الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني من فصلي المقصد الأول في بيان التدبيرات الردية
-منها سلوك من لم يرزقه الله تعالى حدة الذهن، مسالك الأذكياء، فكم من طالب لا يقدر إلا على تحصيل جليات العقائد والفقه، يشتغل بالنسخ المغلقة والفنون الدقيقة، فيدع السعي فيما يمكن له تحصيله ويصرف أيامه في الوثوب إلي ما لا تصل إليه يده، فيحرم عن جميع المطالب العلمية، ويكون في النهاية كأنه بدأ أول مرة.
وهذا الضلال ناشئ من استنكاف البليد عن ترك السلوك إلي مسالك الأذكياء، أو من جهلة بمرتبة نفسه. قال في الإحياء: يظن كل أحد أنه أهل كل علم دقيق، فما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله تعالى في كمال عقله، انتهى.
أقول: فيجب على العالم المدرس أن يمتحن استعداد الطالب، فيرشده إلي ما يساعده استعداده، ويمنعه عما لا تصل إليه يده، لكن لما كان غرض أكثر المدرسين في زماننا الرياء والافتخار بكثرة أهل مجلس درسهم أهملوا تلك النصيحة خشية أن لا يحضر الطالب القاصر مجلس درسهم، فلو أن ذلك القاصر اشتغل في أيام تحصيله بما تيسر له من العلوم النافعة لحصل له سعادة الدنيا والآخرة.
- ومنها أن من شرع في فن بالنسخة المتضمنة لدقائق ذلك الفن، كالحواشي والشروح، لا يتضح له مقاصد ذلك الفن. وقال في الإحياء: من وظيفة المعلم أن يمنع المتعلم من التشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي.
وقال فيه: ينبغي أن يحترز الخائض في علم، في مبدأ الأمر، عن الإصغاء إلي الوجوه والاختلافات، فان ذلك يدحش عقله ويحير ذهنه. وفي تعليم المتعلم: ينبغي أن يبتدئ من العلوم يكون أقرب إلي الفهم، انتهي.
أقول: وتمثل ذلك بمن أراد بناء بيت فيضع حجراً فيصبغه وينقشه ثم آخر كذلك، فيقال له: أتم بناء البيت جراداً ثم أقول: المبتدئ يقتدي بعادات أسلافه، وعادة أهل الزمان كذلك، لكنها ليست بعادة العلماء المعتبرين.
ومنذ ما حدثت تلك العادة قصرت الطلبة عن إدراك الفنون ولم يأت منهم مثل الأولين.
- ومنها أن بعض المدرسين يقرر على الطالب المبتدئ الأسئلة والأجوبة الدقيقة ويذكر قواعد الفنون بشيء من المناسبة، والطالب المبتدئ لا يفهم أكثرها ويمر أكثر الكلمات على أذنيه كأصوات الرحى، ويأخذه النعاس ويذهب نشاطه ويكل ذهنه، والقدر الذي يفهمه ويحفظه ينسى أغلبه قبل أن يقوم من مجلس الدرس.
ثم إن بعض المبتلين من الحمقاء بمدرس كذا يعجبه تدريسه، فيمدحه
ويعشق إليه من لم يره، ولا يدري أن ذلك المدرس ضيع أوقاته وسمن بلادته، قال في الإحياء: من وظيفة المعلم أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه مالاً يبلغه عقله فينفره ويتخبط عقله.
وقد سبق النقل عنه أن المبتدئ في علم ينبغي له الاحتراز عن الإصغاء إلي الوجوه والاختلافات.
وقال العلامة السبكي في كتاب معيد النعم: حق المدرس أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين، فإن كانوا مبتدئين، فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون إلي أن ينتهوا إلي درجة التحقيق، وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات، بل يدخل بهم في المشكلات، انتهى.
أقول: وبعض الناس يظن أن الأولى أن يلقي على المبتدئين الدقائق والمشكلات ليحد ذهنه ويقوي ذكاه. أقول: كلا ثم كلا، وهل يحمل الطفل الصغير ما يحمله الأقوياء؟ ! ثم أقول: فوجب أن لا يشارك المبتدئ والمنتهي في درس، وكذا الذكي والبليد.
