الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكل واحد من هذه العقود ليس بحيث لو لم يشرع لأدى إلى فوات شيء من الضروريات الخمس، ثم هذه ليست في مرتبة، إذ الحاجة تشتد وتضعف وبعضها آكد من بعض، وقد يكون بعضها ضروريا في بعض الصور، كالإجارة على تربية الطفل الذي لا أم له ترضعه، وكشراء المطعوم والملبوس له ولغيره، فإنه من قبيل حفظ النفس، ولذلك لم تخل عنه شريعة، وإنما أطلقنا عليه الحاجي باعتبار الأغلب.
أما المكمل للحاجي: فكوجوب رعاية الكفاءة ومهر المثل للصغيرة، فإن أصل المقصود من شرع النكاح –وإن كان حاصلا بدونهما- لكنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح، فهو من مكملات مقصود النكاح.
وأما غير الحاجي: فما فيه التحسين وسلوك منهج أحسن من منهج، كسلب العبد أهلية الشهادة –وإن كان ذا دين وعدالة يغلبان ظن صدقهما- فإنها منصب شريف لا يليق تفويضه إلى من لا يملك نفسه، جريا على ما هو المألوف محاسن العادات، أن نازل القدر لا يلي المراتب الشريفة.
قال:
(مسألة: المختار: انخرام المناسبة بمفسدة تلزم
راجحة أو مساوية.
لنا: أن العقل قاض أنه لا مصلحة مع مفسدة تساويها أو تزيد.
قالوا: الصلاة في الدار المغصوبة تستلزم مصلحة ومفسدة تساويها/ أو تزيد، وقد صحت.
قلنا: مفسدة الغصب ليست عن الصلاة وبالعكس، ولو نشآ معا عن الصلاة لم تصح.
والترجيح يختلف باختلاف المسائل، ويترجح بطريق إجمالي، وهو أنه لو لم يقدر رجحان المصلحة، لزم التعبد بالحكم).
أقول: قال الآمدي: اختلفوا في الحكم الثابت لوصف مصلحي على وجه يلزم من شرع ذلك الحكم مفسدة راجحة على المصلحة أو مساوية، هل تنخرم مناسبته –أي فلا تكون علة لذلك الحكم –أو لا؟ .
وقال الإمام: المختار إن المناسبة لا تبطل بالمعارضة وهذه العبارة أسد.
ولكن قال الآمدي بعد هذا: والكلام في إثبات حكم لمصلحة يلزم من إثباته –تحصيلا لتلك المصلحة- مفسدة راجحة أو مساوية.
لنا: أن العقل قاض بأنه لا مصلحة مع مفسدة تساويها أو تزيد عليها.
قالوا: الصلاة في الدار المغصوبة، تقتضي صحتها مصلحة فيها، وحرمتها مفسدة فيها، والمصلحة لا تزيد على المفسدة وإلا لما حرمت، فيجب كون المفسد تساويها أو تزيد عليها، فلو انخرمت المناسبة بذلك لم تصح الصلاة، ولكنها صحيحة.
الجواب: أن مفسدة الغصب ليست ناشئة عن الصلاة، ومصلحة الصلاة ليست ناشئة عن الغصب، فإنه لو أشغل المكان من غير صلاة لأثم، والكلام في مفسدة نشأت من شرع الحكم، ولو فرضناهما ناشئين من نفس الصلاة، لوجب ألا تصح، كما في صوم يوم العيد وذلك لتعارض الداعي
إلى الأمر بها والصارف عنه مع المساواة، والأمر عند ذلك محال، انخرمت المناسبة أم لا.
وإذا ثبت أنه لابد من رجحان المصلحة على المفسدة عند تعارضهما، فللترجيح طرق: فمنها تفصيلية تختلف باختلاف المسائل.
ومنها: طريق إجمالي شامل لجميع المسائل، وهو أنه لو لم يقدر رجحان المصلحة على المفسدة في محل النزاع، لزم أن يكون الحكم ثبت فيه لا لمصلحة فيلزم التعبد بالحكم، وهو خلاف الأصل.
قال الآمدي: اشتراط الترجيح في المناسبة إنما يتحقق على القول بعدم تخصيص العلة.
قال: (والمناسب: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل.
لأنه إما معتبر أو لا، والمعتبر بنص أو إجماع هو المؤثر، والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط، إن ثبت بنص اعتبار عينه في جنس الحكم أو بالعكس، أو جنسه في جنس الحكم، فهو الملائم، وإلا فهو الغريب.
وغير المعتبر هو المرسل، فإن كان غريبا أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقا.
وإن كان ملائما، فقد صرح الغزالي والإمام بقبوله، وذكر عن مالك والشافعي، والمختار رده.
وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية).
أقول: التقسيم الثالث/ للمناسب بحسب اعتبار الشرع له:
والمناسب بهذا الاعتبار أربعة أقسام: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل لأنه إما أن يثبت اعتباره شرعا أو لا.
والأول: إما أن يثبت اعتباره بنص أو إجماع، أو بترتيب الحكم على وفقه فقط، بأن يثبت الحكم معه في المحل بنص أو إجماع دال على الحكم، فإن ثبت اعتباره –أي اعتبار عينه في عين الحكم بنص أو إجماع- فهو المؤثر لظهور تأثيره في الحكم بالنص، كقوله عليه السلام:"من مس ذكره فليتوضأ"، فإنه دل على اعتبار مس المحدث في عين الحدث.
