكم لجواز أن يكون أحدهما مناسبا للحكم الآخر من غير عكس.

والمختار: إن كانت العلة باعثة على حكم الأصل لتحصيل مصلحة يقتضيها حكم الأصل جاز، كما يقال في بطلان بيع الخمر:"علته النجاسة –والنجاسة حكم شرعي- ليحصل التنزه عن القاذورات"، أما إن كان لدفع مفسدة يقتضيها حكم الأصل فلا يجوز؛ لأن الحكم الشرعي لا يكون منشأ مفسدة مطلوبة الدفع –وإلا لم يشرع ابتداء، وهذا إنما يصح لو لم يشتمل

ص: 70

على مصلحة راجحة وعلى مفسدة تدفع الحكم الآخر لتبقى المصلحة خالصة.

مثاله: شرع حد الزنا لحفظ النسب، والرجم أو الجلد مع التغريب فيه شدة لو لم يبالغ في الشهادة عليه؛ لأدى إلى كثرة وقوع الحد، وفيه من المفسدة ما لا يخفى، فشرع المبالغة فيه دفعا لتلك المفسدة، وتمام الكلام عليها في الإحكام.

قال: (والمختار: جواز تعدد الوصف ووقوعه، كالقتل العمد العدوان.

لنا: أن الوجه الذي ثبت به الواحد يثبت به المتعدد من نص، أو مناسبة، أو شبه، أو سبر، أو استنباط.

قالوا: لو صح تركبها لكانت العلة صفة زائدة؛ لأنا نعقل المجموع ونجهل كونه علة، والمجهول غير المعلوم، وتقرير الثانية: أنها إن قامت بكل جزء فكل جزء علة، وإن قامت بجزء فهو لعلة.

وأجيب: بجريانه في المتعدد، بأنه خير واستخبار.

والتحقيق: أن معنى العلية، ما قضى الشارع بالحكم عنده للحكمة لا أنها صفة زائدة/.

ولو سلم: فليست وجودية، لاستحالة قيام المعنى بالمعنى.

قالوا: ويلزم أن يكون عدم كل جزء علة، لعدم صفة العلية لانتفائها بعدمه، ويلزم نقضها لعدم ثان بعدم أول، لاستحالة تجدد عدم العدم.

وأجيب: بأن عدم الجزء الأول عدم شرط العلية.

ص: 71

ولو سلم: فهو كالبول بعد اللمس، وعكسه ووجهه أنها علامات فلا بعد في اجتماعها ضربة ومترتبة، فيجب ذلك).

أقول: التاسع عشر: اتحاد الوصف، كالإسكار في تحريم الخمر.

والمختار: جواز تعدد الوصف ووقوعه، كالقتل العمد لعدوان في القصاص.

لنا: أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من أوصاف متعددة مما يقوم الدليل على التعليل بها، لكون المناسب هو المجموع، كما يظن في الواحد إذا ما ثبت به علة الواحد تثبت به علة المتعدد والفرق تحكم، ولا معنى لقوله:(أو استنباط).

قالوا: لو صح تركب العلة لكانت العلية صفة زائدة، أما الملازمة؛ فلأنا نعقل المجموع ونجهل كونه علة حتى تنظر، والمجهول غير المعلوم.

وأما بطلان التالي؛ فلأن صفة العلية إن لم تقم بشيء من الأجزاء فليست صفة له، وإن قامت فإما بكل جزء، فكل جزء علة والمفروض خلافه، وإما الجزء فهو العلة ولا مدخل لسائر الأجزاء.

فإن قيل: يقوم بالمجموع من حيث هو مجموع.

قيل: الهيئة الاجتماعية –أيضا- صفة لمجموع الأجزاء فتقوم بمحل، وينقل الكلام إليه ويسلسل.

ص: 72

والحق: أنه تسلسل في الاعتبارات، وليس بمحال.

أجاب المصنف: بأن ما ذكرتم منقوص بالحكم على المتعدد من ألفاظ بأنه خبر أو استخبار، ولما كان هذا نقضا إجماليا، أشار إلى التحقيق، وهو يرجع إلى منع الملازمة، وأن معنى كون مجموع الأوصاف علة: هو أن الشارع قضى بثبوت الحكم عندها، رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة، وليس ذلك صفة لها فضلا عن كونها صفة زائدة، بل جعله الشارع متعلقا به.

ولو سلم كونها صفة زائدة، فإنما يلزم ذلك لو لم تكن العلية اعتبارية إضافية، إذ ليست وجودية وإلا لكانت معنى، والوصف المعلل به معنى، فيلزم قيام المعنى بالمعنى، فلو لم يصح بالمتعدد للزم ذلك المحال، ولم يصح بالواحد للزوم محال آخر ملازم له.

قالوا: لو كانت العلة أوصافا متعددة لكان عدم كل جزء علة، لانتفاء صفة العلية، أما الملازمة؛ فلأن تحققها موقوف على تحقق جميع الأوصاف فيلزم انتفاؤها لانتفاء كل جزء، وأما بطلان التالي؛ فلأنه إذا ثبت عدمها لعدم وصف، ثم عدم وصف /آخر لزم تخلف معلوله، وهو انتفاء العلية عند انتفائه، لأن تجدد عدم على ما قد عدم لا يتصور.

الجواب: لا يلزم من انتقائها لعدم وصف أن يكون الوصف علة لانتفاء مقتضية له بالاستقلال، إذ وجود كل جزء شرط للعلية، فعدم جزء يكون عدم شرط العلية، وعدم شرط العلية هو شرط عدم العلية لا علة لعدمها، ليلزم النقض في العلل العقلية.

ص: 73

والظاهر أن عدمه علة، فالأولى أن يقال: إن أردت بقولك عدم كل جزء علة لعدمها على سبيل البدل فمسلم، ونمنع بطلان التالي، وإن أردت أن عدم كل جزء علة على الاجتماع فممنوع.