وفي تعليم المتعلم:
عدوى البليد إلي الجليد سريعة
…
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
- ومنها تزيين الطالب أطراف نسخة درسه بترقيم هوامش لم يدر المراد بها ومساس الحاجة إليها، ولم يميز صحيحها عن سقيمها، وبعض
الطلبة يحرص على ذلك حتى لا يبقى في أطراف نسخة درسه موضعاً فارغاً مقدار ما يسع أنمله، ويظن أن ذلك علامة فطنته ودقته، لكنه علامة بلادته.
قال في تعليم المتعلم: لا يكتب شيئاً لا يفهمه، فإنه يورث كلال الطبع ويذهب الفطنة ويضيع أوقاته، وقال فيه: ويترك الحاشية إلا عند الضرورة، انتهى. فينبغي للطالب أن لا يكتب الحاشية في أطراف نسخة درسه إلا بعد معرفة معناها ومقصدها ومساس الحاجة إليها، وتلك المعرفة تتوقف على تحقيق الدرس.
- ومنها إطالة الاشتغال بفن بحيث يعوق عن تحصيل فن يساويه في الحاجة أو هو أهم منه. قال في الإحياء: لا تستغرق عمرك في فن واحد طالباً للاستقصاء فيه، فإن العلم كثير والعمر قصير. وقال فيه أيضاً: من وظيفة طالب (العلوم) أن لا يدع شيئاً من العلوم المحمودة إلا ينظر فيه نظراً يطلع به على مقصده، فإن العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط بالبعض، ثم يشرع في طلب التبحر في الأهم فالأهم، انتهى.
قيل:
(ما حوى العلم جميعاً أحد
…
لا ولو مارسه ألف سنة)
(إنما العلم منيع غوره
…
فخذوا من كل علم أحسنه)
أقول ثم أقول: الأحرى لمتبحر الفقه وأصوله، والمتبحر فيهما أعز من الكبريت الأحمر لطول مباحثهما ودقة مسالكهما، لكن جرت عادة الله تعالى
على جعل همم الناس مختلفة في التبحر في الفنون، لأن انتظام أمر العلم إما يكون بأن يوجد في كل فن متبحر، فيكون هم واحد في الفقه، وهم آخر في العربية وهكذا، فيوجد في الدنيا مرجع استكشاف دقائق كل فن، فلو كان هم الجميع في فن واحد اختل نظام العلم. ونظير ذلك اختلاف همم أصحاب الحرف.
وأما الاستقصاء في جميع الفنون لواحد فهو متعذر أو متعسر، كذا في أوائل شرح المواقف. وينبغي للطالب أن يقصد التبحر فيما يليق بطبعه (من العلوم المهمة، وقلما ينبه الطالب على ما يليق بطبعه) فينبغي للأستاذ أن ينبهه على ذلك، كما روى أن محمد بن إسماعيل البخاري رحمة الله تعالى بدأ بكتاب الصلاة على محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليهما، فقال له محمد بن الحسن: اذهب وتعلم علم الحديث، لما رأى أن ذلك العلم ألبق بطبعه، فطلبه فصار مقدماً على جميع أئمة الحديث، كذا في تعليم المتعلم.
- ومنها عجلة بعض الطلبة إلي الفراغ عن مشقة التحصيل، فتحمله تلك العجلة على تطويل قدر الدرس على قراءة نسخ متعددة معاً فوق طاقته وعلى ترك بعض الفنون المهمة قبل إتقانه، بل قبل إتمام نسخة منه.
وأمثال هؤلاء لا ينالون الكمال في العلم، إذ الكمال فيه لا يتأتى إلا بالفهم والإتمام، وذلك ظاهر. قال في تعليم المتعلم: ينبغي للطالب أن يثبت على أستاذ وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر، وعلى فن حتى لا يشتغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول .... إلى آخر ما قال.
وقال فيه: فهم حرفين من حفظ وقرين.