وتأثيره في الحكم بالإجماع، كتعليل الولاية في المال بالصغر، فإنه اعتبر عين الصغر في عين الولاية في المال بالإجماع، هكذا ذكر الغزالي في مثاله وتابعوه، والمصنف ذكر هذا المثال للقسم الأول من الملائم، وهو أظهر.
وإن ثبت اعتباره لا بهما بل بترتيب الحكم على وفقه، فحينئذ إما أن يعتبر مع ذلك عين الوصف في جنس الحكم –يعني الجنس القريب- أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع –أو لا؟ .
والأول بأقسامه الملائم، سمي بذلك لكونه موافقا لما اعتبره الشارع.
والثاني هو الغريب.
والذي لم يثبت اعتباره بشيء من الوجوه السابقة هو المرسل.
واعلم أن الجنسية في الحكم والوصف مراتب: أما في الوصف فأعم أجناسه كونه وصفا يناط به الحكم، ثم الوصف المناسب، ثم المناسب الضروري، ثم الضروري في أصله، ثم الضروري في حفظ العقل مثلا.
وأما في الحكم فأعم أجناسه كونه حكما شرعيا، ثم الوجوب، وجوب الصلاة، ثم وجوب الظهر مثلا.
وكلما كان الحكم والوصف أخص كان كون الوصف معتبرا في ذلك الحكم آكد، فيكون مقدما على ما هو أعم.
ثم اعلم أن المرسل ينقسم إلى ما علم إلغاؤه، وإلى ما لم يعلم إلغاؤه.
والثاني ينقسم إلى: ملائم، وغريب؛ لأنه إن اعتبر الشارع جنسه البعيد في جنس الحكم فهو المرسل الملائم، وإلا فهو المرسل الغريب.
مثال المرسل الملائم: تعليل تحريم قليل النبيذ بأنه يدعو إلى كثيره وهذا مناسب، ولم يعتبر الشارع عين الوصف في عين الحكم بنص أو إجماع، ولم يثبت ترتيب الحكم على وقفه بنص أو إجماع، لكنه اعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم، فإن الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشارع، فهذا ملائم من هذه الجهة لتصرف الشارع.
والمرسل الغريب: والمرسل الذي ثبت إلغاؤه، لا يعلل بهما اتفاقا.
وأما المرسل الملائم: فقد صرح الإمام الغزالي بقبوله، ونقل عن مالك والشافعي. والمختار عند المصنف رده، إذ لو لزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا، لزم من كونه من جنس ما ألغى من المصالح أن يكون ملغي؛ لأنه كما شارك الأوصاف المعتبرة في الجنس البعيد، شارك الأوصاف/ الملغاة فيه، واكتفى المصنف على الاستدلال على رده بما سيجيء له في المصالح المرسلة، وشرط الغزالي في قبوله شروطا ثلاثة: أن يكون الجنس البعيد ضروريا –أي من الضروريات الخمس- لا حاجيا قطعيا.
والمراد: ما يكون الجزم حاصلا بحصوله كليا.
والمراد: ما لا يكون مخصوصا ببعض المسلمين، كما لو تترس الكفار الصائلون بأسرى المسلمين، إذا قطعنا أنه إن لم يرم الترس استأصلوا المسلمين المترس بهم وغيرهم، فرمي الترس يكون مصلحة ضرورية قطعية كلية، وإنما وجب اعتباره حينئذ؛ لأن عدم اعتباره يوجب إخلال المقصود من الشرع، وهو حفظ الدين والنفس.
قال الغزالي: فرمي الترس لا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، تحصيلا لمصلحة تقليل القتل الذي علم كونه مقصودا للشارع، وإن لم يشهد لتحصيل هذا المقصود بهذا الطريق –وهو قتل من لم يذنب- أصل معين، ولم
يعلم كونه مقصودا بدليل معين، بل بعمومات الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، ولهذا سمي مصلحة مرسلة، إذ حفظ بيضة الإسلام أهم في مقصود الشارع من حفظ جماعة، وهذا مقطوع به في مقصود الشارع، ولهذا لم يحتج إلى أصل معين. فالشارع وإن لم يعتبر عين هذا الوصف –وهو استعلاء الإسلام بقتل الترس- في عين حكم- وهو قتل النفس- ولا يترتب الحكم على وفقه مع اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنسه، ولا بترتيب الحكم على وفقه فقط، إلا أنه علم اعتبار ما هو من باب الضرورة وهو حفظ بيضة الإسلام.
أما لو لم تكن ضرورية، كأهل قلعة تترسوا بمسلمين، فإن فتحها ليس في محل الضرورة، لمعارضة حفظ الدين بحفظ النفس.
وكذا لو لم تكن كلية، كرمي بعض المسلمين من السفينة إلى البحر لنجاة بعض؛ لأنه ترجيح لأحد المتساوين على الآخر من غير مرجح، وكذا لو لم نقطع بذلك، ولذلك لم يجز للمضطر قطع قطعة من فخذه لعدم الجزم بالخلاص، فلا تكون المصلحة قطعية، فلا يرتكب أمر محظور بمجرد الظن.
قال: (فالأول: كالتعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في الولاية فإن غير الصغير معتبر جنس حكم الولاية بالإجماع.
والثاني: كالتعليل بعذر الحرج في حمل الحضر بالمطر على السفر في الجمع، فإن جنس الحرج معتبر في عين رخصة الجمع.