ثم قال: ولو سلم أن عدم كل جزء علة لعدمها، فهو كالبول بعدم اللمس، فكما لا يلزم هناك تخلف فكذلك هنا، إذ الانتفارات ليست عللا عقلية ليلزم ما ذكرتم، وإنما هي أمارات وضعية، ولا بعد في اجتماع عدة من الأمارات، مرتبة تارة وغير مرتبة أخرى، حتى يجب بذلك النقض.

قال: (ولا يشترط القمع بالأصل، ولا انتفاء مخالفة مذهب الصحابي، ولا القطع بها في الفرع على المختار في الثلاثة، ولا نفي المعارض في الأصل والفرع، وإذا كانت وجود مانع أو انتفاء شرط، لم يلزم وجود المقتضي.

لنا: أنه إذا انتفى الحكم مع المقتضي كان مع عدمه أجدر.

قالوا: إن لم يكن بانتفاء الحكم لانتفى به.

قلنا: أدلة متعددة).

أقول: هذه شروط اختلف فيها، فمنها: القطع بالعلة في الأصل.

والمختار: الاكتفاء بالظن، هكذا قال بعض الشارحين، وقال الآمدي: اشترط قوم أن تكون متفرغة من أصل مقطوع بحكمه، وليس كذلك لجواز القياس على أصل مظنون.

ص: 74

قلت: وهذا مراد المصنف.

ومنها: انتفاء مخالفتها لمذهب صحابي.

والحق: جوازه، إذ قد يكون مذهبه لعلة مستنبطة من أصل آخر.

ومنها: القطع بوجود العلة في الفرع.

والمختار: يكفي الطن، وإنما اشترطت هذه الأمور نظرا إلى أن الظن يضعف بكثرة المقدمات.

وقوله: (ولا نفي المعارض في الأصل والفرع) يصح أن يكون مجرورا عطفا على قوله: (بالأصل)، أي لا يشترط القطع بالأصل ولا بنفي المعارض في الأصل ولا في الفرع، بل يكفي ظن نفي المعارض في الأصل وفي الفرع، ويصح أن يكون مرفوعا، أي لا يشترط نفي المعارض في الأصل والفرع معا، ولا يخالف ما تقدم؛ لأنه نفي لاشتراط المجموع، بخلاف ما سبق، مع أن ذلك في المستنبطة/ وهذا عام فيهما.

أما لو علل حكم عدمي بوجود مانع أو انتفاء شرط، كما لو قيل:"عدم شرط صحة البيع هو الرؤية"، أو وجد المانع وهو الجهل بالمبيع فلا يصح، فهل يشترط مع ذلك وجود المقتضي مثل بيع في أهله في محله مثلا؟

المختار: لا يشترط.

لنا: لو انتفى الحكم مع وجود ما يقتضيه لوجود مانع أو انتفاء شرط، كان انتفاؤه لعدم المقتضي أجدر.

ص: 75

قالوا: إذا لم يكن المقتضي، فانتفاء الحكم إنما هو لعدم المقتضي لا لوجود المانع؛ لأن الأحكام شرعت للمصالح، فما لا فائدة فيه لا يشرع، فانتفاؤه يكون لانتفاء فائدته.

الجواب: لا يلزم من استناده إلى عدم المقتضي ألا يستند إلى وجود المانع أو عدم الشرط؛ لأنها أدلة متعددة.

قال: (مسألة: قالت الشافعية: حكم الأصل ثابت بالعلة، والمعنى أنها الباعثة على حكم الأصل.

والحنفية: بالنص، والمعنى أن النص عرف الحكم، فلا خلاف في المعنى).

أقول: اختلفوا في حكم الأصل المنصوص عليه.

فقالت الحنفية: إنه ثابت بالنص.

وقالت الشافعية: إنه ثابت بالعلة.

والخلاف لفظي؛ لأن مراد الشافعية أنها الباعثة على حكم الأصل، وأنها التي لأجلها شرع، والحنفية لا ينكرونه.

ومراد الحنفية أن النص هو المعرف للحكم، والشافعية لا ينكرونه.

قال: (من شروط الفرع: أن يساوي في العلة علة الأصل فيما يقصد من عين أو جنس، كالشدة في النبيذ، وكالجناية في قصاص الأطراف على

ص: 76

النفس.

وأن يساوي حكمه حكم الأصل فيما يقصد عين أو جنس، كالقصاص في النفس في المثقل على المحدد، كالولاية في النكاح في الصغيرة على المولى عليها في المال، وأن لا يكون منصوصا عله، ولا متقدما على حكم الأصل، كقياس الوضوء على التيمم في النية، لما يلزم من حكم الفرع قبل ثبوت العلة لتأخر الأصل، نعم يكن إلزاما.

وقيل: وأن يكون الفرع ثابتا بالنص في الجملة لا التفصيل.

ورد: بأنهم قاسوا "أنت على حرام" على الطلاق، واليمين، والظهار).

أقول: لما فرغ من شروط العلة، شرح في شروط الفرع، وهي خمسة:

الأول: أن يكون الفرع مساويا في العلة لعلة الأصل فيما تقصد المساواة فيه من عين أو جنس العلة، الأول: كقياس النبيذ على الخمر بجامع الشدة المطربة، وهي بعينها موجودة في النبيذ، ونعنى نوعها لا شخصها.

وأما الثاني: فقياس الأطراف على القتل في القصاص، بجامع الجناية المشتركة، فإن الجناية جنس لإتلاف النفس والأطراف، وهو الذي قصد الاتحاد فيه، فيكفي تحقق ذلك ولا يجب كون الجناية في القتل هي الجناية في الطراف، إذ المقصود تعدية حكم الأصل إلى الفرع للاشتراك في العلة،

ص: 77

وأحد الأمرين يحققه.

وأما إذا لم تكن علة الأصل في الفرع مشاركة لها في صفة خصوصا ولا في صفة عمومها، لم يتعد حكم الأصل إلى الفرع.