- ومنها عدم صبر بعض الطلبة على السكوت إلي أن يتم تقرير الأستاذ فيتكلم في أثناء تقريره، وفي ذلك أذية للأستاذ وإخلال لإفادة الأستاذ. قال في الوصايا القدسية، ويترك الطالب ما طالعه وفهمه قبل مجلس الأستاذ ويصغى بإلقاء السمع وحضور العقل إلي ما يقرره الأستاذ، فربما طالع وفهم ما ليس بمراد المصنف أو الشارح، ولا يمكن الأستاذ من التقرير والتحقيق، فمثل هذا المتعلم لا ينتهي بل ربما يتراجع، انتهى.
أقول: والحمقاء من الطلبة تنقسم إلي سكيت وهو أهون على الأستاذ. وإلي مكثار يتكلم مع الأستاذ ويجاوب الشركاء ويعترض على كلامهم قبل فهم مرادهم، ويتكلم بالظاهر البين، وقد يتكلم بكلام إذ استفسرته عن مراده به يتحير ولا يدري ماذا يقول، فمثل ذلك الطالب يغضب المعلم الحليم ويهلك المعلم الغضوب ويطفئ حدة أذهان شركائه، فعلى الأستاذ أن يسكته فإن لم يسكت يطرده عن مجلس الدرس. وإنما يريد الحمقاء بذلك إظهار الذكاء، والطالب الذكي تكون سيرته في الغالب الإصغاء إلى كلام.
الأستاذ بالتدبر والتغافل عن أقوال الشركاء، فلا يتكلم إلا عند الحاجة، وإذا تكلم يوجز، وإذا تمت الحاجة يسكت، فأيده الله تعالى وأظفره بمقصوده.
قال في تعليم المتعلم:
(إذا تم عقل المرء قل كلامه
…
وأيقن بحمق المرء إن كان [مكثراً])
وقال على رضي الله عنه: إذا تم العقل نقص الكلام. وقال بزرجمهر: إذا رأيت الرجل يكثر في الكلام فاستيقن بجنونه، انتهى ما في تعليم المتعلم.
ثم إن تجاوب الشركاء قد يؤدي إلي التغاضب بين يدي الأستاذ وفي ذلك أذية عظيمة له، يعرفه من يبتلي به فأتى يفلحون؟ !
- ومنها أن بغض الطلبة يكون معظم همه إظهار الفضل والمراءة لا تحصيل العلم، فيطلب حاشيته على نسخة درسه فيحفظ منها اعتراضاً وجواباً عنه، فيورد الاعتراض على الأستاذ على أنه من مخترعات فكره، فقد يعجز الأستاذ عن جوابه فيجيب عنه أو يبقيه.
أو يحفظ منها نكتة فيقررها على الأستاذ على أنها من مخترعات فكره، كل ذلك لإظهار ذكائه وقوة حدسه، وقد لا يفهم ما في الحاشية فيضطرب كلامه ولا ينفهم مراده فيقع الأستاذ في مشقة. وأمثال هؤلاء يفتضحون كثيراً فلا يعتقدهم الأستاذ والشركاء كما يتمنونه، ثم إنهم لا يفلحون.
- ومنها استنكاف المعلم أن يقول لا أدري، فيفوه بما لا يدري
ويتكلف الجواب عن كل ما يسأل عنه فيتعمد الكذب أو القول الذي ليس بجواب موهماً أنه جواب. وإذا أخطأ في التقرير ونبهه عليه بعض تلامذته يخجل ويستنكف عن قبوله، فيتكلف لتصحيح غلطه بمغالطات وكلمات مجهولة الحاصل، وذا ناشيء من الكبر والرياء، ومن علاج تركه معرفة أحوال السلف، قال في الإحياء، قال الشافعي: إني شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين لا أدري. ومن يريد غير وجه الله بعلمه فلا تسمح نفسه [بأن يقر على نفسه] بأنه لا يدري.
وسأل رجل علياً رضي الله عنه عن شيء فأجاب، فقال السائل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، وقال الشعبي: لا أدري، نصف العلم، انتهى.
ولعل وجه كونه نصف العلم أن من جهل شيئاً وجهل جهله به كان مجهوله من أمرين، وهذا هو الجهل المركب، ومن قال لا أدري علم جهله به وبقي علمه بذلك الأمر.