والثالث: كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان في حمل المثقل المحدد في القصاص، فإن جنس الجناية معتبر في جنس القصاص كالأطراف وغيرها.
والغريب/: كالتعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في حمل البتات في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود، حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل، وكالتعليل بالإسكار في حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص بالتعليل به.
والغريب: الذي ثبت إلغاؤه، كإيجاب شهرين ابتداء في الظهار).
أقول: فالأول –يعني من أمثلة الملائم- وهو تأثير عين الوصف في جنس الحكم، كما يقال:"تثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة، كما يثبت له عليها ولاية المال بجامع الصغر"، فالوصف: الصغر، وهو أمر واحد، والحكم: الولاية، وهو جنس يجمع ولاية النكاح وولاية المال، وهما نوعان من التصرف، وعين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع.
الثاني من الملائم: ما اعتبر جنس الوصف في عين الحكم، كما يقال:"الجمع جائز في الحضر مع المطر قياسا على السفر بجامع الحرج"، والحكم: رخصة الجمع وهو واحد، والوصف: الحرج، وهو جنس تحته ما يحصل بالسفر، وهو خلاف الضلال والانقطاع، وبالمطر وهو التأذي به، وهما نوعان، وقد اعتبر جنس الحرج في عين رخصة الجمع بالإجماع على ما ذكر في المنتهى.
الثالث من الملائم: ما اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم، كما يقال:"يجب القصاص في القتل بالمثقل، قياسا على القتل بالمحدد بجامع كونهما جناية عمد عدوان"، فالحكم: مطلق القصاص، وهو جنس
لقصاص النفس والطرف، والوصف: جناية العمد العدوان، وهو جنس للجناية على النفس والطرف والمال، وقد اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص، والمراد من جنس الأعم، ذاتيا كان أو عرضيا.
مثال الغريب –الذي هو قسيم المرسل-: ما يقال فيمن طلق امرأته ثلاثا في مرض موته: "يحكم بإرثها معارضة بنقيض مقصودة، قياسا على القاتل حيث لم نورثه معارضة بنقيض مقصوده، والجامع كونهما فعلا محرما لغرض فاسد". فهذا له وجه مناسبة، وفي ترتيب الحكم عليه تحصيل مصلحة –وهو نهيهما عن الفعل الحرام- لكن لم يشهد له أصل بالاعتبار بنص أو إجماع، واعتباره بترتيب الحكم على وفقه فقط، ولم يعتبر عينه في جنس الحكم، ولا جنسه في عين الحكم، ولا جنسه في جنسه بنص أو إجماع".
قال الغزالي: "وسمي هذا غريبا؛ لأن الشارع لم يحكم على وفقه إلا مرة واحدة".
وفي هذا المثال نظر؛ لأنه علم اعتبار عين الفعل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة بنقيض المقصود بالنص، وهو قوله عليه السلام:"القاتل لا يرث"، فيكون مناسبا مؤثرا، وقد تقدم له هذا في الإيماء.
وجل الشراح جعلوا هذا المثال للغريب المرسل.
ولا خفاء في فساده؛ لأن الغريب المرسل حكى المصنف الاتفاق على عدم التعليل به، وهذا قد ثبت/ اعتباره في الأصل بترتيب الحكم على وقفه، وثبت في الفرع عند مالك وأكثر العلماء، قال الغزالي:"وقد ورثوا امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولم ينكر عليهم".
مثال آخر للغريب –الذي هو قسيم المرسل وهو تقديري، ولكن المثال إنما يراد للتفهيم لا لنفسه-: ما لو قيل: "يحرم النبيذ قياسا على الخمر بجامع الإسكار"، على تقدير عدم النص بالتعليل به، لأن الإسكار مناسب للتحريم حفظا للعقل، وثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه، فلو لم يدل النص وهو:"كل مسكر حرام" بالإيماء على اعتبار عينه في عينه لكان غريبا؛ لأنه لم يعتبر عينه في جنس الحكم في أصل آخر متفق عليه، ولا جنسه في عين الحكم، ولا جنسه في جنسه.
وبعضهم جعل هذا –أيضا- مثالا للغريب المرسل.
وهو فاسد؛ لاعتباره بترتيب الحكم على وفقه في الأصل أيضا، على تقدير عدم النص بالتعليل به.
واعلم أنهم لم يختلفوا في التعليل بالمؤثر والملائم.
واختلفوا في صحة التعليل بالغريب، واختار الغزالي وكثير صحة التعليل به، واختاره الآمدي أيضا، إلا أن القسم الثالث –وهو ما اعتبر جنس الوصف في جنس الحكم- من الغريب عند الآمدي.
وأما الذي ثبت إلغاؤه: فكإيجاب شهرين ابتداء في الظهار قبل العجز عن الإعتاق بالنسبة إلى من يسهل عليه العتق دون الصوم، فإنه مناسب تحصيلا لمقصود الزجر، كما أفتى به بعض العلماء بعض الملوك، لكن علم عدم اعتبار الشارع له.
قال: (وثبت علية الشبه بجميع المسالك.
وفي إثباته بتخريج المناط نظر.
ومن ثم قيل: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل.
ومنهم من قال: ما يوهم المناسبة/ ويتميز عن الطردي بأن وجوده كالعدم، وعن المناسب الذاتي بأن المناسبة عقلية وإن لم يرد شرع، كالإسكار للتحريم.