الشرط الثاني: أن يساوى حكمه حكم الأصل فيما تقصد المساواة فيه من عين الحكم أو جنسه، الأول: كقياس القصاص في النفس في القتل بالمثقل على القصاص في القتل بالمحدد، فالحكم في الأصل هو الحكم في الفرع بعينه، وهو القتل.

الثاني: إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها على إثبات الولاية عليها في مالها، فإن ولاية النكاح من جنس ولاية المال وليست عينها، وإنما اشترط ذل ليصح القياس، وإلا لم يصح لأن شرع الأحكام لم يكن مطلوبا لذاته، بل لما يقضي إليه من المقاصد، فإذا استويا فيما يقصد ثبت الحكم.

الشرط الثالث: ألا يكون الفرع منصوصا عليه، لا إثباتا وإلا لضاع القياس، ولا نفيا وإلا لم يجز القياس.

الرابع: ألا يكون حكم الفرع متقدما على حكم الأصل، مثال: الوضوء شرط لصلاة فتجب في النية قياسا على التيمم، وشرعية التيمم متأخرة عن شرعية الوضوء، وذلك لأنه يلزم أن يثبت حكم الفرع قبل ثبوت العلة، لتأخر الأصل مع كون العلة فرعه.

نعم، لو ذكر ذلك إلزاما للخصم لصح، وأما أن تكون معرفة ثبوت الحكم مأخوذة منه فلا.

ص: 78

الخامس: أثبته أبو هاشم، وهو أن يكون الفرع ثابتا بالنص في الجملة دون التفصيل، فيجري القياس في تفاصيل الجملة، مثاله: ثبوت الحد في الخمر بلا تعيين عدد الجلدات، فتعين بالقياس على القذف، وهو مردود بأن العلماء قاسوا "أنت حرام" تارة على الطلاق فتحرم وتارة على الظهار فتجب الكفارة وتارة على اليمين بالله، ولا نص جملة بل هي واقعة متجددة.

قال: (مسالك العلة، الأول: الإجماع).

أقول: لما فرغ من الباب الأول شرع في الباب الثاني في طرق العلة، إذ كون الوصف الجامع علة حكم خبري غير ضروري فلابد في إثباته من دليل.

المسلك الأول: الإجماع على كون الوصف علة، ويتصور الخلاف في مثله بأنه يكون الإجماع ظنيا كالثابت بالآحاد والسكوتي، أو يكون ثبوت الوصف في الأصل والفرع ظنيا، أو يدعي/ الخصم معارضا في الفرع.

مثاله: الصغر في ولاية المال علة بالإجماع، ثم يقاس عليه النكاح.

قال: (الثاني: النص، وهو مراتب:

الأول: صريح مثل: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل، أو من أجل، أو كي، أو إذا، ومثل: لكذا وبكذا، وإن كان كذا، ومثل:"فإنهم يحشرون"، {فاقطعوا أيديهما} ، ومثل قول الراوي:"سها فسجد"، "وزنا ماعز فرجم" سواء الفقيه وغيره لأنه لو لم يفهمه لم يقله).

ص: 79

أقول: المسلك الثاني: النص وهو صريح، وغير صريح.

فالصريح: ما دل بوضعه على العلية من غير احتياج إلى نظر واستدلال، وهو إما لا يحتمل غير العلة، أو يحتمل احتمالا مرجوحا.

الأول: ما هو نص في العلية: "لعلة كذا"، أو "لسبب كذا"، أو "لأجل"، كقوله عليه السلام:"كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة"، أو "من أجل" كقوله تعالى:{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} ، وكذا ما ذكر فيه حرف من حروف التعليل التي لا تستعمل في غيره نحو {كي لا يكون دولة بين الأغنياء} ، و "إذا" نحو:{إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} .

الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل إلا أنه قد يقصد به غيره ك "اللام"، و"الباء"، و"أن المخففة" نحو:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، ونحو:{جزاء بما كانوا يعملون} ، ونحو: {أن

ص: 80

كان ذا مال وبنين}، وهذه الثلاثة دون الخمسة الأولى لأنها قد تجئ لغير العلية، فتجئ اللام للعاقبة، والباء للمصاحبة، وأن للتفسير، ولهذا فصلها المؤلف عما قبلها فقال:(ومثل)، لكنها ظاهرة في التعليل حتى يدل الدليل على خلافه. ومن هذه القسم وهو اضعف مما قبله، ما دخل فيه الباء في لفظ الشارع إما في الوصف مثل:"زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون"، وإما في الحكم نحو:{فاقطعوا أيديهما} ، والحكمة فيه أن الفاء للترتيب، والباعث مقدم في العقل متأخر في الخارج، فيجوز ملاحظة الأمرين، دخول الفاء على كل منهما، وهذا عند الآمدي من قبيل الإيماء، لأن دلالة الفاء على الترتيب والعلية استدلالية. ومنها: ما دخل فيه الفاء لكن لا في لفظ الشارع، بل في لفظ الراوي، مثل:"زنى ماعز فرجم"، و"سهى فسجد"،

ص: 81

وهذا سواء الفقيه فيه وغيره؛ لأنه لو لم يفهم كون الوصف المرتب عليه علة لم يقله، لما فيه من التلبيس، وهذا دون ما قبله لاحتمال الغلط، إلا أنه لا ينفي الظهور.

قال: (وتنبيه وإيماء، وهو الاقتران بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل كان بعيدا، مثل:"واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أعتق رقبة"، كأنه قال: إذا واقعت فكفر، فإن حذف بعض الأوصاف فتنقيح.

ومثل: "أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذا").

/أقول: القسم الثاني من النص ما دل على العلية لا بالوضع بل بالإيماء، وهو اقتران الوصف بحكم، لو لم يكن الوصف أو نظيره لتعليل الحكم كان بعيدا من الشارع الإتيان بمثله لخلوه عن الفائدة، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد.