وفي بعض الكتب: سئل علي رضي الله تعالى عنه عن شيء على المنبر فقال: لا أدري. فقيل ليس هذا مكان الجهال. فقال: هذا مكان الذي يعلم شيئاً ويجهل شيئاً، وأما الذي يعلم ولا يجهل شيئاً فلا مكان له. وسئل أبو يوسف عن شيء، فقال: لا أدري، فقيل: تأكل من بيت المال كل يوم
كذا درهماً فتقول لا أدري، فقال: آكل بقدر علمي ولو أكلت بقدر جهلي ما كفاني ما في الدنيا جميعاً.
- ومنها طول نظر الطالب فيما لا سبيل له إلي فهمه، نظر السُّلَحفاه إلي بيضها، وذلك إما بأن يكون متعلق نظره من اصطلاحات فن لم يعثر عليه، أو لغة لم يعرف معناها، فطول النظر فيه ونصب المرفق عليه لا ينتج شيئاً، بل طريق فهمه ليس إلا أن يستفسره عمن يعرفه، أو يراجع إلي كتاب يفسره ككتاب "تعريفات إصطلاحات الفنون" للسيد الشريف، وكتاب "الصحاح" للجوهري. وإما أن يكون متعلق نظره مجملاً يفسره ما بعده أو فسره ما قبله، وقد فاه درسه أو نسيه فلا يكاد ينكشف قبل العثور على مفسره، فينبغي للطالب إذا شرع في مقاله أن يلاحظها إلي منتهاها ملاحظة خفيفة، فيطلب معرفة معاني كلماتها وكيفية تركيبها، والإطلاع على تمام حاصل تلك المقالة إطلاعاً في الجملة، ثم يشرع في المطالعة العميقة والاستطلاع على الوجوه الدقيقة وإثارة الأسئلة والأجوبة. وإما أن يكون في متعلق نظره ساقط أو زائد أو محرف فطريق الانكشاف في مقابلة النسخة بنسخة مصححة، فيجب على الطالب أن لا يطالع الدرس إلا بعد المقابلة والتصحيح.
وإذا علمت هذا فأعلم أنه إنما يفيد التأمل في كلام استقر المراد به لضيق العبارة أو خفاء مرجع الإشارة أو بعد المتعلق أو تقديم ما حقه التأخير
أو العكس، أو على بعض مقدمات الدليل وما يشبه ذلك مما شأنه أن يعرف بالتأمل (فح) يرجى الانكشاف بالنظر، ومراتب الناس فيه متفاوتة تفاوتاً عظيماً. وقد يطالع الطالب ما يرجي انكشافه لكن لا ينكشف فعليه (ح) أن يتبتل إلي ذكر الله تعالى والصلاة على نبيه ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل على الله توكلت. متجهاً بقلبه إليه مستمداً منه تعالى ويقول: رب زدني علماً سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. ويدعو بما استطاع، فإن لم ينكشف بعد ذلك يراجع إلي الشرح، وإياه أن ينظر إلي الشرح قبل اليأس من معرفة المتن، إذ من فعل قلما تحصل له ملكة المطالعة.
قال في الوصايا القدسية: يطالع متن الكتاب قبل الشرح مراراً فإن فهم كلمتين من المتن خير من فهم سطرين من الشرح، انتهى.
ثم اعلم أن الطالب لا يستعد للمطالعة بعد تحصيل اللغة والتصريف والنحو إلا بعد تحصيل المنطق والمناظرة والكلام والمعاني وأصول الفقه.
فينبغي للطالب أن لا يشرع في قراءة المؤلفات الدقيقة لتحصيل ملكة المطالعة إلا بعد تحصيل ما ذكرته من الفنون، ولا أريد بالكلام المسائل
الاعتقادية فقط، بل مباحث الجواهر والأعراض أيضاً كما تضمنتها مثل المقاصد والمواقف. وطلبة الزمان لما هجروا تعلم تمام علم الكلام واكتفوا عنه ببعض رسائل العقائد. طلبوا مباحث الجواهر والأعراض من كتب الفلسفة وغفلوا عن تحقيقات المتكلمين في المسائل العقلية، ينبغي للطالب الذكي بعد تحصيل ما ذكرناه هنا من الفنون أن يقرأ درس المطالعة على أهلها، على شريطة المباحثة وإيراد الأسئلة والأجوبة، فلو توقف ذلك على جعل سطر واحد درس يوم واحد أو يومين أو أيام، يفعله كذلك ولا يتعجل، لإتمام االنسخة، إذ ليس المقصود من قراءة كتاب المطالعة الإطلاع على القواعد بل تشحيذ الذهن.