مثاله: طهارة تراد للصلاة، فيتعين الماء كطهارة الحدث، فالمناسبة غير ظاهرة، واعتبارها في مس المصحف والصلاة يوهم.
وقول الراد له: إما أن يكون مناسبا أو لا.
والأول: مجمع عليه، فليس به.
والثاني: طرد فيلغى.
أجيب: مناسب، والمجمع عليه المناسب لذاته، أو لا واحد منهما).
أقول: الشبه هو: الوصف الذي اعتبره الشارع في بعض الأحكام، فإذا وجد مثله في محل آخر تعينت التعدية، لعلمنا أن الشارع لا يخصص المثل بحكم عنه مثله، وعلية الشبه بجميع المسالك.
أما بالنص والإجماع، فبأن يقال: إنهما دالا على اعتبار هذا الوصف في بعض الأحكام، فاعتباره ثم يوهم اعتباره هنا للمناسبة الموهومة.
وأما بالسبر، فبأن يقال/: الحكم لابد له من مصلحة، وهي إما في ضمن الشبهي أو الطردي لعدم ما سواهما بعد السبر الكامل، ولا خفاء أن
اشتمال الشبهي عليها أغلب على الظن من الطردي، وما غلب على الظن اشتماله عليها يجب العمل به، لوجوب العمل بالظن في علل الأحكام.
وهل تثبت عليته بتخريج المناط؟ .
فيه نظر؛ ومن أجل أنه لا تثبت عليته بالمناسبة، قيل في تعريف الشبه تارة: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل منفصل، وإذا كان كذلك فلا يمكن إثباته بتخريج المناط؛ لأنه إنما يتحقق فيما ثبتت مناسبته من ذاته.
وقيل في تعريفه تارة: ما يوهم المناسبة، فلا يثبت بما يوجب المناسبة، إذ بينهما تناف.
وإنما جعله المصنف محل نظر ولم يجزم بأنه لا تثبت عليته بالمناسبة، بناء على ما ذكر من مراعاة لتفسير الشبه بما ذكره الآمدي عن القاضي، وإن لم يذكره المصنف، وهو أن الشبه يفسر بقياس الدلالة، وهو الذي يجمع فيه بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم، لكن يستلزم ما يناسب الحكم، هذا أمثل ما يقال في هذا المكان.
وقد اضطرب فيه الشراح، وذكروا فيه نحو أربعة أوجه، وجعل كثير
منهم –ومن ثم- راجعا إلى قوله: وتثبت عليه الشبه بجميع المسالك، ويلزم عليه عدم بيان وجه النظر، مع أنه لا يظهر تعلقه به على التفسير الثاني.
واعلم أنه يشبه المناسب من حيث التفات الشارع إليه، ويشبه الطردي من حيث إنه غير مناسب، ويتميز عنه بأن الطردي وجوده كالعدم، ويتميز عن الناسب الذاتي بأن المناسبة عقلية وإن لم يرد شرع –كالإسكار للتحريم- فإن كونه مزيلا للعقل الضروري للإنسان، وكونه مناسبا للمنع منه مما لا يحتاج في العلم به إلى ورود الشرع.
مثال الشبه: ما لو قيل في إزالة النجاسة: "طهارة تراد للصلاة فيتعين الماء، كطهارة الحدث"، فإن المناسبة بين كونها طهارة تراد للصلاة وبين تعين الماء غير ظاهرة، لكن إذا اجتمعت أوصاف منها ما اعتبره الشارع ومنها ما لم يعتبره، كان إلغاء ما لم يعتبره واعتقاد خلوه عن المصلحة أولى، بخلاف ما اعتبره، فإنه يوهم أنه مناسب وأن ثم مصلحة، وقد اعتبرها حيث اعتبرها لذلك، فاعتبار الشرع للطهارة بالماء- وهو الوضوء في مس المصحف وفي الصلاة وفي الطواف- يوهم مناسبته، فيصدق عليه حد الشبه.
واحتج الراد للشبه وهو القاضي: بأن الشبه إما أن يكون مناسبا، أو لا؟ .
والأول: مجمع على قبوله، والثاني: هو الطردي، وهو مجمع على رده، فشيء/ منهما لا يكون شبها؛ لأن الشبه مختلف فيه.
الجواب: نختار أنه مناسب.
قوله: فيكون مجمعا على قبوله.
قلنا: متى إذا كان مناسبا لذاته أو أعم؟ .
الأول: مسلم، والثاني: ممنوع، فإن الإجماع ما انعقد إلا على المناسب بالذات، وهو المعنى بالمناسب عند الإطلاق.
سلمنا أنه ليس بمناسب، قولك: فيكون طرديا.
قلنا: لا نسلم، ولا يكون مناسبا ولا طرديا، بل واسطة بينهما يتميز عن كل واحد منهما بما ذكر.
قال: (الطرد والعكس.
ثالثها: لا يفيد بمجرده قطعا ولا ظنا.
لنا: أن الوصف المتصف بذلك إذا خلا عن السبر أو عن أن الأصل عدم غيره أو غير ذلك، جاز أن يكون ملازما للعلة، كرائحة المسكر، فلا قطع ولا ظن.
واستدل الغزالي: بأن الاطراد سلامته من النقص، وسلامته من مفسد واحد لا يوجب انتفاء كل مفسد.
فلو سلم فلا صحة إلا بمصحح، والعكس ليس شرطا فيها فلا يؤثر.
وأجيب: قد يكون للاجتماع تأثير، كأجزاء العلة.