مثال كون العين للتعليل، ما في الصحيح أن أعرابيا جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت واقعت أهلي في رمضان فقال عليه السلام: "أعتق رقبة"، ثبت بهذا اللفظ عند ابن ماجة.

ولفظه في الصحيح: "هل تجد ما تعتق؟ "، فإنه يدل على أن الوقاع

ص: 82

علة للإعتاق، إذا غرض الأعرابي بقوله "واقعت" علم حكمها، وذكر الحكم جوابا ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخر البيان عن وقت الحاجة، فيكون السؤال مقدارا في الجواب، كأنه قال: واقعت فكفر.

وقد عرفت أن ذلك للتعليل بكذا، هذا ولكنه دونه في الظهور؛ لأن الفاء مقدرة، وثم محققة، ويحتمل –أيضا- عدم قصد الجواب، فإن حذف بعض الأوصاف المقترنة بالحكم –ككونه أعرابيا مثلا- سمي الإيماء تنقيح المناط، أي تنقيح ما ناط الشارع به الحكم، والمناط هو العلة.

مثال آخر لكون العين للتعليل ما أخرجه أو داود أنه عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: "أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم، قال:"فلا إذا"[ينيط] أن النقصان علة في منع البيع، وإن فهم منه

ص: 83

أن النقصان علة في منع البيع لترتيب الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بإذا، وهما للتعليل بالوضع، لكن لو قدر انتفاؤهما بأن يقال مثلا في الجواب: لا، لنفي فهم التعليل بحاله، وإلا لم يكن لذكره والاستفسار عنه فائدة، ولعل هذا المثال لهذا الغرض.

قال: (ومثل النظير: لما سألته الخثعمية إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج، أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال:"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ فقال: نعم" فنظيره في السؤال كذلك، وفيه تنبيه على الفرع والأصل والعلة.

وقيل: إن قوله لما سأله عمر عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك مفسدا؟ فقال: لا" من ذلك.

وقيل: إن ذلك نقض لما توهمه عمر من إفساد مقدمة الإفساد، لا تعليل لمنع الإفساد، إذ ليس فيه ما يتخيل مانعا، بل غايته ألا يفسد).

أقول: مثال ما يكون ذكر النظير للتعليل، ما خرجه ابن ماجه: أن امرأة من حثعم أتت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا/ كبيرا لا يستطيع أن يركب أفأحج عنه؟ قال: "نعم، فإنه لو كان على أبيك دين فقضيته"، ولا يوجد هذا اللفظ الذي ذكر المصنف.

ص: 84

فالخثعمية سألته عن الحج، فذكر دين الآدمي، وهو نظير المسئول عنه من حيث إن الحج دين، فذكره عليه السلام لنظير المسئول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل وإلا كان ذكره عبثا، ولزم من كون النظير علة للحكم المرتب عليه، أن يكون المسئول عنه أيضا علة لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة وهذا النوع من الإيماء يسمى تنبيها على أصل القياس.

وفيه –كما ترى- التنبيه على أصل القياس، وعلى علة الحكم فيه، وعلى صحة إلحاق الفرع بهما، فالأصل: دين الآدمي، والفرع: الحج، والعلة: القضاء عن الميت، والحكم: كون أداء الغير يجزئ، وذكر الإمام فخر الدين وجماعة من الأصوليين أن حديث عمر من هذا القسم.

وروي الثاني: أن عمر قال: يا رسول الله! قبلت وأنا صائم، فقال عليه السلام:"أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فمه"، نبه عدم ترتب الفساد على المقدمة علة لعدم إعطائها حكم ما هي مقدمة له، ليثبت مثله في المسئول عنه، وهو القبلة.

ص: 85

ورده الآمدي: بأنه إنما يكون من قبيل النظير لو أدى حمله علة غير التعليل إلى مستبعد، وليس كذلك، إذ الأقرب حمله على أنه نقض لما توهمه عمر من أمن مقدمة المفسد مفسدة، فنقبض عليه النبي عليه السلام بالمضمضة ولا يكون تعليلا لمنع الإفساد، إذ ليس في المضمضة ما يصلح علة لعدم الفساد، وإنما يصلح لذلك ما يكون مناسبا لعدم الفساد، وكونه مقدمة للإفساد لم تفض إليه لا يصلح لذلك، غايته عدم ما يوجب الفساد، ولا يلزم وجود ما يوجب الفساد، فوجوده كعدمه.

قال: (ومثل: أن يفرق بين حكمين بصفة من ذكرهما، مثل:"للراجل سهم، وللفارس سهمان".

أو مع ذكر أحدهما، مثل:"القاتل لا يرث"، أو لغاية، أو استثناء مثل:{حتى يطهرن} ، و {إلا أن يعفون} ، ومثل ذكر وصف مناسب، مثل:"لا يقضي القاضي وهو غضبان".

أقول: ومن مراتب الإيماء أن يفرق بين حكمين بوصفين، مثاله: ما روى أبو داود "أنه عليه السلام أعطى الفارس سهمين، والراجل سهما".

ص: 86

أو مع ذكر أحدهما، مثل:"القاتل لا يرث"، فإنه لم يتعرض لغير القاتل وإرثه؛ لأن التفرقة بين حكمين بصفة، تدل على كون تلك الصفة علة للتفرقة، وإلا لم يكن لذكرها فائدة.

وكذا التفريق بالغاية مثل: {حتى يطهرن} ، وبالاستثناء مثل:{إلا أن يعفون} ، يدل على أن الحيض/ علة حرمة المباشرة والطهر علة إباحتها، وعدم العفو مثبت للتشطير والعفو لا يثبته.

ومن مراتب الإيماء: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا للحكم، مثاله: ما في الصحيح: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان"، فإن فيه التنبيه على أن الغضب علة عدم جواز الحكم لأنه مظنة التشويش، وذلك لما ألفنا من اعتبار الشارع للمناسبات، فيغلب على الظن من المقارنة مع المناسبة قصد الاعتبار، مع أنه لو لم يكن للتعليل كان التقييد به بعيدا.