وقد صادفت شرحاً موجزاً للكافية مشحوناً بالأسئلة والأجوبة الموجزة الدقيقة أظنه للتفتازاني، وقد يوجد في أحد وجهي ورقة واحدة عشرون سؤالاً وعشرون جواباً، وأري أنه أولى المؤلفات للمدارسة على شريطة المطالعة والمناظرة.
ثم أقول: طلب تشحيذ الخاطر وتحصيل ملكة المطالعة يكاد أن يكون فرض كفاية، فإن الأحمق يفسد الدين، لكن لا يجوز طلب ذلك بالاشتغال بالفنون المحرمة كالفلسفة، والتعمق في أدلة الكلام، لأن الخاطر يشحذ بالاشتعال ببعض نسخ الفنون الآلية والشرعية.
- ومنها أن بعض من يقرأ الكتب الدقيقة لتحصيل ملكة المطالعة يطيل قدر الدرس ويطلب إتمام النسخة، ولا يهتم بتدقيق النظر فيها، ومثل ذلك الطالب يرجع كما بدأ.
وبالجملة: إن غرض الطالب أمران:
- أحدهما معرفة قواعد الفنون. والآخر تشحيذ الذهن. وبعض الكتب
يقرأ لمعرفة القواعد، فينبغي للطالب أن لا يطلب عند قراءته الوجوه الدقيقة لئلا يعوقه عن إتمامه وعن فهم أصول مسائله.
وبعض الكتب يقرأ لتشحيذ الذهن فينبغي للطالب أن لا يطلب إتمامه بالدرس بل يطلب الغوص إلي أعماقه، وإعمال قوته الناظرة بدرك الوجوه الخفية، فإن قراءة كراس (موجز) منه إلي تمام سنة خير من قراءة جميعه إلي تمام السنة.
- ومنها أن بعض الطلبة يقصر درسه في أوائل زمان تحصيله على العلوم الآلية، أملاً تحصيل العلوم الشرعية في أواخر أوقات تحصيله، أو ناوياً تدريسه بدون التعلم، اعتماداً على قوة فهمه، لكن هذا من سوء التدبير ووساوس الغرور، لأن ما أخره إن كان من فروض العين، فذلك الطالب ذو رأي مهين وآثم في كل حين.
ترى بعض من وصل درسه إلي المنطق أو المناظرة لم يصحح أداء القرآن قدر ما تجوز به صلاته، ولم يعلم فرائض العقائد والأخلاق والطهارة والصلاة، فهذا مرتكب للكبيرة ومعدود من الفسقة فكيف يظفر بالبغية؟ وإن كان ما أخره من فروض الكفايات، فلا يأثم بتأخيره عند وجود القائم به، لكن لا يأمن أن يحدث غائق عن تحصيلها بعد تحصيل العلوم الآلية (فح).
إن تركها رأساً فهو يصير كأحد العوام الجهلة. وشاهدنا بعض من كان كذلك. وإن شرع في تعليمها بدون سبق تعلمها فلا يتيسر له ذلك، ولا يخلص درسه عن تعمد الكذب، والطالب البصير يكون له درسان في كل حين: درس من العلوم الشرعية. ودرس من العلوم الآلية.
ويعظم الأول ويهتم به فوق تعظيمه الثاني والاهتمام به.
ولقد صادفنا من الطلبة من عكس هذا، فلو سألته عن درسه، لا يذكر إلا درسه الآلي، وقد يذكر درسه الشرعي بعد ذكر الشيء الحقير، وما ذلك إلا لجهلهم بحقيقة مقاصدهم. ثم إن ذلك أمارة عدم فلاحهم.