واستدل: بأن الدوران في المتضايفين، ولا علة.
أجيب: انتفت بدليل خاص مانع.
قالوا: إذا حصل الدوران –ولا مانع من العلة- حصل العلم أو الظن عادة، كما لو دعي إنسان فغضب، ثم ترك فلم يغضب، وتكرر ذلك،
علم أنه سبب الغضب، حتى إن الأطفال يعلمون ذلك.
قلنا: لولا ظهور انتفاء غير ذلك بحيث، أو بأنه الأصل لم يظن، وهو طريق مستقل، ويقوى بذلك).
أقول: الطرد والعكس: هو كون الوصف بحيث يوجد الحكم بوجوده ويعدم بعدمه، وهو المسمى بالدوران.
وقد اختلف في دلالته على العلية، فقيل: يدل عليها ظنا.
وقيل: قطعا.
وقيل: لا يدل عليها أصلا، وهو المختار.
لنا: أو الوصف المتصف بالطرد والعكس، إنما يكون مجردا إذا خلا عن السبر وهو أخذ غيره معه وإبطاله، وعن أن الأصل عدم غيره من غير التفات إلى أخذ غيره معه، أو غير ذلك من مناسبة أو شبه، ولا شك أنه إذا خلا عن هذه الأشياء، فكما جاز أن يكون علة جاز أن يكون ملازما لها الرائحة المخصوصة الملازمة للمسكر، فإنها تعدم قبل الإسكار وتوجد معه وتزول بزواله، ومع ذلك فليست علة قطعا، مع هذا الاحتمال لا يحصل
القطع بالعلة ولا الظن، ويكون الحكم بعليتها تحكما اللهم إلا بالالتفات إلى نفي وصف غيره بالأصل أو السبر فيخرج عن البحث.
قيل: إن أراد بالجواز تساوي الطرفين، منع، وإن أراد به عدم الامتناع، لم يناف الظن.
قلت: لا ينافي الظن ولا يوجبه.
واستدل الغزالي: بأن المفيد لعلية الوصف، إما الطرد/ وحده أو بقيد الانعكاس، وكلاهما باطل، أما الأول؛ فلأن الاطراد حاصله أنه لا يوجد في صورة بدون الحكم، ووجوده بدون الحكم هو النقض، فيكون الاطراد السلامة عن النقض، والنقض أحد مفسدات العلة، والسلامة من مفسد واحد لا يوجب انتفاء كل مفسد، ولا ينتفي الفساد إلا بانتفاء كل مفسد.
سلمنا، لكن انتفاء كل مفسد لا يكفي في الصحة، فلابد من مقتض للصحة، إذ عدم المانع وحده لا يصلح علة، فلا يكون كافيا، والعكس ليس شرطا في العلة لما مر، ولو سلم أنه شرط فأين المقتضي؟ .
الجواب: لم لا يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية أثر كما في أجزاء العلة، فإن كل واحد لا يصلح علة، ويحصل من اجتماعها مجموع هو العلة.
قلت: اجتماع عدم المانع وما ليس معتبرا لا شرطا ولا جزءا لا يكون مؤثرا، وليس كالأجزاء لانتفاء الحكم بانتفاء الجزء، بخلاف العكس.
واستدل: بأن الدور ثابت في المتضايفين ولا علة، فلو اقتضى العلة لثبتت مع ثبوته.
الجواب: أن دلالته ظنية، فيجوز التخلف لدليل خاص يمنع منه، وهو كون كل منهما مع الآخر، وذلك لا يقدح في الدلالة الظنية.
غايته أن قاطعا عارض ظنيا، فبطل أثره في صورة التعارض، ويعمل به في غيره.
قالوا: إذا وجد الدوران ولا مانع من العلية من معية كما في المتضايفين، أو تأخر كما في المعلول، أو غيرهما كما في الشرط المساوي، حصل العلم بالعلية أو الظن، والعلم به عادة.
ويحققه: أنه لو دعي إنسان باسم فغضب، ثم ترك فلم يغضب، وتكرر ذلك، علم ضرورة أنه سبب الغضب، حتى أن من لا نظر له كالأطفال يعلمون ذلك، ويدعونه به قصدا لإغضابه، ولولا أنه ضروري لما علموه.
الجواب: نمنع حصول العلم بمجرده، ولولا ظهور انتفاء غير ذلك، إما بأنه بحث عنه فلم يوجد، وإما بأن الأصل عدمه لما ظن.
والنزاع في إفادته بمجرده –وهو يعني السبر في قوله: بحثت فلم أجد والأصل عدم ما سواها- طريق مستقل في إفادة العلية، والدوران مقول ذلك الظن، ولا يلزم من إفادة الشيء تقوية الظن الحاصل بغيره بإفادته للظن بمجرده.
والحق: أن هذا إنكار للضرورة؛ لأن الأطفال يقطعون به من غير استدلال بما ذكر.
قال: (والقياس: جلي وخفي.
فالجلي: ما قطع بنفي الفارق فيه، كالأمة والعبد في العتق.
وينقسم إلى: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل.
فالأول: ما صرح فيه بالعلية.
والثاني: ما يجمع فيه بما يلازمها، كما لو جمع بأحد موجبي العلة في الأصل لملازمة الآخر، كقياس قطع الجماعة بالواحد على قتلها بالواحد بواسطة الاشتراك/ في وجوب الدية عليهم.
الثالث: الجمع بنفي الفارق).