قال: (فإن ذكر الوصف صريحا، والحكم مستنبطة، مثل:{وأحل الله البيع} ، فثالثها: الأول إيماء لا الثاني.

فالأول: على أن الإيماء اقتران الوصف بالحكم وإن قدر أحدها.

ص: 87

والثاني: على أنه لابد من ذكرهما.

والثالث: على أن ذكر المستلزم له كذكره، والحل يستلزم الصحة.

وفي اشتراط المناسبة في صحة علل الإيماء.

ثالثها المختار: إن كان التعليل فهم من المناسبة اشترطت).

أقول: إذا ذكر كل من الحكم والوصف فهم إيماء اتفاقا، أما لو ذكر أحدهما فقط، مثل أن يذكر الوصف والحكم مستنبط نحو:{وأحل الله البيع} فإن البيع وصف له قد ذكر فعلم منه حكمه وهو الصحة.

أم يذكر الحكم والوصف مستنبط –كسائر العلل المستنبطة- نحو: "حرمت الخمر"، فقد اختلفوا في أنه إيماء – فيقدم عند التعارض على المستنبطة

بلا إيماء –على ثلاثة مذاهب.

الأول: كلاهما إيماء.

الثاني: مقابلة.

الثالث وهو أصحها: أن ذكر الوصف إيماء دون العكس.

والنزاع لفظي مبني على تفسير الإيماء.

فالأول: على أن الإيماء اقتران بالحكم، سواء كانا مذكورين أو أحدهما مذكورا والآخر مقدرا.

والثاني: على أنه لابد من ذكرها، إذ به يتحقق الاقتران.

والثالث: مبني على أن إثبات المستلزم للشيء يقتضي إثبات ذلك

ص: 88

الشيء، والعلة كالمحل تستلزم المعلول كالصحة، فيكون بمثابة المذكور فيتحقق الاقتران واللازم لا يكون إثباته إثباتا لملزومه، فهو بخلاف ذلك.

ثم اعلم أن الأصوليين اختلفوا في اشتراط مناسبة الوصف المومأ إليه في صحة التعليل.

فنفاه الغزالي، إذ المناسبة طريق مستقل والإيماء كذلك، فلا يتوقف أحدهما على الآخر.

وأثبته قوم، إذ الغالب من تصرفات الشرع أن تكون على وفق الحكمة، فما لا مناسبة فيه ولا يوهم المناسبة يمتنع التعليل به.

والمختار التفصيل: وهو أن التعليل إن كان فهم من المناسبة كم في: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، اشترط في الوصف المومأ إليه مناسبته؛ لأن التعليل إنما فهو/ من المناسبة، فعدم المناسبة فيما فهمت فيه المناسبة تناقض، هكذا قال الآمدي.

وفيه نظر، وما سواه يفهم التعليل من غيرها وهو الاقتران.

قيل: وهذا إنما يصح إذا أريد بالمناسبة ظهورها، وأما نفس المناسبة فلابد منها في العلة الباعثة.

ص: 89

وقد يجاب عنه: بأن علل الإيماء منصوصة، والشرط كونها بمعنى الباعثة عند المصنف هي المستنبطة.

قال: (السبر والتقسيم وهو: حصر الأوصاف في الأصل، وإبطال بعضها بدليله فيتعين، ويكفي: بحثت فلم أجد.

والأصل عدم [باستوائها].

فإن بين المعترض وصفا آخر لزم إبطاله لا انقطاعه، والمجتهد يرجع إلى ظنه، ومتى كان الحصر والإبطال قطعا فقطعي، وإلا فظني).

أقول: المسلك الثالث من مسالك العلة: السبر والتقسيم، وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل وإبطال بعضها، وهو ما سوى الذي يدعى أنه علة، واحدا كان أو أكثر، فيتعين الباقي للعلية، وهذا المسلك يسمى بكل من الجزأين، ويسمى بهما معا.

وظن بعضهم أن السبر هو إبطال بعض الأوصاف، والتقسيم حصر الأوصاف في الأصل، وليس كذلك.

ثم علم أن المثبت لعلية الوصف بالسبر إن كان مناظرا، كفاه في بيان حصر الأوصاف في الأصل أن يقول: الحكم الثابت فيه لابد له من علة وليس إلا ما ذكرت، لأني بحثت البحث التام فلم أجد إلا ما ذكرته، ويصدق

ص: 90

لعدالته ومعرفته؛ لأن الأوصاف الشرعية والعقلية لو كانت لم تخف عنه.

أو يقول: الأصل عدم ما سواها من الأوصاف إلا أن يدل عليه دليل، والأصل عدمه.

وعلى التقديرين: يغلب على الظن انحصار أوصاف الأصل فيما ذكر، فلو بين المعترض بعد الحصر –على التقديرين- وصفا آخر، لزم المستدل إبطاله حتى يتم الاستدلال؛ إذ لا يتم الحصر بدونه، ولا يلزم انقطاعه، إذ غايته منع مقدمة من مقدمات دليله، فيلزمه الدلالة عليها فقط.

وقيل: ينقطع؛ لأنه ادعى حصرا ظهر بطلانه.

والحق: أنه إن أبطله سلم حصره، مع أنه قد يقول: علمت أنه لا يصلح فلذلك لم أدخله في الحصر.

وأيضا: لم يدع الحصر قطعا، وفي بعض النسخ: لزم إبطاله لانقطاعه، أي لانقطاع المعترض، أو لانقطاع المستدل إن لم يبطله.

أما النسخ التي فيها انقطاعه فلا إشكال.

أما لو كان المثبت لعلية الوصف مجتهدا، فإنه يرجع إلى ظنه إذ لا يكابر نفسه، فمهما غلب على ظنه شيء من ذلك عمل عليه.

وعلى التقديرين، متى كان الحصر والإبطال قطعيين، فالسبر قطعي ومتى كانا ظنيين أو أحدهما، فالسبر ظني.