أقول: الباب الثالث في أقسام القياس: وهو ينقسم بحسب القوة والضعف إلى: جلي، وخفي.
فالجلي: ما علم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع قطعا، كقياس الأمة على العبد في أحكام العتق، كالتقويم على معتق الشقص، فإنا نعلم قطعا أن الذكورة والأنوثة فيها مما لا يعتبره الشارع.
والخفي: ما يكون نفي الفارق فيه مظنونا، كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة، إذ يجوز أن تكون خصوصية الخمر معتبرة ولذلك اختلف في قليله.
وينقسم –أيضا- باعتبار علته إلى: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل.
فقياس العلة: ما صرح فيه بالعلية، كما يقال:"النبيذ مسكر فيحرم كالخمر".
وقياس الدلالة: ما لم تذكر في علة، بل يذكر الوصف الملازم لها، كما
لو قاس قطع أيدي الجماعة بالواحد على قتل الجماعة بالواحد، بجامع وجوب الدية عليهم في الصورتين على تقدير إيجابها، وذلك لأن الدية والقصاص موجبان للجناية لحكمة الزجر في الأصل وقد وجد في [القطع] أحدهما وهو الدية، فيوجد الآخر وهو القصاص عليهم؛ لأنهما متلازمان نظرا إلى اتحاد علتهما وحكمتهما.
وحاصله: إثبات حكم في الفرع هو وحكم آخر توجبهما علة واحدة في الأصل، فيقال: يثبت هذا الحكم في الفرع لثبوت الآخر فيه وهو ملازم له، فيكون قد جمع بأحد موجبي العلة في الأصل، لوجوده في الفرع بين الأصل والفرع في الموجب الآخر، لملازمة الآخر له.
ويرجع إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلة، وبالعلة على الموجب الآخر، لكن يكتفى بذكر موجب العلة عن التصريح بها.
والقياس في معنى الأصل: أن يجمع بنفي الفارق، ويسمى تنقيح المناط كقصة الأعرابي، ينفي كونه أعرابيا، فيلحق به الحضري، وينفي كون الإفساد بالوقاع، فيلحق به الأكل عمدا.
قال: (يجوز التعبد بالقياس، خلافا للشيعة والنظام وبعض المعتزلة.
وقال القفال وأبو الحسين: يجب عقلا.
لنا: القطع بالجواز.
وأيضا: لو لم يجز لم يقع، وسيأتي.
قالوا: العقل يمنع مما لا يؤمن فيه الخطأ.
رد: بأن منعه هنا ليس إحالة، ولو سلم، فإذا ظن الصواب لا يمنع.
قالوا: قد علم الأمر بمخالفة الظن، كالشاهد الواحد، والعبيد، ورضيعة في عشر أجنبيات.
قلنا: بل علم خلافه بخبر الواحد، فظاهر الكتاب، والشهادات وغيرها، وإنما يمنع لمانع خاص).
أقول: الباب الرابع: في حجية القياس وإثباته على منكريه.
وفيه مسائل:
الأولى: /في جواز التعبد بالقياس.
والتعبد بالقياس هو: أن يوجب الشرع العمل بموجبه، وهو إما أن يكون ممتنعا عقلا، أو جائزا، أو واجبا، وقد قال بكل منها قائل.
فعندنا: يجوز.
وعند الشيعة، والنظام، وبعض المعتزلة: يمتنع.
وعن القفال، وأبي الحسين: يجب.
لنا: القطع بالجواز، إذ ليس من الممتنع أن يقول الشارع: إذا ظننتم أن
حكما معللا بعلة فألحقوا به ما شاركه في تلك العلة، وكيف يمتنع عقلا ما يحسن وروده من الشارع، إذ يحسن منه أن يقول:"لا يقضي القاضي هو غضبان"، لأن الغضب مما يوجب اختلال فهمه ورأيه، فقيسوا على الغضب ما كان في معناه مما يشوش الذهن، كالجوع والعطش.
وأيضا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع، وسيأتي.
قالوا أولا: القياس طريق لا يؤمن فيه الخطأ، وكل طريق لا يؤمن في الخطأ فالعقل مانع من سلوكه، ولا نعني بعدم جوازه عقلا إلا ذلك.
الجواب: منع الكبرى، ولا نسلم أن العقل يحكم باستحالته، إذ العقل إنما يمنعه منع أولوية لا منع استحالة، ومثله لا يمتنع التعبد به شرعا، فهو نصب للدليل في غير محل النزاع.
سلمنا أن منعه إحالة، لكن لا نسلم أن منعه ثابت في جميع الصور، بل يختص بما لا يغلب فيه جانب الصواب، أما إذا ظن الصواب فلا يمنع، فإن المظان الأكثرية لا تترك للاحتمالات الأقلية، وإلا تعطلت أكثر الأسباب الدنيوية والأخروية، فيرجع إلى منع كلية الكبرى، ولو قدم الجواب الثاني على الأول كان أولى.
قيل: متعلق الظن بالصواب، [وهو لا يحتمل الخطأ]، لا نفس الظن
وإلا لم يكن الظن ظنا.
رد: بأن الصواب يحتمل الخطأ عند العقل، وإن لم يحتمله في نفس الأمر فيمنعه العقل عند العقلاء؛ لأنه مما لا يؤمن فيه الخطأ.
والجواب: أن منعه ليس إحالة.
قالوا ثانيا: الشارع قد أمر بمخالفة الظن؛ لأنه منع الحكم بشهادة واحد –وإن كان صالحا- وشهادة العبيد- وإن أفادت ظنا قويا-، ومنع من نكاح الأجنبيات إذا اشتبهن برضيعة، فإن كل واحدة على التعيين يظن كونها غير الرضيعة، لتحققه على تسع تقادير، ولا يتحقق خلافه إلا على تقدير واحد، ومع ذلك أمرنا بمخالفة الظن، وحرم التزوج بها.
الجواب: لا نسلم ورود الشرع بمخالفته، بل المعلوم خلافه، كما في خبر الواحد، وظاهر الكتاب، وفي الشهادة المختلفة المراتب، كالشاهد واليمين، والشاهدين، والأربع.
وما ذكرتموه إنما فيه منع من اتباع الظن لمانع/ خاص؛ إذ مراتب الظن وحصولها بأسبابها بحسب الوقائع، وذلك مما يختلف، فنيطت بمظان ظاهرة منضبطة، فكان ما ذكرتموه نقضا لمجرد الحكمة الذي سميناه كسرا، وقد تقدم أنه لا يضر.
ولو سلم، فالنزاع في المنع العقلي لا الشرعي.
قال: (النظام: إذا ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات كإيجاب الغسل وغيره بالمني دون البول، وغسل بول الصبية ونضح بول الصبي وقطع سارق القليل دون غصب الكثير، والجلد بنسبة الزنا دون نسبة الكفر، والقتل بشاهدين دون الزنا، وكعدتي الموت والطلاق.
والجمع بين المختلفات كقتل الصيد عمدا وخطأ، والردة، والزنا، والقاتل، واللائط في الصوم، والمظاهر في الكفارة، استحال التعبد بالقياس.
رد: بأن ذلك لا يمنع الجواز، لجواز انتفاء صلاحية ما توهم جامعا، أو وجود معارض في الأصل أو الفرع، أو لاشتراك المختلفات في معنى جامع، أو لاختصاص كل بعلة لحكم خلافه.
قالوا: يفضي إلى الاختلاف، فيرد لقوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله} .
رد: بالعمل بالظواهر، وبأن المراد التناقض، أو ما يخل بالبلاغة، فأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها.
قالوا: إن كان كل مجتهد مصيبا، فكون الشيء ونقيضه حقا محال، وإن كان المصيب واحدا، فتصويب أحد الظنين –مع الاستواء- محال.
رد: بالظواهر، وبأن النقيضين شرطهما الاتحاد، وبأن تصويب أحد الظنين لا بعينه جائز.
قالوا: إن كان القياس كالنفي الأصلي فمستغنى عنه، وإن كان مخالفا فالظن لا يعارض اليقين.
رد: بالظواهر، وبجواز مخالفة النفي الأصلي بالظن.
قالوا: حكم الله يستلزم خبره عنه، ويستحيل بغير التوقيف.
قلنا: القياس نوع من التوقيف.
قالوا: يتناقض عند تعارض علتين.
رد: بالظواهر، وبأنه إن كان واحدا رجح، فإن تعذر وقف على قول، وتخير عند الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، وإن تعذر فواضح.
الموجب: النص لا يفي بالأحكام، فقضى العقل بالوجوب.
رد: بأن العمومات يجوز أن تفي، مثل: كل مسكر حرام).
أقول: قالوا ثالثا: - وهو مما اختص به النظام –قال: قد ثبت من الشرع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، ومتى كان كذلك استحال التعبد بالقياس.
أما الفرق بين المتماثلات، فمنه: إيجاب الغسل ومنعه من قراءة القرآن ومس المصحف والمكث في المسجد بخروج المني دون البول، مع كون كل منهما فضلة مستقذرة.
ومنه: إيجاب الغسل من بول الصبية دون بول الصبي، إذ يكتفى فيه بالنضح.
ومنه: / قطع سارق القليل دون غاصب الكثير.
ومنه: إيجاب الجلد بنسبة الزنا إلى الشخص دون نسبة القتل والكفر إليه.
ومنه: ثبوت القتل بشاهدين دون الزنا.
ومنه: الفرق بين عدتي الموت والطلاق، ففي الأولى أربعة أشهر وعشرا وفي الثانية ثلاثة قروء.
وأما الجمع بين المختلفات: فمنه التسوية بين قتل الصيد عمدا وخطأ في الإحرام.
ومنه: التسوية بين الزنا والردة في القتل.
ومنه: التسوية بين القاتل خطأ، والواطئ في الصوم، والمظاهر عن امرأته، في إيجاب الكفارة عليهم.
وأما إنه إذا ثبت ذلك استحال التعبد بالقياس؛ فلأن معنى القياس وحقيقته ضد ذلك، لأن القياس إنما يعتبر باعتبار الجامع، فإذا لم يعتبر الشارع المثلية بين المتماثلات، واعتبر الجمع بين المختلفات، لزم عدم اعتبار الجامع، وإلا لاعتبر المثلية بين المتماثلات للجامع، وفرق بين المختلفات لعدم الجامع، فإذا لم يعتبر الجامع امتنع القياس، فامتنع التعبد به.
الجواب: منع الثانية، وأن ذلك لا يمنع جواز التعبد بالقياس.