قال: (وطرق الحذف منها: /الإلغاء، وهو بيان إثبات الحكم بالمستبقى فقط، وبتبيين نفي العكس الذي لا يقيد، وليس به لأنه لم يقصد

ص: 91

لو كان المحذوف علة لانتفى عند انتفائه، وإنما قصد لو كان المستبقى جزء علة لم انتقل، ولكن يقال: لابد لذلك من الأصل فيستغنى عن الأول).

أقول: لما فرغ من أحد شقي السبر –وهو الحصر- شرع في بيان الإبطال، ولابد من طريق وهو كل ما يفيد ظن عدم العلية، وله طرق:

الأول الإلغاء: وهو بيان أن الحكم في الصورة الفلانية ثابت بالمستبقى فقط ويزيد أنه لا يثبت بدونه، فيعلم أن المحذوف لا أثر له، وإلا فقد يقال: لا يلزم من ثبوت الحكم بدونه في صورة عدم عليته في صورة المقارنة، إذ قد تكون العلة متعددة فلا يلزم من نفيها نفي المعلول.

ولهذا يقول في جواب المعارضة: ولا يكفي إثبات الحكم في صورة دونه لجواز علة أخرى.

والإلغاء من حيث به عدم علية الوصف بثبوت الحكم بدونه في صورة يشبه نفي العكس –الذي مر أنه لا يفيد عدم العلية- وليس إياه، وإنما يكون إياه لو أريد به أنه لو كان المحذوف علة لانتفاء الحكم عند انتفائه، بل المراد: لو كان المحذوف جزء علة فالمستبقى جزء علة، ولو كان كذلك لما كان المستبقى مستقلا بالحكم في تلك الصورة.

ثم أشار المصنف بقوله: (ولكن يقال: لابد لذلك من أصل) إلى أن غايته أن يفيد أن المحذوف ليس علة، على تقدير ثبوت الحكم دونه، ولا يلزم من ذلك كون المستبقى علة مستقلة، بل لابد لبيان كون المستبقى علة مستقلة من أصل يفيد استقلال المستبقى بالعلية، وحينئذ يستغنى عن الإلغاء.

قيل بعد ما ذكر: إن الحكم لابد له من علة وحصر الأوصاف،

ص: 92

[واكتفى] غير واحد بوجود الحكم دونه، وبعدم الحكم عند وجوده تعين أن يكون المستبقى علة، ولا حاجة إلى طريق آخر.

واعترض: بأن يجوز أن يكون الوصف المحذوف جزءا من العلة وأعم من المعلول، وحينئذ لا يلزم من وجود الحكم دونه ومن عدم الحكم عنده أن يكون المستبقى علة.

والاعتراض فاسد؛ لأنه إذا وجد الحكم دونه وعدم الحكم مع وجوده لا يكون له تأثيرا في العلية، ولو كان جزء علة لانتفت العلة بانتفائه فينتفي المعلول.

قال: (ومنها: طرده مطلقا، كالطول والقصر، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم كالذكورة في أحكام العتق.

ومنها: ألا تظهر مناسبته، ويكفي المناظر بحثت.

فإن ادعى أن المستبقى كذلك ترجح سبر المستدل بموافقة التعدية).

أقول: الطريق الثاني من طرق الإبطال: أن يكون الوصف طرديا أي من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه، وأما في جميع الأحكام كالاختلاف بالطول والقصر فلا يعلل به حكم أصلا.

وأما بالنسبة إلى ذلك الحكم –وإن اعتبر في غيره كالذكورة والأنوثة/ في أحكام العتق –فإن الشارع- وإن اعتبره في الشهادة والإرث- فقد

ص: 93

علم أنه ألغاه في أحكام العتق، فلا يعلل به شيء من أحكامه.

الطريق الثالث: ألا تظهر مناسبة الوصف للحكم، ولا يجب ظهور عدم المناسبة بالدليل، ويكفي المناظر أن يقول: بحثت فلم أجد له مناسبة، ويصدق لأنه عدل عارف.

فإن قال المعترض: المستبقى أيضا كذلك، فلا يجب على المستدل بيان المناسبة، وإلا كان انتقالا عن السبر إلى المناسبة، ولا سبيل إلى التحكم فلزم التعارض والمصير إلى الترجيح، فيرجح المستدل سبره بموافقته لتعدية الحكم، والتعدية أولى ليعم الحكم وتكثير الفائدة، ولو رجح بأن قال: لو لم يكن مناسبا لزم التعبد بالحكم، كان حسنا أيضا.

قال: (ودليل العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما: أنه لابد من علة لإجماع الفقهاء على ذلك، ولقوله تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} .

والظاهر: [التعميم].

ولو سلم فهو أغلب؛ لأن التعقل أقرب إلى الانقياد فيحمل عليه، وقد ثبت ظهورها بالمناسبة فيجب اعتبارها في الجميع، للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام).

أقول: لما فرغ من الكلام على السبر، شرع في الدليل على اعتباره شرعا وكونه دليلا على العلية، وذكر معه غيره كالمناسبة وغيرها للمشاركة في الحكم.

ص: 94

والدليل تقريره أن نقول: لابد للحكم من حكمة لوجهين:

أحدهما: إجماع الفقهاء على ذلك، إما تفصيلا كما يقول أصحابنا أو وجوبا كما تقول المعتزلة.

الثاني: قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ، وظاهر الآية مراعاة مصالحهم في جميع ما شرع لهم من الأحكام، إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالا لغير الرحمة –لأنه محض تعب- فلا يكون في التكليف به فائدة، فخالف ظاهر العموم.