أما الفرق بين المتماثلات؛ فلأن الاشتراك في الحكم بينهما إنما يثبت إذا كان ما به الاشتراك يصلح علة للحكم ليصلح جامعا، ولا يكون له معارض في الأصل هو المقتضي للحكم دون هذا، ولا معارض في الفرع أقوى يقتضي خلاف ذلك الحكم، وشيء من ذلك غير معلوم فيما ذكرتم، لجواز عدم صلاحية ما توهمتم جامعا، أو وجود المعارض له إما في الأصل أو الفرع.
وأما الجمع بين المختلفات، فلجواز اشتراكهما في معنى جامع هو العلة للحكم في الكل؛ إذ لا يمتنع اشتراك المختلفات في صفات ثبوتية، أو
لاختصاص كل من المختلفات بعلة تقتضي حكم المخالف الآخر، فإن العلل المختلفة لا يمتنع أن توجب في المحال المختلفة حكما واحدا.
قالوا رابعا: القياس يفضي إلى الاختلاف، وكل ما يفضي إلى الاختلاف مردود.
أما الأولى: فالاختلاف الأنظار والقرائح، فيلحق أحدهما الفرع بأصل، ويلحقه الآخر بأصل آخر.
وأما الثانية: فلقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ، سيقت للمدح بعدم الاختلاف الموجب للرد، دل على أن ما هو من عند الله لا يوجد فيه اختلاف كثير، فما يوجد فيه اختلاف كثير لا يكون من عند الله، وحكم القياس فيه اختلاف كثير فلا يكون من عند الله، وكل حكم لا يكون من عند الله مردود إجماعا.
الجواب: أنه منقوض بالعمل بالظواهر، فإنه يفضي إلى الاختلاف، وبأن الاختلاف/ المنفي في الآية إنما هو التناقض والاضطراب في النظم المخل بالبلاغة التي وقع بها التحدي، وأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها.
قالوا خامسا: لو جاز الاجتهاد بالقياس، فإما أن يكون كل مجتهد مصيبا، وإما أن يكون المصيب واحدا.
فإن كان الأول، لزم أن يكون الشيء ونقيضه حقا، ضرورة وقوع التناقض في الآراء، كالقول بالحل والقول بالحرمة، واللازم باطل.
وإن كان الثاني، فتصويب أحد الظنين مع استوائهما تحكم محض.
الجواب أولا: النقض بالظواهر، إذ الاجتهاد لا يختص بالقياس.
وثانيا: نختار القسم الأول، قوله: فيكون الشيء ونقيضه حقا، قلنا: ممنوع؛ لأن النقيضين شرطهما الاتحاد فيما عدا السلب والإيجاب، ولم يوجد هنا الاتحاد في الموضوع وفي الإضافة، إذ حكم كل مجتهد ثابت بالإضافة إليه ومقلده دون غيره.
وثانيا: أن نختار القسم الثاني: وإنما يلزم التحكم لو صوبنا معينا، أما إذا صوبنا أحدهما لا يعينه فلا تحكم، على أنه مدفوع، إذ ترجيح أحدهما يكون بالترجيحات المعتبرة.
قالوا سادسا: إن كان حكم القياس موافقا للبراءة الأصلية، يكون مستغنى عنه لثبوت مقتضاه بالأصل، وإن خالفها فهو باطل؛ لأنه مطنون والبراءة الأصلية متيقنة، والظن لا يعارض اليقين.
الجواب أولا: النقض بالظواهر، وبأنه يجوز ترك النفي الأصلي بالظن، وليس من تقديم المظنون على المقطوع، بل تقديم مظنون على مظنون، كما قدم الإقرار والشهادة على البراءة الأصلية.
قالوا سابعا: حكم الله تعالى يستلزم أن يخبر عنه؛ لأن حكمه مفسر بخطابه، ويستحيل خبره عنه بغير التوقيف لأنه تكليف للغافل، والحكم الثابت بالقياس لا يكون توقيفا لأنه فعلنا، فلا يكون حكم الله.
الجواب: إنما يلزم ذلك لو لم يكن القياس نوعا من التوقيف، لكنه منه لاستناده على الأصل الثابت بالنص، وإلى التعبد بالقياس.
قالوا ثامنا: القياس يفضي إلى التناقض فيكون باطلا، وذلك عند تعارض علتين تقتضي كل منهما نقيض الأخرى، وحينئذ يجب اعتبارهما وإثبات حكمهما لأنه المفروض، فيلزم التناقض.
الجواب: النقض بالظواهر لأنها قد تتعارض، وبأن هذا الفرض إن كان في قائس واحد رجح بطرق الترجيح، وإن لم يقدر على الترجيح، فإما أن يقف كما قال كثير من الفقهاء، وإما أن يتخير أيهما شاء فيعمل به كما قال الشافعي وأحمد، وإن تعدد القائس فواضح ألا تناقض، إذ يعمل كل بقياسه فيما يتحد متعلقاهما.
احتج القائل بأنه يحب عقلا التعبد بالقياس: أن الأحكام لا نهاية لها، والنصوص متناهية، فلا تفي بها، فيقتضي العقل بوجوب التعبد بالقياس لئلا تخلو الوقائع عن الأحكام، وهو خلاف المقصود من بعث الرسل.
الجواب –بعد تسليم أن لكل واقعة حكما-: أن الذي لا يتناهي الجزئيات لا الأجناس، ويجوز التنصيص على الأجناس بعمومات تتناول جزئياتها حتى تفي بالأحكام كلها، مثل:"كل مسكر حرام"، و "كل ذي ناب حرام"، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} إلى غير ذلك، مع أن ما ذكروه مبني على رعاية الأصلح، هو غير مسلم.