ولو سلم عدم الإجماع وعدم ظهور التعميم في الآية، فالتعليل هو الغالب على أحكام الشرع، وإنما غلب لأن تعقل المعنى ومعرفة كونه مفضيا إلى مصلحة أقرب إلى انقياد المكلف من التعبد المحض، فيكون أفضى إلى غرض الحكيم، فالحكمة تقتضي حمل ما نحن فيه على كونه معللا بمعنى معقول، إلحاقا للفرد النادر بالأعم الأغلب، إذ اختيار الحكيم الإفضاء إلى مقصوده هو الغالب على الظن.

فإذا قد ثبت ظهور تعليل جميع الأحكام عموما بهذا الطريق، وفي

ص: 95

المناسبة أيضا به، ولو سلم عدم نهوض الدليل المذكور، فقد ثبت ظهور تعليل الحكم في صورة المناسبة بها، فيجب مما ذكرنا اعتبار تعليل الجميع في صورة السبر والشبه، لإفادة جميعها ظن العلية، وانعقاد الإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام.

/وله تقرير آخر هو أشبه، إذ الكلام في الدليل على اعتبار السبر شرعا وهو أن تقول: ثبت بما ذكرنا أنه لابد لكل حكم من علة، وقد ثبت ظهور علية الأوصاف بالسبر والمناسبة والشبه، على تقدير ثبوت تلك المقدمة، وهو أنه لابد لكل حكم من علة، وفي المناسبة خاصة ثبت ظهور عليتها على تقدير ثبوت تلك المقدمة وعلى تقدير عدم ثبوتها؛ لأن مناسبة الوصف للحكم يفيد بمجرد ظن كونه علة، ثم يقال في الجميع –أي في المناسبة وغيرها-: وإذ قد حصل ظن عليتها فيجب اعتبارها والعمل بها، للإجماع على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام.

قال: (الرابع: المناسبة والإخالة، وتسمى: تخريج المناط، وهو تعيين العلة لمجرد إبداء المناسبة من ذاته، لا بنص ولا بغيره، كالإسكار في التحريم، والقتل العمد العدوان في القصاص.

والمناسب: وصف ظاهر منضبط، يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للشارع من حصول مصلحة أو دفع مفسدة.

فإن كان خفيا أو غير منضبط، اعتبر ملازمة وهو المظنة؛ لأن الغيب لا يعرف الغيب، كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عليه عرفا بالعمد في

ص: 96

العمدية.

وقال أبو زيد: المناسب: ما لو عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول).

أقول: المسلك الرابع للعلية المناسبة، ويسمى: الإخالة، من اخالة السحاب إذا كانت ترجى المطر؛ لأن المناسبة ترجى العلية، وتسمى: تخريج المناط أيضا؛ لأنه مناط الحكم.

وحاصله تعين العلة في الأصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الحكم لا بنص ولا بغيره، كالإسكار للتحريم، فإن النظر في المسكر وحكمه ووصف الإسكار يعلم منه كون الإسكار مناسبا لشرع التحريم، وكالقتل العمد العدوان، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص.

واعلم أن المناسبة المأخوذة في التعريف هي اللغوية فلا دور، وتبين أن الاصطلاحية فعل الناظر، بخلاف اللغوية.

والمناسب في الاصطلاح: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء.

والمقصود: إما حصول مصلحة أو دفع مفسدة.

والمصلحة: اللذة ووسيلتها، والمفسدة: الألم ووسيلته، وكلاهما نفسي وبدني، دنيوي وأخروي؛ لأن العاقل إذا خير اختار المصلحة ودفع المفسدة وما هو كذلك يصلح مقصودا قطعا.

ص: 97

وقال: (ما يصلح) ولم يقل: ما يكون مقصودا؛ لتدخل أقسام المناسبة كلها، لكن ما يصلح أن يكون مقصودا تتوقف معرفته على معرفة المناسب فيدور.

ولو قال: ما يكون مقصودا/ لم يرد، ثم إن كان الوصف الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه المقصود خفيا أو غير منضبط، ولم يعتبر لأنه لا يعلم، فكيف يعلم به الحكم؟

فالطريق أن يعتبر وصف ظاهر منضبط، يلازم ذلك الوصف، يوجد بوجوده ويعدم بعدمه، سواء كانت الملازمة عقلية أو لا؟ فيجعل معرفا للحكم، مثاله: المشقة، فإنها مناسبة لترتيب الترخص عليها، تحصيلا لمقصود التخفيف، ولا يمكن اعتبارها نفسها لأنها غير منضبطة، إذ هي ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان، ولا يناط الترخص بالكل، ولا يمتاز البعض بنفسه، فيناط الترخص بما يلازمه وهي السفر.

وكالقتل العمد العدوان، فإنه مناسب لشرع القصاص، لكن وصف العمدية خفي؛ لأن القصد وعدمه لا يدرك، فيناط القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة نقضي العرف في العرف عليها بكونها عمدا، كاستعمال الجارح في المقتل.

وقال أبو زيد الدبوسي من الحنفية: المناسب ما لو عرض على العقول

ص: 98

السليمة تقتله بالقبول.

وهذا قريب من الأول، إلا أنه لا يمكن إثباته في المناظرة، إذ يقول الخصم: لا يتلقاه عقلي بالقبول، وتلقي عقلك له بالقبول لا يكون حجة علي، بخلاف الأول فإنه يمكن إثباته.

قال: (وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقينا وظنا، كالبيع والقصاص.

وقد يكون الحصول ونفيه مساويين، كحد الخمر.

وقد يكون نفيه أرجح، كنكاح الأمة لمصلحة التوالد.

وقد ينكر الثاني والثالث.

لنا: أن البيع مظنة الحاجة إلى التعارض وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في بعض الصور.

والسفر مظنة المشقة، وان انتفى الظن في الملك المترف.

أما لو كان فائتا قطعا، كلحوق نسب المشرقي يتزوج مغربية، وكاستبراء جارية يشتريها بائعها في المجلس، فلا يعتبر خلافا للحنفية).

أقول: للمناسب تقسيمات باعتبار إفضائه إلى المقصود، وباعتبار نفس المقصود، وباعتبار اعتبار الشارع له.

واعلم أن المقصود من شرع الحكم قد يحصل يقينا، كالبيع لإباحة

ص: 99

التصرف، وقد يحصل ظنا كالقصاص للانزجار، فإن المنزجرين أكثر من المقدمين، وهذان مما لم ينكر التعليل بهما أحد.

وقد يكون حصوله وعدم حصوله متساويين، كحد الخمر للزجر حفظا للعقل، فإن استيلاء ميل الطبع إلى شرب الخمر يقاوم خوف عقاب الحد، ولهذا [قاوم] عدد المقدمين عدد المنزجرين.

وقد يكون عدم حصوله راجحا كنكاح [الآيسة]، فإن المقصود الذي هو التوالد قد يمكن حصوله من الآيسة، لكن عدمه أرجح.

وقد أنكر بعضهم جواز التعليل بهذين.

واحتج المصنف على جواز التعليل بهما: بأن ظن تخلف الحكمة الباعثة عن الحكم المشروع لأجلها لا يقدح في العلية، واحتمال حصول/ المقصود من شرع الحكم كاف في صحة التعليل به، وذلك أن البيع مظنة الحاجة إلى العوض لأنه شرع لمصلحة الاحتياج إلى المعاوضة وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في بعض الصور، إذ بيع الشيء مع ظن عدم الحاجة إلى عوضه -كبيع صاع بمثله- لا يوجب بطلان البيع إجماعا.

والسفر مظنة المشقة، وقد اعتبر وإن ظن عدم الشقة، كما في الملك المترف.

واعترض: بأن جوازه ثم لأجل ترتب المقصود في الغالب، وإن لم يترتب

ص: 100

في بعض الصور، بخلاف محل النزاع، فإنه كما يحتمل الترتيب يحتمل عدم الترتيب على السواء، وعدم الترتيب أرجح.

قلت: بل هو مثله، لترتب المقصود في غالب صور الجنس وهو ما عدا الآيسة وكذا يحصل المقصود من شرع الحد الذي هو جنس لحد الخمر وغيره.

قيل: المثال الأول للمناسب، والثاني لمظنة المناسب.

وفيه نظر؛ لأن الحاجة إلى التعاوض خفي، فلازمه –الذي هو البيع- يكون مظنة.

أما لو كان المقصود فائتا قطعا كالنكاح الذي هو مظنة لحصول نطفة الزوج في الرحم، فيترتب عليه إلحاق الولد به، فإذا تزوج مشرقي مغربية وعلم قطعا عدم تلاقيهما، فهل يلحق به وهو بالمشرق ولد تلده وهي بالمغرب، مع العلم بعدم حصول نطفته في رحمها؟

وكجعل الاستبراء مظنة لبراءة الرحم من الحمل، فيترتب عليه منع الوطء دونه، فلو اشترى واحد جارية ثم باعها من البائع الأول في المجلس، فقد علم عدم وطء من المشتري الأول لها، وهل يجب على المشتري الثاني –وهو البائع الأول- أن يستبريها؟ .

قال الجمهور: لا يعتبر فيهما وإن كان ذلك ظاهرا في غالب صور الجنس، فيما عدا هاتين الصورتين.

وخالفت الحنفية نظرا إلى ظاهر العلة.

ص: 101

قال: (والمقاصد ضربان: ضروري في أصله وهو أعلى المراتب، كالخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

كقتل الكفار، والقصاص، وحد السكر، وحد الزنا، وحد السارق والمحارب.

ومكمل للضروري، كحد قليل السكر.

وغير ضروري حاجي، كالبيع والإجارة، والقراض، والمساقاة، وبعضها آكد من بعض.

وقد يكون ضروريا، كالإجارة على تربية الطفل، وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره.

ومكمل له، كرعاية الكفاءة ومهر المثل في الصغيرة، فإنه أفضى إلى دوام النكاح.

وغير حاجي ولكنه تحسبي، كسلب العبد أهلية الشهادة لنقصه عن المناصب الشريفة، جريا على ما ألف من محاسن العادات).

أقول: التقسيم الثاني للمناسب باعتبار المقصود نفسه: والمقاصد التي شرعت الأحكام لأجلها ضربان: ضروري، وغير ضروري.

والضروري قسمان: ضروري في أصله/، ومكمل للضروري.

والضروري في أصله أعلى المراتب في إفادة ظن الاعتبار، كالخمسة

ص: 102

روعيت في كل ملة، إذ هي من المهمات، ولا قيام للشرع دونها، فلابد من مشروعيتها لتحفظ بها المصالح المهمة للعباد، وانحصارها في الخمسة نظرا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها بالعادة، وقد يتكلف الحصر بناء على أن القوى ثلاثة: نفسانية، وشهوانية، وغضبية، والغرض من بعثة الرسل إقامة هذه القوى على المنهج القويم.

وصلاح الأولى يتوقف على العقل والدين، والثانية على المال والنكاح، والثالثة على القصاص، فصارت خمسا.

الأول: حفظ الدين بشرع إيجاب المقاتلة مع الكفار.

الثاني: حفظ النفس بشرع إيجاب القصاص لكونه طريقا صالحا لحصول هذا المقصود.

الثالث: حفظ العقل بشرع الحد.

الرابع: حفظ النسل بشرع حد الزنا.

الخامس: حفظ المال الذي به المعاش بشرع حد السارق والمحارب.

وأما المكمل للضروري: فكحد قليل المسكر الذي لا يزيل العقل، إذ حفظ العقل حاصل بتحريم المسكر، إنما حرم القليل للتتميم والتكميل؛ لأن قليله يدعو إلى كثيره بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه إلى أن يسكر.

الضرب الثاني: غير الضروري، وينقسم إلى: حاجي، وغيره.

والأول ينقسم إلى: حاجي في نفسه، وإلى مكمل له.

أم الحاجي في نفسه: فكالبيع، والإجارة، والقراض، والمساقاة،

ص: 103